(228)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بعيديد، مدينة تريم، 17 صفر الخير 1443هــ بعنوان:
عظيم أثر اللسان في الهدى والضلال والدنيا والمآل
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله.. الحمد للهِ القويِّ المتينِ الوليِّ المُعِينِ، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وليُّ الصالحين، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمدًا عبدُه ورسولُه، لا يخرجُ مِن بين ثنايَاهُ غيرُ الحق؛ فهو الدَّاعي الأكرم إلى السبيلِ الأقوم الأرشد الأوثق. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيِّدِنا محمدٍ مَن جاءنا بالهدى ووصفتَه في كتابِك: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}، وصلِّ معه على آلِه الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن والاهم فيك وعلى منهجِهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادنِ الصِّدقِ والأسرار والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم ومَن تابعهم، والملائكة المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسِيَ بتقوى الله.. تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا عليها. واعلموا أنَّ مَن اتَّقى الله عاشَ قويّاً وسارَ في بلادِ الله آمناً.
ومَن ضيَّعَ التَّقوى وأهملَ أمرها ** تَغَشَّتهُ في العُقبى فنونُ النَّدامةِ
أيُّها المؤمنون بالله: أول ما يُستجلَى حقيقة التقوى التي في القلب: فيما يَظهَرُ على الِّلسان مِن النطق والقول؛ فهو الميزانُ لوجودِ نور التقوى في القلبِ وعدمه.
وإنَّ تَحرُّك اللسانُ بهذه الألفاظ التي خلقها اللهُ للعباد آية كبرى من آياته العظيمة -جلَّ جلاله وتعالى في علاه- لمُتَرَتِّبٌ عليها شأنٌ كبيرٌ وأمرٌ خطيرٌ من الخير والشر، والنفع والضر، والصلاح والفساد، والثواب والعقاب، والقرب والبعد، والرِّبح والخسر، والسعادة والشقاوة، ودخول الجنة ودخول النار؛ كل هذه مُتَرَتِّبَاتٌ على ما يخرج بين شفتيك وينطق به لسانك في الجَمْعِ وفي الخلوة ومع الواحد ومع الإثنين.
ولقد بيَّن الحقُّ لنا هذه العظمة لنرقبَه في كُلِّ ما يصدرُ مِن ألسنتِنا مِن ألفاظ، فقال: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}، فجاءتنا الآدابُ في الكتابِ العزيزِ فيما يتعلَّق بالنجوى -وهو مخاطباتنا لبعضِنا البعض-؛ فإنَّ إنعاشَ الحق والهدى مترتبٌ على ما يدور في هذه الألسن، كما أنَّ إنعاشَ الباطل والترويجَ له ونشرَه بين العباد يترتبُ على ما يخرجُ من هذه الألسن ومن بين هذه الشفاة.
فما أعظمَ خطرَ الكلام يا عبادَ الله! بذلك جاءنا القرآنُ والسنةُ الغراء مبيِّنةً هذا الشأنَ الخطير والمقامَ العظيم لِمَا يصدرُ مِن ألسنتِنا وما نتكلَّم به مع أهلِنا وأصدقائنا أو في مجامعَ مع الأفراد والجماعات.
ولقد أمرنا الحقُّ بحُسنِ المراقبة وقال: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وبيَّنَ لنا رسولُه الأثرُ الكبيرُ الخطير خيرا وشرَّاً نفعًا وضرَّاً على هذا اللسان فقال: (وإنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تَبلُغ به ما بلَغَت يكتبُ الله به رضوانَه إلى يوم القيامة، وإنَّ الرجلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِن سَخَطِ الله لا يظنُّ أن تبلغَ به ما بلغت يكتبُ الله بها عليه سخطَه إلى يوم القيامة، وإنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة يُرفَع بها في الجنةِ درجات، وإنَّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمةِ يَهوِي بها في النار أبعدَ من الثُّرَيَّا)، وذكر أنَّ بعضَ هذه الكلمات صادرةٌ عن مجردِ سخافةِ إضحاكِ الجلساء! لمجرَّدِ إضحاكِهم يتكلم بالكلمة ليُضحِكَ بها جلساءَه مِن سخطِ الله! يهوي بها في النار سبعين خريفا مِن أجل أن يُضَحِّك كم نفر أمامَه ينطق بها! يستهزئ بمؤمن أو بمسلم أو بشعيرة مِن شعائرِ الله ثم يهوي بها في النار!
إنَّ شأنَ اللسان لخطيرٌ لمن عَقَل ولمن آمن بالله -عزَّ وجل- ولمن تصوَّرَ الرجوعَ إليه والوقوفَ بين يديه يومَ الخوفِ والوجل!
أيُّها المؤمنون: وعلى تمرينِ اللسانِ على كلامِ الخير وحبسِها عن مقالِ الشَّرِّ درَجَ الصالحون مِن الأمةِ في أنفسِهم وعوَّدوا أهاليهم وعوَّدوا أبناءهم وبناتِهم تلكم الكلماتِ الطيِّبات، ويرون أنَّ الكلمةَ النَّابِيَّة ولو لم تكن في دائرة المكروه -فضلاً عن أن تكونَ في دائرة الحرام- مصيبة تَحِلُّ إذا نطَقَ بها ابنٌ لهم أو بنتٌ لهم! وسُلِّمَ الأبناء والبنات إلى مسلسلات وإلى برامج وإلى رفقاء سوء! وإلى ألفاظٍ خبيثةٍ سيئةٍ يبغضها الله -جلَّ جلاله-! وإلى أصدقاء سوء! وإلى مقاهي انترنت! وإلى شوارع فيها ما فيها من الضُّرِّ والفساد! وإلى ألعابٍ وأنديَّةٍ! وإلى مدارسَ ربَّما جرى فيها الكلامُ السيء بينهم البَين ومن بعضِهم البعض! فماذا الذي حدث وصار في البيوتِ من قُرًى ومدن كان لا يُسمَعُ فيها بعض الألفاظ السيئة لا مِن صغير ولا مِن كبير، فصار يتفوَّهُ بها الأطفال ويتحدَّث بها الصغار في مقتبلِ عمرهم وسِنِّهم مِن قبل سِنِّ التمييز ومِن بعدِ سِنِّ التمييز!
إنَّ الأمر خطيرٌ إذا تُرِكَ هكذا! إنه تَعَرُّضٌ للسَّخَط، إنه سببٌ لإنعاش الشرِّ والسوءِ بين عباد الله!
يجب ضبطُ الكلمات! قال زينُ الوجود لسيدنا معاذ بن جبل: (ألا أدلُّك على مِلَاكِ ذلك كلِّه؟ قلت: بلى يا رسول الله؟ فأمسكَ بلسانِ نفسِه ثم قال: كُفَّ عليك هذا. قال: يا رسول الله وإن كُنَّا لمؤاخَذُون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتكَ أمُّك يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناسَ في النارِ على مناخرِهم إلا حصائدُ ألسنتِهم!)
أيُّها المؤمنون بالله تبارك وتعالى: يقول الله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ..} -مكالمة ومخاطبة بين اثنين- {..مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} حتى في التحيَّة مخاطبة لِمَا يَصدُر من اللسان. على أيِّ وجه تُحيِّي أصحابَك وتُقَابِل صديقَك؟
ومن جملة معاصي اللسان: أن يُسَلِّمَ المسلمُ على أخيه المسلم فلا يَرُدُّ المُسَلَّم عليه بــ: "وعليكم السلام ورحمة الله" ولكن يقول: "مرحبا"! "حيَّاك"! "يا سهلا"! أهذا جواب!؟ سلَّم عليك فوجبَ عليك أن تردَّ السلامَ عليه وإلا أثمتَ، وإلا كُـتِبَت عليك خطيئةٌ وسيئة! ليس الجواب هكذا.. ابتدأ بالكلام الصحيح! السنة في ابتداءِ المسلم بالسلام، تحية المسلم السلام) لكن الجواب غير صحيح! مرحبا وسهلا؟! ما دخل هذا في جواب السلام؟!
قال سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} ردَّ مثلها أو أحسنَ منها. و "السلام عليكم" بعشرِ حسنات، و"السلام عليكم ورحمة الله" بعشرين حسنة، و "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" بثلاثين حسنة، كما أخبرنا زين الوجود صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
والابتداء بها سنة، والردُّ واجب. والسنة هنا أفضل من الواجب؛ أن يبتدِيَء مَن لقيَه بالسلام. وكذلك كان يفعل خيرُ الأنام يبتدئ ويُبَادِر مَن لقيَه بالسلام صلى الله عليه وسلم مِن كلِّ صغير وكبير، وأبيض وأسود وأصفر وأحمر من المسلمين.. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأهل حضرةِ اقترابِه مِن أحبابه.
ألا: فلنتعلَّم ذلك، ولنحذرْ مِن أن نبتدئَ بغيرِ تحيةِ الإسلام، فيُلاقي صاحبَه وذهب السلامُ علامة المسلمين وشعارهم! وتحية المسلمين بينهم: كيف أصبحتَ؟ كيف حالك؟ مِن أين جئت؟ حيَّا وسهلا؟ ما عاد شفناك!! وأين "السلام عليكم"؟!
لا تتكلَّم قبل "السلام عليكم" إذا لقيتَ صاحبك، وعَوِّد أطفالَك كلما دخلوا البيتَ أن يُسَلِّموا، وكلما لاقوا أحدًا أن يُسَلِّموا، والأَولى أن يبدأ بالتسليمِ الصغيرُ على الكبير، والقليلُ على الكثير، والراكبُ على الماشي، والماشي على القاعد، ومَن سبَقَ فلهُ الفضل ذا أو ذاك.
أيُّها المؤمنون بالله: ضبطُ الِّلسَان مهمٌّ يترتبُ عليه أمرٌ كبيرٌ.
اللهم سرْ بِنَا في خيرِ مسير، واجعل ألسنتَنا ناطقةً بذكرِك، وتلاوةِ كتابِك على النَّحوِ الذي يُرضِيك، وقراءةِ كلامِ نبيِّك نحو حديثه، وقراءة كلامِ الصالحين، وقراءة سِيَرِ المقرَّبين والصِّدِّيقين؛ حتى تُنعِشَ ألسنتَنا الحقَّ ويُعمَلُ به، ونحوز بذلك الأجرَ والثوابَ لديك والمنزلةَ عندك، وصُنْ ألسنتَنا عن موجبِ سخطِك وعن موجبِ التَّرَدِّي في النارِ والهويِّ فيها يا أرحمَ الراحمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تباركَ وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}
{وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}
{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}
{حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، وأشهدُ أن لَّا إله إلا الله وحده لا شريك له جامع الأولين والآخرين ليوم البعث والنشور، وأشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أَصدَقُ الناسِ لهجةً الطاهرُ البَرُّ الشكور. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيِّدِنا محمدٍ، وعلى آلِه وأصحابِه ومَن والاهم فيك وتابعَهم بإحسانٍ إلى يومِ يُبعثَرُ ما في القبور ويُحَصَّلُ ما في الصدور، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين معدنِ الهدى والحقِّ والنور، وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهم والملائكةِ المقرَّبين وعبادِك الصالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا عزيزُ يا غفور.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسِيَ بتقوى الله.. فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله، وأحسِنُوا يرحمْكُم الله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
إنَّ من التَّناجي على ظهرِ الأرض ما يكون {بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}، وهو كلُّ كلامٍ يحملُ استحسانًا لعادةٍ قبيحةٍ ولمسلَكٍ مخالفٍ للهديِ النبوي؛ إنه تناجٍ بالإثمِ والعدوان، ومعصية الرسول: كُلُّ كلامٍ يوغِر الصدرَ ويُثيرُ الحقدَ والحسدَ على صغير أو كبير إنه من التناجي {بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}، كل كلام يُستهزئ فيه بشأنٍ مِن دين الله أو سُنَّةٍ من سنن محمد بن عبد الله ويُستخَفُّ بها إنه من التَّناجي {بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}! وهذا الذي يَجِبُ الانتهاءُ عنه.
وأمرَنا اللهُ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}. إنَّ وصفَ أخبارِ الخمرِ وشربِه ووصفَ أحوالِ النساءِ والصور الخبيثة من التَّناجي {بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}.
{لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
أيها المؤمنون بالله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} اضبطوا الألسنَ وقوِّموها؛ فإنَّه قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أنعشَ لسانه حَقٌّ يُعمَلُ به من بعده كان له أجر شهيد وحُشِرَ يوم القيامة أُمَّةً وحده) يُنعَشُ الحَقُّ بالكلام الطيِّب وبتحسين الحَسَنِ عند الله، كما يُنعَشُ الباطل -والعياذ بالله تبارك وتعالى- بالأقوال السيئة والخبيثة وما فيه استهزاءٌ بأمرِ الله أو تعظيمٌ لفاجرٍ أو كافرٍ بعيدٍ عن الله.
ألا: اضبطوا ألسنتَكم، وقوِّموها، وراقبوا عالمَ سرِّكم ونجواكم.
اللهم اعصِم ألسنتَنا مِن كُلِّ ما يُسخِطُك، ومِن كلِّ ما فيه الشَّقاء، ومِن كلِّ ما فيه العذاب، واستعمل ألسنتَنا في تلاوةِ كتابِك وقراءةِ كلامِ نبيِّك وذكرِ الهدى والخيرِ وإنعاشِ الحقِّ ونشرِ الهدى بيننا وما يُقرِّبُنا إليك زُلفى يا أرحمَ الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
ألا وأكثِروا الصلاةَ والسلامَ على النَّاطِقِ بالحقِّ والهدى والصَّواب، سيِّدِ الأحباب، مَن أُنزِلَ عليه الكتاب صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله؛ فإنَّ رَبَّ الأرباب في كتابِه بدأ بنفسِه وثنَّى بالملائكة وأيَّه بالمؤمنين؛ فقال مُخبِرَاً وآمِراً لهم تكريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وإنَّ الصلاةَ والسلامَ عليه مِن خيرِ ما تُستعمَلُ فيه الألسنُ بعد تلاوةِ كتاب الله تبارك وتعالى، وإنَّ أولى الناس بهِ يومَ القيامة أكثرُهم عليه صلاة، وهو القائل: (مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرا).
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى أعلى الخلائقِ قَدْرَا سيِّدِنا محمدٍ مَن خصَّصتَه وميَّزتَه رُقِيَّاً ونقاءً وسُمُوَّاً وعفافاً وطُهْرَاً، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ المُختار، وصاحبهِ وأنيسهِ في الغار، مُؤازرِهِ في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيِّدِنا أبي بكر الصديق، وعلى النَّاطِقِ بالصَّوابِ، حليفِ المحراب، الوقَّافِ عند آيِّ الكتاب، أميرِ المؤمنين سيدنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمام أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيِّدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنَّة وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهِما الحَوراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكُبرى وعائشةَ الرِّضَا، وعلى أمهات المؤمنين، وعلى الحمزةَ والعبَّاس، وعلى أهل بيتِ نبيِّكَ الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبة وأهل بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وسائرِ الصَّحبِ الأكرمين ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أَذِلَّ الشِّركَ والمشركين، اللهم أَعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين، اللهم قوِّم ألسنتَنا فلا تنطقُ إلا بما يُرضيك وما فيه نُصرتُك ونصرةُ الهادي إليك، اللهم ارزقنا بها خدمةَ الشريعة والدين ونفعَ الأمة على خيرِ الوجوه في كُلِّ ظاهرٍ وباطن وكلِّ حينٍ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
استعمل ألسنتَنا في الثناءِ عليك وشُكرِك، وتسبيحِك وحمدِك وذكرِك، والصلاةِ على نبيِّك محمدٍ والثناءِ عليه، وعلى مَن تُحِبُّ الثناءَ عليه مِن أنبيائك وعبادِك الصالحين، ولا تخذلْنا بكلمةٍ إلى سوءِ خاتمةٍ وإلى سوء مآب، اللهم صُنْ ألسنتَنا وأهلينا وأولادَنا عن مُوجِبِ العقاب والفضيحة في يوم الحساب، اللهم ثبِّتنا على ما تُحِب واجعلنا ممَّن تثبتُهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة يا ربَّ الدنيا والآخرة يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم وكَثُرَ الكلامُ الذي به يُستهزئ بآياتك وبه يُنشَرُ الشَّرُ بين بريَّاتك؛ فادفع عنَّا شر تلك الأقوال وشرَّ تلك الألفاظ والكلمات الخبيثة، ولا تجعل في بيوتِنا نصيبًا منها ولا شيئًا منها ولا في ألسنةِ أولادِنا ولا أهلينا.
اللهم صُن ألسنتَنا، اللهم ارزقنا خشيتَكَ في الغيبِ والشهادة، ورقِّنا بذلك إلى ذُرَى السعادة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم فرِّج كروبَ الأمةِ في المشارقِ والمغارب، وادفع عنهم جميعَ المصائب والنوائب، وارزقهمُ اللهم البركةَ في أقوالِهم وأعمارِهم واغتنامِ أشهُرِهم واستقبالِ ذُكريات دينِهم بما يُرضِيكَ ويُرضِي عبدَك المجتبى، اللهم رُدَّ عنهم كيدَ الكفَّارِ والفجارِ والأشرارِ وأهلِ البدعةِ والزَّيغِ والضلال، وحوِّل أحوالَهم إلى أحسنِ الأحوال، يا حيُّ يا قيُّوم يا قديرُ يا وال.
يا أكرمَ الأكرمين لا تصرِفْنا مِن جُمعتِنا إلا بتقوى في قلوبِنا تنضبطُ بها ألسنتُنا وأعينُنا وجوارحُنا كلُّها على تقواك وما فيه رضاك، ولا نُخذَل بعدها إلى السوء حتى نلقاكَ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
ثبِّـتنا على الحقِّ فيما نقول، وثبِّتنا على الحقِّ فيما نفعل، وثبِّتنا على الحقِّ فيما نعتقد، واجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريم. اللهم اقبلنا وأقبِل بوجهِك الكريمِ علينا.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
17 صفَر 1443