مسار المؤمن في الحياة والمؤثرات عليه وعلامة القبول في رمضان
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان، بحارة عيديد، مدينة تريم، 8 شوال 1444هـ بعنوان:
مسار المؤمن في الحياة والمؤثرات عليه وعلامة القبول في رمضان
نص الخطبة مكتوب:
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمدُ لله.. الحمدُ لله واهبِ العمرِ للإنسان على ظهر الأرض، ومُرتِّبِه على أطوارٍ يَمُرُّ بها؛ يكون الشأن الأخطر فيها من حين بلوغه إلى حين انتقاله مِن على ظهر هذه الأرض، في الاعتبار يوم الحساب والعرض.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، بيده الملكُ وهو على كل شيء قدير، {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.
وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسوله، ونبيُّه وصفيُّه وخليلُه، اللهم صلِّ وسلِّم على النورِ المبين، عبدك الهادي إليك والدالِّ عليك سيدنا محمد، أعظمِ الخلائق إيمانًا ويقينًا، وأحسنِهِم عملاً لك ظاهراً وباطنًا، صلِّ اللهم وسلِّم وبارِك على عبدِك المختار سيدِنا محمد، المؤتمنِ على الإبلاغ والتبشير والإنذار والهداية إلى الصراطِ المستقيم، وعلى آله وأصحابه، ومَن والاه فيك وسلكَ على منهجِه القويم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، سادات أهل الهداية إليك والدلالة عليك والثبات على الصراط المستقيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتكَ المقربين، وجميع عبادكَ الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ عبادَ الله: فإنَّ المؤمنَ في عمرِه القصير وإن عُدَّ بأيِّ اعتبار طويلاً؛ بل الذين كانت لهم أعمار في الأمم السابقة قبلَنا أضعاف عمر الواحد منا إلى ستِّ وسبعِ وعشر مرات.. ما يمرُّ بهم من أوقاتٍ على ظهر الأرض هم عُرضةٌ فيها للمؤثرات، ويمتازُ المؤمن بتأثُّرِه بصلتِهِ بعالِمِ الظواهر والخفيات ربِّ الأرض والسماوات، وتأثُّره بشَرعِهِ الحنيف وصراطِه المستقيم الذي بَعث به سيدَ أهل التفضيل والتشريف؛ سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه، وجعله الأسوةَ الكبرى، والقُدوةَ العُظمى في المسارِ خلال زمنِ هذه الحياة.
ولقد صانهُ بِعنايته ورِعايته التي سبقت تكوينَ جسدِه الشريف وتكوُّنِهِ جنينًا في بطنِ أمه؛ حتى ظهرت العِناية والرعاية للخالقِ الأعلى بولادةِ نبيِّكم محمد وأيام صباه وأيام طفولتِه ونشأته وبداية شبابه؛ حتى صحَّ أن يكون قُدوةً في الصِّبا وأول الشباب قبلَ نزول الوحيِ في العملِ الصالح، وفي الإيمان واليقين بعظمةِ الإله الخالق ووحدانيَّته، ووجوبِ الطاعةِ والانقيادِ له وتعظيمِه وتعظيمِ أمره -جل جلاله-.
ثم استلمَ مِن ربِّكم الوحيَ بعد أن كان متعبِّدًا يعبُدُ اللهَ بالذكر والفكرِ والخضوعِ -لجلاله-، والسجود له وحدَه في غار حراء، بعد أن كان ذلك مظهرَ مساره في الحياة من صِغره -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي خرَّ مِن بطنِ أمِّه ساجدًا لله صلوات ربي وسلام عليه وآله وصحبه ومَن واله.
فبرزت الحياةُ التي أُقْسِمَ مِن قِبَلِ الخالِق بمُدَّتها التي ابتدأت مِن ولادته إلى وقتِ انتقالِه إلى الرفيق الأعلى.
وأقسمَ رب العالمين بعَمره ** وأعظِمْ بها من مالكِ الملك قادرِ
{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}، فكانت أطيبَ حياة، وأجمعَها للتأثرِ بالإيمانِ واستقامةِ القولِ والعملِ على ما يُحِبُّ عز وجل، لم يكذِب، ولم يغُش، ولم يخُنْ، ولم يؤذِ، ولم يظلم، ولم يسُبَّ، ولم يشتم، هذا في أيامِ صغرِه وطفولته وإلى أوَّلِ شبابه، وإلى حين نزولِ الوحي عليه، لقد كان القُدوةَ حتى استلمَ النبوة، ونادانا الرب {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} بل نادى بالنداءِ العظيم {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
أيها المؤمنون: ما نُزاوِلُهُ ويطرأ علينا من فِكرٍ وتصوُّر، ويُقارنُه من أقوال وأفعال.. يُترجِمُ ما في بواطنِنا وما آمنا به، وشرفُ المؤمن أن يكون متأثرًّا في فِكرِه وتصوُّرِه، وفي سلوكِه وعملِه وقولِه، بوحيِ الله وأسرارِ صلتِه بهذا الإلهِ وتعاليمِ ربِّه تعالى في عُلاه.
وإن كان مِن قُدوةٍ يُقتدَى بها.. فأشرفُ قدوةٍ محمد بن عبد الله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وهنا تأتي الفوارقُ بين المؤمنِ ومَن سواه، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تبعاً لما جئتُ به"، والهوى يترجمهُ النية والقصدُ والفعلُ والقول، تُتَرْجِمُ هوى الإنسان، وهل هو في رِفعةِ التبعيَّة لما بُعِثَ به خيرُ البرية؟ أو أنه في مهانةِ وذِلَّةِ التبعِيَّة للنفس الأمّارة، أو لإبليس أو أحدٍ من شياطين الإنس والجن، يتبيَّن الفرقُ بين هذا وذاك.
وإذا مرَّ على المؤمنين موسمُ رمضان المبارك، وما فُرِضَ مِن صيامه ونُدِب من قِيامه، وما دُعُوا فيه للتقرُّب إلى الإله بتجديدِ الإيمان وتجديدِ التقوى لعالِم السرِّ والإعلان، تظهرُ آثارُه بعد أن ينقضي، وقد كان خِيارُ الأمة في القرون الأولى يُرى عليهم أثرُ رمضان ستةَ أشهر في توديعِه، والستةَ الأخرى في استقبالِ رمضانَ الجديد، فالتأثُّر قويٌّ بأسرارِ الصلة بالحيِّ القيوم، وبأسرار الصلة بما شَرع لهم وبمعاني الصوم؛ الذي جعله الله عبادةً إذا أتقنَها العابد.. أبَى تعالى أن يجعل ثوابَها محصورًا ولا محدودًا، ولا معلومًا للملائكة ولا مَن سِواهم؛ ولكن يقال: اكتبوا له الصوم وأجرُه عليّ، لا يُقدَّر بعشرة ولا بسبعمائة، ولا بأضعافٍ معدَّدة "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
وكل مَن صام صوماً صحيحاً مقبولاً.. فالأثر لا بدَّ أن يتَّضِحَ في الحال بعد رمضان في التصوُّر والفكر، وفي النيةِ والقصد، وأعمالِ الجوارح وما تنطلقُ فيه على ظهرِ هذه الأرض، وتظهر التأثُّرات عند المؤمنين؛ أفرادًا وأُسرًا ومجتمعات في تصحيح المسار، وتبديل الأوصاف السيئة بالأوصاف الحسنة، وتقويم السَّير إلى الإله -جل جلاله- والاستعداد للقائه، فيظهرُ الأثر بعد رمضان في الفرد المؤمن الذي صام لله، وقام لله، وتعرَّض للغفران والتطهُّر عن الأدران، وأُعتِق من النيران، وأُعطي الجوائز، وفاز مع كلِّ فائز بعجائبِ فضلِ الرحمن -جل جلاله-.
أتراهُ يرجع في الحالة إلى ما كان قبل رمضان؟ لا؛ بل يكون خيرًا وأحسن، وأضبط وأزيَن، وأقوى وأمكَن في سِرِّ التقوى، وزيادة الإيمان {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أيها المؤمنون: يبدو في الفردِ مِن حيث رغباتِه، وحرصِه بعد انتهاءِ رمضانَ على حسنِ أداء الفرائض، وأخذِ النصيبِ مِن النوافلِ صلاةً أو صومًا. ومِن المؤمنين مَن باشر صيامَ الستِّ من شوالٍ حتى أكملَها قبل جمعَتِه هذه، ومنهم مَن صام بعضَها، ومنهم عازِمٌ على الصومِ للسِتِّ فيما يبقَى مِن هذا الشهر، وفيهم مَن لا يلوي على نيةِ الصيام، وكأنه فرحٌ بِمرور وقتِ الفرض، ولا رغبةَ له في أن يتطوَّعَ بشيء، كذلك الزكاة والصدقة المسنونة، كذلك ما يتعلق بالأنظار والأسماع والأقوال والأفعال والمعاملة، صاحب القَبول في صيامه وقيامه يمتاز بعد رمضان في الرغبة في حُسن أداء الفريضة في اللسان وضبطهِ، وبُعدهِ عما حُرِّمَ من الكذبِ الذي انتشرَ بين كثيرٍ مِن المُنتمين إلى هذا الدين، وهو الوصفُ الذي لا يتَّفقُ مع الإيمانِ بحال، ولما سُئِل صاحبُ الرسالة: "أَيَكْذِبُ الْمُؤْمِنِ؟ قال: لا"، بعد أن سُئِل عن ذنوبٍ أُخَر فقال: قد يكون ويتوب، فلما سُئِل عن الكذب، أَيَكْذِبُ الْمُؤْمِنِ؟ قال: لا، وتلا قولَ ربِّكم -جل جلاله-: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
أيها المؤمنونَ بالله: ظهورُ الاستقامةِ في اللسان، وتجاوزهِ الفرض إلى محبَّةِ كثرةِ الذكرِ وتلاوةِ القرآن والصلاةِ على النبيِّ محمد، والنصحِ للمؤمنين والدعوةِ إلى الله.. علامةٌ واضحةٌ أنه صاحبُ صومٍ مقبول، وصاحبُ قيامٍ مقبول، وأنه صاحبُ الربحِ مِن شهر رمضان، كذلك فيما يتعلق بالعين أو السمع {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
وأكثرُ التبعيَّات فيه على ظهرِ الأرض تَبَعٌ للتأثراتِ السلبية والساقطة والهابطة؛ تأثراتٌ بوحيِ شياطينِ الإنسِ والجن، تأثراتٌ بفكرِ ذا وذاك، تأثراتٌ بمصاحبةِ هذا والآخر، مباشرة وعبر هذه الشاشات؛ فتتأثر الأخلاق، وتتأثر الأقوالُ والأفعال؛ وتتأثر التصوراتُ والنياتُ والمقاصد، ألا فخُذْ الميزانَ لنفسِك وعلى نفسِك، مستعدّاً قبلَ أن تُوضعَ الموازين، {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} ولا ينفعُ عندها ندمٌ، ولا تُقبَل توبة.
اللهم اجعلنا مِن أسعدِ الناس بما مرَّ علينا مِن شهر رمضان، وزِدنا مِن الإيمان والتقوى لك في السرِّ والإعلان، واجعل بقيةَ أعمارِنا في شرفِ التبعيَّة لوحيِك، وما جاء به خاتمُ أنبيائك يا أكرمَ الاكرمين.
والله يقولُ وقوله الحقِّ المبين:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ (1) ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ (2) ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗا مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ (3) ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ (4) وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ (6) إِذَآ أُلۡقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقٗا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلۡغَيۡظِ كُلَّمَآ أُلۡقِيَ فِيهَا فَوۡجٞ سَأَلَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَذِيرٞ (8) قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ (9) وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (10) فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (11) إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُم بِٱلۡغَيۡبِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ (12) وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (13) أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ (14)}.
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، يأخُذُ بِقلوبِ وأيدي الصادقين المُخلصين، ويرفعُهم في درجاتِ المقربين، وأشهد أن لَّا إله إلا الله وحده لا شريك له يتولى الصالحين، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقُرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبده ورسولُه، وحبيبُه الصادقُ الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم على خاتمِ النبيين وسيِّد المرسلين عبدِك المختار محمد، وعلى آلهِ الطيِّبين الطاهرين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين، ومَن والاهم فيك، واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياءِ والمرسلين، وآلهِم وصحبِهم وتابعيهم، والملائكةِ المقرَّبين وجميع عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله، فاتقوا اللهَ في مسارِ هذه الحياة، وما تكسبون وتكتسبون فيها؛ مِن ما يُحبه الله ويرضاه، مع الحذر مِما لا يُحبه ولا يرتضيه؛ مِن كلِّ ما يوجبُ غضبَه وسخطَه، ويُوقعُ عبدَه في البُعدِ عنه تعالى والحِجاب عنه، ووقوع اللعنةِ عليه والعِياذ بالله -جل جلاله-.
واغنموا ما مُتِّعْتُمْ بهِ من إدراكِ شهرِ الصوم كاملاً، وقد مرَّ بكم بعدَه أسبوع كامل مِن الشهر الذي يليه، وما مُهمةُ مرورِ الأيامِ علينا إلا أن نرتقيَ في تقوى مَن نتَّقي، وإنما نتَّقي الذي بيدِه الأمرُ كلُّه، وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّه.
يا أيها المُتَّقين لطوائفَ، ولِحكوماتٍ ودُول، ولِفقرٍ ولألمٍ في الجسد؛ كلُّ ما تتَّقونهُ في قبضة الحي القيوم الصمد الواحد الأحد، وكله لا يغني عنكم من دونه شيئاً، ولا يدفع عنكم ضُرًّا أراده بكم، ولا يَهَبُكُم خيرًا إلا إن شاءهُ لكم.
أيها المؤمنون بالله: والمرجعُ إليه وقد فاز مَن اتَّقاه، فما نِسبةُ ما خرجتَ به مِن شهرِ صيامِك وقيامِك؟
يا أيها المؤمن بالإلهِ الحقِّ الحيِّ القيوم: إنَّ الآثارَ لدى المؤمنين الذين يزدادون إيماناً، ويُراقبون مولاهم سرًّا وإعلانا.. تظهرُ بارزةً في الفردِ كما أشرنا في سلوكِه، وفي اختيارهِ أصدقاءَه، بل في اختيارهِ المنظوراتِ لِعينَيه، والمسموعاتِ لِأذنيه، فما خلَقَ العينين له نفسُه ولا أحدٌ مِن دُعاة الشر؛ الذين يدَّعون أن ننظُر بالعينين إلى العورات أو الصور المُحرَّمات، أو إلى الدنيا بالتعظيم، أو إلى المؤمنين بالتَّحقير، يدعوننا إلى ذلك، ولم يخلقوا أعينَنا، وحُقَّ لنا أن لا نُسخِّرها إلا في طاعةِ مَن خلقَها جل جلاله.
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، تشكرون واهبَها بتسخيرِها فيما شرع لكم، ضبطُ العين وضبطُ الأذن وضبطُ اللسان، وضبطُ الحركات واختيارُ المنظورات والمسموعات للإنسان، علائمُ مِن صِحة صومِه أو فساده، مِن قَبوله عند ربِّه أو رَدِّه من قِبَل خالقِه جل جلاله.
ألا بشرى لمن ظهرت عليه آثارُ القبول، وسارَ في الطريقِ يرجو القُربَ والوصول، إلى أن تأتيَ الساعة التي ينتقلُ فيها مِن هذه الحياة، ومِن ظهرِ الأرض إلى بطنِها، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ} كما تظهر الآثار في الأُسَر الذين قُبِلوا، وفيما يختارونهُ لأنفسهم مِن منظور ومسموع، ومِن مأكولٍ ومشروب، ومن مَقولٍ يقولونه بينهم، ومِن ملبوسٍ يلبسونه.
أيها المؤمنون: أهل تقوى الله يظهر عليهم ذلك في أقوالِهم وأفعالهم، ولِباسِهم ونشاطِهم ورغباتِ قلوبهم، فانظروا العلامات، واغنموا الأوقاتَ المَوهوبةَ من قِبَل ربكم، لِتتزوَّدوا فيها ومنها وبها إلى موجِب الفوز والكرامة في البرزخِ ويوم القيامة، وما يُوجِب دخولَ الجنان التي تُدْخَل برحمةِ الله، وتقتسَمُ بالأعمالِ الصالحة، ويفعل الله ما يشاء.
أجِرنا من نارِك يا حيُّ يا قيوم وأدخِلنا جنَّتك، وانظر إلى أمةِ حبيبِك وحرِّرها مِن التبعيةِ للنفوسِ الأمّارة والأهوية، والتبعيَّة لشياطينِ الإنسِ والجن، وما يظهر عليهم مِن آثار ذلك في أفكارِهم وتصوُّراتهم، وفي أقوالِهم وأفعالِهم، شعوبًا ودول، أفرادًا وجماعات، أنقِذ الأمة، واكشِف الغُمّة، وأجْلِ الظُلمة، وادفعِ النِقمة، وابسُط بساطَ الرحمة، يا حيُّ يا قيوم. ولا تجعلهُ آخرَ العهدِ مِن رمضان، وأعِدنا إلى أمثالِه في صلاحٍ في السرِّ والإعلان، لأحوالِنا وأحوالِ أهلِ الإسلامِ والإيمان، يا كريمُ يا منان، يا أرحمَ الراحمين.
ألا وأكثروا الصلاةَ والسلام على خيرِ الأنام، فإنها علامةُ الصدقِ والتعظيمِ لما عظَّم الملكُ العلّام، والتعرُّض لرحماتِه الواسعاتِ العِظام، فمَن صلى عليه مرةً صلى اللهُ عليه بها عشرًا، وهو القائل: "إن أولى الناس يوم القيامة بي أكثرَهم عليَّ صلاة ".
اللهم صلِّ وسلِّم على خيرِ الأنام، مَن قُلتَ في شأنه تعظيمًا وتفخيمًا: {إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} اللهم أنطِق ألسنتَنا بالصلاةِ والسلامِ عليه، وبِتلاوةِ كتابِك وبالصدقِ فيما نقول، وجنِّبنا الغيبةَ والنميمة والكذب، وجنِّبنا الفحشاءَ في الأقوالِ والأفعال، يا كبير يا مُتعال.
أيها المؤمنون بالله: صلوا عليه وسلِّموا تسليماً، فقد هداكم صِراطاً مستقيماً، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المُختارِ سيدِنا محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ، وصاحبهِ وأنيسهِ في الغار، مُؤازرِهِ في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى النَّاطِقِ بالصواب، حليفِ المحراب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمرِ بن الخطاب، وعلى الناصح لله في السرِّ والإعلان، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَنِ استَحْيَت منهُ ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيّدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمام أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسَينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهِما الحَوراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكُبرى وعائشةَ الرِّضَا، وعلى الحمزةَ والعبَّاس، وسائر أهل بيتِ نبيِّكَ الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعة العقبة، وأهلِ بدرٍ، وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وأهلِ أُحُد، وعلى سائرِ الصحبِ الأكرمين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اجمع قلوبَنا عليك، وارزقنا حُسنَ الصدق معك والتوجُّه إليك، والعمل بما بعثتَ به حبيبَك، واجعل هوانا تبعًا لما جاء به، وثبِّت قلوبَنا وأقدامَنا على مسلكِه وسيْرِه ودربِه، واسقِنا جميعا يا ربَّنا مِن شُربه، واحشرنا يوم القيامة في زُمرته، وأسعِدنا بالكرامة الكبرى بكريم مرافقته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تدارَك أمَّتهُ وأنقِذهم مِن الغيِّ والزيغِ والضلال، ومِن التَّباعدِ والتفرُّق والتشاتُم والتسابُب والتقاتُل على ما نهيتهم عنه، وبما حرَّمتَه عليهم.
اللهم أنقِذهم مِن تبعيَّة الكفار والفجار والأشرار، وسلطةِ أهلِ السوءِ والإيذاءِ من المنافقين والأشرار.
اللهم حوِّل أحوالَ الأمةِ إلى أحسنِ حال، اللهم قوِّم لنا أسماعَنا وأبصارَنا وألسنتَنا حتى لا يصدرَ منها إلا ما يوجِبُ الفوز، ولا نتعرَّضُ لمُوجِب الحسرةِ والندامة، ولا الخزيِ يومَ القيامة.
اللهم متِّعنا بأسماعِنا وأبصارِنا وحَولِنا وقوَّتِنا في سبيلك، وعلى طاعتِك ما أبقيتَنا، واختم لنا أجمعين بالحسنى وأنت راضٍ عنّا، يا مالِكَ الدنيا والآخرة، يا خالقَ الموتِ والحياة، يا مَن إليه مرجعُ مَن آمَنَ ومَن كفر، ومَن صدَّق ومَن كذَّب، ومَن أقبل ومَن أدبر، ومَن عبدَ ومَن ألحَد، مرجعُ الجميعِ إليك، وجميعهم يقفُون بين يديك، اللهم فلا تُخزِنا يومَ العَرضِ عليك، وتولَّنا بما أنتَ أهلُه، وأصلِح شؤونَ الأمة، واكشفِ الغمة، وعامِل بِمحضِ الجودِ والرحمة، يا حيُّ يا قيوم.
{ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} نسألك لنا وللأمة مِن خيرِ ما سألك منه عبدُك ونبيك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد، اللهم وسِّع لنا المغفرة من عندك لجميعِ ما اكتَسبنا، ولجميعِ ما قلنا وفعلنا ونوَينا؛ مغفرةً واسعة لأحيانا وموتانا، وعِتقاً من النيران، ومن الغضب والسخط، ومِن النفاق، ومِن سوء الأخلاق، ومن الذنوب والمعاصي يا خيرَ مَن يُعتق، ويا أكرمَ مَن يُعطي ويُحسن، ويتفضل ويمنح ولا يبالي، يا مولى الموالي يا أرحم الراحمين.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
08 شوّال 1444