التوبة ومكانتها ورقائق معانيها وعظيم آثارها
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في مسجد الشريفة فاطمة بنت ناصر، في عمّان، الأردن، 21 صفر الخير 1447هـ بعنوان:
التوبة ومكانتها ورقائق معانيها وعظيم آثارها

تحدث في الخطبة عن فضائل التوبة، مبيناً عظيم فضل الله تعالى في فتح باب التوبة لعباده، وسعة رحمة الله بالتائبين، وفرحه سبحانه بعودة عباده إليه، وبيّن شروط التوبة الصحيحة ومراتبها.
تضمنت الخطبة:
-
عجائب التنزلات الربانية في قبول التوبة
-
شروط التوبة الصحيحة وكيفية تحقيقها
-
التحذير من تأخير التوبة حتى الموت
-
مراتب التوبة من توبة العاصي إلى توبة الأنبياء
لتحميل الخطبة مكتوبة (pdf) اضغط هنا
نص الخطبة:
الخطبة الأولى :
الحمد لله، الحمد لله إلهنا الكريم الوهّاب، الغفور التوّضاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جامع الخلائق ليوم الحساب، فمنهُ المبتدأ وإليه المرجع والمآب.
وأشهد أن سيدنا ونبيّنا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، خير مَن تاب وأناب، ولنداء الحق أجاب، وبلّغهُ لكل من يسمعه ومَن سبقت له السعادة إلى يوم المآب.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك سيد التوابين محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله وأحسنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
عجائب التنزلات الربانية في قبول التوبة:
أيها المؤمنون بالله، المجتمعون لأداء فريضة افترَضها الله، المُقبلون على إلههم بقلوبهم ووجهاتهم، ألقوا أسماعكم وأحضِروا قلوبكم.
إنّ الإله الحق الغني عن كل شيء جعل لنا لطائف وعجائب في أسرار تنزُّلهِ إلينا وتعرُّفه إلينا، وجوده علينا وكرمه الواصل لنا.
وإن من أعجبِ عجائب تِلكم اللّطائف الإلهية والتنزُّلات الربانية ما مدَّ مِن حبل التوبة إليه لكل من خالف أمرًا من أوامره فتركه، أو نهيًا من نواهيه فارتكبه، أو تقصيرًا في شيء مِن أحواله ومقاماته أمام ربه جل جلاله، ففتح الباب للجميع وهو الغني عن الجميع، والجميع محتاج إليه، مُفتقر إليه.
سعة باب التوبة حتى خروج الروح:
فمَدَّ هذا الحبل وفَتح هذا الباب، عبّر عنه خاتم النبوة والرسالة وقال: "إن باب التوبة مسيرة شهر -أو مسيرة سبعين عامًا- لا يُقفل حتى تطلع الشمس من مغربها"، فضلاً من فضل الله.
لا يزال الباب مفتوحًا والحبل ممدودًا إلى أن يصل كل واحد إلى وصول روحه إلى حلقومه عند الغرغرة والموت، فينغلق عنه هذا الباب.
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
فإنهُ عند انكشاف الحقيقة وارتفاع الغطاء، الكل يؤمن والكل يتوب، لا يبقى عند الموت وبعده مُلحد ولا كافر ولا جاحد ولا خارج عن الدين، الكل يوقِن أن محمدًا هو رسول الله الخاتم الذي جاء بالحق، وأن الله وحده الإله الذي لا شريك له.
الكل يشهد هذا مشاهدة ويُعاينه مُعاينة، ولو كان أطغى طاغٍ وألحد ملحدٍ وأفسدَ مُفسدٍ، عند الموت يوقن أن الله هو الحق وأن ما جاء به رسوله هو الحق، فالكل يؤمن والكل يتوب، ولكن أنّى تنفع التوبة في تلك الحالة.
مصير الأمم السابقة وتأخيرها التوبة:
ولقد قال الله عن أمم مَضوا قبلنا غرّهم ما عندهم من ظواهر المدارك الحسية وظنوا أنها الغاية، فعندهم علومٌ ظاهرية لشيء من شؤون المادة اغتروا بها، ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾، (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)؛ جاءت الغيرَة وجاءت النُّقلة من هذه الحياة وجاء العذاب، (قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ)، اغتِرارُنا بالأهواء انتهى، اغتِرارُنا بالعقليات انتهى، اغتِرارُنا بالمعلومات التي عندنا انتهى، (آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾.
الكل يؤمن، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾، كل ظالم بِظُلمه وإفكه وكفره وفجوره في القيامة يقول ليت لي سبيلاً مع هذا الإنسان الصادق، مع خير الخلائق.
أين علاقتك التي كنت تفتخر بها مع فلان وعلان والهيئات الفلانية والدولة الفلانية!
انتهت لا تفيد شيئًا ولا تنفع، ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾.
هذا شأن تنزُّل ربكم وهو الغني، (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ).
قبول التوبة مع كثرة الذنوب:
بل بيّن لنا خاتم الرسالة عظمة هذا التجلي الإلهي، وقال: "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يبسُطُ يدَه باللَّيلِ ليتوبَ مسيءُ النَّهارِ ، ويبسُطُ يدَه ليتوبَ مسيءُ اللَّيلِ"، ليغنموا بمرور الأيام عليهم في تدارك لما يزيغ الزائغ منهم أو ينحرف المُنحرف منهم، ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾.
تجلى علينا بخَلقِنا من العدم، ثم تجلّى علينا بهدايتنا إلى الدين الأقوَم، وتجلّى علينا بالليل والنهار (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ)، وجعله خِلفة وغنيمة لمن أراد أن يذّكَر أو أراد شكورًا.
فانظر كيف عاملنا هذا الإله، وكيف تنزَّل إلينا، وكيف بسط لنا بِساط إحسانه وواسع امتنانه، جل جلاله وتعالى في علاه.
فرح الله ﷻ بتوبة عبده :
وإذا أقبل التائب إليه بصدق؛ تكرَّم عليه بالقبول، وعبّر رسول الله عن رضا المولى عن هذا العبد وإتحافه إياه بالمِنن بالفرح، وقال: "للَّهُ أفرَحُ بتوبةِ التَّائبِ مِنَ الظَّمآنِ الواردِ ومنَ العقيمِ الوالِدِ، ومنَ الضَّالِّ الواجدِ"، الضاّل الذي ضلّ عليه أمر ثمين غالٍ وأخذ يبحث عنه ثم فجأة وجده، كيف يفرح؟
والعقيم الوالد الذي يتمنى ابنًا أو بنتًا ومرت السنوات وهو عقيم، ففوجئ بأن بُشِّر بأن حملت زوجته وجاءت بالولد، كيف فرحه؟
ومن الظمآن الوارد الذي اشتد عطشه وبلغ به الظمأ غاية المَبلغ، فإذا بالماء أمامه، كيف يفرح به؟
هذا أعلى مظاهر الفرح عند ابن آدم، قال نبينا: "للَّهُ أفرَحُ بتوبةِ التَّائبِ مِنَ الظَّمآنِ الواردِ ومنَ العقيمِ الوالِدِ، ومنَ الضَّالِّ الواجدِ".
وكما صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "لله أفرح بتوبة عبده من رجلٍ مشى على جمله ومعه زاده ونفقته وماؤه، فضل عليه الجمل في الصحراء، فأخذ يبحث عنها فلم يجد، فجاء إلى شجرة وقال: أنام عندها حتى أموت، لا ماء ولا طعام. فنام، فاستيقظ وإذا جمله عنده وعليها زاده وماؤه" كيف فرحه؟
قال: الله أفرح بتوبة عبده من هذا، يفرَح لنا جل جلاله وهو الغني عنا سبحانه وتعالى.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ :
فهكذا شأن علاقة العبد بالإله الحق جل جلاله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.
بل لنادى من تمادى في الغيّ والضلال وغرّته نفسه وأخذ يرتكب الذنب بعد الذنب والمعصية بعد المعصية حتى تمادى في ذلك، فتعرّض لمَقتٍ وغضبٍ وسخطٍ وعقابٍ شديد ومآبٍ شنيع، خاطبهم مخاطبة خاصة في كتابه على لسان سيد أحبابه وقال: قل لهم، بلّغهم، بلّغهم يا أيها المبلّغ عني المختار من قِبَلي، بلّغ عبادي: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾.
الكاذبين على الله :
جميع الذين كذَبوا على الله، من ملحد أنكر وجحد وكل شيء يدعوه للإيمان بالله، ومن كافر برُسل الله أو بكُتبه أو بملائكته، ومن مُكذِّب باليوم الآخر والراجع إليه كاذبين على الله، ومن ينسب السوء والظلم إلى الله تبارك وتعالى، ومن يقول في الدين بغير حق، يكذبون على الله، يُحلّ ويحرّم على غير بصيرة، على غير سند من نصوص الكتاب والسنة واجتهاد المهيِّئين للاجتهاد فيها، ﴿تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
عظمة مغفرة الذنوب :
ما أعظمه من إلٰه بيَّن وأحسن البيان، وبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، فسبحانه من غفور توّاب.
قال في حديثه القدسي فيما رواه عنه المصطفى محمد وأخرجه الإمام الترمذي عنه ﷺ عن الله تبارك وتعالى: "ابنَ آدمَ ! إنك ما دعوْتَنِي ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي ، يا ابنَ آدمَ ! لو بلغت ذنوبُك عنانَ السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي ، يا ابنَ آدمَ ! إنك لو أتيتني بقُرابِ الأرضِ خطايا - أي بملئها - ثم لقيتَني لا تُشركُ بى شيئًا ؛ لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً".
ذلك فضل الله، فويل للمعرضين الذين لا يتوبون ولا يؤوبون ولا يرجعون.
شروط صحة التوبة :
وصِحة التوبة بالندم الصادق، وذلك إدراك الحقيقة، والحقيقة أن الإله الذي خَلق حق أن يطاع من كل شيء، لا نفسي مقدمة عليه، ولا نظام شرق ولا غرب مقدم عليه، ولا فكر صغير ولا كبير مقدم عليه.
الله الذي خلق هو الأحق أن يطاع، وإن كنت أتعرض لمخالفة القانون والخروج عن نظام الهيئة أو الشركة للعقاب والمؤاخذة، فكيف حالي إذا تعرضتُ لنظام أمر الإله الذي خلق؟
الإله الذي أوجد وأنشأ جل جلاله.
ومن أدرك هذه الحقيقة تألم على كل ما صدر منه من ذنب، فيحمله ذلك على الندم الصادق.
فإذا ندم ندامة الصدق:
- أقلع عن الذنب
- وابتعد عن أسبابه والمُقرّبات إليه
- وعن رفقاء السوء الموقعين له فيه
- والوسائل التي تجرهُ إلى ذلك الذنب، أغلقها وتباعد عنها،
فأقلع إقلاعًا صحيحًا وعزم عزمًا أكيدًا ألا يعود إلى الذنب.
وهنا تُستكمَل الشروط للتوبة التي يقبلها التواب.
إلا واحدًا، إن كانت المعصية والسيئة بينه وبين مخلوق؛ إن انتهك عرضه أو ماله أو آذاه أو ضربه أو شتمه، يزداد فوق هذا شرط آخر: أن يستحِلّه.
رد المظالم واستحلال أهلها :
قال ﷺ كما روى الإمام البخاري في صحيحه: "مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه" والعياذ بالله سبحانه وتعالى.
وهذا المُفلس، حقيقة الإفلاس، من يأتي يوم القيامة معه أعمال صالحة كثيرة ولكن ظلم هذا وضرب هذا وسفك دم هذا واغتاب هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فُنيت حسناته أُخِذ من سيئاتهم فطرحت عليه فأمر به إلى النار.
هذا هو المفلس في ميزان صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أجارنا الله من الإفلاس يوم يقوم الناس لرب الناس، وجعلنا وإياكم من التوابين والمتطهرين والعباد الصالحين.
الدعاء وآيات من سورة التحريم:
اللهم يا قابل التوبة عن عباده، تُب علينا توبة نصوحا، واجعلنا في جمعتنا هذه تجتمع في قلوبنا حقائق التوبة إليك، وتغفر كل ما كان منا، وتحفظنا في بقية أعمارنا للوفاء بعهدك والعمل بطاعتك، والوفاة على الإيمان والتوبة والصدق والإخلاص يا رب العالمين.
والله يقول قوله الحق المبين: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
وقال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إذا صدق عبده في التوبة إليه بدّل السيئات إلى حسنات، فما أكرمه مِن إله عَظُم جوده وإحسانه والعطيات.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله خير البريات، صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين له إلى يوم الميقات، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله وآلهم وصحبهم والتابعين، والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
مراتب التوبة وأنواعها:
فاتقوا الله يا عباد الله، وإن من تقواه ألا نُهمل التوبة، وأن نرقى في مراقيها، فإن لها بداية وليس لها من نهاية، وذلك:
- أن توبة الكافر عن كفره،
- وتوبة صاحب الكبائر عن الكبائر،
- وتوبة صاحب الصغائر عن الصغائر،
- وتوبة المستقيم الصابر عن المقام الأدنى كلما ارتقى إلى مقام أعلى، فلا يزالون في التوبة.
حتى المعصومون، حتى المعصومون من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم توّابون إلى الله، بل سيدهم الأطهر الأنقى الأتقى محمد كان يقول لنا: "توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة سبعين مرة" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، سبعين مرة في اليوم والليلة يتوب الطاهر المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وذلك أنهم لمعرفتهم بالله أيقنوا أنه لا يقوم بحق الله أحد كائنًا من كان.
وإن لله ملائكة أحدهم منذ خلقه الله وهو قائم بين يديه في الصلاة إلى أن تقوم الساعة، والآخر راكع منذ خُلق إلى أن تقوم الساعة، والآخر ساجد منذ خُلق إلى أن تقوم الساعة، فإذا حشر الله الخلق وقامت الساعة جاءوا وقالوا: سبحانك يا رب ما عبدناك حقّ عبادتك ولا عرفناك حق معرفتك، هكذا يقول أولئك المعصومون.
ما أعظم جود الله تعالى :
فما أعظم ربكم الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وما أعظم ما بسط لكم من هذا البساط العجيب الممدود والحبل الذي أمده لتتصلوا به في عجائب صِلته بخلقه تنزلًا منه وتكرمًا، ما أعظم جوده وإحسانه.
دعاء الخطبة :
اللهم لا تصرف من جمعتنا هذا أحدًا إلا مَملوء القلب بنور التوبة، صادق في الرجوع والأوبة، مُقبلاً عليك بكليته، مرتقيًا إلى شريف الرتبة.
اللهم واجعل من في بيوتنا توابين، واجعل أهلينا وأولادنا توابين، وافتح بالتوبة لنا أبواب نصرك لنا وللمستضعفين وللمسلمين حيثما كانوا.
اللهم واخصُص أهل غزة والضفة الغربية وأكناف بيت المقدس وأهل فلسطين وأهل الشام وأهل اليمن والشرق والغرب منك بعناية وغوث عاجل، تدفع به شر المعتدين المجرمين الظالمين الغاصبين المعتدين الذين لم يقِفوا عند حد من إنسانية ولا عقل ولا قِيم ولا دين.
اللهم اخذلهم وهزمهم وخُذ على أيديهم ولقّهم الردى، وادفع شرهم عن جميع المؤمنين والمؤمنات يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين. تب علينا يا تواب توبة نصوحا تُزكِّنا بها قلبًا وجسمًا وروحًا.
وأكثروا الصلاة والسلام على نبيكم سيد التوابين خير الأنام، فإن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، وهو القائل كما صح في الحديث الذي رواه الترمذي عنه: "إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً".
ولقد ابتدأ الله بنفسه وثنّى بالملائكة وأيّه بالمؤمنين فقال مخبرًا وآمرًا لهم تكريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلم على السراج المنير البشير النذير، التواب المنيب، القائم بِحَق العبودية لك، والمؤدي لحق الربوبية في أعلى مراتب القدوة العظمى والأسوة الحسنة.
وعلى الخليفة من بعده المختار وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حالَي السعة والضيق، خليفة رسوله سيدنا أبي بكر الصديق.
وعلى الناطق بالصواب حليف المحراب المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى الناصح لله في السر والإعلان، من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين سيدَي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى بنات المصطفى وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى مريم وآسية، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان وعلى سائر أصحاب نبيك الكريم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم ألف ذات بين المؤمنين واجمعهم على الصدق معك والإنابة إليك والتوبة من جميع الذنوب، صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها، ظاهرها وباطنها، يا من خاطبتنا ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾، اجعلنا ممن ترك ظاهر الإثم وباطنه وأقبل بالكلية عليك وقُبِل لديك.
اللهم لا تصرفنا من جمعتنا هذه إلا وقد تبت علينا، ونظرت بعين الرحمة والمحبة إلينا، وأدخلتنا دوائر الأحبة الذين تُرقيهم رتبة بعد رتبة.
اللهم وائذن اكشف الكربة عنا وعن أمة حبيبك محمد أجمعين.
اللهم تدارك المسلمين في غزة والضفة الغربية وأكناف بيت المقدس خاصة، وفي جميع أقطار الأرض عامة، واجمع شملهم وألف ذات بينهم وألهمهم رشدهم ووفقهم لما ترضاه، واملأ قلوبهم خشية وإنابة ومحبة وإقبالاً عليك توجب لهم به النصر والتأييد والتسديد.
اللهم واخذل الأعداء، أعداء الدين من المعتدين الظالمين الغاصبين، اللهم شتت شملهم وفرّق جمعهم وخالف بين وجوههم وكلماتهم وقلوبهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، يا قوي يا متين.
اللهم وخذ بيد ملك هذه البلاد الملك عبد الله وولي عهده ومن معه إلى البر والتقوى، وما هو أحب إليك في السر والنجوى، وما هو أنفع لعبادك، وما هو أجمل لأهل بلادك ظاهرًا وباطنًا.
اللهم وأصلح شؤون المسلمين أجمعين، واجعلنا من أنفع المسلمين للمسلمين، وأبرك المسلمين على المسلمين، وانفعنا بالمسلمين عامة وبخاصتهم خاصة، يا قوي يا متين يا غفار اغفر لنا، ويا تواب تب علينا، وانظر إلينا، وخذ بأيدينا إليك أخذ أهل الفضل والكرم عليك.
أعنا على ما تحب، وخذ بأيدينا إذا عثرنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين.
﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾. ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، فاغفر لنا يا خير غفور، وتولنا في جميع الأمور، وبيض وجوهنا يوم البعث والنشور، واربطنا بسيد التوابين عبدك المصطفى محمد يا أكرم الأكرمين ربطًا لا ينحل حتى نستقر معه في الجنة أشرف محل، برحمتك يا أرحم الراحمين.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.
﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر.
22 صفَر 1447