التنزه والتطهر عن الذنوب والمعاصي .. مكانه وأهميته وآثاره في واقع الأمة ومصيرها

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان بتريم، 10 رجب الأصب 1446هـ بعنوان: 

التنزه والتطهر عن الذنوب والمعاصي .. مكانه وأهميته وآثاره في واقع الأمة ومصيرها

لتحميل الخطبة مكتوبة (نسخة pdf) :

https://omr.to/K100746-pdf

فوائد مكتوبة من الخطبة:

https://omr.to/K100746-f

 

نص الخطبة:

 

الخطبة الأولى :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    الحمد لله، الحمد لله المَلك القدوس العزيز الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحِب التوابين ويُحِب المُتطهرين، وهو المنان التواب الكريم. 

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، أطهرُ الخلائق عن المعائب والذنوب، وأصفاهُم في السرائر والقلوب، فهو إلى ربِّ العرش أحب محبوب. 

    اللهم أدِم صلواتك على عبدك المصطفى خاتم النبيين وسيد المرسلين، سيدنا محمد الهادي إلى أقومِ منهاج، والمخصوص منك بمعجزة الإسراء والمعراج، وعلى آله وأصحابه المقتبسين أنوار ذاك السراج، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان بغير اعوجاج، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، الذين جعلتَ لأتباعهم من أهل النور والهدى فيهم اندِراج، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، ومن تلقَّوا فيض فضلك الثجّاج، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد،، 

   عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيبُ إلا عليها، ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. 

تقوى الإله نقاءٌ وطهرٌ:

   يا عباد الله، تقوى الإله الحق، تنزُّه العبدِ عن الذنوب والسيئات والمعاصي، صغائرها وكبائرها، بواطِنها وظواهِرها، فهذه النظافة للعبد والنقاء والخلاص والطُّهر من هذه الذنوب والسيئات والمعاصي هو التقوى لله -جل جلاله وتعالى في علاه-، سراً وعلانية، ترْك ما كان منها باطناً وما كان منها ظاهراً، تعظيماً له وإقراراً بألوهيته وإيقاناً بالرجوع إليه واستعداداً للقائه.

المحبوبون لله ووظيفتهم:

   أهل هذه المشاعر والأحاسيس بل والمواجيد الشريفة هم التوابون، هم المحبوبون لربكم ﷻ، هم المُتطهرون ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾. 

أولئك الذين تنزّهوا عن قاذورات المعاصي؛ في القلوب والعيون والألسن والآذان والبطون والفروج والأيدي والأرجل. 

وهذه الوظيفة الشريفة لكل مكلَّف على ظهر هذه الأرض، بها يرتقي مرتبة الخلافة الكريمة العظيمة، المعظَّم شأنها، المبيَّن مكانها، المُنوّه بها في العالم الأعلى قبل أن تقوم على ظهر الأرض، بدايةً من آدم وانتهاءً في قمَّتِها وعُلاها إلى محمد بن عبد الله، مبسوطةً فيمن صدَق في اتباعه من أمته إلى آخر الزمان، باقيةً ما بقي القرآن، وما دام موجوداً لم تتناوله يد الغَيرة من منزِلِه بالمخالفة الشديدة الشنيعة لأوامره بتركها ولنواهيه بارتكابها، عند ذلكم يغار الله على كتابه ويرفعه من على ظهر الأرض، من السطور ومن الصدور، فلا تبقى منه آية واحدة.

أثر الاستقامة على الأمة:

    أيها المؤمنون، وما دام القرآن باقياً، فعدد من أتباع هذا النبي المصطفى مستقيمون على تلكم النزاهةِ والنقاء والطهارةِ عن صغير الذنوب وكبيرها، 

  • بل وفيهم المتَنقّون عن الشبهات وعن المكروهات، 

  • بل فيهم المُتَنقّون عن خلاف الأولى، 

  • بل وفيهم المُطهّرون المُتَنقّون عن الالتفات إلى غير عالِم الظهور والبطون، مَن يعلم ما يخفون وما يعلنون؛ الله الحق ﷻ. 

     أيها المؤمنون بالله، وهذا الصنف مهما قلّوا واستتروا كان ذلك إيذاناً بظهور الشر والبلاء والفساد في الأمة وحصول النكبات عليهم، ومهما كثُروا وظهَروا كان ذلك مؤذناً بحُكم حِكمة الله وتقديره بارتفاع البلايا والرزايا، وكشف المضار والشدائد والعاهات في الظواهر والخفايا، 

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، 

﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾، 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

 

ما يورثه الانحراف في الأمة:

   وعلى الأمة أن تنظر إلى ما بأنفُسِها مما حل بها :

  • من التساهل في ارتكاب الذنوب والسيئات، 

  • بل ومن التجاهُرِ والتظاهر بها، جراءةً على الحي القيوم، 

  • بل ومن استحلالِها عند أعداد من جُهال الأمة الذين لم يجد الإيمان رسوخاً في قلوبهم ولا قوة في صدورهم، من المتأثرين بأطروحات الكفار الفجار المفسدين على ظهر الأرض. 

بل وربما بلَغوا إلى المناقشة في أنها حسنات وأنها حُرّيات وخيرات، انحرافاً في العقل والفكر، وانحرافاً في السير والسلوك: 

  • أورثهُ إياهم قلة وعْيهم وفهمِهم عن الله، 

  • وقلة إصغائهم لندائه تعالى في علاه، 

  • وقلة فقههم في دين الله، 

  • وضعف إيمانهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، 

ضعفُ الإيمان مع الجهل، أرداهم وأوقعهم في قبضة الأراذل من إبليس وجنده من شياطين الإنس والجن.

أسباب المصائب والبلايا في الأمة:

   وقد حلّت بالأمة مَثُلات وآفات كثيرات؛ لا سبب لها إلا هذا الذي بأنفسهم من هذه الذنوب والسيئات، وارتكابها وتعمُّدِها مع الإصرار عليها: 

  • والإصرار على الصغيرة كبيرة، 

  • الإصرار يحوِّل الصغائر كبائر، 

فكل ذنب من الصغائر أصرَّ عليه صاحبه فإصراره من الكبائر، من كبائر الذنوب التي نزّهَ الله عنها المؤمنين، قال -جل جلاله وتعالى في علاه-: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.

    أيها المؤمنون بالله ﷻ ، شأنٌ عظيم في واقع الأمة أفراداً وأُسراً وجماعات ودول، بل تَشارك بعض أُسر المسلمين مع بعض مجتمعاتهم، مع بعض دولهم، في الجراءَة على الله بالتعمُّد للصغائر والكبائر والتظاهر بها، وعدم الخجل منها وعدم الاستحياء وعدم الرجوع عنها. 

فتلكُم أسباب النوازل من البلايا والعاهات والشدائد بحكمة الله، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾. 

بل ربما شارك في سبب وقوع هذه المصائب والبلايا من لم يُقارف بنفسه هذه الذنوب والمعاصي، ولم يُجاهر بها، ولم يُصر على شيء منها، ولكنه:

  •  ساكتٌ عنها وعن فاعليها، 

  • غير متأثرٍ في باطنه 

  • وغير مؤدٍ للزجر والنصيحة التي يستطيعها،

 وهو مُصِرٌ على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان واحداً من الأسباب التي توقع بالأمة البلاء والخراب، وتتسبب في وقوع الشدائد والفساد والأتعاب، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.

عاقبة من رضوا بالكبائر:

ولقد جاء فيما رُوي أن الله أمر مَلَكاً أن ينزل عذاباً على قرية في بني إسرائيل من أهل الذنوب والمعاصي المتجاهرين بها، المُصرّين عليها، وقال المَلَك: يا ربِّ إن فيهم فلاناً لم يعصِك طرفة عين، قال الله: "به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط".

لم يغضب من أجلي ولم تتأثر مشاعره إذ رآني أُعصى فلم يبالي. 

غيرة المؤمن على دين الله:

    أيها المؤمنون، المؤمنُ غيورٌ على دين الله، غيورٌ على منهج الله، غيورٌ على شريعة الله، أعظم من غَيرته على نفسه وماله وما يتعلق به من الحقوق، على قدر إيمانه بالخلاّق. 

ولقد كان إمامنا وسيدنا وقدوتنا لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، ولكن إذا أُضيع حق الله لم يقم أحدٌ لغضبه حتى ينتصِر للحق صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ختام الخطبة الأولى :

   أيقَظَ الله قلوب هذه الأمة، وكشفَ عنهم الغمة، وهيأهم في الشهر المبارك -رجب- لحُسن التوبة والصدق في الأوبة، وارتقاء شريف الرتبة في التنزّه عن الذنوب والمعاصي؛ أسباب الخيبة في الدنيا ويوم الأخذ بالنواصي.

 اللهم انشر أنوار التوبة في القلوب، وتُب علينا لنتوب، وحقِّقنا بحقائقها يا ربنا يا مُطَّلعاً على ما في الضمائر والغيوب. 

والله يقول وقوله الحق المبين: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، 

وقال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾. 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، 

﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ثبَّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خِزْيه وعذابه الأليم. 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. 

 

 

الخطبة الثانية: 

     الحمد لله المُجازي كل نفس بما كسبت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المُحيط بالخلائق العليم بما أسرَّت وأعلنت، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، خير من بصَّر الأمة حتى تبصّرت. 

اللهم أدِم صلواتك على الجامع للكمالات الإنسانية الواسعة في المشاهد الروحانية، أطهر الخلائق قلبًا، وأنقاهُم جيبًا عن جميع المعائب والنقائص، وعلى آله وأصحابه وأهل حضرة اقترابه من أحبابه وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المبشِّرين به، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

ماذا فعل فيك رجب؟ :

أما بعد،، 

     عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾. 

   يا أيها المؤمن بالإله الحق والرجوع إليه، انظر ماذا فعل فيك رجب، وماذا فعلت فيه؟ وبأي حالٍ وشأنٍ وشعورٍ وذوقٍ ووجدانٍ تمرُّ عليك ليالي رجب وأيامه، ثم ينقضي وينفضّ عنك وتُجاوِزه، إن مُتِّعت إلى ما ورائه. 

   أيها المؤمن، له وظيفة - وهو الشهر الفرد من بين الأربعة الحرم - فيك أن تتحقق بحقائق التوبة إلى الله، بالندم على كل تقصيرٍ كان منك وتفريطٍ بقلبك أو عينك أو أذنك أو لسانك أو بطنك أو فرجك أو يدك أو رجلك، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) .

حال القلب والجوارح:

    وانظر نفسك في ذاتك وفي محيطك، من أُسرةٍ تعيش معها، أو جماعة من الناس أو أصدقاء وزُملاء تجالسهم في ليل أو نهار. 

ماذا فعلتم في رجب في شأن القلب وهذه الجوارح، فيما تعاملون به الإله الحق الرب جلَّ جلاله؟

أبعدوا من بينكم الكلام بما حرّم الرب، من الكذب والغيبة والنميمة والاستهزاء بعباد الله والسب واللعن والشتم، وما حرَّم الحق ﷻ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.

"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

أبعدوا من بينكم النظر إلى المناظر المحرمة النظر إليها، والصور القبيحة الممنوع شرعًا التفرُّج عليها، من كل ما يغرِس في القلب شهوات أو ظلمات أو آفات أو شكوك أو ظنونٍ أو بُعد أو طرد.

    أيها المؤمنون بالله، (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) .

خطاب مهم لأُسَر الأمة:

   يا أُسَرًا اشتغلت بالنومِ عن صلاة الفجر، وكثرة النظر في المنشورات من السيئات!

اتقوا الله في أنفسكم وفي هذه الأمة، إنكم سبب نزول الغمة، إنكم سبب البلايا والقتل في المسلمين والسفك لدمائهم بذنوبكم ومعاصيكم، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ). 

   يا أصدقاء تتأخرون عن الفرائض أو تتعاونون على تناول المخدرات والمسكرات، اتقوا الله في أنفسكم وفي الأمة، فإنكم سببٌ للعنة وسببٌ لنزولِ البلايا والشدائد بفعلكم القبيح هذا. 

    يا أيها المُعتادون للغيبة المُتَساهلون فيها، وربما ادعيتم أنكم عُبّاد أو طلبةُ علم أو دعاة إلى الله، اتقوا الله فيما يصدُر من ألسنتكم، وكُفّوها عن الغيبة للصغير والكبير، فإن حُرمة المؤمن عند الله عظيمة، (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ). 

   يا أيها المُتساهلون بفرائض الله، يا أيها المُرتكِبون لمحارم الله، كفاكم والعمر يُولّي، ومقابلة الحق عليكم تُقبل، ولا بد لكم من الوقوف بين يديه.

من قدوتك في الحياة؟ :

   صحِّحُوا إيمانكم، واصدُقوا مع عالم سركم وإعلانكم، واتَّبِعوا هاديكم والقائم لكم بالبيان عن إلهكم، مختاره الصفوة، الذي من اتبعه أحبه رب العرش، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.

    يا عقولًا لصغار وكبار في الأمة، وذكور وإناث، عشْعشَ فيها الاقتداء بسفهاء الناس وأراذل الناس وشر الناس، اتقوا الله ومكّنوا في عقولكم ومشاعركم أنّ القدوةَ محمد، وورثةَ محمد، وخلفاءَ محمد، (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، واتبعوا سبيل المنيبين، (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ). 

احذروا أن تمُرّ ليالي رجب وأيامه وأنتم على مثل حالكم، فربما أعرض عنكم الجبار، فلم يفِدْكم صغير ولا كبير في الدنيا ولا في يوم البعث والنشور.

الحث على الإنابة والإخلاص:

   أيها المؤمنون، حققوا الإيمان واعمَلوا الصالحات، وخذوا من رجب نصيبكم في الإنابة والإخبات. 

   يا أيها الطائعون، تأمّلوا الإخلاص لمن له تعبدون. 

   يا أيها العاملون بالخيرات، ازدادوا وارتقوا ولا تعجَبوا ولا تغترّوا، وازدادوا أدبًا مع الله وتقوى، يجعلكم سببًا لكشف الشدائد، وسببًا لنيل المحامد، وسببًا للفرج عن الأمة. 

ختام الخطبة الثانية:

أيقِظ اللهم قلوب الرجال والنساء والصغار والكبار فينا، في دولنا وشعوبنا ومختلف أقطار الأرض، ومن يعيش في بلد الكفار من المؤمنين.

 اللهم أيقِظ قلوب الجميع للتوبة إليك، والإنابة إليك، والعمل بما تُحِب، والانتظام في سلك حبيبك والاقتداء به، وخلِّصهم من كل ما يخالف ذلك، من موجبات المهالك، يا ملك الممالك.

ألا أكثروا الاستغفار، وواصلوا الصلاة على النبي المختار في الليل والنهار، والسر والإجهار، فإن من صلّى عليه واحدة صلّى عليه الإله الحق عشر صلوات، وهو القائل: "إنَّ أولى النَّاسِ بي يَومَ القيامةِ أَكْثرُهُم عليَّ صلاةً"، وهو المُنزَل عليه من قِبل الله، إذ يقول الحق مبتدئًا بنفسه ومثنيًا بالملائكة ومؤيهًا بالمؤمنين تعظيمًا لعبده المصطفى وتكريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. 

اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة سيدنا محمد،

 وعلى الخليفة من بعده المختار وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حاليي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق، 

وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، 

وعلى من استحيت منه ملائكة الرحمن، محيي الليالي بتلاوة القرآن، أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان، 

وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب،

 وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمهم الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا، وعلى أمهات المؤمنين وبنات سيد المرسلين ومريم وآسية،

 وعلى الحمزة والعباس وأهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وأهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان وسائر الصحب الأكرمين وتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

الدعاء:

   اللهم أعِز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذِل الشرك والمشركين، اللهم أعل كلمة المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم ألّف ذات بين المؤمنين، اللهم رُدّ كيد المعتدين الظالمين الغاصبين من اليهود ومن والاهم ومن شايعهم في نحورهم، واجعل الدائرة عليهم، ومزِّقهم كل مُمزق، وأنزل غضبك ومقتك بهم، وادفع عن المسلمين أذاياهم وبلاياهم ومكرهم ومكائدهم وشرهم واعتدائهم وطغيانهم يا أقدر القادرين، يا قوي يا متين.

 لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وتُب علينا وعلى المؤمنين توبة نصوحًا، ورد كيد أولئك المجرمين الظلمة الطغاة، وخالف بين وجوههم وكلماتهم وقلوبهم. 

اللهم يا مُنزل الكتاب، يا سريع الحساب، يا منشئ السحاب، يا هازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، ورُد شرهم في نحورهم يا قوي يا متين، يا حي يا قيوم. 

وحوّل أحوال المسلمين إلى خير حال، واجعل لنا في رجب هذا ارتقاء في مراتب التوبة والتّنزُه عن الذنوب والتّطهُر عن العيوب، وتب علينا لنتوب، وزدنا منك فضلًا يا من إليه نؤوب، برحمتك يا أرحم الراحمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

 نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

   عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

 فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

تاريخ النشر الهجري

12 رَجب 1446

تاريخ النشر الميلادي

10 يناير 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام