مدرسة رمضان وفصولها وواجب أحوال المؤمنين فيها
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان، بعيديد ، مدينة تريم، 14 رمضان 1443هـ بعنوان:
مدرسة رمضان وفصولها وواجب أحوال المؤمنين فيها
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحَمْدُ لله. الحَمْدُ لله المُعاقِبِ بين الليالي والأيام، ليتزوَّدَ أُولو النُّهى استعداداً للوقوف بين يديه يومَ القيام، وعِمارةً لِحياة الأبدِ والخلود والدوام، مِن حياة الانتهاء والزوالِ والانصرام. وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا الله وَحْدهُ لا شريكَ له، الإلهُ الملكُ الواحدُ القادرُ العلَّام، بِيَدِهِ ملكوتُ كل شيءٍ وإليه مَرْجعُ جميعِ الأنام. فازَ المُقْبلونَ عليه، والعاملونَ بِطَاعته، والمُتَحَرُّونَ في حَياتِهم أسرارَ الصلاةِ والزكاةِ والصيام، والمُتَّصِلُون بِرفيع شَرَفِ العِبَادةِ والقيام.
وأشهدُ أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُهُ ورسولُه، أشرفُ مَن عَبَدَ الرحمنَ وصلى لهُ وزكَّى وصام. المُجْتَهِد في رمضان ما لا يجتهدُ في غيره وهو القدوةُ العظمى والمَثَلُ الأعلى لكلِّ مَن استقام. اللهم أَدِمْ صلواتِك على عَبدِك الذي أنزلتَ عليه القرآن في رَمَضَان، وجعلتَهُ الهُدى وخيرَ تِبيانٍ وبَيَانٍ لأُولي النُّهى يُكسِبُهم أشرفَ العرفان، وعلى آلِه المُطَهَّرين عن الأدران وعلى صحبِه الصادقين المخلصين الغُرِّ الأعيان، وعلى مَنْ وَالاهُمْ فيك واتّبَعهم بإحسان وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياء والمرسلين ساداتِ أهل العرفان، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين يا رحمن.
أما بعدُ عبادَ الله: فإني أُوْصيكم وإياي بتقوى الله. تقوى اللهِ التي لا يَقْبَلُ غيرَها، ولا يَرْحَمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيْبُ إلا عليها ﴿...إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾.
أيها المؤمنون بالله تعالى في عُلاه: فُصُولُ مدرسةِ الصيام مَرَّتْ بِكُمْ فَصْلاً بعدَ فصل، وها أنتم في فصلِكم الرابع عشر مِن فُصول مدرسةٍ تُقَرِّبُ إلى الرحمن، وتُثْمِرُ التَّطَهُّرَ عن الأدران، والتُهَيَّؤَ للقاءِ الواحد الديّان. يُتَزَوَّدُ منها بأشرفِ الزاد لدار المعاد. مدرسةُ التنقية. مدرسة التصفية، بل ومدرسةُ الترقية، ومدرسةُ التزكية، ومدرسةُ التنوير، ومدرسةُ التطهير، ومدرسةُ القُربِ مِنَ العليِّ الكبير، ومدرسةُ التقويمِ للمسار، ومدرسة التطَهُّر عن الأكدار والأغيار، ومدرسة الاتباعِ للنبيِّ المختار، المترتب على اتِّباعه محبةُ الملكِ الغفار، جَلَّ جَلالُه وتعالى في عُلاه. فما حالكم في فُصول هذه المدرسة؟ وما نتائجُ دخولِكُم فيها وانتقالِكُم في صفوفِها حتى وصلتُم إلى هذا الفصل، مُوَدِّعِيْنَ النصفَ الأول، مستقبلينَ ما بقي مِنَ النصف الأخير؟ وفيه عظيمُ التأثير وكبيرُ التنوير، وعلامةُ الشقاء للمُبْعَدِ والمَطْرُود، وعلامةُ الشقاءِ لِذِي الخزي مِن كُلِّ عَنُوْد، وعلامةُ الشقاءِ لكلِّ مَنْ لم يَصْدُق مع عالِمِ الغيبِ والشهود. يَظْهَرُ كلُّ ذلكم في النصفِ الأخير أكثر، ويتبيَّنُ الحال بيْنَ مَن صدقَ وتطهَّر، وبين مَن تغافلَ وأدبر.
أيها المؤمنون بالله: ليس بأمرٍ هيِّنٍ ولا يسيرٍ ولا قليل، أن يَمُدَّ ربُّ العرش في عُمرِكَ حتى تَحْضُرَ رَمَضَان، وتنقضي بك منه أيامٌ بعدَ أيام، وتتوالى عليك أيامُه حتى تُكمِل النصفَ الأول ثم تبلغ النصفَ الآخِر. وإنَّ مِن شأنِ المؤمن في مسارِهِ إلى ربِّه واستعدادِهِ للقائه أن يكونَ في طولِ عمرهِ يومُه خيراً من أمسِه، وما يستقبله خيرٌ مما مضى عليه، فكيفَ بالشهرِ الفضيل النَّوِيرِ ذي الأجرِ الجزيل والعطاء الجليل مِن الملكِ الجليل؟ يجب أن يكونَ كل يومٍ خيرٌ لك مِن اليوم الذي قبلَه، وأشرفَ وأطهرَ وأَنْوَرَ وأزكى، وأن يكونَ النصفُ الأخير أعظمَ في التنوير والتطهير والإقبال على العليِّ الكبير، وتكونَ قد بدأتَ تَذَوُّقَ حلاوةِ الوقوفِ بين يدي ربِّك، والكفِّ عن الشهوات مِن أجلِه، وتَهَيأ باطنُك لِحُسْنِ المراقبة لِعالِم الغيبِ والشهادة، ونِلتَ مِنَ الصلةِ بالقرآن ما يوجبُ السعادة، فَرَحَاً به وتعظيماً له وتدبُّراً لآياتِه، وفَهْماً لخطابِ ربك الذي تَنَزَّلَ لك وتكرَّمَ وخاطَبَك وكلّمَكَ وبشركَ وحذَّرك وأنذرك وبيَّن لك، بلسانٍ عربي مبين، لسان المُجْتَبى المصطفى الأمين، بما نَزَّل على قلبهِ الأطهر وفؤادهِ الأنور، ومكَّنَكَ أن تَتْلُوَهُ مِنْ بعده وأن تقرأه وهيَّأ لك السبيلَ أن تتفكَّر في معانيه وأن تتدبَّره وأن تسقيَ قلبَك وروحَك مِن سُقيا علمِه وعرفانِه وأن تَكْشِفَ عن سريرتك مِنْ كشفِ تعليمِه وتِبيانه.
أيها المؤمن: أحسنِ النظر ما استفدتَ وما عادتْ عليك مِن عوائد فصولٍ ثلاثةَ عشر. أنت في الفصلِ الرابعِ عشر مِن فصول هذه المدرسةِ المُزَكِّيَة المُرَبِّيَة المُنَقِّيَة المُرَقِّيَة المُطَهِّرَة المُنَوِّرَة. أَيَتَنَوّرُ غَيْرُك وَحَظُّكَ الالتفات إلى مطاعمَ أو مَشارِبَ أو غَفَلات أو مُجالَسَات في غير ذكرٍ وتلاوة، أو رَمْيٍ بالأهل خُصوصاً أيام العشر إلى الأسواق، وخُروجٍ عن الأخلاق، وتَشَبُّهٍ بأهلِ الشقاقِ والنفاق، بل بأهلِ الكُفر والبُعدِ عن الخلّاق، في قِلِّ الحياء، في إظهارِ الزينةِ للأجانب؟ أيكونُ حَظُّك مِنْ رَمَضَان هذا؟ أتكونُ نتيجةُ المدرسةِ عندك هذا الفشل وهذا الانقطاع وهذا الرُّسوب؟ في وقتٍ فُتِحت لك الأبواب وفُسِحَت لك الرحاب بِغَيْثٍ مُنساب وفَضلٍ سَكّاب وعطاءٍ بغيرِ حساب مِنْ ربِّ الأرباب؟ اقترب أهلُ الاقتراب وأنابَ من أناب وأنتَ لا تُحسنُ الحساب ولا تقومُ على الإيمان والاحتساب في صلاةٍ تُصَلِّيْها أو صيامٍ تصومُه لِرَبك جَلَّ جَلالُه وتعالى في عُلاه.
أيها المؤمن: خُذ نصيبَك، وأَحْسِن زادَك، وتهيأْ لِمعادك، واسلُك سبيلَ رشادِك وتخلَّصْ من شرِّ وشَرَهِ النفس وكُلِّ موجبات الرِّجس وما يُبعدُك عن مرافقةِ أهلِ حظيرةِ القدس ممَّن صفَّاهُم الله واصطفاهم. فما أمتعَ بِكَ وأطالَ عمرَك وأدركتَ الشهر إلا لتتزوَّد ولتتعَهَّد شأنكَ وحالُك ولتتنوَّر بنورِ الله وما أنزلَ على عبدهِ الأطهر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. في شهرٍ يَكْثُر العِتْقُ فيه مِنَ النار ومن العذاب ومِن النفاق ومن سوء الأخلاق ومن الذنوب ومِن السيئات. فكم يعتقُ ربُّ العرش سبحانه من البَرِيَّات مِن كلِّ هذه الآفات، فما نصيبُك ونصيبُ أهلك ونصيبُ أولادك؟ ماذا عَلِمْتُم عن رَمَضَان وماذا عَمِلْتُم فيه، في أيامِه ولياله؟ ألا فالتدارُك التدارُك لِمَا بقي من أيامٍ معدودات كما قال ربُّ الأرض والسماوات، معدوداتٍ محدودات، سريعات الارتحال والانقضاء والانتهاء والزوال والسفرِ إلى ذي الجلال.
ألا تَرَقَّبْ ليلةَ القدر، ألا عظّمِ الأمر، صَفِّ السريرةَ والصدر، ألا راجِعْ رابطتكَ بالقرآن وشأنكَ مع آياتِ الرحمن. هل بدأتَ تتذوق حلاوتَها وتتدبر معانيَها؟ بعد ثلاثةَ عشرَ فصلاً في مدرستِها ومدرسةِ الاتصالِ بِسِرِّها في ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾، وأنت أحدُ الناس، فما نصيبُك من الهدى؟ ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.
أيها المؤمنون بالله: خُذوا النصيب، واتَّبعوا الحبيب، وأقبِلوا على الخالق البارئ المصور إقبالَ المُجيب المستجيب المُنيب.
أيها المؤمنون بالله: ليس بيسيرٍ ولا هيِّن أن يُمَتَّعَ بك ثم يَنْتَصِف عَليك رَمَضَان، حاضراً لأيامه ولياليهِ الماضيات، مُستقْبِلاً لما بقي، رفعك اللهُ فيه شريفَ الدرجات وهيأك لأعلى السعادات، وذاك قريبٌ إذا كنتَ من أهل الإنابةِ والإخبات، ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ...﴾ والمقيمي الصلاة. أولئكَ المُخبِتُون، أولئك الفائزون، أولئك المَسْعُودون. أسعِدْنا اللهمَّ بأعلى السعادة، وأصلِح لنا الغيبَ والشهادة، وتَوَلَّنا بما تولَّيتَ به الصادقين المخلصين، واجعل لنا زاداً شريفاً مِن أيام شهرِنا ولياليه، واجعلنا عندك في خواصِّ أهليه، مِمَّن تُقَرِّبُه وتُدنيه وَتَرْفَعُه وتُرَقِّيه، ومن كلِّ الأدران والذنوب تُطَهِّرُهُ وتُنَقِّيه، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
والله يقول وقولُهُ الحقُّ المُبِيْن ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
وقال تبارك وتعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ. لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ﴾
﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ورفعنا إلى مراتب القُرب والتكريم، وثبّتَنَا على صراطه المستقيم، وأجارَنا مِنْ خِزْيِهِ وعذابِه الأليم.
أقولُ قَولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيم لي ولكم ولوالدِينا ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ حَمْدَ خاشعٍ مُنيب، وأَشْهَدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ الوليُّ الرقيبُ الحسيب، عليه تَوكَّلتُ وإليهِ أُنيب، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبِنا محمداً عَبدُهُ ورسولُه. لهُ لدى إلهِه المكانُ الأعلى والجاهُ الرحيب. اللهم صلِّ وسلم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمد الهادي إلى سواء الصراط، والحامي لأتباعِه مِن الاختلاطِ والاختباط، والمقيمِ لهم على شرف الاستقامة والانضباط، وعلى آلهِ الأطهار وأصحابِه الأخيار ومَن على منهاجِهم سار، وآبائه وإخوانه مِن النبيين والمرسلين معادِنِ الأنوار، وآلهم وصحبِهم وتابعيهم والملائكة المقرَّبين، وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا كريمُ يا غَفّار.
أما بعد، عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله. والذي فَرضَ علينا الصيامَ لعلَّنا أن نَتّقي، كما بيَّن لنا في كتابِه الذي أنزلهُ على سيدِنا النبي، خيرِ كلِّ مطيعٍ وتقي، صلى اللهُ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سار على دربِه السَّويِّ.
أيها المؤمنون بالله: هل ارتقيتُم في مَراقِي تقواه بِسِرِّ الصوم الذي تَتْرُكون به طعامَكم وشرابَكم وشهواتِكم مِن أجل الله مِن الفجر إلى غروبِ الشمس ليكون أُهْبَةً لكم واستعداداً لاستقبالِ الليل فيما تواصلون به التَّنَقِّي عن الرجس، والترقِّي في مراقي الطُهر والقدس والتزكيةِ لهذه النفس، ثم تُواصلون الفصلَ الأول بالفصل الثاني، والثالثَ بالرابع زيادة، لنيلِ السعادة، وإصلاحِ الغيب والشهادة، وتتهيَّؤون للعشر الأواخر، حيث يقومُ قُدْوَتُكُم لإلهِه الفاطر، فإذا دخلت العشرُ الأواخر من رَمَضَان شدَّ مِئْزره، شمَّرَ للعبادةِ وللطاعة وهو سيدُ العابدين الطائعين، وأحيا ليلَه وأيقظَ أهلَه.. هل أيقظَ أهله، ليختلطوا بالأجانب؟ أم ليذهبوا إلى الأسواق مِنْ أجل ثَوْبِ عيد؟ مِن أجل ثوب عيدٍ، يَتَعَرَّض للوعيد؟ مِن أجلِ ثوبِ عيد، يَسْلُكُ مسالكَ كل مَبْغُوضٍ وبعيد؟ من أجل ثوب عيد، يتركُ الحياءَ والحشمةَ والأدب؟ مِن أجل ثوب عيد، يُغضِبُ الإلهَ الرب؟ مِن أجل ثوب عيد، يتركُ سنةَ الحبيبِ المقَرَّب، ويُخرِجُ أهلَه إلى الأسواق وهو يضحك، لا يدري أنَّ الأمرَ فيه انطواء عليه يؤديه إلى المَهْلَك، مِن تلبيسِ مَن أغفلَه عن حُسن السلوك ورعاية ملكِ الملوك. في بُلدان كان أربابُها في ماضي القُرون ومُضيِّ الأزمان لا يجعلون في غُرَفِ النساءِ في البيوت نوافذَ تُشرفُ على الشوارع قَط، بل مُرتفعة لا يصل الواصلُ إليها، مِن ماذا؟ مِن غفلتِهم؟ لا والله. مِن قِلِّ عقولِهم؟ لا والله. مِن تَحَجُّرِهِم وَتَشَدُّدِهم؟ لا والله. مِن ساطِعِ نورِ صدقِهم، مِن هيبةِ خالِقِهم، من حُسنِ الاستعدادِ لمُستقبلِهم، مِن قوةِ تصديقِ نبيِّهم، مِنْ حُسن مجانبةِ ما يُقَرِّبُهم مِن البُعدِ عنْ ربهم وما يُزيِّنُ لهم عدوُّهم. اتَّخِذُوهُ عدواً، واتَّخِذُوا القدوةَ مَن كانَ للقدوة عند اللهِ سبحانَه وتعالى معدوداً ومُعتبراً ومَرْجُوَّاً ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
أيها المؤمنونَ بالله: أيقِظُوا قُلوبَكم، وأيقِظُوا الأهلَ معكُم للإنابةِ والاستجابة، لا للغفلات. فما جعلَ اللهُ العيدَ مَدخلاً للأسوا، ولا خُرُوجاً عن المنهجِ الأقوى، ما جعلَ اللهُ العيدَ إلا إعلاناً للفرحِ بالغفران، وإعلاناً للفرحِ بالقُربِ مِن الرحمنِ والعتقِ من النيران. وجعلَ العيدَ زيادةً في الوجهةِ إليه وفي حيازةِ القُربِ منه والمكانة لديه. هذه أعيادُ المؤمنين. هذه أعياد المتقين. هذه أعياد الصادقين. لا أعياد الاختلاط والاختباط. وفي يوم العيد، يُصافحُ زوجةَ أخيه وزوجةَ عمِّه بلا مَحْرَمِيَّة. أيومُ عيدٍ أم يومُ وَعِيد؟ أَيَوْمُ عيدٍ أو يومُ تَبْعيد؟ أيومُ عيدٍ أو يومُ بُعدٍ عن الملك المجيد؟ أي يوم هذا هو لك؟ تدخلُ عليهن في زينتهنَّ وهُنَّ غيرُ محارم. وتصافحهنّ، ولأن يُطْعَنَ أحَدُكُم بِمِخْيَطٍ في عينه خيرٌ له من أن يمسَّ يدَ امرأةٍ لا تحلُّ له. أين تَربَّيت؟ مِن أين أقمتَ موازين الخير والشر والصلاح والفساد؟ مَنْ لَعِبَ بعقلِك؟ مَن لعب بأحاسيسك؟ آياتُ الله لم تؤثر فيك، وأنت تقرأ ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ ...﴾ ، إلى آخر الآية. بَيَانٌ مِمَّن؟ تعليمٌ ممن؟ تُقَدِّم عليه وسوسةَ إبليس؟ تقدِّم عليه تعاليمَ كل خسيس؟ هذا لك أشرف، وهذا لك أنْزَه وأنظف، وهذا الذي يُرَقِّيك، وما خالَفَهُ يُرديك. أحسِنْ استقبالَ النصف الأخير بكمال التطهير وجمال التنوير والصدقِ مع العلي القدير. وانظر صلتك بالقرآن أين وصَلَتْ، وتَذَوُّقك لحلاوة تلاوتِه إلى أي حدٍ وصل. أو مَرَّ الشهرُ ومرَّ الكثير مِن الشهر وانتصف ولم تختم بعد كتابَ الله، لأنك مُهْمِل، لأنك متغافِل، لأنك متكاسل. وإهمال وتغافُل وتكاسُل في الموسم المبارَك؟ في الأيام الشريفة؟ في البورصة الكريمة؟ راجِع حسابَك، صِلَتَك بكلام ربك، صلتك بالقرآن. إن لم تتذوقْ حلاوتَه في رَمَضَان فمتى؟ أتموت ولم تذُقْ حلاوةَ كلام الله؟ وقد كان سيدنا عثمان بن عفان يقول "لو طَهُرت قلوبُنا ما شبِعَت من كلامِ الله." تبحث عن سُرعةِ الخروج من المسجد، تبحث عنِ الإسراع في تطبيق المصحف، ويتمادَى بك الوقت في الكلامِ الفارغ. والمصيبة إن كنتَ في رَمَضَان وفي أواخره تتفرَّج على الصور الخبيثة أو تُمكِّن من ذلك أو تُهمل ولدَك أو ابنتَك وأنت غافل. خُلِقْتَ لمهمَّة، لا تغفل. أنت صائر إلى أمرٍ عظيم، لا تغفل. أَحْسِن اغتنامَ الليالي تَرْقَ إلى المقامِ العالي، ويَشرق في قلبِك النورُ المتلالي. واصدُق مع الخلاق واتَّبِع عبدَهُ عظيمَ الأخلاق.
اللهم بارِك لنا فيما بقي مِن ليالي شهره وأيامه، وأسعِدْنا يا حيُّ يا قيوم، بإكرامك لأهلِ صيامِه وقيامِه والمُقْتدين بحبيبك محمدٍ الظافرين بحسنِ الائتمام به والسَّيرِ على دربِه، حتى ينالوا حُبَّك ويَحُوزوا قُربَك، بما لا يصفه واصف ولا يُعبِّر عنه ناطقٌ من الخلائق في قريبٍ ولا بعيد، ذلك فضلك تهدي إليه مَن تشاء وتؤتيه مَن تشاء، وأنت الكريمُ الحميدُ المجيد. لا إله إلا أنت، بارِك لنا في أيامنا وليالينا وأصلِح ظواهرَنا وخوافينا.
واستفتحوا أبوابَ رحمةِ ربِّكم وإدراكِكم لسرِّ الصيام والقيامِ والصلةِ بالقرآن وتقويمِ الأهل والأُسرة على مرضاة الرحمن، استفتحوا كلَّ ذاكم وأبواب كلِّ ذلكم بكثرةِ الصلاة والسلام على النبيِّ محمد. فإنَّ ربَّ العرش يصلي على مَن صلى واحدةً على نبيِّه عشرَ صلوات. وإنَّ أولى الناس به يوم القيامةِ أكثرُهم عليه صلاة. وإنَ اللهَ أمرَنا بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثَنَّى بملائكته وأيَّهَ بالمؤمنين من عبادِهِ تعميماً، فقال مُخبِراً وآمراً لهم تكريماً ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.
اللهُمَّ صَلّ وسلِّم على عَبْدِك المختارِ نورِ الأنوار وسرِّ الأسرارِ سيدِنا محمد، وعلى الخليفة مِن بعدهِ صاحبِهِ وأنيسِهِ في الغار، مؤازِرِ رسولك في حالَيِ السَّعةِ والضيق، خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكرٍ الصديق. وعلى الناطقِ بالصواب حليف المحراب، مُعَظِّم السنةِ والكتاب، ناشرِ العدلِ في الآفاقِ أميرِ المؤمنين سيدِنا عمرَ بن الخطاب. وعلى مُحيي الليالي بتلاوةِ القرآن أميرِ المؤمنين ذي النورين مَن استحيَت منهُ ملائكةُ الرحمن، صهرِ المصطفى سيدِنا عثمانَ بن عفَّان. وعلى أخِ النبي المصطفى وابنِ عمِّه ووليِّه وبابِ مدينةِ عِلمه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب، ليثِ بني غالب، أميرِ المؤمنين سيدِنا عليّ بن أبي طالب. وعلى الحسنِ والحُسين سيدَي شبابِ أهل الجنةِ في الجنة، وريحانتي نبيِّك بِنَصِّ السُنَّة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمةَ البتول الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضى، وأمهاتِ المؤمنين وبنات المصطفى الأمين وعلى الحمزةَ والعباس عَمَّي نبيِّك وأهلِ بيتِه المطهَّرين مِن الدَّنس والأنجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبة، وأهل بدرٍ وأهل أُحُد وأهلِ بيعة الرضوان، وعلى سائرِ الصحبِ الأكرمين ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين. اللهمَّ بِمَنْزِلتِهم عندك ارزُقْنا ثمرةَ الصيام وحُسْنَ إدراكِ مَدْرَسةِ الصومِ وخيرِها في أيامنا وليالينا لنرقَى إلى أعلى مقام. اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك لشرِّ ما عندنا، وانظُر إلينا وإلى أهل الإسلام. اللهم طالما اتَّبَعُوا عدوَّك وعدوَّهم وغَفِلُوا عن وحيِك وعن نبيِّك وما أرسلتَه به إليهم وزيَّنَتْ لهم أنفسُهم قبائحَ وخرجوا عن طريقِ الهدى والملائح، اللهم فَحَوِّل أحوالَهم إلى أحسنِ الأحوال. اللهم أنقِذهم وأيقظهم مِن الغفلات والسُّبات والنوم والإهمال. اللهم ارزقهم حُسنَ الإقبال. اللهم حوِّل أحوالَهم إلى أحسنِ حال. اللهم ارفعْ عنهم سُلطةَ الأعداءِ والفساقِ والفجارِ والكفارِ والأشرار وأسعِدْهُم بمتابعةِ نبيِّك المختار. اللهم حوِّل أحوالَهم إلى أحسنِ الأحوال. اللهم ادفعْ عنهم جميعَ المصائب والأهوال.
اللهم بارِك لنا فيما بقي لنا في رَمَضَان من أيامٍ وليال. اللهم أسعِدْنا في كل فصلٍ من فصول هذه المدرسة، في كلِّ يومٍ مِن أيامِها وفي كلِّ ليلة من لياليها واجعلنا مِن الظافرين الرابحين بالعِتْقِ من النار ومن العذاب ومِن الغضب ومِن السخط ومن السيئات والذنوب والأوزار. أعتِقنا يا مَن لا يعتقُ الرقابَ إلا هو. اغفر لنا يا مَن لا يغفرُ الذنوبَ إلا هو. طهِّرْنا يا مَن لا يطهِّر القلوب إلا هو. سامِحنا يا مَن لا يسامحُ عن السيئات إلا هو.
يا حيُّ يا قيوم. ارحمنا والأمة، واكشفِ الغُمَّة وأجلِ الظُلمة وادفع النِّقمة. إلهَنا وسيِّدَنا.. في مثلِ أيامنا هذه من السنةِ الثانية مِن هجرة نبيك، جاءت عليه هذه الأيام وهو خارج المدينة المنورة مِنْ أجلِ نُصرتِك، مِن أجل تبليغِ شرعِك، مِن أجل إقامةِ الحقِّ فينا ومعه ثلاثمائة وبضعةَ عَشَر مِن أصحابه الكرام. كانوا أهلَ بدرٍ، بذلوا أرواحَهم وبذلوا أنفسَهم، صادقين مُخلصين لوجهِك الكريم، فارضَ عنهم واحشُرنا في زُمرتهم، وثبِّتْنا على طريقتهم. يا حيُّ يا قيوم. واحفظنا مِن الافتتان والانخداع بِزُخْرُف القولِ الغُرور، أو شرِّ هذه الحياةِ التي يسرعُ فيها المُرورُ والعُبور، يا عزيزُ يا غفور، يا أرحمَ الراحمين.
اللّهُمَّ اغفر لنا ولِلآباء والأمهات، والأجداد والجدات، وذوي الحقوق علينا، وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ووفِّقْنا للصدقات، ولإعطاء الحقوقِ على الوجهِ المَرضيِّ في الظواهر والخفيات، يا حيُّ يا قيوم، أسعِدنا يومَ الميقات، بمُرافقةِ خيرِ البريَّات، والدخول مع السابقين إلى الجنات مِن غير سابقةِ عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، يا كريمُ يا وهاب. ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ ﴿ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
نسألُك لنا وللأمة مِن خيرِ ما سألك منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد، وأنت المُستَعان، وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عبادَ الله:
إنَّ الله أَمَرَ بِثَلاث وَنَهَى عَنْ ثَلاث:
﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
فاذكُرُوا اللهَ العظيمَ يَذْكُرْكُم، واشْكُرُوه على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبر.
14 رَمضان 1443