(228)
(536)
(574)
(311)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإحسان، في حارة حصن عوض، بمدينة تريم، تاريخ 7 ربيع الثاني 1440هـ، بعنوان: ميزان التعامل بالأموال وعظيم أثره في الحياة والمآل.
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله ربِّ العالمين، الحَكَمِ العَدلِ القويِّ المتين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، جامعُ الخلائقِ ليومِ الدين، فالحاكمُ بينهم ولا مُعَقِّبَ لحُكمِه وهو أحكمُ الحاكمين. وأشهد أن سيدَِّنا ونبيَّنا وقرة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبُه الصادقُ الأمين.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك سيدِنا محمدٍ المثلِ الأعلى في الاستقامة، الممنوحِ منك بأعلى المزايا والكرامة، وعلى آلِه الأطهار وأصحابِه الأخيار، ومَن سار على دربِهم على ممَرِّ الأعصار، وعلى آبائه وإخوانِه من الأنبياءِ والمرسلين معادنِ الصدقِ والهدى والأسرارِ والأنوار، وعلى آلهم وصحبِهم والملائكةِ المقرَّبين وجميعِ عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عبادَ الله، فإني أوصيكم وإيَّاي بتقوى الله، فاتَّقُوا اللهَ عبادَ الله، وأحسنُوا يرحمْكُم الله { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }الأعراف56.
أيها المؤمنون بالله: مِن أعظم مجالي تقوى الربِّ سبحانه وتعالى إقامةُ الميزان والعدلِ والاستقامةِ في التعاملِ بالأموال، والتعاملُ بالأموالِ وما اتصل بذلك شأنٌ يُخاطَبُ عليه المؤمن، ويُسألُ ويُحاسَب عنه، بل لا يدخلُ إلى يدِ وُملكِ أحدٍ مِن المكلفين مِن قليلٍ ولا كثيرٍ إلا وكانَ له أمامَ ما يمتلكُه مِن أنواعِ الأموالِ سؤالان يُسأل عنهما يوم القيامة، يسأل بهما قبل أن يَمُرَّ على الصراط: مِن أين اكتسبه، وفِيمَ أنفقَه.
فالمؤمنون يعيشون على ظهر الأرض ومعهم مِن أجهزةِ المراقبةِ والانتباهِ مِن بواطنِهم وقلوبِهم ما يُغنِيهم عن محاسبةِ المحاسبين أو متابعةِ المتابعين ومُراقبةِ المراقبين، مِن أهلِ الوظائفِ أو أهلِ الحكوماتِ أو الجهات المختلفة، يعيش المؤمنُ وفي قلبِه مِن مراقبةِ الجبارِ الأعلى ما يكفيهِ عن أن يلاحظَ عينَ أحدٍ، أو محاسبةَ أحد، أو متابعةَ أحدٍ مِن الخلقِ أجمعين، فلا يحصلُ الزيغُ في أخذِ المال ولا في إنفاقِه إلا لخللٍ في قلب هذا المؤمن وإيمانه، إلا لضعفٍ في يقينِه، إلا لانقطاعٍ بينه وبين حقيقةِ عبوديَّتِه لله، وإيمانِه بألوهيَّةِ المولى وربوبيَّته.
((مِن أين اكتسبَه وفيمَ أنفقه))، سؤالٌ ليس من قِبَل استخباراتٍ على ظهر الأرض، ولكن مِن قِبَلِ خبيرٍ أحاط بكلِّ شيءٍ علماً، وأحصى كلَّ شيء عدداً، وقال جل جلاله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} الأعراف 6-7يقول ربك، أنا معكم، مع الرسل وما بلغوا، وما المُرسَل إليهم مِن الأمم وما سمعُوا وما وصل إليهم، أنا كنت حاضراً وشهيداً عليهم {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }الزخرف80، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }الأنبياء47
((مِن أين اكتسبَه، وفيم أنفقه))، ولو فِلْس، ولو درهم، ولو ريال، ولو قلم، ولو مِبْراة، ولو نظَّارة، ولو ثوب، ((مِن أين اكتسبه، وفِيمَ أنفقه))، هذا أحدُ الأسئلةِ قبلَ المرور على الصراط، فلا يَمُرُّ على الصراطِ أحدٌ من المكلَّفين حتى يُسألَ عن هذه الأربع، كما صحَّ في حديث نبيِّنا المشفَّع: ((لا تزولُ قدَما عبدٍ على الصراطِ يومَ القيامة))؛ يعني ما تنتقل من محلِّها، ولا تَمر على الصراط أو تسقط في النار إلا بعد هذه الأسئلة، ((لا تزول قدما عبدٍ على الصراط يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربع: عن عمرِه فيما أفناه، وعن شبابِه فيما أبلاه، وعن علمِه ماذا عملَ فيه، وعن مالِه مِن أين اكتسبَه وفيمَ أنفقه)).
ألا إنَّ شرائعَ الرحمنِ مِن عهد آدمَ حتى اكتملت شريعةُ الربِّ على ظهر الأرض ببعثةِ حبيبِ الربِّ خاتمِ النبيين محمد، إنَّ هذه الشريعةَ الإلهيةَ في أبوابها: باب البيع والشراء.. باب الوكالة.. باب القَرض.. باب القِراض.. باب المساقاة.. باب المزارعة.. والمخابرة، باب الرباء وأنواعه، إلى غير ذلك من جميع أبواب نظامِ الحقِّ في المعاملة بالأموال، ليست عبثاً ولا هُزواً، وليس للخلقِ في صلاحِ معاشِهم ثم مَعادِهم إلا نظام هذا الإله، الذي خلقَهم وهو أعلمُ بهم وبمصالحِهم.
إنَّ ما أصاب الأمةَ مِن أنواع البلايا والشدائد، حتى عانَى الكثيرُ منهم فقراً، وعانَى الكثيرُ منهم تعباً في كسبِ القُوتِ الضروري، أو في المفاخرةِ على الكمالياتِ والزائدات، كلُّ ذلك مُتسبَّبٌ عن سببِ أنهم عظَّمُوا أنظمةَ أهلِ شرقٍ وغربٍ دونَ نظامِ ربِّ المشارق والمغارب، فلما عملُوا بها وعظَّموها كان نتيجتُهم ذلك، فلم يظفر بالهناءِ بهذا المال في الدنيا لا أغنياؤهم ولا فقراؤهم، وتعبَ مَن تعب مِن أهل الفقر، وعزَّةِ ربي تَعَبُ الأغنياء أشدُّ فيما ينازلُ قلوبَهم من أكدار ومِن تعبٍ باطنيٍّ ونفسي، ومِن صرفيَّات في غيرِ اللائق، وفي المحرَّمات، وفيما يُختطَفُ عليهم مِن أيادي أرباب الضرائب، وأربابِ الجمارك، وأربابِ السَّطوِ، مِن غيرِ حقٍّ في الداخل وفي الخارج، عاشوا تحت هذه الوطئات وهي عيشةٌ ضروريةٌ لهم لأنهم رفضُوا نظامَ ربِّ الأرض والسموات وخالفُوه وخرجُوا عنه، وأقربُهم إلى استقرارِ نفسِه، أو نزول سكينة من فقرائهم وأغينائهم.. أحسنُهم أدباً مع وحيِ الله وشريعةِ الله، وأحسنُهم عملاً ببلاغِ محمدِ بن عبدالله، هم أقلُّ مَن يعيش على ظهر الأرض كدَراً أو تعَباً، وهم أقربُ إلى السكينة و الطمأنينة.
قال جل جلاله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }طه123، وقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ..}الأعراف96، وقال: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}الطلاق2-3، أتظنُّ كلمةً مِن هذه الكلمات عبثاً؟!، أتظن كلمة من هذه الكلمات مجرَّدَ قولٍ؟!، إنها قولُ أصدقِ القائلين، إنها كلامُ ربِّ العالمين، لن يكونَ بين الخلق إلا حقيقتها، وإلا مُقتضاها، بقدرتِه جل جلاله.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }طه124، ومن المعاني عند المفسِّرين في المعيشةِ الضَّنك: توسعةُ رزقٍ من حرامٍ يُسلَّطُ عليه فيُصرَفُ في غير محلَّه، فيشتد له الكدورةُ في الدنيا والعقوبةُ في الآخرة!، هذا مِن مظاهر المعيشةِ الضَّنك، أموال ولكن وراءها أهوال، أموال ولكن خيبةٌ عند السؤال، أموال ولكن شقاء هنا وفي المآل، فما أغنت أصحابَها شيئاً {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}سبأ37، فهو الذي بمالِه يتقرَّبُ إلى الله، وبأولادِه يتقرَّب إلى الله، ولا يصيرُ أولادُه سبباً لعذابِه ولا لدخولِه النار، ولا تصيرُ أمواله سبباً لعذابِه ولا لدخولِه النار، بل ربما اكتسبَ بها الدرجاتِ العُلى، وظَفِرَ بها بمرافقةِ الأصفياء، بحُسْنِ ورَعِه في أخذِه، وحُسنِ نفقتِه في عطائه.
أيها المؤمنون بالله: وحينئذ يأتي بعد الانتباه مِن أداء الزكوات؛ سواءً ما سُمِّيَ في فقه الشريعة بـ(زكاة الأموال) للتجارة والمُعَشَّرَات من الحبوب والثمار والنقدين، والرِّكاز والمعادن، أو زكاة الفِطرة التي تسمى (زكاة البدن)، التي تُفرضُ عند خروجِ رمضانَ ودخولِ أولِ ليلةٍ مِن شوال، بعد أداء هذه الزكاة يبقى الحقُّ في كيفيةِ الصَّرفِ مِن صلةِ رحم، أو إقراءِ ضيفٍ، أو تسويةٍ في العطيَّة بين الأولاد، ولقد أبَى رسولُ الله أن يشهد على عطية أبٍ لابنه هو الصحابي بشير والد سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وجاء في صحيحي البخاري ومسلم وفي غيرهما من كتب السنة:
أنه طلَبَت أمُّ النعمان مِن أبيه بشير أن يعطيَه عطيةً خاصَّة مِن مالِه دونَ بقيةِ أولاده، فلم تزَل به سنةً حتى رضيَ بذلك، فعَيَّنَ له مالاً مِن مالِه وهبَه لهذا الولد، فقالت: وإني لا أرضى حتى تُشهِد على هذا رسولَ الله، قال: فأخذ بيدِي وأنا يومئذٍ غلام، وذهب بي إلى عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: فجاء إلى النبي وقال: إن أمَّ هذا طلبَت أن أعطيَ الولدَ مالاً وقد أعطيتُه هذا المال، وذكرَه له، يا رسول الله وإنها أبَتْ إلا أن تَشهَد عليه أنت فجئتُ إليك لتشهدَ عليه، فقال له رسول الله: ((يا بشير ألكَ ولدٌ غيره؟))، قال: نعم، عندي أولاد، قال: ((أكلَّهم نحَلْتَهم مثل هذا؟))، كلهم أعطيتهم مثل عطيته؟، قال: لا، قال: ((يا بشير اتَّقُوا اللهَ وأعدلُوا بين أولادكم، أشهِد على هذا غيري))، جاء في رواية: ((إن هذا جور وأنا لا أشهد على جَور))، ((ألا تحب أن يعدلُوا بينك في البِر والعَف؟))، قال: بلى يا رسول الله، قال: ((فاعدِل بينهم في العطيَّة))، ألا تحبُّ أن يبرُّوك كلهم؟.
فكان هذا إرشاد المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبِه وسلم في إعطاءِ العطيةِ بين الأولاد، وذلك غير الإرث الذي شرعه الله بعد موتِ الإنسان، حتى قال أهلُ العلم إنَّ العطيةَ في الحياة يُسَوَّى فيها بين الذَّكرِ والأنثى، إنما الميراثُ بعد الوفاةِ هو الذي في بعضِ صورِ الإرث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}، إن كانوا إخواناً أبناء معاً، أو إخواناً معاً ذكوراً وإناثاً، وما سِوى ذلك ففي الشريعة نظامٌ عظيمٌ في هذا الإرث، كثيرٌ ما تأخذُ الأنثى فيه أضعافَ ما يأخذُه بعضُ الذكورِ مِن العَصَبة وغيرهم؛ إذ كانت ذات فرضٍ، إما ربُعاً أو ثُمُناً مِن زوجة، أو نصفاً أو ثُلثَين من بناتٍ أو أخوات، إلى غير ذلك في شريعةِ الله العظمى.
أما العطيَّة في الحياة فيُسوَّى فيها بين الابنِ والبنت، بل قال صلى الله عليه وسلم: ((ولو كنتُ مفضِّلاً أحداً)) يعني في العطية في الحياة ((لفضَّلتُ الأنثى))؛ لأنه ربما احتاجت ولم تستطِع الكسبَ كما يستطيعُه الابن، فبِهذا الإرشادِ النبويِّ يعلمُ المؤمنُ كيف يَتصرَّفُ في مالِه، وكيف يُقِيم العدلَ بين أولادِه في نِحَلِهم وعطاياهم، ويوقِنُ أنَّ خيرَ ما يَنحلُهم ويُعطيهم: تقوى ودين، وخُلقٌ صالح، فهو خيرُ ما ينحَل أولادَه، فلا يذهب بك عقلُك إلى اختلالٍ في الموازين، وتظنُّ أنَّ المحبةَ بشراءِ الجوالات وإعطائها الأولاد، فيتعرَّضون لفسادِ أخلاقِهم وعقولهم وأفكارِهم ومعاملاتِهم!، ولا بكثرةِ المال الذي تُغْدِقُه عليهم، لكن بتربيتِهم، لكن بتعليمِهم، لكن بتأديبِهم تكون حقيقةُ المحبة، رزقنا اللهُ الاستقامةَ على منهج الهدى في اتباعِ حبيبِه سيِّدِ الأحبة، فيما جاء به عن الله، وبلَّغَه وبَيَّنه لنا، وفصَّله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهدانا بهداه، ورزقَنا متابَعتَه واقتِفاه، إنه أكرمُ الأكرمين.
والله يقول وقوله الحق المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }آل عمران83،
{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}الأنعام153
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }الأحزاب36
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }التغابن15
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }التحريم6.
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خزيِه وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفرُوه إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، حمداً تتنوَّرُ به القلوب، فتُقْبِلَ بالصدقِ على علَّامِ الغيوب، مُتَنَزِّهةً عن العُيوب، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، يُقَلِّب القلوب، ويتوبُ على مَن إليه يتوب. وأشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرَّةَ أعيننا ونورَ قلوبَنا محمداً عبدُه ورسوله، وصفيُّه وحبيبه المحبوب، اللهم أدِمِ الصلواتِ على خيرِ البريات عبدِك المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن على منهاجِهم سار، وعلى آبائه وإخوانِه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار، وآلهم وصحبهم, والملائكةِ المقرَّبين، وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبادَ الله: فَقِهَ من فَقِه حقائقَ المحبةِ للأهلِ وللولد، فعلمَ أنَّ التَّسويةَ بينهم سواءً في العطيَّة، أو في الأخذِ بالخاطِر، أو في بشاشةِ الوجه، حقيقةُ محبةٍ لنفسِه ولهم تنفعُه وتنفعهُم في الدنيا وفي الآخرة، وأنَّ الانحرافَ إلى تفضِيل بعضِهم على بعض، وتقديمِ بعضِهم على بعضٍ بلا مُوجِب سببٌ للشِّقاقِ والنِّزاع والقطيعةِ والعقوقِ في حياتِه وبعد مماتِه.
فيا أيها المؤمنون: اعلموا الحقائق، واتَّقوا الخالق، وكونُوا مع الصادقين كما أمرَكم جل جلاله في كتابِه بصريح خطابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}التوبة119.
ومَن كان ذا مَزِيَّةٍ أو خصوصيةٍ يُكافَئُ عليها في الحال؛ بحيث يعلمُ الكلُّ سواءً شارَكوه في وظيفةٍ في مكانٍ معيَّن، أو كانوا إخواناً وأبناء ولدٍ، أو قرابةً لأحد، فأُعْطِيَ الذي بذل جُهداً أو امتازَ بخصلةٍ وقتَ الامتيازِ ما يستحقُّه، فذلك مِن التشجيعِ على الخير الذي يَبْعُد فيه إثارةُ النفوس إلا أن يُتجاوَز فيه الحد، وبعد ذلك فإنَّ التعاملَ مع الأموالِ شأنُ الذي يفقهُ عن اللهِ خطابَه العظيم، وشأن المآلِ إليه والوقوفِ بين يديهِ جل جلاله؛ فإنه يُسألُ: مِن أين اكتسبَه، وفيما أنفقه؟
وإنَّ مِن حقيقةِ ما يحوزُ به الإنسانُ السعادةَ له ولأهلِه أن يُحسِنَ التفقُّدَ لذي الرَّحِمِ ولذي الحاجة، ويعطيهم مِن مالِه فيعودُ ذلك بالعائدةِ عليه وعلى أولادِه من بعده، وقد جاءنا في الحديث عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، يحكي لنا ما وقع لاثنينِ مِن بني إسرائيلَ قبلَنا، لنَتَبَيَّن المعاملة، فقال: ((أنعمَ الله على اثنين بمالٍ كثيرٍ لكلٍّ منهما، فمات الأول، فوقفَ بين يدي الله، فسأله: ماذا عملتَ في مالِك الذي ملَّكتُك في الدنيا؟ قال: يا ربِّ أنفقتُه فيما تحبُّ في سبيلِك، قال: وما تركتَ لأهلِك وولدك، قال: وثقتُ بطَوْلِك وجُودِك لأهلي وولدي، قال: إنَّ ما كنت ترجُوه لولدِك وأهلِك مِن الغِنى قد أنزلتُه بهم، فأحياهم اللهُ أغنياءَ مِن أغنى الناس حتى توفيَ كل منهم))، قال: ((وقال للآخر: ما عملتَ فيما آتيتك؟، قال: يا رب خفتُ على أولادي وأهلي الضَّيْعَة والعَيْلَة)) يعني الفقر ((مِن بعدِي)) ولم يُنفق في سبيلِ ربِّه، قال: ((فقال الله له: ألا ما كنتَ تخشاه لأهلِك وولدِك قد أنزلتُه بهم، فعاشُوا مِن أفقرِ الناسِ وأتعبِهم في الحياةِ حتى ماتُوا))، وهكذا معاملةُ الله جل جلاله وتعالى في علاه.
ولقد مرضَ بعضُ كبار السِّنِّ فكان يُنَقِّله أولادُه مِن بيتِ أحدِهم إلى بيتِ الآخر، فقال أصغرُهم وكان أنْوَرَهم: لا تُتعِبوا الوالدَ بنَقلِه مِن بيتٍ إلى بيت، ودعُوه لي، فتكلَّم أولئكَ بالطبيعةِ التي لم يتهذبْ أصحابُها، ولم يتزكَّوا بزكاةِ الدِّينِ والإيمان، وقالوا: أتريدُ أن يكونَ عندَك لِتَستَحوِذَ على مالِه مِن بعد، وتأخذَ الأرضَ التي يملكُها؟! قال: لا واللهِ ما قصدَي مالٌ ولا أرضٌ، ومع ذلك إن شئتُم فدعُوه عندِي وأتنازلُ لكم عن نصيبِي مِن أرضِ أبي لكم، فقالوا: إن كان تفعل هكذا فخُذه، فبَقِي يَبِرُّ أباه وينفقُ عليه، وتوفي والده بعد مُدة، وتقاسمَ إخوانُه أرضَ والدِه ولم يُبقُوا له شِبراً منها! ومرَّت سنةٌ واحدةٌ، ونازلَتهم ظروف؛ وهذا باع.. وهذا باع، وافتقرُوا، وأغنى اللهُ ذلك الولد، فصارت نفقتُهم كلُّهم لمدةِ سنين عليه، وعلى يدِه ينفق على إخوانه، جزاءً له من الله إذ بَرَّ أباه، وأحسنَ التعاملَ مع هذا المالِ لوجهِ الله، وكم حصل أمثالُ هذا في الحياة، لكن النفوس تلعبُ بالعبادِ وتلوِي على محبةِ الجمعِ والمنعِ {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً }المعارج19-20، إلا مَن تَهَذَّب: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ}المعارج22-23، إلى آخر ما ذكر الرحمن.
ولقد كان سيدُنا علي بن أبي طالب إذا فَضِيَ محلُّ بيت المال الذي يجمعُ فيه مالَ المسلمين، يأمر بِرَشِّه فيدخل ويصلي فيه ركعتين ويخرج، يقولون له: مالك؟!، قال: كما شَهِد بجَمع المالِ عليَّ يشهد بالصلاةِ، خَلُّه يشهد لي بالصلاة عند الله يوم القيامة؛ فقد كانت لهم نظرات إلى التعامل مع الرحمن جل جلاله في شئونِ الأموال وما إليها، وهكذا هكذا كان البِرُّ لأهل البِر.
ألا أيها المؤمنون: اتَّقوا اللهَ، وأحسِنوا التربيةَ لأولادِكم، وأحسنُوا التعاملَ في النَّفقةِ على أنفسِكم وعلى أهليكِم وأولادِكم بالمعروفِ والإحسان، تحت تعليماتٍ ربانية: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }الفرقان67، {..وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}الإسراء26-27، ولا تبخلِ البخلَ الذي كرِهَهُ الله وحذَّرَ منه في كتابِه، ولا تُسرف ذلك الإسراف {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }الأنعام141، وأقِمِ الأشياءَ على اعتدالٍ وميزانٍ، واقتدِ بمحمدٍ تُفلِح وتَنْجَح وتَسْعَد.
ألا أكثرُوا الصلاةَ والسلامَ على الهادي الدَّال، جامع خِصالِ الكمال، أعظمِ الخلقِ ذِلَّةً لذِي الجلال، ومنزلةً لديهِ في المقامِ العَال، اللهمَّ أدمِ الصلاةَ على عبدِك الذي أمرتَنا بالصلاةِ عليه في كتابِك، ووعدتَنا أن تُصَلِّيَ على مَن صلى عليه مرةً واحدة عشرَ صلواتٍ منك، وابتدأتَ بنَفسِك، وثَنَّيْتَ بملائكتِك، وأيَّهْتَ بالمؤمنين، فقلتَ مُخبراً وآمراً تكريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب56.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المختارِ سيدِنا محمد، نورِ الأنوار، وسِرِّ الأسر، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤَازرِ رسولِ الله في حالَيِ السِّعَةِ والضيق، خليفةِ رسولِ الله سيدنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطقِ بالصواب، حَليفِ المحراب، الذي نشرَ العدلَ في الآفاقِ فاشتهَر، أمير المؤمنين أبي حفصٍ الفاروقِ سيدنا عمر، وعلى مَن اسْتَحْيَت منه ملائكةُ الرحمن، مُحْيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، الناصح لله في السِّر والإعلان، أمير المؤمنين ذي النورين سيدِنا عثمان بن عفان، وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينة عِلْمِه، إمام أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسنِ والحسينِ سيدَي شبابِ أهلِ الجنَّةِ في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنصِّ السنة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمةِ البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى، وعائشة الرضى، وعلى الحمزة والعباس، وسائر أهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم من الدنس والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبة، وأهل بدرٍ، وأهل أحُد، وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائرِ الصحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام وانصُرِ المسلمين، اللهمَّ أذلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعْلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين، اللهم اجمَع شملَ المسلمين، اللهم إنَّ مخالفاتِ شرعِكَ والخروجَ عن سنَّةِ نبيِّك أوقعَت المسلمين في أن يتكالبَ عليهم وعلى أموالهم شرارُ أهلِ الشرقِ والغرب، وراح الكثيرُ الكثيرُ مِن أموالهم بأيدي عدوِّهم يلعبُ بهم، ويضربُ بعضَهم ببعض، اللهم تُب على المسلمين، وأنقِذهم وخلِّصهم من هذه الوَرَطات، ورُدَّهم إليك مردّاً جميلاً، وارفع عنهم سلطةَ أعدائك يا قويُّ يا متين.
اللهم اجمع شملَ الأمةِ بعد شتاتِها، وارزقها اللهم في فَهْمِ خطابِك واتباعِ نبيِّك حقيقةَ ثباتِها، اللهم ادفعِ الآفاتِ عن المؤمنين، اللهمَّ حوِّل حالَ المسلمين إلى أحسنِ الأحوال، وعافِنا مِن أحوالِ أهلِ الضلال وفِعْل الجهال، اللهم ارزُقنا الاستقامةَ في النيةِ والأقوالِ والأفعال، وفي الأخذِ والعطاء، وجَنِّبْنا الزَّيْغَ والزَّللَ والخطأ، وثبِّتنا أكملَ الثبات، وجنِّبنا الآفات، واختِم لنا بأكملِ حُسنِ الخاتمات، واصرِفنا من جُمعتِنا بقلوبٍ مملوءةٍ بالإيمان واليقين، داخلةٍ في دوائرِ عبادِك الصالحين.
اللهم وارزُقنا تَقواك، وتولَّنا بما أنت أهلُه وامنَحنا رِضاك، اللهم واغفِر لوالدِينا وذوي الحقوق علينا، والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أحياءهم والأموات إلى يوم الميقات، مغفرةً واسعة يا غافرَ الذنوب والخطيئات، واختِم لنا بـ(لا إله إلا الله) متحقِّقين بحقائقها.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }، { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عِصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعلِ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خير، واجعل الموتَ راحةً لنا مِن كلِّ شَر، يا أرحمَ الرحمين.
عباد الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاثٍ، ونهى عن ثلاث:
{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
فاذكرُوا اللهَ العظيمَ يذكُركم، واشكرُوه على نعمِه يَزِدكم، ولذكرُ الله أكبر.
06 ربيع الثاني 1440