(536)
(208)
(568)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان، بحارة الإيمان، عيديد، مدينة تريم، 9 رمضان 1444هـ بعنوان:
التخلص والعتق من أسر النفوس والأهواء والشهوات وشرف العبودية لرب البريات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، الحمد لله مولانا العليم الحكيم، باسِط بُسطِ الفضل والتكريم لكلِّ ذي قلبٍ سليم، على منهج هُداه مستقيم، وأشهدُ أن لَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، خلق الخلقَ لحِكمة، وجعل مِن عظيمِ ما في ضِمنها.. اختبارَهم بالمنهج القويم؛ ليُعرف السالكُ عليه الماسكُ بزمامِ نفسِه والقائدُ لها إلى ما يوجب الزُّلفى لديه، ومؤثرُ الحياةِ الدنيا والراغبُ فيها المُعْرِضُ عن العُقبى والناس للوقوفِ بين يديه.
وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسوله، أعظمُ متحقِّقٍ بالعبودية للرحمن، وأجلُّ منْ قام في محرابِ الصدقِ مع الله تبارك وتعالى في السرِّ والإعلان، أشكَرُ الخلائق، وأحمدُهم للخالق، وأقومُهم في الطرائق.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المصطفى سيدِنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأهل وَلائه والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه مِن أنبيائك ورسلك، وآلِهم وصحبهم وتابعيهم في قَويم سُبُلِك، وعلى ملائكتِك المقرَّبين، وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد؛ عباد الله.. فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا اللهَ عبادَ الله، وأحسِنوا يرحمْكمُ الله، إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين.
ألا إنه لا يُخافُ شيءٌ في الحقيقةِ لدى كلِّ مؤمنٍ وواعٍ وعاقل إلا الله، ولا يُرجى شيءٌ لديه كذلك إلا الله، وإن مَرجُوّات الناس ومَخوفَاتهم مما سواه.. منسوجةٌ بنسجِ الخيال والضلال والوَهم المَحال، الذي لا حقيقة له، بل هو إلى الزوال والاضمحلال، ولا يبقى حقيقة ما يرجى مُدرَكٌ إلا من قِبل الذي خلق، وكوَّن، وأبدع، وفَطَر، وأَوْجد، وأنشأ جل جلاله وتعالى في علاه.
أيها المؤمنون بالله.. جميع ما يُخاف سواه.. في قبضتِه وتحت إرادته، وجميع ما يُرجى سِواه.. مصنوعُه ومخلوقه وناصيتُه بيدِه جل جلاله وتعالى في علاه، وفي نسيجِ الخيال والوهمِ والضلال.. تقوم حركاتُ الغافلين والفاسقين والكافرين على ظهر هذه الأرض لا يعلمون {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون} أي: عن حقيقة مستقبلِهم وما ينتظرهم وما يصيرون إليه.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله.. مدرسةُ رمضان تُقيم المؤمن في مَسلك الهدى، ومَسلك الصدق، ومسلك الإدراك للحقيقة وتُرسِّخ قدمَه في إيثار الحق، وإرادة وجهِ الحق والإخلاص لوجه الحق، والاستعداد للقاء الحق جل جلاله وتعالى في علاه.
إن الله سلّط الأهواء والشهوات على ابن آدم؛ لِيَختَبِره ولِيميز بين الفريقين، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَٰئِكَ هُمُ الخَاسِرُون} {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِين}.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله وتعالى في علاه.. ترجمَ عن الفريقين والمَسْلكين والطريقين خير ترجمة: الفريقُ الذي خرج في مثل هذه الأيام أو قريبًا منها في أوائل العشر الأواسط من رمضان، من المدينة المنورة بقيادةِ حبيبِ الرحمن خاتم رسلِه محمد، مِن الصَّحبِ الأكرمين إلى غزوةِ بدر، التي هيأها الله ولم تكن في حسبان أحدٍ من الفريقين، والفريق الثاني أهل الطريق الثاني مُتحركون، خرجوا من مكة المكرمة ليناوئوا وليقاتلوا وليؤذوا الرسالة ومَن جاء بها ومَن اتبعه، رسالة الله للبرية المُنقِذة لهم مِن الورطات والأوهام والخيالات إلى حقيقةِ التقوى التي بها نَيلُ الأمان والرَّجوى، في أول سنةِ فُرِض فيها الصيام في السنة الثانية من الهجرة، وخرج صائماً صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ثم كان الفطر لعُذر السفر والقضاء بعد ذلك.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله.. ترجم الفريقُ الأول فريق الهدى، فريق التقى، فريق النقاء، فريق الإدراك لم خُلِق.. ومَن الذي خلق.. ولأي شيء خُلِق.. وما استعدادُه للرجوع إلى خالقِه جل جلاله وتعالى في علاه، فقاوَموا النفوسَ وشهواتها، وهذَّبوها بآيات الله وبلاغِ رسوله صلى الله عليه وسلم، وطهَّروها عن أدناسها.. فما صارت لهم أيدي ولا أرجل ولا أعين ولا أسماع ولا ألسن ولا فروج ولا بطون إلا محكومة بحكم الله، مُسيَّرة فيما يرضي الله، وقلوبهم قد خضعت، وللمولى اتَّقت، وترجموا عن ذلك بالبذل والتضحية والجهاد والعطاء استعداداً للِّقاء، إنه المسلكُ المُنجي مِن كل مَهلك، الرافعُ لأصحابِه إلى الدرجاتِ العُلى، ومصيرُ الوصول إلى ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر.
وإنَّ الأهواءَ والشهوات لعبت بالفريقِ الثاني؛ الذي خرج رغبةً في الدنيا وطمعًا فيها، وإظهاراً للجبروت والكبرياء، ومحاربةً لمنهج الحق، وإيثاراً للأصنام وللشهوات وللمظاهر الزائفات، ساقَتهم تلك الإرادات وتلك الرغبات إلى مُقاتلةِ خيرِ البريات وما جاء به، وخرجوا كِبراً وغطرسةً واعتلاءً وتشدُّقًا بأنهم الذين يحبون أن يُسمَع بهم في مُختلف الجهات مِن القبائل أنهم أهل المَنَعة وأهل القوة وأهل الغلَبَة وما إلى ذلك من الشؤون، وهم في طريقهم كثيري الشرب للخمور وكثيري الفِسق والفجور والعياذ بالله تبارك وتعالى، والفريق الأول المبارك خرج خاشعاً خاضعا صائماً في أول الأمر في أيامه الأولى، تالياً للقرآن، مستعداً للقاء الرحمن جل جلاله وتعالى في علاه.
أيها المؤمنون.. ولم تزل هذه الترجمة الصحيحة قائمةً بين الخلائق لهذا الفريق، ولهذا الفريق في أنحاء مراداتهم وإراداتهم، وتعاملهم مع شهواتهم وتعاملهم مع رغبات الأنفس التي جَبَلها اللهُ تبارك وتعالى على الأمر بالسوء، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء} وجعل لها أهواءَ تُردي أصحابَها وتَهوي بهم، وفي هذه الحقيقة سُئِل خير الخليقة صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخلُ الناسَ النار، فقال: الأجوَفان -الفم والفرج- أكثر ما يُدخِل الناسَ النار شهواتُهم وأهواءُ تتعلقُ بالفمِ والفرج، يقعونَ في شبكاتها الكَيْديَّة الإبليسيَّة السّاقِطَة الخسيسة، فيَصِلون بها إلى نار موقَدَة تطَّلِعُ على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة في عمدٍ مُمَددة، أجارنا الله من ناره، ووقانا الله حَرَّ نار السعير وأعاذنا منها، وألحقَنا بمن سبقَت لهم منه الحسنى فهم عنها مبعَدون، لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسُهم خالدون.
أيها المؤمن.. أيها الصائم في رمضان.. مدرسة الصوم تُقيمك على مُشابهة ومتابعة ذلك الفريق الأول الذي وَعى الخطاب، وعظّم رب الأرباب واستعد للمرجع والمآب، وتنقّى عن شوائب الكِبر والرياء والعُجب والغرور، وسُلطة الشهوة والهوى التي يقع فيها دُوَل وشعوب وحركات كثيرة على ظهر الأرض، وقد حكم الجبار جل جلاله في هذه القضية حكماً بيناً واضحاً جليا فقال جل جلاله: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءَاثَرَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا فَإِنَّ ٱلۡجَحِیمَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ}
مرت بك أيام في رمضان.. في نهارها تمتنع عن الطعام والشراب والجِماع والاستمناء والاستقاءة.. من أجل مَن؟ ولماذا؟ إنها مدرسة التزكية، ومدرسة تعليم اتخاذ القرار في المشي والمَسار في هذه الحياة الدنيا، تنفضُ عنك غُبار الاستسلام للشهوات بأصنافها من شهوة الفم والفرج، ومن بقية الشهوات المُردية؛ لتنضبط بميزان الشرع والعقل، فلا تصرفها ولا تعملها إلا في الحلال، وما أباح خالقك وخالق الكائنات من حولك ذو الملك والجلال، جل جلاله وتعالى في علاه، مدرسة ((لعلكم تتقون)).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} يقوم هذا الميزان فيكم وهذه الدَّواعي وهذا الأساس لتقوى الله جل جلاله، مِن سِر: "يدعُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي" إنه إدراكٌ لعبودية أمام عظمة ربوبية، إنه إدراكٌ لمهمَّة الخلق، إنه إدراك لأن يكونَ الإنسانُ مستعمِلاً للعقل ومستعمِلاً لصفاء القلب أمام ما يُبسَط أمامَه مِن شؤون هذه الحياة، إنه إنسانٌ لا تحكمُه الشهوات ولا الأهواء.. ولكن آمنَ بالإله الذي خلقَ وصدَّق فبالخضوع لجلاله عَزّ وتحقَّق.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله.. المُستعبَدون للأهواء والشهوات على ظهر الأرض.. دُعاةُ الفِسقِ بأنواعِه، ودعاةُ الضلالِ بأنواعه، يَدْعونَ لانتهاكِ حُرُمات الله، يدْعونَ لإبطالِ شرعِ الله، يدْعونَ لأن تُعظَّمَ أنظمتُهم، ويُرفضَ نظامُ الحقِّ تعالى في علاه، كأنهم يريدون أن يكونوا آلهةً للناس! وما هم إلا عبيدٌ للواحد المجيد جل جلاله، مَرقوا عن عبوديتِهم وأدبِهم له، خرجوا وجحدوا واستكبروا، فلا والله ما هم بأهلٍ لأن يُتَّبعوا ولا أن يُقتدى بهم ولا أن يُعظموا! {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُون}.
أيها الصائم.. أبشر بصومِك مهما صَدقتَ مع الخلاقِ الذي خلقك، وصِرت مِن أجله تتركُ المُفطرات وتتباعدُ عن المحرمات مِن قولِ الزور والعملِ به، "فمَن لم يدَع -أي يترك- فمَن لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس للهِ حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه" أي: ليستِ المسألةُ صُوريَّةً، وليستِ المسألةُ ظاهريَّةً، وليستِ المسألةُ جوفاء، ولكنها حقائقُ من التُّقى وحقائق مِن النقا، وحقائق مِن معرفةِ مَن خلق جل وعلا، وقرار حازم في اتباعِ أوامرِ الله وامتثالِ ما جاء عنه.
تلكم مدرسةُ الصيام.. التي تُوقفكم على الأدبِ مع الإله ذي الجلال والإكرام، والتي بها يَحِقُّ لكم أن يقول الرحمن: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له يضاعف إلى عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدعُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه مِن أجلي".
اقبل صيامَنا يا رحمن، ووفِّر حظَّنا من رمضان، هبْ لنا النصيبَ الوافرَ مِن الرحمة ومن المغفرة ومِن العتق مِن النيران، ومِن العتق مِن الغضبِ والسخط، ومِن العتقِ من النفاقِ ومِن العتقِ مِن الذنوب والمعاصي، ومِن العتقِ مِن الغفلات والعيوب، يا حيُّ يا قيوم يا مقلِّب الأبصارِ والقلوب، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
والله يقول وقوله الحق المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتَنا على الصراط المستقيم، وأجارَنا مِن خزيِه وعذابِه الأليم، أقول قولي هذا.. وأستغفر اللهَ العظيم لي ولكم، ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله منه المُبتدأ وإليه المصير، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويميت وهو حيٌّ لا يموت، بيدِه الخير وهو على كلِّ شيء قدير, وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقرة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه البشير النذير والسراجُ المنير.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، وعلى آله وصحبِه ومَن سارَ في دربِه، وآبائه وإخوانه مِن أنبيائك ورسلِك وآلهم وصحبهم، وملائكتِك المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله.. فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوا اللهَ واتَّصِلوا بحقيقةِ رمضان، إنه صدقٌ مع الرحمن، إنه مراقبةٌ لعالِمِ السرِّ والإعلان، إنه تدريبٌ وتمرينٌ على اتخاذِ القرارِ فيما يَعرضُ للإنسان في حياتِه؛ حتى لا يكونَ إمَّعةً ولا تابعاً لهوى ولا لنفس، ولا تابعاً لمن يَضلُّ عن سبيل الله مِن عربي أو عجمي صغير أو كبير.
إنَّ مدرسةَ رمضانَ تُنزِّهُ القلوب، فتتنزَّه البيوتُ وتتنزَّه المجتمعات عن التبعيَّة للساقطين والمفسدين على ظهرِ الأرض، الذين قال عنهم ربكم: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون}.
وأقوى علاماتِهم أنهم عصاةُ الذي خَلق بالأفواه وبالفروج، وهي عندهم المُقدَّمة ولها يُقنِّنون، وعلى سيِّئِها وقبيحِها يجتَرئون، وينشرون الفساد مِن تَبرُّجٍ واختلاطِ نساءٍ برجال، ونشرِ صورٍ قبيحةٍ تصلُ إلى جيبِ الإنسانِ وإلى يدِه وإلى سيارتِه وإلى غرفتِه وإلى عائلتِه صغاراً وكبارا! إن لم يتخرَّجوا مِن مدرسةِ تقوى مِن صيام وصلاةٍ وإيمانٍ بالذي خلق.. وقعوا في ورطاتِ التبعيَّة لمَن تزندَق، ولمَن فسق ولمَن جحدَ مَن خَلق، والعياذ بالله تبارك وتعالى، وفسدَ الشبابُ بذلك وفسدتِ الأسر.. ففسدتِ المجتمعات، وراحت وراء الغيِّ والتُّرَّهات، وكانوا بعدَ الأنبياء كما وصفَ الربُّ في القرآن: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}.
أيها المؤمن بالله.. تنختمُ عليك العشر الأُول من رمضان.. هل أحسستَ بزيادةِ الإيمان؟ هل تطهَّر منك الباطنُ والجَنان؟ هل بدأتَ تحرصُ أكثر على القيامِ وإقامِ الصلاة؟ هل علمتَ شرفَ التحكُّم على النفسِ ومخالفةِ الهوى، وعلمتَ أنك لو اتبعتَ نفسَك وهواها.. هوتْ بك إلى سخطِ الجبار، وخسرتَ الدنيا والآخرة.. ذلك هو الخسرانُ المبين.
أيها المؤمن بالله.. كيف تستقبل العشرَ الأواسط؟ أحسِن حالَك مع الله؛ فإنَّ بعضَ المسلمين يُقبِلُ أوَّلَ الشهر.. ثم يبدأ في التراجع والإدبارِ والتراخي والكسل! فتضعفُ همَّتُه في الصلاة وفي قراءة القرآن وفي حضورِ مجامعِ الذكر والغيب، وربما فتحت نفسه على شيء مِن برامجِ الفُساق أو الفجار لتفسد عليه سرَّ الصيام وسرَّ مدرسة الصيام وسرَّ القيام وبركة القيام، أنت مُشرَّف بالعبودية لربِّ السماوات والأرض.. فلا يستعبدْكَ هؤلاءِ الفُسَّاق، ولا تستعبدْكَ النفسُ الأمَّارة، خذِ الشرفَ بالعبودية لله الذي خلق، وابعد عن ذُلِّ الاستعبادِ لشيءٍ مِن هذه الكائنات، وأفكارِ هؤلاء وبرامج هؤلاء ودعوات هؤلاء الفاسقين والمجرمين على ظهرِ الأرض {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء}.
أيها المؤمن بالله.. تحقَّق بمدرسةِ الصوم، واستقبل العشرَ الأواسط متذكِّراً أنَّ نبيَّك كان فيها خارجَ بيتِه وخارجَ مجتمعِه وخارج بلدِه لماذا؟ ليهديك، ليدلَّك، ليؤدِّيَ الأمانة، لينقذَ الأمة، ليُعلي لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله. ومعه الصحبُ الكرام، قالوا في ترجمةِ مدرسةِ التقوى والتحقُّق بحقائقِ الإيمانِ بعالمِ السرِّ والنجوى.. قالوا لنبيِّك محمد: يا رسولَ الله.. آمنَّا بك وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحق، فكيف صار حالُهم؟ خرجوا مِن الاستعبادِ لجميعِ مَن على ظهرِ الأرض وللأعرافِ وللقبائل ولدولةِ فارس ولدولةِ الرومِ وللقبائل ولكلِّ ما على ظهرِ الأرض، وصاروا عِباداً خُلَّصًا لله، قالوا لإمامِهم وقائدهم: واصِل حِبال مَن شِئت.. واقطعَ حبالَ مِن شئت.. وإنما أمْرُنا تبعٌ لأمرك، حاربِ مَن شئت.. وسالِم مَن شئت.. ونحن حربٌ لمَن حاربت، وسِلمٌ لمن سالَمت.
وقالوا في ترجمةِ الإيمان وحقيقته: لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخُضتَه.. لخُضناه معك، ما تَخلَّف منا رجلٌ واحد، ولو سِرتَ بنا حتى تبلغَ بركَ الغماد مِن الحبشة.. لسِرنا معك، ما تخلَّف منا رجلٌ واحد، ولقد تخلّف عنك أقوامٌ ما نحن بأشدَّ حباً لك منهم، ولو علموا أنكَ تلقَى حرباً.. ما تخلَّفوا عنك، فامضِ لما أمركَ الله، إنا لا نكرَه أن تلقَى بنا عدوَّنا غدًا، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعلَّ اللهَ يُريك مِنا ما تقرُّ به عينُك يا رسولَ الله، فسُرَّ واستنارَ وجهُه كأنه قِطعةُ قَمر، وقال: سِيروا وأبشِروا ما يسُرُّكم؛ فإنَّ اللهَ وعدني إحدى الطائفتين: إما العِير وإما النفير، والله لكأنِّي أنظرُ إلى مصارعِ القوم.
أيها المؤمنون بالله.. هذا المسلكُ وهذا الإدراكُ لحقائق الإيمان.. تدعوكم إليه مدرسةُ رمضان، تدعوكم إليه مدرسةُ الصيام؛ لتقومَ في بيوتِكم وليقومَ في عاداتكم، فارعَوْا حقَّ الليالي المباركة والأيام المعظمة، واجعلوا اجتهادَكم آخرَ الشهرِ أعظمَ مِن اجتهادِكم أوَّله؛ اقتداءاً بإمامكم وهاديكم ومعلمكم رسول الله، كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، ويجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها من رمضان.
اللهم بلغتَّنا أوَّلَه.. فبَلِّغنا أوسطَه وآخرَه وخاتمتَه، واجعلنا مِن الرابحين فيه والفائزين فيه، والصادقين في الإقبالِ عليك وإيثارِك يا ربِّ على كلِّ ما سواك، وتهذيبِ نفوسِنا وتهذيب غضبنا وشهواتنا.. لتكونَ مُنقادةً لأمرِك مُتبعةً لنبيك، نَسعد بذلك في الدنيا والآخرة يا ربَّ الدنيا والآخرة.
وأكثِروا الصلاةَ والسلام على خير الأنام، إن أولاكم به في القيام: أكثركم عليه صلاةً وسلام، وهو القائل: "من صلى عليّ واحدةً صلى الله عليه بها عشرا" ولقد قال الله في حقه مبتدئًا بنفسه ومُثنيا بملائكته ومؤيهًا بالمؤمنين تعظيما وتكريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المختار سيدنا محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعده وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مؤازِره في حاليِ السَّعةِ والضيق، خليفة رسولِ الله سيدنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطقِ بالصواب، ناشر العدل حليف المحراب، المنيب الأواب أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى مَن استحيت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيي الليالي بتلاوةِ القرآن، أميرِ المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهل المشارقِ والمغارب، أمير المومن سيدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين، سيدَي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمِّهما الحوراء، فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضا، وجميعِ أمهاتِ المؤمنين، وعلى أهل بيعةِ العقبة، وأهلِ بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائرِ أصحابِ نبيِّك الكريم, وأهلِ بيتِه الطاهرين, وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين, اللهم أذلَّ الشركَ والمشركين, اللهم لا تجعل في جُمعتِنا ولا في بيوتِنا إلا قلوباً مستجيبةً مُلبِّيةً لنداك، مُهتديةً بهُداك، مُتبعةً لنبيِّك ومصطفاك، حَرِّرنا مِن رِقّ العبودية للذنوب، حَرِّرنا من رِقّ العبوديةِ للشهوات والأهواء ولِمَن سواكَ يا حي يا قيوم, واجعل هوانا تبعًا لما جاء به نبيُّك المعصوم، وبلِّغنا بذلك ما نروم وفوقَ ما نروم.
أصلِح اللهمَّ أحوالَنا وأهلينا وأبناءَنا وبناتِنا، واجعل اللهم قيادتَهم لخيرِ خلقِك الهادي إليك والدالِّ عليك، وخلِّصهم مِن أن يُستَتبَعوا لمبغوضِيك، ولمَن سقطوا مِن نظرِك ولمَن غضبتَ عليهم.
اللهم اهدِنا الصراطَ المستقيم، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، اجعلنا هادِين مهتدِين غير ضالِّين ولا مضلِّين، حربًا لأعدائك وسلمًا لأوليائك، نحبُّ بحبِّك الناس، ونعادي بعداوتِك مَن خالفَك مِن خلقِك.
اللهم اجمع قلوبَنا عليك، واقبَل صيامَنا.. واقبَل قيامَنا.. واقبل قراءتَنا للقرآنِ في الشهرِ الكريم، واقبل صدقاتِنا وصِلاتِنا لأرحامِنا وإحسانِنا لجيرانِنا وبرَّنا بآبائنا وأمهاتِنا وجميعَ ما وفقتَنا له مِن الخير.. اقبله يا ربَّ العالمين، وضاعِف لنا ثوابَه إلى ما لا نهاية.
اللهم واغفر جميعَ ذنوبِنا، صغيرِها وكبيرِها أوَّلِها وأخيرِها ظاهرِها وباطنِها سرِّها وعلانيَّتِها خطأها وعمدِها.. يا غافرَ الذنوب والسيئات، اجعلنا ممَّن يصومُ رمضان إيمانا واحتسابا، ويقومُه إيمانا واحتسابا، فيخرج مِن ذنوبِه كيومَ ولدته أمُّه، اللهم ضاعِف لنا خيراتِك، وأجزِل لنا هباتِك، وتولَّنا بعينِ عناياتك، ولاحِظنا في حركاتِنا وسكناتِنا ملاحظتَك على أهل مودَّاتِك.
اللهم بارك لنا فيما بقي مِن الشهرِ الكريم، وثبِّتنا على الصراطِ المستقيم، واجعلنا ممَّن ضبطَ الفمَ والفرجَ وبقيَّة الأعضاء بضابطِ منهاجِك وشريعتِك وما جاء به حبيبُك، واملأ قلوبَنا بأنوارِ تقواك، وارزقنا رضوانَك الأكبر ومنّك الأوفر، وعطاءَك الأغمَر وجودَك الأتمِّ الأدومِ الأبهَر، يا حيُّ يا قيومُ يا كريم يا بَر، يا أرحمَ الراحمين، اغفر لنا وآبائنا وأمهاتِنا وذي الحقوق علينا، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظُكم لعلكم تذّكَّرون.
فاذكروا اللهَ العظيم يذكُركم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذكرُ الله أكبر.
11 رَمضان 1444