(228)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان بحارة عيديد، مدينة تريم، 16 شوال 1442هـ بعنوان:
مجالي فوائد المؤمنين من موسم رمضان وفوارق الكفر والإيمان.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمدُ لله المَلِكِ الحيِّ القيومِ القويِّ القادر، وأشهد أن لَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له العليُّ العظيمُ الواسعُ المنَّانُ الغافر، المُبدىءُ الخالقُ الفاطر، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه المجتبَى المصطفَى الطاهر، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك الأرفعِ منزلةً لديكَ الشَّفيعِ الأعظمِ في اليومِ الآخِر، وعلى آلِه الأطاهر وأصحابِه الأكابر، وعلى مَن والاهم فيكَ وسار في سبيلِهم في الباطنِ والظاهر، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين ساداتِ أهلِ البصائر، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهم والملائكةِ المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين يا أولُ يا آخرُ يا باطنُ يا ظاهر.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله.. تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها.
أيها المؤمنون بالله: إنَّ صاحبَ الرحمةِ والمَغفرةِ والعتقِ مِن النار تظهرُ عليه الآثار وتُستجلَى فيه الأنوارُ ويُعرَفُ بمَظهرِه وجوهرِه وحِسِّهِ ومعناه وعلانيَّتِه وسِرِّه في تَحصيلِه لتلكم المَواهب وارتقائه لعَليِّ المراتب.
إنَّ المؤمنين وقد مرَّ عليهم رمضانُ ولياليه وأيامُه ثم العيدُ ومظاهرُ جودِ الله وإكرامِه، والجوائز لكلِّ فائزٍ مِن الخيرات الواسعات التي يغدُو المؤمنُ لها بفضلِ الله حائز؛ إنهم وقد مرَّ عليهم ذلك الموسمُ وتلكم المعاني والمواهب لجَدِيرون بأن تُرَى عليهم الآثارُ في الوجهاتِ والنيَّات والأفكار، وفي المعاملةِ في السِّرِّ والإجهار.
إنَّ مَن رُحِمَ وغُفِرَ له وأُعتِقَ من النار يعلو به الفكرُ عن مسالكِ أهلِ النارِ الذين مآلُهم اللَّومُ والذِّلَّةُ والصَّغَار، والهَوان والبُعد والطَّردُ والخَسار، وأفكارُهم منحطَّةٌ في تعظيمِ الشهواتِ العاجلةِ وقضائها، وكأنَّما خُلِقُوا لها في انحطاطٍ كبير، ويترتَّب على ذلك انحرافُهم في السلوكِ والمعاملةِ وفي أنواعِ المواجهةِ والمقابلة. ولكنَّ مَن غُفِرَ له ورُحِم وأُعتِقَ من النار يسمُو فكرُه إلى حسنِ الإعمارِ لدارِ القرار، مِن خلال دارِ الانقضاءِ والزوال والفناء.. مِن خلال هذه الدار.
وقصيرُ الأعمار التي إذا عُمِرَت فلها شأنٌ كبيرُ المقدار، قصيرُ هذه الأعمار إذا صُرِفَ فيما هو أتمُّ وأقومُ وأطيبُ فهو عظيمُ الأثر، وهو عظيمُ العاقبة والخطر، وهو الواسعُ بسببِه إدراكُ السُّولِ والوَطَر، وفوق ما يؤمِّلُ المؤمِّلُون. كيف والمدرِكون لسِرِّ خلقِهم على هذه الحياة والقاصدين وجهَ خالقِهم تعالى في علاه أُعِدَّ لهم ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعَت، ولا خطرَ على قلبِ بشر.
وأكثر ما يواجِهُهم في طريقِهم إلى مولاهم وثباتهم على ما ارتضَى لهم خالقُهم الذي أوجدَهم وبَراهم سبحانه وتعالى شؤونُ الشهواتِ والتعظيمُ للفانيات، والتخويفُ بالفقرِ مِن المال في خلالِ هذا العمرِ القصير، وإعظام الحقيرِ الزائلِ الصغير، وذلك ما يُوحيه إليهم ويُلقيه إبليسُ وجندُه مِن الإنسِ والجنِّ في مختلفِ الوسائل، أن اعشقُوا الفانيات، وعظِّموا الزائلات، واجعلوا مُرادَكم الشهوات والمحرمات، وحقِّروا ما عظَّم ربُّ الأرضِ والسماوات، وخافوا مِن الفقرِ ومما سِوى الله مِن الأمراض والحروب وغيرها، وانتزِعُوا الخوفَ ممَّن بيدِه الأمرُ في السرِّ والجهر. هذا الذي يوحي به ويُشير إليه منشوراتٌ ومُذاعاتٌ وبرامجُ كثيراتٌ لأربابِ الكفرِ والفسوق، يستمع إليهم ثم يتبعهم كثيرٌ من المؤمنين.
فحَقٌّ لمن رُحِمَ وغُفِرَ له وأُعتِقَ مِن النار أن يَنتَزِعَ من نفسه إصغاءً لهؤلاء أو استماعاً إليهم أو تعويلاً على ما يطرحون، فوالله لا يهدون بالحقِّ ولا به يعدلون {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ}.
فليَخرجِ المؤمنون بخوفِ الله الذي بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء، وله الأمرُ والنهيُ في الدنيا والبرزخ والآخرة، فحَقٌّ أن يُخَافَ ملكُ الملوك، ولا يحصل فقرٌ إلا بأمرِه وقدرتِه، ولا غِنى إلا بأمرِه وقدرتِه، ولا صحةٌ إلا بأمرِه وقدرتِه، ولا مرضٌ إلا بأمرِه وقدرته.. جلَّ جلاله.
قال سيدُنا الخليلُ إبراهيم مُعلِنَاً حقيقةَ هذا العلوِّ والسموِّ والتوجُّه عند مَن آمنَ وعند مَن أيقنَ وعند مَن أدركَ الحقيقة {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} والطمع فيه {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
أيها المؤمنون بالله: كذلك تسمو الأفكار والادِّكار والاعتبار، وكذلك يعلو المؤمنُ في المسار والآثار مُقتَفِيَّاً أثرَ النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في السِّرِّ والإجهار أبدا سرمدا {ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا}.
فاقرأوا آثارَ القبول ونيلَكم للرحمةِ والمغفرة والعتقِ من النار، اقرأوها في وجهاتِكم ونياتكم؛ بمخالفتِكم التامَّة الكاملةِ لفكرِ أهلِ النار، وأعمالِ أهل النار، ومسالكِ أهل النار، ورغباتِ أهل النار في هذه الدار. فإنَّ اللهَ خلقَ الجنةَ وخلق لها أهلًا فهم بعَملِ أهل الجنةِ يعملون، وخلقَ النارَ وخلقَ لها أهلًا، فهم بعملِ أهلِ النارِ يعملون، وما عملُ أهلِ الجنةِ إلا تـعظيمُ فرائضَ فرضَها الجبارُ فيُقيمونَها، وسننٌ سنَّها المختارُ فيتَّبعونها، أعمالُهم الصدق، أعمالُهم الأمانة، أعمالُهم أن يحبُّوا للمؤمنين ما يحبونَ لأنفسِهم، أعمالُهم أن ينطلقوا في الحياةِ انطلاقَ المُتَزوِّدِ منها لحياةِ البقاءِ والدوام، أعمالُهم الإحسانُ إلى الجيران، والصلةُ للأرحام والبرُّ للوالدين، أعمالُهم النزاهة، أعمالُهم الأمانة.. هذا عملُ أهلِ الجنة.
وما عملُ أهلِ النار إلا الربا، وإلا الخَنَا، وإلا الزنا، وإلا شربُ الخمر، وإلا احتقارُ المسلمين، وإلا تعظيم الدنيا، وإلا الكذب، وإلا الخيانة، وإلا الفسوق.. هذه أعمال أهل النار.
فأهل النار بأعمال أهل النار يعملون، وأهل الجنة بأعمال أهل الجنة يعملون (فاعملوا فكلٌّ ميَسَّرٌ لِما خُلِق له)، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ}
{ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}.
ثبَّتَ اللهُ قلوبَنا وأقدامنا، ونشرَ بالصدقِ بين أهلِ الصدقِ أعلامَنا، وأظهرَ علينا آثارَ صيامنا وقيامِنا وقبولنا عنده، وحيازتنا للرحمةِ والمغفرة والعتقِ مِن النار، إنه الكريم الغفَّار.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تباركَ وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم)
أعوذ بالله مِن الشَّيطان الرَّجيم:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا من خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الحمد للهِ القويِّ الغالب، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له بيدِه أمرُ الحاضرِ والعواقب، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعينِنا ونورَ قلوبِنا محمدًا عبدُه ورسولُه، سيِّدُ الأحباب وأطيَبُ الأطايب. اللهم صَلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك الذي رفعتَه إلى أعلى المراتب، ووهبتَه منكَ أجزلَ المواهب، وعلى آلهِ الأطهار وأصحابه الصادقين ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلى آبائه وإخوانِه مِن النَّبيِّين والمرسلين وآلهم وصحبِهم والتابعين، وعلى ملائكتِكَ المقرَّبين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله.
فاتَّقوا عالمَ السِّرِّ والعلَن، واخشوا مَن بيدِه الأمر في الدنيا ويومَ الوقوف بين يديه في يومِ كشفِ السرائر ويومَ ظهورِ ما في البصائر، ويومَ وقوفِ الأولِ والآخِر بين يدَي ذلكم العزيزِ القادر {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ}.
اتقوا اللهَ تبارك وتعالى، والتمسوا الفوائد وعودَ العوائد مِن رمضانَ وصيامِه وقيامِه وحالَكم في شهرِ شوال فما بعدَه؛ فقد استقبلَتكم أشهرُ الحج وما جعلَ اللهُ فيها مِن مظاهرِ العَجِّ والثَّج: تلبيةً لله، وإطعاماً لوجهِ الله.. وهكذا هكذا تُستجلَى المعاني مِن بعد الشهرِ المباركِ المَصُون فيما ينطلقُ فيه الناس وطريقة تفكيرهم إذ يفكِّرون وأعمالهم إذ يعملون.
أيها المؤمنون: باركَ الله في جهودِ المُسارعين إلى الخيرات والذين رتَّبوا أنفسَهم بعد رمضان أمامَ الجماعة في الصلوات الخمس، وأمام المبادرةِ إلى الفضلِ والخير. ومِن جملةِ ذلكَ ما وقعَ مِن المظاهرِ المباركة فيما أصابَ البلدةَ في أواخرِ رمضانَ مِن تهديمِ بعضِ بيوتِها وأن يُستشهَدَ مَن أراد اللهُ تبارك وتعالى تحتَ الهَدمِ مِن أفرادٍ معدودين -ولطفُه مقروءٌ في الأحوال- وما كان مِن مسارعةِ الشباب إلى القيامِ بالواجبِ والمهمِّ في تلك الأحوال غير مُنتظرينَ هيئاتٍ رسمية ولا جماعات وهيئات للإنقاذِ ومبادرة ومسارعة إلى فعلِ الواجب والمهم. وذلكم مظهرٌ مِن مظاهر الإيمان يجب أن يتأصَّلَ فينا وأن يتعمَّق فينا، وأن نمضيَ عليه بتربية مِن هادينا وإمامنا ونبيِّنا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم المبادر إلى فعل الخيرات والقيام بمصالح العباد.
ولقد سُمِعَ في ليلةٍ صوتٌ مزعجٌ حولَ المدينة المنورة وخرجَ كبارُ الصحابة وشجعانُهم وتوجَّهوا نحو الصوت، ولينظروا ما الذي حصل، ولينظروا أحوالَ المدينة وأهلَها وكفاية الناس ما كان مِن سوءٍ، وما كان مِن شرٍّ والعمل في ذلك. خرج أولئك القوم ووجدوا سيدَ القوم راجعاً مِن حيث الصوت، قد سبقَ الكلَّ، ومَرَّ في طريقه على فَرَسٍ لأبي طلحة ركبه عَارِيَّاً لا شدَّ عليه، وتوجَّه نحو الصوت ونظر ما الذي حصل وما الذي حدث.. وعاد راجعا، وعند عودته كان بداية تحرُّكِ الشجعان الأكابر مِن الصحبِ الطاهرين، فوجدوه مُقبلًا عليهم على ذلك الفرس يقول لهم: لن تُراعوا لن تُراعوا، ليس في المسألة خطر ولا وراء هذا الصوت شر. وسلَّم الفرسَ لأبي طلحة يقول: يا أبا طلحة إني ركبتُ فرسَك عاريًا وإن وجدناه لبَحْرًا. قال ولقد كان ذلك الفرس مُتَصَعِّباً لا يمشي ولا يمضي، ومن تلك الليلة صار لا يُجارَى في السَّبْقِ، وصار ذليلاً لراكبه، وسمَّاه صاحبُه "البَحْرَ"، فسُمِّيَ ذلك "البَحْرَ" من ذلك اليوم. وكان الإصلاحُ والصلاحُ حتى للدوابِّ والأنعام وكان السبقُ له من بين الشجعان الكرام.. عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ونِعْمَ القدوةُ محمدُ بن عبدالله، ونِعْمَ الأسوة صفوةُ الله وخِيرتُه مِن براياه، فباركَ اللهُ في أمثالِ هذه الهَبَّات والجهود، وعمَّقَ اللهُ فينا هذا المسلكَ الذي يُقصَدُ به وجهُ الكريمِ الودود، وحُقَّ لشبابِنا أن يتلقَّوا أنوارَ الوحي وقدوةَ زين الوجود صلى الله عليه وسلم وأن يتحرَّروا مما يُتلَى عليهم ويُوحى إليهم في برامجِ الفجَّار والغافلين والفاسقين على ظهرِ الأرض، وأن يخرجوا مِن منطقِ الحِزْبِيَّاتِ والعصبيَّات والحساسيات التي يُورِدُهَا إيحاءُ عدوِّ الله (فإنه قد أيِسَ أن يعبدَه المصلُّون في جزيرةِ العرب فإن يطمَع في شيء ففِي التحريشِ بينهم) بئس الأثرُ أثرُ إبليس؛ حساسية وعصبيَّة وتحزُّبٌ وأنانية، أما أثرُ وحيِ اللهِ وبلاغ رسولِه فمعروفٌ وإحسانٌ وإيثارٌ لصغيرٍ وكبيرٍ وذكرٍ وأنثى وقريبٍ وبعيد، بل لكلِّ آدميٍّ بل لكلِّ دابَّة على ظهرِ الأرض، في تربيةٍ رُبِّيناها على يدِ مَن ختمَ اللهُ به النبوةَ والرسالة.
احيِي حقائقَ الإيمانِ فينا يا حي، وادفعِ البلايا والمصائبَ عنَّا في كلِّ شيء، وارزقنا حسنَ النظرِ فيما يُرضيك عنَّا في شؤونِ بيوتِنا ومصالحِنا ومجاري سيولِنا وما يتعلَّق بمجتمعِنا، ادفع عنَّا شرَّ الأطماعِ والرَّغبات في الدينارِ والدرهم التي نتجرأ بها على مجاري السيول والمياه ولا نُبالي بالعواقبِ فيقعُ ما نخشاه. اللهم جرِّدنا عن كلِّ ما يجلبُ السوء، وارزقنا تعظيمَ أمرِك ورعايةَ حقِّ خلقِك والمبادرةَ إلى ما يُرضيك عنَّا.
وأكثِروا الصلاةَ والسلامَ على القدوةِ الأسوةِ خيرِ الأنامِ، فإنَّ أولى أمَّتِه به يومَ القيامةِ أكثرُهم عليه صلاةً وسلام، وإنَّ ربَّ العرش يصلِّي بالمرَّةِ الواحدةِ مِن الصلاة على نبيِّه عشرَ صلوات على مَن يصلِّي على رسولِه، وإنَّه أمرَنا بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه وثنَّى بملائكتِه وأيَّه بالمؤمنين؛ فقال مُخبِرَاً وآمِرَاً لهم تكريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم على مَن جاءنا بالشَّرعِ الحنيف، والمنهجِ القويمِ العليِّ النظيف، سيِّدِنا محمدٍ نورِ الأنوار وسرِّ الأسرار، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ المُختار وصاحبهِ وأنيسهِ في الغار، باذلِ النفسِ والروح والمالِ لوجهِك في خدمةِ رسولِك وما جاء به عنكَ مِن الهدى والنورِ المُتَلال، خليفةِ رسولِك الشفيق، سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى ناشرِ العدلِ في الآفاق، المتخلِّقِ بخير الأخلاق، المنيبِ الأوَّاب، حليفِ المحراب، أميرِ المؤمنين سيدِنا عمر بن الخطاب، وعلى مَنِ استحيَت منهُ ملائكةُ الرَّحمن، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب، أمير المؤمنين سيِّدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيَّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهِما الحَوراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكُبرى وعائشةَ الرِّضَا وأمهاتِ المؤمنين وبناتِ المصطفى الأمين، وعلى أهلِ بيعة العقبة وأهلِ بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وسائرِ الصَّحبِ الأكرَمين وآل البيت الطاهرين، وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهمَ أعِزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشِّركَ والمُشركين، اللهمَ ادفعِ البلاءَ عن المؤمنين، اللهم اجمع شملَ المسلمين، اللهم ألِّف ذاتَ بينهم وارفَع عنهم سلطةَ الأعداء وعُضالَ الدَّاء، وجميعَ الزيغِ والرَّدَى، وثبِّتهم على قدمِ الحقِّ والهدى، وتولَّنا وإياهم فيما خَفِيَ وما بدَا.
اللهم اجعلنا ممَّن يقرأ الآثارَ الكريمةَ للقبولِ في رمضانَ وما كان مِن صيامٍ وقيامٍ وتلاوةٍ وصدقاتٍ وعَملٍ بما يُرضيك، اجعلنا اللهمَّ ممَّن يقرأ هذه الآثارَ الطيِّبة في أحوالِه ومقاصدِه ونيَّاته وأقوالِه وأفعالِه وأسرتِه وبيتِه ومجتمعِه ودنياه وعند موتِه وفي برزخِه وآخرتِه؛ فيرى أسطرَ الفضلِ منك والإحسانِ وواسعِ الجودِ والامتنان؛ فيعمل على شُكرِك وينطلق في شُكرِك وذكركِ وحسنِ عبادتِك حتى يلقاكَ على مودَّتِك ومحبَّتِك ويدخلَ في دوائرِ أحبَّتِك.
اللهم أكرِمنا بذلك، واسلُك بنا في أشرفِ المسالك، واغفر لنا ووالدينا ومشائخنا وذوي الحقوقِ علينا، وأصلِح أحوالَ الأمَّةِ أجمعين، وادفعِ البلايا عنهم ظاهرًا وباطنًا يا أكرمَ الأكرمين ويا أرحمَ الراحمين.
ثبِّتنا على الحقِّ فيما نقول، ثبِّتنا على الحقِّ فيما نفعل، ثبِّتنا على الحقِّ فيما نعتقد، اغفِر لنا ما دونَ الشِّرك واعصِمنا مِن الشِّرك، وتولَّنا بما تولَّيتَ به المحبوبين الذين أحسنُوا مراقبتُك في الفِعلِ والتَّرك.
اللهمَّ فرِّج كروبَ الأمة، واكشفِ الغُمَّة، وعامِل بمحضِ الجُودِ والرحمة، واختِم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنَّا.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ الله أكبر.
17 شوّال 1442