المؤمنون الراشدون وميزان أعيادهم وصِلاتهم
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان، بعيديد، مدينة تريم، 10 ذو الحجة 1446هـ، بعنوان:
المؤمنون الراشدون وميزان أعيادهم وصِلاتهم
لتحميل الخطبة (نسخة pdf):
نص الخطبة:
الخطبة الأولى :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله الخالق الفاطر المبدئ المعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المُنشئ الحكيم الواسع المجيد.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، سيدُ أهلِ حقيقة التوحيد، الهادي إلى المنهج القويم الرشيد، فهو أكرم الخلائق وأجلُّ العبيد.
اللهم أدِم صلواتِك على المُجتبَى المُختار المُصطفى سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن سارَ على منهجهم واتبَعهم بإحسانٍ إلى يوم الوعد والوعيد، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، ساداتُ أهل الاستِواء على المنهج السديد، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله.
حقيقة الفرح في الإسلام :
فاتقوا الله تعالى في تقويم العبودية له، فإنه ﷻ جعل الأعياد إمداداً بتحقيق العبودية، وتطهيراً للقلوب عن الشوائب المُشتبهة النابعة من النقائص الخُلُقية.
- ورتَّب سبحانه وتعالى الفرح ليكون مَسْلَكَ من رَشُد ونَجح، أن لا يفرح إلا بفضل الله ورحمته.
- الفرح بما يدوم ويتأبّد ويتنزه عن شوائب الحزن والهم والغم والترح.
- الفرح بالغفران، ونيل الرضوان، والقرب من الرحمن، وفضل المعطي بغير حساب، الواحد قديم الإحسان.
مقدمات للفرح الأبدي:
هذا الفرح إذ يصدر من المُهذّب المؤمن، المزكَّى بتزكية الله ورسوله، وحينئذ تكون أعياده مُقدِّمات للفرح الأبدي الدائم والسرور السرمدي القائم، بما شرع له الحق الخالق القادر الحاكم جل جلاله وتعالى في عُلاه.
وتتقوَّم له الصِّلَات فيما بينه وبين الخالق مكوّن الكائنات، وفيما بينه وما بين أجناس هذا الوجود مِن بني جنسه أولاً، وخصوصاً المؤمنين منهم، ثم بقية الناس، ثم علاقتهُ بالحيوانات والنباتات والجمادات وسائر الكائنات، يتقوَّم بميزان أنزله الله في القرآن، ونادانا: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ).
خصوصية المؤمن في فرحه:
وهنا تتبيَّن المِيزات والخصوصيات للمؤمن وامتيازه عمن انقطع عن الإله الحق، فأفراحهم قائمة على شؤون نفسية مُتعلقة بالهوى والشهوات، كثيراً ما يُخالطها التّرح والتّعب والكدر، ويعقبها أشد وأتعب من النكد والآفات والغِيَر.
أيها المؤمنون بالله، شرف الإيمان بالرحمن ميَّز المؤمن عن بقية الكفرة وأهل الفسوق والعصيان، وشأنُ من صلحت قلوبهم فاستقامت، كما قال ربنا عن قلوب رعيلنا الأول المتصلين بعبده الحبيب الأكمل: (واعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
من هم الراشدون :
الراشدون من بقية أجناس بني آدم والجان، هؤلاء هم الراشدون، (أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
الراشدون من زُيِّن الإيمان في قلوبهم وحُبِّب إليهم، وكُرِّه إليهم الكفرُ والفسوقُ والعصيانُ، أولئك هم الراشدون.
أما عبيد الأهواء والشهوات، أما أهل النظرات القاصرات الذين لا يعرفون إلا الفانيات، فأولئكم الذين غَوَوا وضلوا، بل وخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
وحالهم في الدنيا لا يتجاوز ما أُنزِل في الميزان الإلهي: (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)، (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ).
الانحصار في المتاع الفاني:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، ذلك ظن الذين كفروا، لم يدرِكوا حكمة الخلق ولا الوجود، ولا لِمَ كُوِّنِت هذه الكائنات.
وربما تشدّقوا أنهم اكتشفوا من هذه الأرض ومن هذه البحار ومن طبقات الجو ما اكتشفوا، ولكنهم والله ما علموا لأي حكمة خُلقت، ولا عرفوا من خلقها، ولا استفادوا منها حقيقة الفائدة!
إنهم منحصرون بأفكارهم في الفاني الزائل المنتهي، المَشوب بالأكدار والمُنغَّص بالآفات، فقط! هذه حياتهم كما وصف الله، وذاك مآلهم (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وعليه يعيشون في الدنيا ثم انكشاف الحقيقة (ۚفَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).
(كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
كيف يقابل المؤمن العيد؟ :
فالذي يُقابل مثل هذا العيد المبارك المحفوف بالألطاف والإسعاف والإتحاف من الله في الظاهر والخاف، على قَدر صفاء باطنه وصِدْقِ إيمانه، يحوزُ من هذا العيد والفرح به مراتب، ويُدرِك مواهب، ويعلو له القدر، ويعظُم له الأجر.
فهو في الحياة القصيرة يفرَح بفرحٍ يتصل بسرور الحياة الأبدية، وهو في الحياة القصيرة ينتهجُ في منهاجٍ نزلَ من عند خالق الموت والحياة، ومكوّن الأكوان تعالى في علاه، فما أعجبه وما أعجب أعياده!
إن أعياده ذِكر، إن أعياده فِكر، إن أعياده شُكر، إن أعيادهُ تَقويم صلةٍ بالإله الذي خلق، وترتيب وتحسين صلةٍ بالمخلوقين؛ من أقارب وأرحام وجيران وأصحاب يُهنئهم، وأهلُ أخوةِ إسلامٍ وإيمان، وبني إنسان لم يدخلوا حضائر الإسلام يتمنى هدايتهم ويجتهد في إيصال النور إليهم، ولا يقبل غيّهم ولا ضلالهم، ولا يكون مُستتبَعاً لهم، ولا مُغتراً بمحصور فكرهم وضيّق نظرهم وانحصارهم في الشهوات والأهواء، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) كما قال الخالق ذو الجلال والإكرام.
الأضاحي نعمة وقربة :
حامداً لله على النعمة، ومُتعاملاً مع الأنعام بإكرامها وإعطائها حقّها، ثم ذَبحها لوجه الله في المناسبات بما أحل الله له، (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ)، (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
فيتقرّبون إلى الله بمثل الأضاحي، بل وغير الأضحية، لا يذبح أحدهم إلا باسم الله وعلى مُقتضى شرع الله، ويبحث عن النيات في ذبحه ليواسي وليواصل، وليتصدق وليتقرّب إلى الرب، لا مُجرد مأسورٍ لشهوة اللحم والنَهم على أكله، فهكذا رفعة المؤمن، وهكذا شأن المُوفّق الذي اتصل بنور الحق ﷻ.
وكانت من شعائر الله إذا اقترنت بنيةِ إهدائها إلى الحَرم، لتُذبح في مكان هو عند الله أعظم، ليأكلها من الناس من كان فيه ممن آمن وأسلم، (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) أي أرض الكعبة والحرم المُتصل بالكعبة، لا تأكله الكعبة ولا يُذبح في الكعبة، ولكن مَن حلّ حول الكعبة يأكلونه.
فتَميّز بالميزة وجُعِل ما يهدى إلى ذاك المكان من شعائر الله التي تُعظَّم: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).
وإذا ذبح أراح ذبيحته وأحدَّ شفرته، فهذه تقويم الصِّلَات بالحيوانات على يد خاتم الرسالات.
إن المؤمن في دائرة نور من كل جانب، لا يمضي وراء هوى وشهوة مُسترسلاً بلا ميزان ولا ضوابط، ولكنه مُشرَّف ومُكرَّم بتوجيهات الخالق الذي أوجد، فهو مع ذلك يُحسِن الذبحة، ولا يذبح واحدة أمام الأخرى.
لما وضع بعضهم الشاة ثم أخذ يسن السكين، نظر إليه رسول الله ﷺ فقال: "فهلَّا كان قبل هذا؟ أفلا قبل هذا ؟! أتريدُ أن تُميتَها موتتَيْن؟" يعني إن الله إنما أباحها لك إكراماً منه لك، فلا تؤذها ولا تسُنّ الشفرة أمامها.
تقويم الصِّلَات بين الإنسان والحيوانات وبقية الكائنات هو ما جاء به خاتم الرسالات.
إنها أعياد ترقٍّ وتنقٍّ وتلقٍّ وفوزٍ بالرضوان.
حال الحاج :
اللهم بارك للأمة المسلمة في أعيادهم، اللهم بارك لهم في هذا العيد الذي جعلته مَنوطاً بأسرار حج بيتك، ثم الخروج إلى عرفة تذلُّلاً وخضوعاً واستئذاناً في الدخول إلى الحِمَى، حتى إذا تهيّأوا بفضل جودك عليهم ومغفرتك لهم دخلوا إلى حِماك وحرمك بإذنك، وهم أهلٌ لتلقّي فائض فضلك، بعد أن تطهّروا وتذلّلوا على المدخل تحت الحرم في عرفة، يقولون: تعرّف إلينا يا كريم، والطف بنا يا عظيم.
(فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).
فهذه أعياد أهل الإيمان، رزقنا الله حقائق العيد الذي نهايته قُرب من الحميد المجيد، ومرافقة لعبده المختار أسعدِ سعيد، إنه أكرم الأكرمين.
والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعزةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).
وقال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خِزْيِهِ وعذابه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم وَلِوَالِدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمدلله مُطهِّر القلوب، بأنوار الوحي والتنزيل الذي به النقاءُ عن العيوب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له علّام الغيوب.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وحبيبه المحبوب.
اللهم أدِم صلواتك على المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن إليه منسوب، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِن الأنبياء والمرسلين سادات أهل المشي على خير الدروب، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
عباد الله، فإني أوصيكم وَنَفْسِي بتقوى الله.
الأعياد زاد للتقوى:
فاتقوا الله، وَخُذُوا المزيد من هذا العيد، والعطاء المديد، وزِيَادَة الْإِيمَانِ وقوة التوحيد، والانتهاج في المنهج القويم الرشيد.
ولتكن أيام ذكر وشكر وَبعالٍ ووِجهة إلى الله عز وجل، في تَوَاصُلٍ أَقَامَ مِيزَانَهُ بين الخلائق لِيَعْذُبَ ويطيبَ لهم المآب، والرُّجعى إليه في يوم الحساب.
أحكام الأضحية وسننها:
في تواصل رَحِم، وبر والدين، ومراعاة حق جار، وقيام بِحَقّ الصديق والرفيق، ورحمة بعموم المؤمنين، وذبح لِلْأَضَاحِي لِمن قدر عليها، فإن له أن يغفر الله له بأول قطرة من دمها، وأن تقع عند الله بمكان قبل أن يقع دمها على الأرض، وأن تُضَعَّف سبعين ضعفاً بقرونها وأظلافها وجلدها وَشَعْرِهَا وعظمها، فتوضع في ميزانه تُضَعَّف سبعين ضعفاً، إلى غير ذلك من ثواب الْأُضْحِيَّةِ لكل من قدر عليها. ثم إن نَذَرَهَا وأوجبها، لم يجز أن يتناول منها شيئاً ويتصدق بجميعها، وإلا وجب عليه أن يتصدق بشيء منها.
وكان مسلك الكثير من الأخيار أن يجعلوا ثلثاً لهم وأهليهم، وثلثاً لِذَوِي الرَّحِمِ، وثلثاً للمحتاجين والفقراء فيما يذبحونه من الأضاحي، ولبعضهم ترتيب يقرب من هذا.
والقصد عنها إنعام من الله وصِلَةُ تَقْوَى، لا تُتعدى فيها الحرمات، ولا يُتعدى فيها الحد للزينة.
فإن لبس أحسن الثياب سنة إظهاراً للنعمة واتباعاً للمصطفى تعظيماً للشعائر، لا للتفاخر بِالْأَثْوَابِ، ولا للتفاخر بالجمادات، ولا لِلِاقْتِدَاءِ بالساقطين والساقطات.
مراعاة الحدود في الأعياد:
والتهنئة بلا تعدٍ للحرمات، لا دخولاً على أزواج الإخوان ولا الأعمام ولا الأخوال، ولا مصافحة لهن، ولا نظراً إليهن في زينتهن ليوم العيد، فذلك مما حرمه الواحد المبدئ المعيد.
وسُئل رسوله حين قال: "إيَّاكُمْ والدُّخُولَ علَى النِّساءِ، فقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ: يا رَسولَ اللَّهِ، أفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قالَ: الحَمْوُ المَوْتُ"، صدق الصادق خير الخلائق ﷺ.
وما كان من ألعاب للأطفال ونحوهم، فلا يتجاوز الحد بإزعاج ولا إِيذَاءٍ، ولا قيام بها في وقت إقامة الجماعة والصلاة، ولا في مثل ما بين المغرب والعشاء، ولا بأصوات مزعجة وألعاب نارية كما سموها -فهي نارية هي كما يسمونها نارية قريبة من النار- لا ينبغي أن تستعمل بالإِيذَاءِ وبإزعاج الناس في طرقهم أو بيوتهم.
أيام النحر والتشريق:
بل يجب أن يقوم العيد على المنهج السديد، وأن يتواصلوا متحابين في الله جل جلاله، وأن يشاركوا أَهْلَ مِنًى في أيام التشريق بعد مشاركتهم لهم في مثل يوم عرفة بالدعاء والتضرع وكثرة الذكر، وفي يوم النحر بالمبادرة إلى صلاة العيد، وصلاة الجمعة التي وافقت العيد في هذا العام.
وبالأضاحي، وأفضلها ما كان يوم النحر واليوم الثاني والثالث، ثم اليوم الرابع لمكان الاختلاف فيه وهو الثالث عشر من هذا الشهر شهر ذي الحجة، فالأفضل أن يكون قبل اليوم الثالث عشر بأن يكون يوم النحر أو يوم التشريق الأول الحادي عشر أو الثاني عشر.
ويجوز عند الشافعية ومن وافقهم الأضحية في اليوم الثالث عشر إلى غروب الشمس، فما نُحِر وذُبح قبل غروب الشمس فهو أضحية مقبولة.
نيات بعد العيد:
أيها المؤمنون بالله، والتواد والتراحم والتزاور جاء به الوحي الشريف والسنة الغراء، والنيات الصالحة لما بعد أيام العيد في تجديد النشاط في الإقبال على الحق الحي القيوم، وأداء الحقوق في عمل العامل ومهنة الممتهن وحرفة المحترف ووظيفة الموظف، ليقوموا بأداء الأمانة في كل ذلك، ويرعون حق الله جل جلاله، وينوون النيات الصالحات من كسب الحلال والنفقة على العيال، والتمكن من التصدق والهدية، وإدخال السرور على قلوب المسلمين وَمَنْ حولهم من الجيران والأقربين.
أعياد المسلمين اتصال بالحي القيوم:
أيها المؤمنون، هكذا أعياد المؤمنين، متصلة بالحق الحي القيوم والنقاء والارتقاء والسرور الدائم في دار الأبد والخلود.
أنعم بها من أعياد، وأعظم بما فيها من إمداد، ذلك فضل الكريم الجواد.
ألا فأكثروا الصلاة والسلام على خير العباد، فإنه من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بِها عَشْرِ صلوات، وإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة.
وتأملوا ما قال إِلَهُهُ وَخَالِقُهُ تعالى في عُلاه، مبتدئاً بنفسه، ومثنياً بالملائكة، وَمُؤيّها بالمؤمنين تعظيماً وتفخيماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً).
اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة الْمُهْدَاةِ والنعمة الْمُسْدَاةِ سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار،
واخصص منهم عالي المقدار صاحبه وَأَنِيسِهِ في الغار، مؤازره في حَالَي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أَبِا بَكْرٍ الصديق.
والناطق الصواب، حليف المحراب، المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
والناصح لله في السر والإعلان، محيي الليالي بتلاوة القرآن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وأخ النبي المصطفى وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وَرَيْحَانَتَيْ نَبِيِّكَ بِنَصِّ السُّنَّةِ، وأمهما الْحَوْرَاءِ فاطمة الزَّهْرَاءِ البتول، وخديجة الكبرى وَعَائِشَةَ الرضا وأمهات المؤمنين.
وأهل بيعة العقبة وأهل بدر وأَهْلِ أُحُدٍ وأهل بيعة الرضوان، وسائر الصحب الأكرمين وآل البيت الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
الدعاء :
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أَعْلِ كلمة المؤمنين. اللهم اجعله عِيدَ يُمْنٍ وبركة من أبرك الأعياد علينا وعلى الأمة في الْخَافِ وفي الباد.
اللهم إن المعتدين الكفرة ذَبَّحُوا كثيراً من أطفالنا ونسائنا ورجالنا وَصِغَارِنَا وكبارنا، اللهم فاردد كيد أولئك المعتدين الظالمين الغاصبين الفجرة، وَخَالِفْ بين وجوههم وكلماتهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، وأنزل مقتك وَغَضَبَكَ بهم، وادفع شرهم عن أهل لا إله إلا الله.
وارزق أهل الإسلام الاعتبار وَالِادِّكَارَ وحسن الرجوع إليك والقيام بِأَمْرِكَ على ما تحب، حتى تنصرهم على الْبُغَاةِ المفسدين الكائدين المجترئين الذين لم يراعوا حق إنسانية ولا حق خلق ولا حق معروف ولا أدنى شيء من قيم وفضائل.
اللهم اردد كيد المعتدين الظالمين في نحورهم، واكف المسلمين جميع شرورهم.
اللهم اقبل حُجَّاجَ بَيْتِكَ والواقفين بعرفة، والذاهبين إِلَى جَمْع مُزْدَلِفَةَ وَإِلَى مِنًى، وما يقومون به من الطواف بالبيت العتيق وإقامة الشعائر والمناسك كما علمهم نبيك، وَزَائِرِيه، والساعين في الخير من المسلمين، وَاكْلَأْهُمْ واحفظهم واحرسهم، وردّهم إلى أوطانهم سالمين غانمين ظافرين بالقبول والفوز بالرضوان، وافتح بهم أبواب الفرج لأهل الإسلام والإيمان.
اللهم بارك لنا في عيدنا، وَشُدّ أزرنا، واجعلنا من المستقيمين على ما تحبه وترضاه منا وترضى به عنا في جميع أقوالنا وأفعالنا وحركاتنا وسكناتنا، واغفر لنا وَلِآبَائِنَا وأمهاتنا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات بمغفرتك الواسعة.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).
(رَّبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
اللهم اهْدِنَا لأحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك مما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
10 ذو الحِجّة 1446