مقتضى الإيمان بِنَظرِ اللهِ إلى القلوب مِن تَفقُّدِها في صفاتها وصفائها واستقبال واغتنام الأيام والليالي والأشهر بذلك
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة، بحارة الروضة ، عيديد، مدينة تريم، 27 جمادى الآخرة 1444هـ بعنوان:
مقتضى الإيمان بنظر الله إلى القلوب مِن تَفقُّدِها في صفاتها وصفائها واستقبال واغتنام الأيام والليالي والأشهر بذلك
نص الخطبة:
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله، الحمدُ للهِ القَويِّ القادر، العزيز الفاطر، الرَّحيم الغافر، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدهُ لا شريكَ له عالِمُ الباطِن والظاهِر، استوى في علمهِ الجهرُ والسرائِر، وأشهدُ أنَّ سيّدنا ونبيّنا وقُرَّة أعيُنَنا ونور قلوبِنا مُحمداً عبدهُ ورسولُه، وحبيبهُ النَّقيِّ التَّقيِّ الطَّاهِر، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِكَ المُجتبى سيدنا محمدٍ خير شاكرٍ وذاكر، وعلى آلهِ وأصحابهِ ومن سارَ على منهجهِم إلى اليومِ الآخر، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياءِ والمرسلين سادات الأكابر، وعلى آلهِم وصحبهِم وتابعيهم وعلى ملائكتكَ المُقرَّبين وجميع عبادِكَ الصَّالحين، وعلينا معهُم وفيهِم بِرحمتكَ يا أرحم الرَّاحمين.
أما بعدُ عِباد الله، فإنِّي أوصيكم ونفسِيَ بِتقوى الله، تقوى الله التي لا يَقبَلُ غيرها ولا يرحمُ إلا أهلها ولا يثيبُ إلا عليها.
أيها المؤمن بالله جل جلاله: أيقنتَ وعَلِمتَ بِما علَّمكَ رسولهُ أن الله إنما ينظرُ إلى قلبِك، فكيفَ يليق بِكَ أن تَمُرَّ بك الأيّام والليالي والأسابيع والأشهُر وأنت غير ناظر إلى قلبك، غير مُتَفقدٍ لِقَلبك، غير مُنتبهٍ مِن قلبك، غير مُراعٍ لِحالات قلبك وأوصافهُ وما يحِلُّ فيه، إن هذا حال من لم يُبالي بِنَظرِ ربِّ العالمين الكبير المُتعالِ، إنَّ هذا حالُ من أهملَ فُرص الأيام والليالي، وما أُهمِلَ من الفُرَص عاد إلى غُصَص على أصحابِها، إنّ هذا حال الغافِل وإنَّ هذا حال الجاهِل، فتأمّل شأنَ قلبك وما يدورُ فيه، وما يحِلُّ فيه من صِفَةٍ ونَعت، وما يكون فيه من وِجهةٍ وإرادة.
فإنَّ ربَّ العرشِ ينظرُ مِنك إلى قلبِك إن حضرتَ جُمعةً أو قُمتَ في صلاةٍ، أو قرأتَ قُرآناً أو تصدَّقتَ بِصدقة، أو وصلتَ رَحِماً أو بررتَ والِدينِ أو عمِلتَ أيَّ خيرٍ أو غير ذلك، ينظرُ إلى قلبِك وفؤادِك.. أفلا يكون لكَ اهتمام؟ أفلا يكون لكَ اعتِناء بشأنِ قلبِكَ وفُؤادِك؟ مع عالِم سرِّكَ وجهرِك المُطَّلِع على جميعِ أمرِك، مَن مِنهُ مُبتدأَك وإليهِ مَرجِعُك وإليه مصيرُك، وأنتَ بِقُدرَتهِ وإرادتهِ كُوِّنتَ، وأنت إلى الوقوفِ بين يديهِ والرُّجوعِ إليه كائن شئتَ أم أبَيت؟ وإنّما يُرجَعُ الجميع إلى ربِّ الجميع، ويُنادى طوائِف من أهل النَّار: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) ، (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ).
أيُّها المؤمنونَ بالله: وبِالتَّنبُّهِ لِحالِ القلب يُدرِكُ الإنسان قِيمة الوقت الذي يمُرُّ بهِ، والزَّمن الذي يُدرِكهُ في عُمُرِه، وتوالي الأشهُر عليه مِن بَين الأشهُرِ الحُرُم وسِواها من بَقِيَّةِ الأشهُر، التي جعلها الرَّحمن مواسِم للارتِقاء ولِلنَّقاء ولِلتُّقى وللإنابة ولِلخَشيَة وللتَّوبة ولِلتَّذكُّر وللرُّجوع وللشُّكر وللذِّكر؛ هذهِ أعظَم مقاصِد وحِكَمُ وُجودِ الأيّام واللَّيَالي ومُرورِها بِكُلِّ مُكَلَّفٍ وكُلِّ مَن يعيشُ على ظهرِ الأرضِ مِن عِبادِ الله المُكَلَّفين.
أيُّها المؤمنونَ بالله: قال الرَّحمن عن نفسه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) ، قال سبحانهُ وتعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) ما المرادُ بِعلمِ السِّنينَ والحِساب؟ إنّما إقامة اغتِنامها ورِعاية الخير في لياليها وأيامِها، ولِتقومَ المُحاسبة للنَّفس والنَّظر إلى شأن القلب وحالهُ مع الرَّبِّ جلَّ جلاله.
يا من تُوَدِّعون شهرَ جُمادى الآخِرة لا يملِك أحدنا أن يُبقي مِنهُ يوماً ولا ليلةً ولا ساعةً مِن ساعاته، وتستقبلونَ شهرَ رجب الأصَب، شهر الله المُعظَّم الفَردُ مِن بَينِ الأشهُرِ الحُرُم، الذي تعدَّدَت الرِّوايات عَن نبيِّكُم صلى الله عليه وسلم في فضلهِ ما بين أسانيدَ ضعيفة وحَسَنَة يُخبِرُ فيها صلى الله عليه وسلم عن فضل شهر رجب والأمر بِكَثرةِ الاستغفار فيه، وأنَّ لله في كل ساعةٍ منه عُتقاء من النار، وعن فضل الصِّيام وعن فضل الصَّدقة، إلى غيرِ ذلك مِن كُلِّ ما هو مُندَرِجٌ تحت الأسُسِ الثابتة الرّاسخة القويَّة التي جاءتنا في رسالتهِ وبُعِثَ بها إلينا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وأنتُم تسمعونَ أنَّ مِن دُعائهِ إذا هلَّ هِلال رجب أن يقول: "اللهم بارِك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان" وكيف يُدعى بالبركة في الشَّهر على وجهِ الخصوص وكيف تكون البركة فيه؟! أَلِمَن يدخُلُ عليه شهرُ رجب وهو غافِلٌ عن قلبهِ! غافلٌ عن أوصاف قلبِه، غافِلٌ عن ما يجولُ في قلبه، غافِلٌ عن ما ينظرُ ربُّهُ منهُ إلى في قلبهِ! كيف تكونُ البركة لهذا الغافِل؟ أتكون البركة في رجب لِمَن يدخلُ عليه رجب وهو مُصِرٌّ على قطيعة رَحِم؟ أو مُصِرٌّ على عقوقِ والِدَين! أو مُصِرٌّ على أخذ مالٍ بِغَيرِ حَق أو مُصِرٌّ على النَّظَرِ الحرام! أينَ البركة لِهذا في رجب، ما أبعدهُ عن البَركة وما أقربهُ من الهَلَكة! إنَّ شهرَ البركة تَعظمُ فيهِ البركة لِمُقبلٍ على اللهِ بِصِدق، لِمُتَفقِّدٍ لِقَلبهِ لِيُزَيِّنهُ لِلرَّحمن فلا يجدُ فيهِ ما يَكره، ولا ما يبغض ولا ما يسخطهُ، مِن حقدٍ ولا كِبرٍ ولا حَسَدٍ ولا إضمارِ غِشٍّ لِمُسلم ولا إرادةِ غيرِ وجهِ الله جلَّ جلالُه.
ألا فأحسِنوا الاستعداد وتزوَّدوا بِأشرف زاد، فإنَّ كثيراً يظنُّونَ أن يبلُغوا رجب ولا يَبلغوه، بعضهم قد انقضت آجالهُم فيما مضى وبعضهم الآن تنقضي آجالهُم، وبعضهم فيما بينكم وبين رجب من يومين وليلتين تنقضي آجالهم ويبلغهُ من يبلغه، فيا من يعرِفُ قِيمةَ العُمرِ قُم في محراب الشُّكر، فإنَّ الله جعل لك توالي الليالي والأيام لِتَرتقي ولِتَتَّقي ولِتَتنقَّى ولِتصلُح ولِتَذكُر ولِتَشكُر ولِيَغفِر لك ولِيُطَهِّرَ فُؤادِك، بِاهتمامِكَ بهِ واهتمامِكَ بإصلاحهِ، واهتمامِكَ بِتَنقِيَتهِ وتَطهيرهِ، يا مُقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك، بِرَحمتكَ يا أرحم الراحمين وَجُودِك يا أجود الأجوَدين.
أحسِن لنا خاتمةَ شهرَ جُمادى الثانية، وأدخِل علينا رجب بِالصَّلاح والفلاح والنَّجاح والنُّور القلبي والصَّفاء في بواطننا عن كُلِّ ما لا تُحِب وكُل ما لا ترضى به يا رب يا رب يا رب، ثبِّت قلوبنا على دينك، صرِّف قلوبنا في طاعتك، أعِذنا من كُل موجبِ حسرٍ وندامة (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
والله يقول وقوله الحقِّ المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
باركَ الله لكم في القُرآن العظيم ونفعنا بِما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتنا على الصِّراط المُستقيم وأجارنا مِن خِزيِهِ وعذابهِ الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروهُ إنَّهُ غفورٌ رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الأوَّلِ الآخِر الباطِن الظَّاهر، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدهُ لا شريك له، الحاكِمُ بين عِبادهِ فيما كانوا فيه يختلفونَ في اليومِ الآخر، وأشهدُ أنَّ سيدنا ونبينا وقُرَّةَ أعيُننا ونورَ قلوبنا مُحمداً عبدهُ ورسولُه، بعثهُ اللهُ بِتنويرِ البصائِر وتَصفِيَةِ السَّرائِر، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على خاتم الأنبياء المُقَدَّم في الشَّفاعة في أرضِ المحاشر، وعلى آلهِ وصحبهِ ومن سارَ على دربهِ من كل مُتَفقِّدٍ لِصحيفة قلبهِ، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياءِ والمُرسلين أطهرَ الخلائِق قُلوباً وأنقاهُم جُيوباً، وعلى آلِهم وصحبهِم وتابعيهِم وعلى ملائِكتك المُقرَّبين وعلى جميع عبادك الصَّالحين وعلينا معهُم وفيهِم بِرَحمتِكَ يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ عباد الله فإنِّي أوصيكُم ونفسيَ بِتقوى الله، فاتَّقوا الله وأحسِنوا يَرحمكمُ الله (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
اتَّقوا الله أن يَمُرَّ بكم يومٌ وليلة لا تتفقَّدونَ فيها خِلالَ قلوبكم وصِفات قلوبكم وأحوال قلوبكم مع إلهكم وخالقكم، إيماناً ويقيناً وتعظيماً لأمرهِ وصدقاً معه وإنابةً إليه وتذلُّلاً لِعَظَمتهِ، ورَحمةً لِعِبادهِ وحِرصاً على خلقه، ونَقاءاً عما لا يُحِبُّ مِن كِبرٍ وعُجبٍ ورِياءٍ وغرورٍ وإيثار الدُّنيا، وإيثار الفاني على الخطيرِ الباقي، نَزِّهوا قلوبكم عن ذلك فإنَّهُ يَكرههُ مَلِك الممالك.
أيُّها المؤمنون بالله: زَيِّنوا بَواطنكم بالحضور مع الله، وخصوصاً في الصلواتِ وعند تلاوة القُرآن، وعند استماع الخُطَب وفي فعل الطَّاعات، فما زِينَةُ قلبِ العَبدِ إلا بِحُضورهِ مع الإله السَّيِّدِ الرَّقيبِ جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه، إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبِكُم ونِيّاتِكُم.
أحسِنوا العمل واستقبِلوا شهرَ رجب بِصِدقٍ مع الله عز وجل، من كان يعتادُ النَّظرَ الحرام وجبَ عليه أن يَكُفَّ عن ذلك لأجلِ الذي يعلم خائِنة الأعيُن وما تُخفي الصدور، القائِل "النظرةَ سهمٌ مسموم مِن سهام إبليس المرجوم، من تركها مِن مخافتي أبدلتهُ إيماناً يَجِدُ حلاوتهُ في قلبه.
يا من يعتاد التأخُّرَ عن القيام في صلاة الفجرِ يجب أن تختِم الشَّهر وتستقبل رجب بالقيام للوقت، (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) ، (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) فراعي موعد وتوقيت رب العالمين جل جلاله، وأقِم برنامجكَ على هذا الأساس، وبرنامج أهلك وأسرَتك كذلك.
يا من لهُ أولاد مُراهقون وبالِغون يتسكَّعونَ في الطُّرقِ ويذهبونَ إلى مقاهي الانترنت وهو غافِلٌ عنهم.. أَيَدخُل رجب وأنت هكذا! لم لا تتفقَّد قلبك الذي لا يُبالي بأمرِ الرب! لم لا تتفقَّد قلبك الذي ضيَّعَ واجِباً فيه أن يَقِي أهلهُ ناراً وَقودها الناسُ والحِجارة، لم لا تتفقَّد قلبك المُتساهِل المُتجاهل لِقولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا فكُلُّكُم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رَعِيَّتهِ"، سلَّمتهُ لِأصدقاء سوء! وسلَّمتهُ لِفُسّاقٍ في شرق الأرض وغربها يلعبونَ بِفِكرهِ ويُضَيِّعونَ قِيَمه ويُحَرِّفونَ سلوكه وخُلُقَهُ وأنتَ في غفلة! استقبِل رجب بِأدبٍ مع الرَّب، وتفقَّد حال الأُسرَة وحال الأولاد لِيَقوموا على أمرِ رَبِّ العِباد في الخافي والباد كما يُحِبُّ ويرضى.
يا أيُّها المؤمن: استقبِل رجب بِصِدقٍ مع الرَّب، وإنَّهُ قد جاءنا أنَّ خمسة لَيَالٍ لا تُرَدُّ فيهِنَّ الدَّعوة: أول ليلة من رجب وليلة النِّصف مِن شعبان وليلة الجمعة وليلة الفطر وليلة النحر، ولقد كان سيدنا علي بن أبي طالب يُفَرِّغ نفسهُ لِلعبادة في ليالٍ من السَّنة منها أول ليلةً مِن رجب، وهل يأتي تفريغ ابن أبي طالب نفسهُ لِلعِبادة في تلك الليلة عبثاً أو لعباً أو من عند نفسه! إنهُ المُرَبَّى بِتربية من أُنزِل الوَحي عليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
إنها ليالِ العطاء مِنَ الرَّبِّ المُعطي لِمَن أقبلَ عليهِ بالصِّدق، ألا فاغتنموا الشهر ولياليه ليكون عُدَّةً لكُم لِشعبان، ولِتَبلُغوا إن شاء اللهُ رمضان وتكونونَ فيه مِمَّن يرضاهُم الرَّحمن، ويُقبِل عليهم ويُوَفِّقهُم لِصِدقِ الإقبال عليه، وتغنمونَ خيرَ الحياة وخير العُمر وخير الممات والوفاة، اللهم إنا نسألكَ خير الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة وشر ما بينهما.
وأكثِروا الصَّلاة والسَّلام على المُصطفى خير الأنام، فإنَّ أولاكُم به يوم القيامة أكثركُم عليه من الصَّلاة والسّلام، وإن الله أمركُم بأمرٍ بدأ فيه بنفسهِ وثنّى بِملائكته وأيَّهَ المؤمنين من عباده، فقال مُخبراً وآمِراً لهم تكريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المختار سيدنا محمد الذكَّار الشكَّار الصَّبَّار، التَّالي لآياتِكَ آناءَ الليلِ وأطراف النهار، وعلى الخليفة من بعدهِ المختار وصاحبه وأنيسهِ في الغار، مؤازرهِ في حاليي السَّعَة والضِّيق خليفة رسول الله سيِّدنا أبي بكر الصِّدِّيق، وعلى النّاطِقِ بالصَّواب حليف المِحراب، ناشرِ العدل بِأنوارِ السُّنَّةِ والكِتاب المُنيب الأوّاب أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى مُنفقِ الأموال ابتغاء مِنَّة المَنَّان من استحيَت منه ملائكة الرحمن، مُحيي الليالي بتلاوة القرآن أمير المؤمنين ذي النُّورين سيدنا عُثمان بن عفان، وعلى أخي النَّبيِّ المُصطفى وابن عمِّهِ، ووليِّهِ وباب مدينة علمه، ليث ابن غالب إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب، وعلى الحسن والحُسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنَّة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرِّضا وأمهات المؤمنين، وعلى الحمزة والعبَّاس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهَّرتهُم من الدَّنَس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أُحُدٍ وأهل بيعة الرِّضوان وعلى سائر الصحب الأكرمين، وعلى من تَبِعهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشِّرك والمُشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دَمِّر أعداء الدين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم بلِّغنا رجب وبارِك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان، وأعنا على الصِّيام والقِيام واحفظنا من الآثام.
اللهم انظر إلى أهل الإيمان والإسلام، اللهم ارفع عنهم سُلطة الكَفَرة اللِّئام، اللهم إن أهل الكفر اشتغلوا بغفلتهم عنك بما يَرَونَ به صلاحَ معاشهِم ناسينَ لِمَعادهِم مُكَذِّبين بِرُسُلك وآياتك، اللهم وإنَّهُم قد شغلوا كثيراً من المسلمين بما يَضُرُّهم ويُخرِجهم عن سبيلِ نبيِّكَ وسُنَّتهِ، اللهم فَرُدَّ كيد الكافرين وأنقِذ المسلمين وخلِّصهم من وَرطاتِ التبعيَّة للفُجّار والكُفار والأشرار، اجعل تبعِيَّتهم لِنبيِّك المختار واجعل أهوِيَتهم تَبَعاً لما جاء به من الهُدى والأنوار.
اللهم بارك لنا في أشهُرنا هذهِ بركةً نرى فيها الآثار في مشارق الأرض ومغاربها في أهل لا إله إلا الله، رجعةً إليك وإنابة إليك وتذلُّلاً بين يديك، وصِدقاً معك ووفاءً بِعَهدك واتِّباع لِنَبيِّكَ مُحمد، يا مولانا قد غُشُّوا وخُدِعُوا كثيراً وأصابتهُم بذلك ظُلُمات وآفات وتوالت عليهم مصائب وعاهات، اللهم أنت المُفَرِّج للكُرُبات فَفَرِّج كُرباتنا وأنت الرَّافع لِلبلايا فادفع البلايا عنا.
اللهم أصلِح شؤوننا بما أصلحتَ بهِ شؤون الصّالحين، ولا تصرِفنا من جُمعتنا إلا بإقبالٍ صادق وتوجُّه إليك خارق، وحضور بين يديك وتفقُّدٍ لقلوبنا ومُلاحظةٍ لِما فيها لِتَتَزيَّنَ لِنَظَرك، فلا تنظر فيها إلا ما تُحِبُّ وترضى يا حيُّ يا قيُّوم، الطُف بنا وبِالأمّة فيما يجري به القضاء وارزُقنا كمال الإنابة والخَشية والتَّوفيق والرِّضا، بِرحمتكَ يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)
ربّنا تقبّل مِنا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، نسألكَ لنا والأمّة مِن خير ما سألكَ منه عبدك ونبيك سيِّدنا مُحمد، ونعوذُ بك من شرِّ ما استعاذك منهُ عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله.. إنَّ الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: إن اللهَ يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي يَعِظكم لعلَّكُم تذكَّرون، فاذكروا الله العظيم يذكركُم واشكروهُ على نِعَمهِ يزِدكم، وَلَذِكر الله أكبر.
28 جمادى الآخر 1444