(535)
(610)
(387)
خطبة جمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الجامع بمدينة سيؤون، وادي حضرموت، 30 جمادى الأولى 1447هـ بعنوان:
حقائق الإسلام والإيمان ووجوب الحذر من القواطع عن التحقق بها
يوضّح في الخطبة أن العزة تُنال بطاعة الله وحده، وأن الذل يأتي من اتباع الهوى والخضوع للشهوات أو لسلطان البشر، ويدعو إلى إحياء معاني الإسلام والإيمان والإحسان في السلوك، وحفظ اللسان واليد من الظلم والعدوان، كما يُحذّر من مناهج الكذب والافتراء وإيذاء الناس.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، الحمد لله إلهنا مولانا السميع البصير، اللطيف الخبير، العليم القدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منه المبتدأ وإليه المرجع والمصير.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وحبيب قلوبنا محمدًا عبد الله ورسوله.
اللهم صلِّ وسلِّم على خاتم النبوة والرسالة، سيد أهل الهداية والدلالة، عبدك المختار محمد، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومَن على مِنهاجهم سار على ممرّ الأعصار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معدن الهداية والأنوار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله. تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها.
بها تُتَحقّق حقائق الإسلام والإيمان، وبها يُرتقى إلى مراتب الإحسان، وبها يُنال الفوز بمعرفة الله الخاصة والتحقُّق بمحبته الخالصة.
ألا إن خير الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، وإن شر الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته.
أيها المؤمنون، يتَّقي الإله الجبار:
فلابد من نتيجة هذه المعرفة أن يتقي غضبه وسخطه:
إن الذين يعيشون على ظهر الأرض يتصرفون بقلوبهم وأعضائهم كما تشتهي نفوسهم أو يملي عليهم نظراؤهم من الإنس والجن، أفراداً أو جماعات.
من أولئك الخلق قوم ما عرفوا خالقهم، ولا عرفوا الحق للخالق فيهم، ولا عرفوا العزة لأنفسهم ألا يُستذلّوا باتباع الهوى من قِبَلِهم أو من قِبَل من سواهم من البشر.
إن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، لأنهم:
إن النفس الإنسانية تميل إلى الطغيان، و(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ)، ويُملي منابر إبليس وجنده على الناس الدعوة إلى ذلك الاستعلاء أو الاسترقاق والاستعباد للشهوات، ما يجلُب الكثير ويحملهم على أن يكونوا عبيداً للأنفس والشهوات أو لنظرائهم من الخلق.
أيها المؤمنون، وبذلك تحصُل الذلة على الحقيقة، فما أعزّتِ العباد أنفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت أنفسها بمثل معصية الله.
أيها المؤمنون، رب العرش ورب السماوات ورب الأرض وما فيها وما بينها، جل جلاله وتعالى في عُلاه، تفضَّلَ على عباده بالتعرُّف وتعريف المُهمة التي خلقهُم من أجلها، وتعريف المصير الذي يصيرون إليه، حتى لا يُتَخَطَّفوا في خلال الحياة القصيرة إلى موجب الشقاء الأبدي والخسران السرمدي والعذاب الذي لا يُطاق.
فأرسل الرسل وأنزل الكتب، وبيّن البيان على ألسن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، حتى ختمهم بعبده الأمين سيدنا محمد.
ولقد أحسن نبينا الأمان، وأوضح أمر الرحمن، وكان خير ناصح من بني الإنسان للإنسان، وكان الأرحم بالإنسان من نفسه ومن أبيه وأمه، (النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فدعا إلى الله على بصيرة، وبصّر الله به أعيناً عمياً، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غُلفاً وأحياها، ونادانا الرحمن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
حياة الروح والقلب، حياة القِيَم والفضائل، حياة الإدراك للحقيقة، حياة الصلة بالله رب الخليقة، حياة الاستعداد للقاء، حياة التهيُّؤ للسعادة الكبرى والهناء ودوام النعيم في دار الفضل والتكريم.
(إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
بل يُصيب بلاؤها الذي ظلم، والذي رضي، والذي سكت ولم ينكر لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، تُصيبهم جميعاً آثار تلك الفتنة والبليّة من كسب الذنوب والمعاصي، إن الذنب إذا فُعِل سراً لم يضر إلا صاحبه، فإذا جُوهِر به ضر كل من يقدر على إنكاره فلم ينكره.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله، تفضَّل الرحمن عليكم وأنزل إليكم خاتم الكتب السماوية القرآن، وأرسل إليكم خاتم المرسلين المصطفى سيد الأكوان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ودعانا إلى الإسلام والإيمان والارتقاء إلى مراتب الإحسان، وجعل ذلك حظّنا ونصيبنا من خير الدنيا الذي نكسب به خير الآخرة وخير الأبد.
ومن فاتهُ الإسلام والإيمان لم يأخذ من هذه الدنيا إلا ذلك الذي شغل الله به القاصرين في نظرهم وفكرهم وعقولهم من مؤثري الحياة الدنيا، عمراً محدوداً، معدودة أنفاسه ثم يؤول إلى بئس المصير.
أيها المؤمنون بالله، نعمة الله بالإسلام أعلى النعم لمن أدرك الحقيقة، ولكن لمن تحقَّق بحقائق الإسلام والإيمان.
فلنخاطب أنفسنا بهذا التحقُّق، وهذا الانصباغ بصبغة الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ).
صبغة العزة أن نتخلّى أن تأسرنا وأن تستعبِدنا وأن تسترقّنا الأنفس والأهواء والشهوات من قِبَلِنا أو من قِبَل أحد من خلق الله في شرق الأرض أو غربها.
"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمن أراد أن يبسط يده بواسطة ما عنده من الحكم والنفوذ في الأمر إلى حق الآخر ولو بإهانة ولو بلطمة، قال له: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
أأن يكون ابنك ابن أمير يمد يده على ابن الآخر، والآخر كان غير مسلم، ولكنه عدل الله ومنهج الله وحقائق الإسلام والإيمان.
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ فلا عبودية إلا لله الحي القيوم.
وما تشاوُر الناس وتناظرهم في الأمور إلا للرجوع إلى الميزان الذي يقبل المؤمن منه كل ما وافق منهج الله وشرع الله، وهو كل ما فيه حقيقة الخير والصلاح للناس في الحياة القصيرة وما وراءها.
ألا وإن رسول الله ﷺ وسلم ليبين لنا كما جاء في حديثه الصحيح حقائق الإسلام والإيمان، ويُسأل عن المسلم فقال: "المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ".
ومن لم يتحقق بهذا، أيرضى أن يمر عمره وهو بعد لم يتحقق بحقائق الإسلام؟
فكيف يرقى إلى حقائق الإيمان؟
فمتى يصل إلى الإحسان؟
وما أسرع انقضاء العمر وخروج الإنسان من هذه الحياة بما فيها إلى حقائق لقاء ربه جل جلاله، وانكشاف الأمر بالمعاينة على ما أخبر به رسول الله الصادق المصدوق.
"المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ".
وبرامج ومناهج لأهل الكفر ومن تابعهم ومن شايعهم، تقوم على أن يكون هذا الإنسان جارحاً بلسانه وجارحاً بيده، لكل من تخيَّلَ أن مصلحته في جرحه وفي سبه وشتمه، يكون ما كان، كل من تخالف مع ما تخيّل له من مصلحته أو مصلحة حزبه أو مصلحة اتجاهه، فيُقوَّم على أن يطلق اللسان ويتصرف، وعلى أن يغش وأن يكذب، وعلى أن يخادع.
مناهج تقوم بين أظهرنا على هذا، وتنتشر بين الناس وتأخذ شباباً وشابات يُقيَّدون في سلاسل العبودية لغير الله، ربما بدعوى الحُرية وربما بدعوى التقدُّم، والحقيقة أنها سلاسل عبودية لغير الرب، إذلال، إذلال وإهانة لهذا الإنسان الشريف بإنسانيته التي لا ينبغي أن تخضع إلا لله الحق الحي القيوم جل جلاله وتعالى في عُلاه.
فتقوم تلك المناهج على تحسين وتزيين بل على عدّ تلك الجرائم من علامات النجاح وعلامات الثقافة وعلامات الإدراك؛ ثلب الخلائق باللسان، الضر بالخلائق بالأيدي، من أخذ حق الغير ومن التطاول على حق الغير.
ألا "كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ، ومن حلف يميناً يقتطع بها مال امرئ مسلم أدخله الله النار، فقال رجلٌ وإنْ شيءٌ يسيرٌ قال: وإنْ قضيبٌ من أراكٍ وإنْ قضيبٌ من أراكٍ".
قضيباً عوداً من أراك، يستحله من حق المسلم لابد أن يَدخل به النار، وهل يعرف معنى دخول النار! وقد جعل الله له تذكرة في الدنيا بهذه النار التي لا يقوى أن يضع إصبعه فيها ولو للحظات؟
أيها المؤمنون بالله، يجب أن تستيقظ القلوب وأن تنتبه العقول، وأن ندرك حقائق هذا الدين الذي به نعلو ونسمو، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين، وحقِّقنا بحقائق الإسلام والإيمان، وارفعنا إلى مراتب الإحسان، واعمُر أعمارنا بما يوجب الفوز الأكبر، يا من استوى في علمه ما بطن وما ظهر، يا حي يا قيوم يا رحمن يا بر.
والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنْفَضُّوا ۗ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالديّ ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب كل شيء ومَليكه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك الأمين المأمون سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله! توقَّوا سخطه وعذابه؛ بإنقاذ قلوبكم وجوارحكم مما حرَّم عليكم فهو الخبيث، فما يُحرِّم إلا الخبائث على لسان رسوله ﷺ، ويحلُّ لنا الطيبات.
تنزَّهوا عما يكره ربكم من صفات القلوب وأعمال الجوارح، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
إن الذي خلقها لكم ووجب أن تطيعوه بها هو الذي إليه مرجعكم، وما يطلبكم من نفوسكم أو من غيركم من شياطين الإنس والجن إلى مخالفته بها لم يخلقوها لكم، وليس مرجعكم إليهم، ولكن أكثر الناس لا يعقلون! هذه الحقيقة مغترين بالأهواء والشهوات.
ألا (فَأَمَّا مَنْ طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ).
أيها الحاضر في الجمعة، يمر عمرك وتمضي أيامك، وأنت في مَجمعك هذا ماذا تلتقط؟ ماذا تستفيد؟ ماذا تحوز؟ ماذا تحصل من فريضة الجمعة وقد فرضها الله عليك لا عبثاً ولا لاعبًا ولا هزواً، ولكن لأمر يليق بجلاله وعظمته وكبريائه.
لتتذكّر، لتتنوّر، لتتطهّر، لتتبصّر، لتحسن الاستعداد، لتأخذ من أشرف الزاد، لتراجع نفسك في مسارك في حياتك، في الخافي وفي الباد، في الجسم وفي الفؤاد.
أيها المؤمن بالله، تحقَّق بحقائق الإسلام، أخاف أنّ المسلمين لم يسلموا يوماً واحداً من لسانك ويدك، أو ألسانٍ وأيدي لمن في بيتك من أهلك وولدك، في كل يوم وليلة، وربما تناولت الأحياء والأموات، والأقارب والأباعد، والصغار والكبار.
أيها المؤمن، كُفّ لسانك عما لا يرضيه ربك. (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
و "إنَّ الرجل أحدَكُم ليتكلَّمُ بالكلمةِ مِن سخطِ اللهِ ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغَتْ؛ فيكتبُ اللهُ لهُ بها سخطَهُ إلى يومِ القيامةِ، ويَهْوِي بها في النار سبعين خريفاً".
وإن الرجل ليتكلم بالكلمة مِن رضوان الله -فيها تقريب، فيها إصلاح، فيها إنقاذ، فيها إعطاء الحق لأهله، فيها نصرة المظلوم "ليتكلَّمُ بالكلمةِ مِن رِضوانِ اللهِ ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغَتْ؛ فيكتبُ اللهُ لهُ بها رِضوانَهُ إلى يومِ يلقاهُ"، إلى يوم القيامة، ويرفع بها في الجنة درجات.
ألا فاعلموا المنزلة التي أنزلكم الله فيها ومقدار أقوالكم وأفعالكم، وليَسلم المسلمون من ألسنتنا ومن أيدينا، ولنتحقَّق بحقائق الإيمان، والمؤمن من ائتمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
" لا يَزَالُ العبدُ في فَسْحَةٍ من دِينِه ما لم يُصِبْ دَمًا حرامًا".
أيها المؤمنون بالله، ووراء ذلكم الإحسان، فهذه مكاسبكم من هذا الدين، أين تبلغون فيها؟ وأين تصلون من درجاتها؟
يا ربنا ارفعنا في درجات الإيمان، ورقِّنا مراقي الإحسان، وأصلح لنا في الدنيا والآخرة كل شأن، وتولنا بما أنت أهله في السر والإعلان.
وأكثروا الصلاة والسلام على معلمكم وهاديكم ومرشدكم الذي كان يسأل الله فيكم في لياليه وأيامه، ويتضرع إلى الله في شأن المغفرة لكم والصلاح لكم، وترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، إنه محمد عبد الله ورسوله، من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً، وإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة.
فأكثروا الصلاة والسلام على خير الأنام عموماً، وفي يومكم هذا وما مضى من مثل ليلة الجمعة خصوصاً، فإنها فوزكم الأكبر.
وإن الإله الأعظم أنزل في قرآنه مبتدئاً بنفسه، ومثنياً بالملائكة، ومؤيهاً بالمؤمنين، قال مخبراً وآمراً تكريماً وتعظيماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلِّ وسلم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، عبدك السراج المنير سيدنا محمد، وعلى صاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حالي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق.
وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى من استحيت منه ملائكة الرحمن، محيي الليالي بتلاوة القرآن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة.
وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء. وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا وأمهات المؤمنين.
وعلى الحمزة والعباس وأهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس.
وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان وسائر أصحاب نبيك الكريم، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تصرفنا من جمعتنا إلا مقبولين لديك، موفقين لمرضاتك، متحققين بحقائق الإسلام والإيمان.
ارزقنا اغتنام الكسب في هذه الحياة لما هو أبقى ولما هو أرقى، حتى نحوز سعادة الأبد. نسألك خير الحياة وخير الوفاة وخير ما بينهما، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة وشر ما بينهما.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
ارحم موتانا وأحيائنا، صُبَّ واسع الرحمة على من تقدَّم في جوامعنا هذه ومساجدنا هذه وديارنا هذه.
اللهم ارفع درجاتهم لديك، وقرِّبهم زُلفى إليك، وزِدهم رضواناً منك وأمناً وطُمأنينة يا رحمن.
اللهم وارحم الموتى والأحياء، وعجِّل بتفريج كروب المؤمنين في السودان وفي غزة والضفة الغربية وفي لبنان وفي الشام كله وفي اليمن كله وفي شرق الأرض وغربها.
يا كاشف الكروب، اكشف عنا وعن الأمة جميع الكروب، وادفع جميع الخطوب، ورُدَّ كيد المعتدين الظالمين الغاصبين المجترئين المفترين الذين لا عهد لهم ولا ذمة ولا أمانة، اللهم اهزمهم وزلزلهم، وخالف بين وجوههم وكلماتهم وقلوبهم.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأعلِ كلمة المؤمنين، ودمِّر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم بارك في أعمارنا وارزقنا صرفها في خير ما يرضيك عنا، واختمها لنا بأكمل الحسنى، واختمها لنا بأكمل الحسنى، واختمها لنا بأكمل الحسنى، واجعل آخر كلام كل منا من هذه الحياة "لا إله إلا الله" مُتحققاً بحقائقها يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
03 جمادى الآخر 1447