معالم مسالك المؤمنين وتميُّزهم في ما يغدون وما به للقاء ربهم يستعدون

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بعيديد، مدينة تريم، 23 محرم 1447هـ بعنوان: 

معالم مسالك المؤمنين وتميُّزهم في ما يغدون وما به للقاء ربهم يستعدون

تضمّنت الخطبة التأكيد على ضرورة تطهير الباطن من الكبر والعُجب والرياء وسوء الظن، داعياً لإخلاص الخوف والرجاء لله وحده، ومحذراً من التعدِّي على حمى الله ومحارمه، كما بيّن أن الناس كلهم يغدون فبائع نفسه إما لله فمعتقها أو للشيطان فموبقها، وحثّ على اتباع سنة النبي ﷺ في جميع شؤون الحياة من أكل وشرب ولباس ونوم.

لتحميل الخطبة (نسخة pdf): اضغط هنا

الصورة

نص الخطبة مكتوب :

   الحمد لله، الحمد لله الواحد الحيّ القيوم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامع الأولين والآخرين ليوم الميقات المعلوم. 

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه السيد السَّنَد الطاهر المعصوم. 

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على خاتم النبيين وسيد المرسلين عبدك المختار محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سار في سبيله الأرشد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أهل القبول عند الله:

أما بعد،، 

    عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، وهم الذين تَوَقَّوا سخطه وغضبه وعذابه جل جلاله بمراقبته في الغيب والشهادة، وخافوا مما لا يرضيه في سرائرهم وبواطنهم، أو في أقوالهم وأفعالهم ونظراتهم وأسماعهم وأبصارهم وحركاتهم وسكناتهم، وهو القائل تعالى في علاه: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).

   أيها المؤمنون بالله جل جلاله، أهل القبول عند الله هم أهل تقواه، وهم الفائزون بِقُربه ومعرفته ومحبته ورضاه، ومن سواهم فهم الخاسرون، وهم الخائبون، وهم الهالكون. 

ألا إنّ الناس كلهم هَلكى إلا العالِمين، وإن العالِمين كلهم هَلكى إلا العامِلين، وإنّ العامِلين كلهم هَلكى إلا المُخلِصين، وإن المخلِصين لهلكى إلا الوجِلين، وإن الوجِلين لعلى خطر عظيم.

اتخاذ سبيل الله مع كثرة الخاسرين :

   أيها المؤمنون بالله، يتجلى الجبار الأعلى يوم القيامة ويقول: "قم يا آدم، فأخرج بعث النار من ذريتك". فيقول: "يا رب، وكم أخرج؟". يقول: "من كل ألفٍ، تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحدًا إلى الجنة"، وحينئذٍ تشيب رؤوس الولدان، أي تتحوّل رؤوسهم إلى شعر أبيض من شدة الهول، (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ۚ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلً).

فاتّخِذ سبيلاً إلى ربك أيها المؤمن بهذا الإله الحق، واتخاذِك السبيلَ:

  • حُسْنُ نظرِك في وجهتك إليه، 
  • وإقبالك عليه، 
  • واستقبالك لأوامره فتمتثلها، 
  • ولنواهيه فتجتنبها، 
  • وتعلم أنك عبده وهو إلهك الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك، وإليه مرجعك ومآلك ومصيرك، لا إله سواه، (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ).

   أيها المؤمنون بالله جل جلاله، لا يغرركم كثرة الهالكين، ولا كثرة الخاسرين، ولا كثرة حطب جهنم من بني آدم، فإنه سبَقت منه الكلمة، (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ). 

قال عنها: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). 

(وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، أجارنا الله من ناره وجعلنا في أهل جناته، وأهل محبته وموداته.

تنزيه الباطن عن السوء :

   أيها المؤمنون، هذه المسالك أمامكم لعامة الخلق على ظهر الأرض، وفيهم يقول خالق السماوات والأرض: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). 

ألا فنزِّهوا بواطنكم عما لا يحبه إلهكم من ظن السوء وإرادة السوء والشر، ومن الكِبر والعُجب والرياء والغرور، ومن تعظيم ما حقّر الله، ومن تحقير ما عظّم الله جل جلاله.

اتقوه واستقيموا على ما أحب منكم في وجهاتكم ونياتكم، فإن هذه مهمتُكم الكبرى في هذه الحياة وخلال هذه الأعمار القصيرة. 

تعلّموا مما أنزل الله على نبيه ما به تُطهِّرون سرائركم وتُنوِّرون بصائركم، (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ). 

(قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) جل جلاله وتعالى في علاه. 

ألا فاستسلم واخضع واخشع وانقَدْ بكليتك إلى مولاك جل جلاله وتعالى في علاه، عسى أن تتحقق بحقيقة من حقائق العبودية لهذا الإله فيتولاك، ويرفع قدرك ويحميك، ويأخذ بيدك ويُرَقّيك، ومن أسواء الدارين يحفظك ويقيك.

   أيها المؤمن بالله جل جلاله، نعمة الإيمان ما أعلاها وما أعظمها وما أجلّها، فاعرف قدرها وقُم بِحقّها. 

ألا إن المؤمن من أمِنه الناس على أموالهم ودمائهم وأعراضهم.

الخوف والرجاء أقوى دعائم الإيمان :

    أيها المؤمن بالله جل جلاله وتعالى في علاه، خوفه سبحانه وتعالى من أقوى دعائم وعلامات الإيمان: (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). 

ورجاؤه كذلك، فليكن هو محل خوفك ورجائك، وأخرج من قلبك خوف من سواه، فَوَعِزّته لا يستطيع أحد منهم أن يصيبك بضر أو شر إلا بإذنه، وأخرج من قلبك رجاء من عَداه، فإنه لا يستطيع أحد أن يجلب لك ذرة من نفع إلا بأمره، وإنه اختبرك بهذه الأسباب والكائنات، وبالأوهام والخيالات، وبوساوس عدوك، فكن من خير المختبَرين، إجابة وتلبية لنداء رب العالمين

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ).

حمى الله محارمه :

فلا تتمادى في غيٍّ؛ مِن غفلة أو إهمال سنة، فضلًا عن ترك واجب أو فعل مُحرّم والعياذ بالله تعالى.

 ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن حمى الله محارمه، فاحذر حمى الرب جل جلاله، لا تتعداه ولا تتخطّاه ولا تقفز إلى ما حرم عليك فيحل عليك غضبه وسخطه جل جلاله.

الاستمساك بالعروة الوثقى :

ألا إن المستمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها هم أولئك القلائل وهم الأجِلة، وهم النجوم وهم الأدلة، وهم السعداء حقًا هنا وهناك، في دار الزوال ودار البقاء والدوام، هم السعداء على الحقيقة يوم يأتي اليوم الذي وعد الله الأولين والآخرين، (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِه فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)، والشقي شقي الأبد، والسعيد سعيد الدوام والخُلد والأبد.

الأمر أكبر من لعب الحياة:

   أيها المؤمنون، الأمر أكبر من لعب الحياة الدنيا والاغترار بزخارفها، والركون إليها واللجوء إليها والاعتبار لها والاعتداد بها، فما أسرع ما تمر، وما أسرع ما تنقضي وتنطوي صفحاتُها، وكلٌّ إلى الله راجع، ولا يفوز إلا الأتقياء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولقد عاهدنا، وقال جل جلاله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ). 

ألا فلا تغُرَّنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، وأيقِنوا أنه لا خير في خيرٍ بعده النار، كما لا شر في شرٍّ بعده الجنة. 

أي ما توهَّمَتهُ الظنون والخيالات من الناس أنه خيرٌ ووراءه نار فليس بخير ليس بخير؛ ليس بخير والله، وما توهَّمَتهُ شرًا أو تعبًا ووراءه الجنة فليس بِشّر، ليس بِشّر والله. 

هذه هي الحقيقة التي يستمسك بها المؤمنون، (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ).

خاتمة الخطبة الأولى :

 اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واشرح بالإيمان لنا الصدور، وتولّنا في جميع الأمور، وكُن لنا بما أنت أهله في البطون والظهور، وارزقنا فهم ما أوحيتَ إلى نبيك محمد ﷺ، وخُصّنا بنصيب من العلم النافع الموفور، يا عزيز يا غفور.

والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). 

وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيهِ وعذابهِ الأليم. 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

    الحمد لله حمد مؤمنٍ به معتمدٍ عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موقنٍ بآياته وتنزيله ورسله وملائكته واليوم الآخر ولقائه مُتذلّلٍ بين يديه. 

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، أكرمُ الخلق عليه، وأعظمهم منزلة لديه. 

اللهم صلِّ وسلِّم على الهادي إلى صراطك المستقيم، عبدك الرؤوف الرحيم، سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أهل التكريم، ومن تبعهم على المنهج القويم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المكانة والتعظيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد،، 

   عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله في صدق إقبالكم عليه وتوجُّهكم إليه، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

أحوال البشر في تعاقب الأيام :

كل الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمعتقُها أو موبقُها؛ يصبح الناس على ظهر الأرض في كل يوم ويغدون، وهذا اهتمامه ببطنه، وهذا اهتمامه بفرجه، وهذا اهتمامه بالظهور والشهرة، وهذا اهتمامه بمجرد المال، وهذا اهتمامه بالتبعية لحزب أو هيئة أو جماعة. 

ومن بين هؤلاء الملايين على ظهر الأرض من يغدو ويصبح وهَمّه الله، ومراده الله، وقصده الله، ووجهته إلى الله، يُترجم ذلك بتعلم العلم النافع وأخذه النصيب منه، وهو ميراث الأنبياء الذين لم يُوَرّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بنصيب وافر، وانطلاقه في الأعمال الصالحات، ومتابعته لنفسه في تنقيتها عن الشبهات ومذموم الشهوات، وعن الالتفات إلى غير ملك الأرض والسماوات.

التحذير من بيع الذمم :

    أيها المؤمنون بالله، كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها، ألا من باع نفسه لعدوه إبليس فقد أهلكها وأوبقها. 

ألا من باع نفسه لأراجيف المُخذِّلين عن الخير أو الفاتحين لأبواب الشر فقد أهلكها وأوبقها. 

ألا من باع نفسه لهواها وشهواتها فقد أهلكها وأوبقها. 

ألا ومن باع نفسه لمالكها خير مُشترٍ جل جلاله فقد أعتقها، أعتقها من الدسائس والتلبيسات والوساوس، وأعتقها من العذاب، وأعتقها من النار، وأعتقها من الفضيحة يوم القيامة. (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).

سر الجمعة والحكمة منها :

فكيف غدوتَ هذا اليوم؟ 

وكيف حضرت الجمعة يا حاضر الجمعة؟

ليست صورًا وأعمال، ولكنها حقائق إقبال، ووجهات إلى الكبير المتعال، وتنقية للصفات والخِلال. 

  • الجمعة قُربة للرب، 
  • الجمعة فوز بِرِضى الرحمن، 
  • الجمعة تطهُّر عن الأدران، 
  • الجمعة عِتقٌ، عِتقٌ من كيد إبليس ووسوسته وشره. 
  • الجمعة تذكُّر، 
  • الجمعة تطهُّر، 
  • الجمعة تنوُّر، 
  • الجمعة تبصُّر، 
  • الجمعة جَمْعِيَّة على الرحمن جل جلاله، 
  • الجمعة تبعية لمحمد بن عبد الله، الموحى إليه بقول ربه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

تطهير البواطن :

   طهّروا بواطنكم من التبعية لعدو الله، وجنده من شياطين الإنس والجن، وسلِّموا وجوهكم للحق جل جلاله، وأقبلوا بالكلية عليه. 

وطهِّروا دياركم ومنازلكم من آثار عدو الله وجنده، صورًا أو كلماتٍ أو مظاهر أو أزياء أو حركاتٍ أو سكنات.

واعمروا بيوتكم بالقرآن، واعمروها بِسُنة سيد الأكوان، واعمروها بتطبيق الشرع المصون وتنفيذ حُكم أحكم الحاكمين جل جلاله وتعالى في علاه، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

واغدوا على ذلك في أيامكم المعدودة في مُدة أعماركم المحدودة، لتغنموا في كل يوم زيادة، وتسعدوا سعادة، ويتهيّأ كلٌّ منكم في معاشه لمعاده، ويستعد للقاء ربه جل جلاله وتعالى في علاه؛ ليفوز برضوانه والحُكم له بسكنى جنانه، لينادي المنادي: لقد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.

تذكّروا وتدبّروا وتأمّلوا واصدقوا، واعلموا سِر الجمعة وحكمة الجمعة، وما فرض الله علينا الجمعة إلا لنرتفع، وإلا لنتّسِع، وإلا لنطّلِع، وإلا لنتنقّى، وإلا لنتوقّى، وإلا لنترقّى.

الاستجابة والتبعية لشرع الله ورسوله:

    أيها المؤمنون بالله، خذوا أسرار شريعة مولاكم، واتصلوا به تعالى في علاه، واحرصوا على سنن نبيكم ففيها حياة قلوبكم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). 

  • كلوا على سنة نبيكم، 
  • واشربوا على سنة نبيكم، 
  • والبسوا على سنة نبيكم، 
  • وناموا على سنة نبيكم، 
  • وامشوا في الطرقات على سنة نبيكم، 
  • وتكلموا وتحدثوا على سنة نبيكم، 
  • ولا تستعملوا النظر إلا على سنة نبيكم، 
  • ولا تستعملوا الأسماع إلا على سنة نبيكم.

واحْيَوا على ذلك وموتوا على ذلك تظفروا بمرافقة نبيكم، ورؤية نبيكم في القيامة، والورود على حوضه المورود والدخول معه إلى دار الكرامة، اللهم اجعل هوانا تبعًا لما جاء به نبيك المختار، يا كريم يا غفار.

خاتمة الخطبة الثانية :

وعجّل اللهم بأنوار تقذفها في قلوب المؤمنين والمؤمنات في جميع الجهات، يخرجون بها من ورطات الغفلات واتباع أهل السوء وأهل السيئات. 

يا محوِّل الأحوال، حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، فقد عظمت منك الآيات، وعظمت المُذكِّرات، ونازلَنا ما يكفينا ذكرى إذا اعتبرنا وادّكرنا وأنصفنا من أنفسنا، فيا حي يا قيوم، فرِّج الهموم والغموم، وتدارك أهل غزة وأهل فلسطين والمسلمين في المشارق والمغارب، ورُدّ كيد المعتدين الظالمين الغاصبين. 

ولا تصرف أحدًا منا من جمعتنا إلا وقلبه عليك مجموع، ووِجهته إليك صادقة، وقلبه لك مُخلص، وإرادته في مرضاتك، واجمع لنا الخيرات، وادفع عنا الآفات، يا أكرم الأكرمين.

الصلاة على سيد المرسلين :

وأكثروا الصلاة والسلام على الهادي إلى الصراط المستقيم، المُنقذ العظيم من السوء والجحيم، خاتم النبيين وسيد المرسلين، فمن صلى عليه واحدة صلى رب العرش عليه عشر صلوات، وإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة، وإن الرحمن أنزل عليه مبتدئًا بنفسه ومُثنّيًا بالملائكة ومؤيِّهًا بالمؤمنين، فقال تعظيمًا وتكريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، عبدك البشير النذير، سيدنا محمد، 

وعلى الخليفة من بعده صاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حاليِ السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق. 

وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب. 

وعلى محيي الليالي بتلاوة القرآن، الناصح لله في السر والإعلان، من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان. 

وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب. 

وعلى الحسن والحسين سيدَي شباب أهل الجنة وريحانتي نبيك بنص السنة، 

وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضى وأمهات المؤمنين. 

وعلى الحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس.

وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وبيعة الرضوان، وعلى سائر من تبعهم بإحسان، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا رحمن.

الدعاء :

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمر أعداء الدين. 

اللهم إنا نعوذ بك من الذنوب التي تمنع غيث السماء، ونستغفرك منها ومن جميع سيئاتنا وأوزارنا وخطيئاتنا، فاغفر لنا يا خير غفار، وأرسل السماء علينا مدرار، وتولنا بما أنت أهله في السر والإجهار، وارفع عنا سلطة الفجار والكفار والأشرار، وحوّل الأحوال إلى أحسن الأحوال، يا محول الأحوال، يا مطور الأطوار، يا من يولج النهار في الليل ويولج الليل في النهار، يا حي يا قيوم، يا علي يا عظيم، يا رؤوف يا رحيم، يا منان يا كريم، يا عليّ يا عليم، أنجز لنا رحمة من عندك نسعد بها في الدنيا والآخرة، وتصلح بها شؤوننا الباطنة والظاهرة. 

واغفر لنا ولوالدينا ولذوي الحقوق علينا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات. 

وبارك اللهم لنا في عامنا الذي أقبل، العام السابع والأربعين بعد الأربعمائة والألف من هجرة نبيك الأمين، واجعله من أبرك الأعوام على أمة حبيبك المختار في السر والإجهار، يا حي يا قيوم يا رحمن، تداركنا والأمة، واكشف الغمة، وأجلِ الظلمة، وادفع النقمة، وعامل بمحض الجود والرحمة، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راضٍ عنا.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ). 

نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). 

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

تاريخ النشر الهجري

24 مُحرَّم 1447

تاريخ النشر الميلادي

19 يوليو 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام