التوكل على الله معناه ووجوبه على المؤمنين وتميزهم بحقيقته

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في مسجد الصحابي أبو عبيدة بن الجراح، في منطقة الغور الشمالي، الأردن، 28 صفر الخير 1447هـ بعنوان:

التوكل على الله معناه ووجوبه على المؤمنين وتميزهم بحقيقته

خطبة عن عِظم مقام التوكل، وبيان أن حقيقة الإيمان تَكمُن في الاعتماد الكامل على الله، لا على الأسباب ولا القوى، وضرب أمثلة من سيرة الأنبياء والصحابة والصالحين، مبيّنًا أثر التوكل في النصر والتمكين.

لتحميل الخطبة مكتوبة pdf (اضغط هنا) 

الصورة

تضمنت الخطبة:

  • 2:50 كيف يكون الاعتماد على الله ؟
  • 4:38 ميزة توكل المؤمن بالله
  • 6:52 يجب أن نفتش في قلوبنا
  • 8:10 نتائج تربية النبي لأصحابه
  • 10:51 على قدر الإيمان يكون التوكل بالرحمن
  • 12:40 (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم)
  • 14:18 تعلم صدق التوكل على الله
  • 15:03 آيات من سورة الأنفال
  • 16:45 بداية الخطبة الثانية
  • 18:27 الإقبال على الله بالتوكل عليه
  • 19:31 احفظ الله يحفظك! 
  • 21:19 وصايا عملية في التوكل على الله
  • 22:52 اغترار قوم عاد بقوتهم
  • 25:22 الصلاة والسلام على نبينا محمد ﷺ
  • 27:13 دعاء الخطبة

الخطبة الأولى :

   الحمد لله، الحمد لله القوي القاهر، العزيز الغافر، الخالق الفاطر، (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). 

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علمًا وهو على كل شيء قدير، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير، يُقدِّم ويُؤخِّر، ويرفع ويخفض، ويعز ويذل، ويعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، ولا رادّ لما قضى، فلا مُعقِّب لحكمه، ولا يكون إلا ما أراد. 

   وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، أعرف الخلائق به، فهو سيد المتوكلين عليه، وإمام المستندين إليه، وأعظم المُتذللين بين يديه. 

   اللهم أدِم صلواتك على السراج المنير البشير النذير، عبدك الطاهر سيدنا محمد، أصدق الخلائق في التوكُّل عليك، والاعتماد عليك والاستناد إليك، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن والاهم فيك وعلى منهاجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد،،، 

   عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، وأحسِنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ). 

كيف يكون الاعتماد على الله :

   أيها المؤمنون بالله، إنّ مِن تقواه الاعتماد عليه والاستناد إليه والتوكل عليه، فإن الخَلق على ظهر هذه الأرض فيما يعتمدون عليه في مختلف أطوارهم وتقلُّباتهم في الحياة، يَرجعون بحسب ما تنتهي إليه أفكارهم وعلمهم، هذا معتمد على مادة، وهذا على مال، وهذا على عقل، وهذا على قبيلة، وهذا على هيئة، وهذا على عمل، وهذا على قوة جسدية أو اقتصادية أو فكرية أو عسكرية وما إلى ذلك. 

وكلّ واحد منهم كان استناده واعتماده على شيء من ذلك منقطعاً عن شهود أن الذي يُعتمد عليه إنما هو خَلقٌ مُقدَّر مُصوَّر مُدبَّر بتقدير خالق بيديه ملكوت كل شيء.

 إذا انقطعوا عن هذا الشهود كانوا في اعتماداتهم تلك على جهالة بالله وعلى ضعف في الإيمان به، ويُوكَلون إلى تلكم الأسباب، ومن وُكِل إلى غير رب الأرباب ضاقت عليه الأسباب وفي الدارين خاب، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

ميزة توكل المؤمن على الله :

     أيها المؤمنون، يمتاز مَن آمن بالله أنه مهما أقام سببًا مِن علم أو عمل أو كسب أو جيش أو كلام أو بناء أو صناعة أو زراعة أو حراثة، فإنه لا يعتمد على ذلك السبب ولا يستند إليه، بل يقوم به عبودية للمُسبِّب، مسبِّب الأسباب الإله الحق العظيم الوهاب ﷻ.

 فتميَّزَ المؤمن على ظهر هذه الأرض عمن كفر، وعمن فسق، وعمن ضعف إيمانه، بأنّ ملمح ومطمح نظره واعتماد قلبه على القوي القادر القاهر المتين الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله. 

فلا يغترّ بسبب ولا تنظيم ولا ترتيب ولا إعداد يُعِدّه، وإن كان يُحسن القيام بالسبب ويُعِد فيُحسن الإعداد، ويُرتب فيُحسن الترتيب كما دُعي إلى ذلك وأُمر به، ولكن قلبه أكبر من أن يعتمد على ترتيب أو تدبير أو إعداد راجع إلى الخلق :

وإن لم يكن عون من الله للفتى 

فأولُ ما يجــني عليه اجتـــهادهُ

ومن رعتهُ عين عناية الله؛ تيسّر له مراده مما يشاء وزاده الله تبارك وتعالى من فضله ما يشاء.

يجب أن نفتّش في قلوبنا :

   أيها المؤمنون بالله، يجب أن نُفتِّش عن قلوبنا ونعلم مدى اعتمادنا على ربنا ومدى اغترارنا بالأسباب كائنة ما كانت، فإنها محكومة بإرادة المُسبِّب، المُقدم المُؤخر  الرافع الخافض، الضار النافع، المُعطي المانع، الحي القيوم الذي لا يكون في كونه إلا ما شاء. 

قال الإمام الشافعي مخاطبًا للإله الحق:

فما شئتَ كان وإن لم أشأ *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يَكُنْ

خلقتَ العباد على ما أردتَ *** ففي العلم يجري الفتى والمُسِنْ

على ذا مننتَ وهذا خذلتَ *** وهذا أعنتَ وذا لم تُعِنْ

ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

نتائج تربية النبي ﷺ لأصحابه :

   أيها المؤمنون، وقد كان ﷺ مع هؤلاء الصحابة الذين سقى الله قلوبهم كؤوس الإيمان واليقين والاعتماد على رب العالمين، كأمثال المُبشَّر بالجنّة أبي عبيدة عامر بن الجراح الذي أنتم في جواره، رباهم على الاعتماد على الله والاستناد إليه مع إقامة الأسباب والإعداد بما مكَّنهم وأقدرهم. 

وقال لهم في ذلك فيمن يواجههم بالعدوان والظلم والسطوة والصّد عن سبيل الله بغير حق من القُوَى المعاندة: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ).

 أعدوا لهم ما استطعتم، وما لم تستطيعوا فالآمر لكم أن تقوموا بما استطعتم، والذي تنطلقون من أمره كفيل لكم فيما لم تستطيعوا أن يكفيكم.

(فَلَمَّا جَاوَزَهُ) أي طالوت عليه السلام، جاوز النهر (هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ). 

وقال سادتنا الصحابة الواردون إلى بلدانكم هذه: إنا لا نقاتلهم بعدد ولا عُدة، ولكن بهذا الدين وبهذا الإيمان ولأمر الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

فالتقى ثلاثة آلاف من جنود الحق والهدى، جنود الله وجنود محمد بن عبد الله، بمئة ألف أو مئة وخمسين ألفًا من أعدائهم، فنصر الله الثلاثة الآلاف وخذل المئة الألف التي كان عتادهم وعُدّتُهم أقوى مما عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم. 

(إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ).

على قدر الإيمان يكون التوكل بالرحمن :

    فعلى قدر الإيمان يكون التوكُّل على الرحمن والثقة به.

 وليس التوكل عليه إلا ثِقة في عِلمه ولا أعلم منه، وثقة في قُدرته ولا أقدرَ منه، بل لا قدرة لأحد إلا بحسب ما يقدِره، ولا علم لأحد إلا بحسب ما يعلِّمُه. 

وأنت ترى طمأنينة الذي اعتمد على محامٍ له في قضية، له علم واسع بإطلاعٍ على القانون وتجارب ونجاح في قضايا كثيرة مرت تستند إليه وتعتمد عليه ويطمئن قلبك به، وهو عندك أحسن من أن تتصرف بنفسك لاعتقادك أنه أعلَم وأنه أقدَر على إنجاز القضية وإنجاحها لك.

فما يكون محامو الأرض وعلومهم عند علم من أحاط بكل شيء علمًا؟

وما تكون قُدراتهم عند الذي هو على كل شيء قدير؟ 

ولا قدرة لسواه إلا بحسب ما يهبهُ من قدرة حادثة محدودة لا تتجاوز حدودها، لكن قدرة الله لا حدّ لها ﷻ، فوجب الاعتماد عليه، ووجب الاستناد إليه.

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) :

   قال لأولئك الصحابة وقد حانت من قلوب بعضهم، خصوصًا الذين أسلموا قريبًا من الطلقاء إلى الكَثرة والوَفرة، فاجتمع اثنا عشر ألفًا يجاهدون مع النبي محمد ﷺ في غزوة حنين بعد فتح مكة، وقال قائلهم: لن نُغلب اليوم مِن قلة.

فلما أعجبتهم الكثرة، نازلتهم الهزيمة أولاً، ثم نصرهم الله، (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

لا كثرتكم ولا كثرة المقاتلين معكم نفعت، ولكن إنزال السكينة عليكم وتأييده لكم هو الذي به نُصرتم. 

   ولم يبق من الاثني عشر ألفًا مع نبينا في وسط الموقف إلا نحو المئة، ثم عاد البقية بعد أن أمر عمه العباس أن يُحرِّك ضمائرهم: "يا أهل سورة البقرة، يا أهل السمرة، يا أهل القرآن، هذا محمد رسول الله"، فلوَوا إليه وأقبلوا عليه ونصرهم الله ﷻ.

تعلُّم صدق التوكل على الله :

     أيها المؤمنون بالله، يجب أن نتعلم هذا المعنى من التوكل على الله في أكلنا وشربنا وأخذنا وعطائنا، وتجاراتنا ووظائفنا، وجميع أحوالنا وصناعاتنا وقواتنا وجهادنا وجميع شؤوننا.

الحذر من الاعتماد على غيره، فيَكِلكَ إلى غيره، وإن وَكَلك إلى غيره وَكَلك إلى ضَعف وعَجز وعورة.

اللهم ارزقنا كمال الإيمان وصدق التوكل عليك، والإقبال بالكُلِّيّة عليك في جميع الشؤون، يا من يقول للشيء كُن فيكون. 

آيات من سورة الأنفال :

والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). 

وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) . 

(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا مِن خِزيهِ وعذابه الأليم.

 أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

   الحمد لله حمدَ مُعتمدٍ عليه، مُستندٍ إليه، متوكلٍ في جميع الأمور عليه، موقنٍ أن لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منه مبتدأ كل أمر ومرجعهُ إليه.

 وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، يدعو إلهه فيقول: "لا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين". ولا مدة طرفة العين ولا مقدار طرفة العين تجعل لقلبي اعتماداً على غيرك أو توكلاً على سواك. 

 اللهم أدم صلواتك على سيد المتوكلين عليك والهادين إليك والدالين عليك، عبدك المختار سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وآبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد،، 

    عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا وأقبلوا، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).

الإقبال على الله بالتوكل عليه :

 ومن توكّلَ على الله كفاه ما أهمّهُ من أمر دُنياه ودينه وأُخراه، ومن توكّل على غيره وكلهُ إليه، ومن وكَلهُ الله إلى نفسه أو إلى أحد من الخلق فقد وكَلهُ إلى ضَعف وعَجز ونَقص وعورة.

   أيها المؤمنون بالله، يجب أن نَعلم أن مُقتضى الإيمان توكلنا على الرحمن الذي يُحب المتوكلين عليه والمستندين إليه جل جلاله وتعالى في علاه.

 وأن نأخذ ميزتنا وخصوصيتنا معشر المؤمنين، ونُقبل على الله بالصدق، ولقد قال لنا رسوله: "لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله؛ لرزقكم كما يرزُق الطيرَ: تغدوا خماصًا وتروح بطانًا".

في كل يوم وليلة لها رزقُها المعلوم ولا ينقص.

احفظ الله يحفظك :

    أيها المؤمنون بالله ﷻ ، خاطب صاحب الرسالة ابن عمه عبد الله بن العباس وهو نحو العاشرة من عمره، فقد توفي رسول الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة، يقول: "يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ" احفط الله: احفظ تعظيمه وإجلاله، احفظ أوامره بالامتثال والأداء لها، احفظ نواهيه بالانتهاء عنها، احفظ الله يحفظك: يحيطك بحفظه في جميع ما تكره " احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحف".

قال سيدنا الخليل إبراهيم: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ).

وصايا عملية في التوكل على الله :

   أيها المؤمنون بالله، أدّوا ما في وِسعكم من الأسباب وأعِدّوا ما استطعتم، وتوكلوا على الله الذي بيده ملكوت كل شيء جل جلاله وتعالى في علاه. 

فمن توكَّل على الله لم يَنسه ولم يكَله إلى سواه سبحانه وتعالى (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). 

(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). 

(يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). 

اصدُقوا مع الله، وتوكّلوا عليه حتى في جمعتكم هذه وقبولها عنده وإقامتكم للصلاة من أجله، أحسنوا ما استطعتم وتوكلوا عليه أن يوفقكم وأن يقبل منكم. 

وفي طعامكم وشرابكم، وما توجهَ إليكم من نصرته أو نصرة رسوله، أو جهاد في سبيله، أو تربية للأهل والأولاد أو صلة للأرحام وغير ذلك، ابذلوا ما في وسعكم متوكلين عليه ومعتمدين عليه ومستندين إليه، (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

اغترار قوم عاد بقوتهم :

    ولقد هدّدت قوى الكُفر سيدنا النبي هودًا وكانوا مغترين بقوتهم يقولون: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، يتحدون العالم في وقتهم أنه ليس على ظهر الأرض أشد منهم قوة. 

قال جبار السماوات والأرض: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ). 

وهدّدوا النبي هود عليه السلام وقالوا: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)، قال سيدنا هود عليه السلام مجيبًا لهم، قال عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ)، أي قوة عندك يا هود؟! كيف ما تقابل هذا العتاد القوي والأسلحة الفتاكة؟! 

قال: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ).

الصلاة والسلام على نبينا محمد ﷺ :

   ألا وقوُّوا إيمانكم واعتمادكم على الإله بكثرة الصلاة والسلام على داعيكم إليه ودالّكم عليه محمد، فإن الله يصلي على من صلى عليه مرةً واحدةً عشر صلوات، وإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة. 

واسمعوا ما قال الله مُبتدئًا بنفسه، مُثنّيًا بالملائكة، مُؤيهاً بالمؤمنين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). 

اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير سيدنا محمد، 

وعلى الخليفة من بعده المختار وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حالي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق. 

وعلى الناطق بالصواب شهيد المحراب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب. 

وعلى الناصح لله في السر والإعلان، من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان. 

وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب. 

وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء. 

وعلى الحمزة والعباس وأهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس. 

وعلى أبي عبيدة عامر بن الجراح وبقية العشرة وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان وسائر الصحب الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

دعاء خاتمة الخطبة :

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين. 

اللهم اصرفنا من جمعتنا عليك متوكلين، وعليك معتمدين، وإليك مستندين، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين. 

اللهم إنه أصابت قلوب المسلمين وعقولهم لوثة الاعتماد على غيرك والاستناد إلى من سواك والاغترار بالأسباب، اللهم خلّص قلوب المسلمين وطهرها من هذه اللّوثات وهذه القاذورات، واجعل اعتمادهم عليك واستنادهم إليك حتى تكفيهم وتنصرهم يا حي يا قيوم.

 اللهم فرِّج كروب الأمة، واكشف الغمة، وعجِّل بالفرج لأهل غزة والضفة الغربية وأكناف بيت المقدس، ولأهل الشام واليمن والشرق والغرب من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات. 

اللهم خُذ بيد مَلِك هذه البلاد الملك عبد الله بن الحسين إلى ما فيه السداد والرشاد والصلاح والفلاح في الحِس والمعنى، وخذ بيد ولي عهده ومن معه من البطانة واجعلهم بطانة صالحة. 

اللهم خُذ بأيدي ولاة المسلمين وشعوب المسلمين والرعاة إلى ما تحبه وترضاه، جنِّبهم التبعية لأهل الفسق والكفر والعصيان، وارزقهم الصدق معك في السر والإعلان. 

اللهم حوِّل أحوال المسلمين إلى أحسن حال، ورُدّ كيد أهل البغي والظلم والفسق والإجرام في جميع الأحوال. 

اللهم اجعل الدائرة عليهم ومزِّقهم كل مُمزّق مزقته أعداءك، وخالف بين وجوههم وكلماتهم وقلوبهم.

اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين. 

(رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). 

(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا). 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ). 

نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

   عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). 

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر.

 

تاريخ النشر الهجري

01 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

22 أغسطس 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام