(536)
(236)
(575)
محاضرة الحبيب عمر بن حامد الجيلاني والحبيب عمر بن حفيظ في ذكرى حولية العارف بالله الحبيب عمر بن أحمد الجيلاني، في منطقة الخريبة، بوادي دوعن، ضحى يوم الجمعة 6 جمادى الآخرة 1444هـ ، بعنوان:
وعي الوحي وأساس الولاء والتعظيم وآثار ذلك على الفكر والمسار في الحياة
الحمدلله، وهو المُستحقُّ لكمالاته سبحانه وتعالى، والصلاة على نبينا محمد صلَّى الله عليه وآله وأصحابه، الزمانُ استدار كهيئتهِ يوم خلق الله السماوات والأرض، وتتجدّد المعاني وتتطوّر في أذهان الناس حتى يُدرِكوا الحقائق التي جعلها المولى سبحانه وتعالى في هذا الكونِ للتفصيل وللدِّرايةِ وللمعرفة وللمصير الذي يكون للإنسان.
وهذه الحَولِيات جُعلت لهذه النيات الصادقة ولذا دامت ولذا استمرَّت وكان لها الخلود من الله سبحانه وتعالى، ولكن علينا أن نستفيد منها كما سمعنا في الكلمات المباركة الراقية، الاستفادة من هذه الاجتماعات، ذِكْرُ أصحابها وكيف عاشوا وكيف كانت حياتهم وكيف كان نفعهُم للنَّاس، هذا أكبر ما يُسْتفادُ من هذا اللقاء ومن هذا الاجتماع ومن هذه الحوليّات لأن هؤلاء نحن مأمورونَ من المولى سبحانه وتعالى في صريح كلامه عز وجل بالإقتداءِ والتأسِّي بهم (أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ)
وكيف نعلم سيرتهم وكيف نستطيع الإهتداء والاقتداء بهم إلا إذا اجتمعنا لقراءة سيرتهم ولمعرفةِ أخبارهم، وكيف كانوا يعيشون وكيف كانت العلاقات التي تجمع النَّاس وهم يسيرون إلى الله سبحانه وتعالى في هذه الدار التي جعل معاشهم فيها موقوتاً (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ).
أما المستقبل الذي يستعِدّون له، أما المستقبل الذي يتهيَّؤون له فإن هذا هو المطلوب معرفته والمطلوب البحثُ عن تلك المآلات وتلك المصائر، التي يجب على كل عاقل وعلى كل من كان عنده إدراك أن يُعِدّ لذلك، ولذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الاستعداد للموت والتهيؤ له يقول صلَّى الله عليه وسلم: "الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت".
نحن في هذه الدنيا لفي دارٍ هي اختبار للإنسان، خلق الله الناس لِيختبرهم وليستقيموا على طريق قويم، ولِيعبدوه سبحانه وتعالى حتى يكون لهم المصير الذي فيه النعيم الذي لا يزول ولا يتحوَّل ولا يُمَل ولا يريد الإنسان أن يغيِّره إلى شيء آخر.
التربية.. سمعنا حالها من الحبيب علي ومن الحبايب الذين سبقوا وتلوه بالكلام، التربية أمر مهم ولا سِيَما في هذه الأعصُر، هذه الأعصر التي يتربّصُ بالمسلمين أعداؤهم ولديهم مراكز أبحاثهم التي تسعى في تهديم الدين، في إلغاء الدين بل في إلغاء ما عوَّدَ الله الناس عليه من نواميس كَونية، يسير عليها الناس ويعبدون الله سبحانه وتعالى ويكون بينهم العلاقات التي تتَّفق مع النواميس الكَونية، هؤلاء الأعداء هؤلاء الألِدَّاء للأديان وللبشرية وللخلائق أجمعين يُخطِّطون لإلغائها، فيجب أن نتنبَّه لها ويجب أن نعرفها ويجب أن نهيئ أولادنا لأن تتحصن من كيدهم ومن عداوتهم وما يُعِدّون.
ونسأل المولى عز وجل في كل وقت وفي كل صلاة وفي كل قيام وفي كل قعود وفي كل سجود، أن يُجنِّب المسلمين شرَّهم وأن يُجنب البشرية أذاهم وأن يجعل تدميرهم يا رب العالمين فيما يكيدون وفيما يعدون للمسلمين.
هذه الذّكريات المُباركة التي ينبغي أن يكون لنا بها استفادة، وينبغي لنا أن يكون بها عندنا استشعار لتعظيم من عظَّم الله سبحانه وتعالى، عظّمَ الله الصالحين، كرَّم الله الصالحين وجعلهم سبحانه وتعالى أئِمّة يُهْتدى بهم ويُقْتدى بهم ويكون التأسِّي بهم في الأحوال كلها، كيف نُنشِّئ أجيالنا، كيف نُنشِّئ أبناءنا، كيف ننشئ بناتنا، كيف نحصِّنهم من هذه الوسائل التي يُسمونها وسائل التواصل، كيف يكون لنا استفادة منها والبُعد عما يكون فيها من مضار، مما يكون فيها من شنار، مما يكون فيها من عار، مما يكون فيها من دمار، هذه التي يجب علينا الاهتمام بها من هذه الأمور.
يجب علينا أن نُوليها اهتمامنا اكثر من اهتمامنا بالغذاء، أكثر من اهتمامنا بالتصوّر الحضاري القائم الذي هو سيزول وسينتهي ولا يبقى له بقيّة، هذه الأمور يجب على الأمة أن تتفكر فيها وأن تتأمل في المستقبل، وأن تلاحظ ملاحظة كبيرة ما يُعَد لها لا سِيَما فيما يكون في شأن الأولاد والبنات، يُعَد لهم خطط خبيثة، خطط مُدَمرة، خطط والعياذ بالله تُمزِّق الناس وتجعلهم شذر مذر لا يُدركون ولا يفهمون، وإن هم إلا كالأنعام بل هم أضل، فينبغي لنا ان نستفيد من هذا.
ثم بعد ذلك لن يكون ذلك ولن تتحقّق هذه الأمور إلا إذا جلسنا في مجالس أهل العلم، إذا تأدبنا بآدابهم، إذا تسلّكنا بسلوكهم، إذا امتثلنا أوامرهم، إذا سمعنا توجيهاتهم، إذا كان لنا هَمٌّ كبير فيما يكون مُرضياً للمولى سبحانه وتعالى منَّا، عندئذ يكون لنا طوق النجاة يكون لنا إن شاء الله تعالى السلامة، يكون لنا بإذن الله سبحانه وتعالى الهداية ويكون الرشاد، لابُدّ من أن تكون البيوت عامرةً بذكر الله، لابُد أن يكون الذكر منشوراً في بيوتنا، في مجالسنا، في معاهدنا، في أسواقنا، في معاملاتنا.
الذكر الذي نتقرّبُ إلى الله سبحانه وتعالى به والذكر الذي يُوقَر في القلوب، فنتذكّر المولى سبحانه وتعالى في كل حركة وفي كل سكون وفي كل حال، فيحِلُّ لنا أن يكون لنا سعيٌ الى مقام يُراقب فيه الله سبحانه وتعالى، وننظر الى المولى سبحانه وتعالى أنهُ يرانا وأنهُ يسمعنا وأنهُ لا تخفى عليه خافية، فلا يكون منَّا بعد ذلك مُخالفة بل نكون قريبين من مقام المراقبة لله سبحانه وتعالى، وكما هو حال الصالحين الذين كانوا في مقام الشهود لله سبحانه وتعالى، ومن شهد الله سبحانه وتعالى أنه يراهُ في كل مكان لا يعصي الله، لا يُخالف أمر الله، لا يقصِّر في واجب أوجبه الله سبحانه وتعالى، عندئذٍ تصلحُ أحوال المسلمين الدينية والدنيوية، ويتحرّرون من الهَوى ويتحررون من الشيطان ويتحررون من هؤلاء الأعداء ولا يكون لهم تسلُّطٌ عليهم، ويكون المولى سبحانه وتعالى قد أمدَّ المسلمين بالتأييد والتسليط (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم).
فينبغي لنا أن نهتم بهذه الأمور وأن ننصرف من هذه الحوليات التي أُسِّست على هذه النيات، ننصرف منها وقد تغيرت أفكارنا وقد تهيأنا لأن يكون غدنا أحسن من يومنا، حتى يكون لنا التجديد وحتى يكون لنا التسديد وحتى يكون لنا من الله سبحانه وتعالى التأييد.
ونسأل الله عز وجل أن يُغيِّر حالنا إلى أحسن حال وأن يحفظنا من الكفار ومن الفجار وأهل الضلال، وأن يسلك بنا مسالك الصالحين، وأن يجزي الحاضرين الجزاء الأوفر على هذا الحضور المبارك بهذه الشعيرة العظيمة، الحضور لهذا من شعائر الله سبحانه وتعالى، ومن تعظيم شعائر الله الحضور إليها وتعظيمها ويكون للإنسان سعي لها، والسعي يكون فيه الأجر ويكون فيه من الله سبحانه وتعالى العطاء الوافر عز وجل.
ينبغي لنا أن يكون لنا اهتمام بالمستقبل، اهتمام بالأولاد، اهتمام بالبنات، هم يسعون ويخططون لأن يختطفوا أولادنا، لأن يختطفوا بناتنا، وأن يكون لهم والعياذ بالله هؤلاء الأولاد المسلمين أن يكونوا لعبة في أيديهم، يعبثون بهم ويُحوِّلونهم إلى ما يريدون من الضلال ومن الفسوق ومن العصيان، هذا هم كبير للمسلمين يجب عليهم أن يهتموا به شباباً وشيوخاً، رجالاً ونساءً، هذا الهم الذي هو واجب من الواجبات على كل من يقول لا إله إلا الله، على كل من ينطوي تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبقلوبٍ تتوجَّه إلى الله سبحانه وتعالى أن يُبدِّلَ حال المسلمين إلى أحسن حال، وأن يُكرمهم سبحانه وتعالى بما أكرم به من سبق ومن كان قد سار على نهج النبي صلى الله عليه وسلم الطريق القويم الذي لا يكون فيه ضلال ولا يكون فيه انحراف، (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِى مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ).
اللهم اقبلنا ولا تُهنّا، وارفعنا ولا تضعنا، وأسعدنا ولا تشقنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، احفظنا واحفظ بيوتنا واحفظ رجالنا واحفظ نساءنا وبنينا وبناتنا، واحفظ اللهم المسلمين أجمعين في جميع أقطار الأرض يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، اعمر القلوب بالصلاة، اعمرها بالقراءة، اعمرها بالذكر، اعمرها بالعبادة اعمرها بالمودة والرحمة، اعمرها بالأعمال الواسعة والأخلاق العالية يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمدلله على مِنَّة التوفيق، والحمدلله على جمْعِنا على هذا الاتِّجاه وهذا الطريق، في رجاء اللحوق بخير فريق، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الرحيم بِعباده الرفيق، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الهادي لأقوم طريق، اللهم صل وسلم على من ختمت به الرسالة وختمت به النبوة، وجعلته سيد أهل المعرفة وسيد أهل الفُتوَّة، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن على مِنهاجهم سار إلى يوم الوقوف بين يديك يا عزيز يا غفار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأسرار والأنوار، الذين بشَّروا به قبل وجوده في هذا العالم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وأُخِذت عليهم العهود والمواثيق أن يؤمنوا به وأن يتّبعوه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى ملائكتك المُقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
جمعتنا بآثارِ لا إله إلا الله مُحمد رسول الله، والتصديق بما بعثتَ به هذا المصطفى صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وآثار الاقتداء به والاهتداء بهديه والاتباع له صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فكانت تلك منك مِنّةٌ وأي منَّة، نسألك أن تُتِمَّ علينا نعمتك فيها، وتمام النِّعمة بأن تسري في قلوبنا مدارك للحقيقة التي سمعنا الحديث عنها وسمعنا التّوجيه إليها فيما تكلم به أحبابنا.
وسمعتم في كلام الحبيب عمر بن حامد الجيلاني ما يِعِدُّه عدوّ الله بواسطة جنده من شياطين الإنس والجن للنيلِ من الإسلام ودعوة خير الأنام عبْر الأبناء والبنات، من صياغة أفكار ومن تزيين مسالك واتّجاهات سيّئة قبيحة تأتي في زُخرف القول، كأنَّ فيها خير أو كأنَّ فيها منفعة أو كأن فيها مصلحة، وحقيقتها فساد وإبعاد وقطع عن رب العباد! وقطع عن المُلك الكبير الذي ما لَهُ من نفاد في دار الخلد والكرامة، تُصاغ وتصل إلينا تُهاجمنا وتُداهمنا في مُدُننا وقُرانا، وبالوسائل المختلفة تصل إلينا فتجد سبيلاً ومجالاً على قدر ضعف صِلَتنا بهذه السلسلة والسند، على قدر ضعف قوة ارتباطنا بِموروثات نبي الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في العادات، في العبادات، في الأقوال، في الأفعال، في النيات، في التصوُّرات عن الحياة، في التصورات والاعتقادات عما بعد هذه الحياة، وأنْ يكون إيماننا بالبرزخ وإيماننا بالقيامة والحُكم للحاكم فيها، والمصير منها بذاك الحُكم الذي يحكم به على جميع المُكلَّفين إما إلى الجنة وإما إلى النار والخلود فيها.
استحضار ذلك وقوّته فينا مانِع يمنعنا من أن نتأثّر بهذه الأطروحات وبهذه التلبيسات، التي يُلبِّسون فيها على النَّاس وينشرون الشرّ وينشرون الفساد؛ لكن القلب الذي امتلأ بمحبّةِ الله وعَلِم عظمة خالقه، وأنَّ المصير إليه والأمر له وحدهُ جلَّ جلاله، وأنهُ لا يُمكِن أن يكون مخلوق أعلم منه بمنفعة عباده، ولا أن يكون مخلوق أحكم منه، وأنَّ جميع المخلوقين إليه راجعون وبين يديهِ موقوفون (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)، ويُقال لأولئك الذين تعاونوا على الشَّرِّ في الدنيا وتحالفوا على ذلك: (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) بل هم اليوم مستسلمون.
يقول الجبَّار الذي خلق (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) لِمَن الملك اليوم، المعنى: أنَّ مظاهر هذه الزّعامة الفانِية الزّائِلة فهي إذاً مَجَازيِّة صوريَّة لا حقيقة فيها، نَعمْ والله لا حقيقة فيها! الحقيقة في المُلك لِواحد اسمه الله (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ويؤتي الملك وينزعه بحكمة له ولِيختبر العباد، فالاغترار بهذا المُلك الزائِل وبهذا المظهر الزائِف الفاني لأي حضارة، لأي دولة، لأي اتِّجاه، لأي فكر على ظهر الأرض، الاغترار بها دليل خلوِّ الباطن عن حقيقة التعظيم للإله الحق، عن حقيقة الإيمان به، عن حقيقة التصديق بما أوحاه، دليل اختِلال في الميزان عند هذا الإنسان، لا يدري عن من يأخذ ومن يُصدِّق، يكون لُعْبة كما سمعتم يلعبُ بها أعداء الله تبارك وتعالى في فكرٍ أو في سلوكٍ وهو لا يشعر، أو وهو لا يستشعر أو وهو يتجاهل أو وهو غافل عن ذلك، وأسباب انبساطها أو امتدادها أو وصولها إلى العقول والقلوب انقطاع القلوب والعقول عن تعظيم ما عظَّم الله ومن عظَّم الله!
(وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) وإذا صار التعظيم كما اكتسحوا كثيراً من المسلمين، تعظيم قلوبهم حتى في يوم الجمعة هذا، عاد بقية الإيمان اللي عنده تحمله على أن يجيء، يجيء متأخر والخطيب يخطب وإلاَّ قده في الخطبة الثانية، ورُبما يكون بجنب الجامع ويتأخر يتكلم مع واحد، وترك الخطيب يدخل يُكلِّم السّواري في المسجد والقُطف والسُّرُج، هو ما له دخل وهو إلاَّ بيخاطبه هو.. ما بيخاطب السرج ولا بيخاطب السواري في المسجد، يجلس يتكلم مع صاحبه أو يتأخر في بيته!
انظر إلى أين وصل تعظيم الحق تعالى مُصوَّراً في تعظيمه للجمعة التي فرضها الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).
وإذا جاء دخل إلى المسجد ما درى ماذا قال الخطيب، إنْ أحد قال له الآية التي قرأها ما هو داري، بعضهم حتى الموضوع كله الذي تحدث به قال له: قال كلام زين.. ما هو داري ماذا قال! وصلّى وصلاته راح فيها كم مِن محل! وهو يصلي ساعة أمامه تلفزيون، وساعة عند صاحبه وساعة يتخاصم.. كله في الصلاة هذا! وعمل صورة صلاة والسلام عليكم وخرج، لكن إذا جاء وقت نشر المباراة مباشرة وخصوصاً كأس العالم الرجال حاضر والقلب حاضر والذهن حاضر وبالعين ناظر، وإذا تكلم صديقه قال اسكت اسكت.. تعظيم! انظر القلب هذا الميزان لديه انعكس وانتكس، وهو والجمعة بهذه الحالة، وهو والقرآن بمثل تلك الحالة كذلك؛ لكن أمام هذا اللعب تعظَّم عنده وكبُر عنده، وإلاَّ شيء من نشرات الأخبار ولو كان أكثرها كذب؛ لكنه يُنصت إليها، وإذا سألته بعد ذلك يقول: قالوا كذا وقالوا كذا وقالوا كذا، والخطيب ما هو داري ماذا قال؛ لكن في ذلك قال قالوا كذا وقالوا كذا ويجيبها لك! خلل في التعظيم القلبي عظَّم ما هو حقير وحقَّر ما هو عظيم، فجلبت له هذا الانتِكاس وجلبت له هذا الانعكاس وجلبت له هذا الانحدار والانحطاط والعياذ بالله تبارك وتعالى، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ).
وإذا وجدتم في السيرة النبوية أنَّ أوائلنا الذين حملوا أسرار التوحيد والإيمان والإسلام والشريعة والدين والجهاد في سبيل الله قامت أمورهم على التعظيم، يجلسون بين يديه مُنكِّسين رؤوسهم، ما يحدّون النظر إليه تعظيماً له، إذا أمر أمراً ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبذلك حملوا الأمانة عليهم رضوان الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه، وعرفوا القدر والمكانة.
سيدنا عمر بن الخطاب عليه الرضوان كم تمّت فتوحات في زمانه وأيام خلافته، أتدري أي شيء كان أهم في نفسه آخر عمره؟! أرسل ولده عبد الله بن عمر إلى أم المؤمنين عائشة قال له: استأذنها في أن أُدفَن في حجرتها عند رسول الله وأبي بكر، فذهب وكلمها، قالت: هذا المكان كنت أُعِدّهُ لنفسي؛ ولكن إذ قد طلبه أبوك أمير المؤمنين فأنا أهبهُ له هو له، فرجع، قال: ما وراءك يا عبد الله؟ - بعدما قد طُعِن سيدنا عمر - ما وراءك؟ قال: قد أذِنَت وقالت كذا وكذا، قال: "الحمد لله لم يكن في نفسي شيءٌ أهم من ذلك"، رأيت هِمَّة نفسه أين؟! اهتمام قلبه أين؟! هذا عُمر الذي ربّاه خير البشر، هذا فاتح الأمصار، هذا ناشر العدل في الآفاق، كان بهذه الصورة واهتمام قلبه يُحِب البقعة هذه! وإلاَّ يحتاج أحد ينصحه من المبتدعة؟ يقول له يا أمير المؤمنين البقعة ما تنفع أحد والأرض ما تنفع أحد؟! ما ينفع الإنسان إلاَّ عمله ولا يكن مع الإنسان إلاَّ ما سعى وأنك لا تتعلق بالتراب وأن هذه وثنية وأن هذه بدعة.. يحتاج إلى أحد ينصحه يقول له كذا؟! هو اللي أخذ العلم من معدنه، هو الذي أخذ الإسلام من موطنه، هو الذي أخذ الشريعة من أصلها وأساسها، عظَّم المكان وعظَّم القُرب منه.
قبله الأنبياء، سيدنا موسى عليه السلام يأتيه سيدنا عزرائيل يقول: يا رب أدنني من الأرض المقدسة رمية حجر، قرِّبني إلى الأرض المقدسة، وما هي الأرض المقدسة؟ أرض من جملة الأرض؛ لكن فيها أنبياء من قبله، وفيها مُرسلين قبله وفيها صُلحاء قبله فتقدَّست الأرض، فقال أدنني من الأرض المُقدّسة قرِّبني منها، إن عاد هم بينصحون موسى بيقولون يا موسى لا تتعلّق بالأراضي هذا نوع من الوَثنية هذا نوع من الشرك؟! يا مُخلِّطين الأوراق يا غافلين عن حقائق توحيد الخلّاق، يا مُوظّفين لأجل الأرزاق تبع أعمال أرباب الشِّقاق والنِّفاق والعياذ بالله تعالى! ضاعت عليكم مصادر الأخذ لفهم الشريعة والدين ووعي خطاب رب العالمين، من أُسُس وطُرق وسُبل وأسانيد صحيحة قام عليها فهم الصحابة، وفهم التابعين وفهم تابعي التابعين عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا بهذا الشعور وبهذه المكانة يقول - عاده في خوفه من الله - : أخشى يا عبد الله أن تكون قالت ذلك هيبةً لي لأني في الإمارة، فإذا أنا مُتُّ وحملتم جنازتي وصليتم علي فقِفوا على باب الحجرة ونادوا أمّ المؤمنين، وقولوا لها عمر ولا تقل لها أمير المؤمنين فما عدت أمير، يقول بعد الموت قل لها عمر يستأذن أن يُدفن عند صاحبيه، فإن هي رضيت كان الذي أحببت، وإلا فأخرجوني إلى بقيع الغرقد فادفنوني مع المسلمين هناك، فلما وقفوا بالجنازة قالت: قد طيّبتُ له بذلك حياً وميتاً، وأدخَلوه وقبروه.
وانظروا إلى كيفية قبره هذا قبر سيدنا رسول الله، فلما أرادوا أن يقبروا الصديق جعلوه من خلفه ومؤخر عن رأسه، حتى يكون رأس الصديق قريب من كتفي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، ولما جاؤوا بِعُمر ليدفنوه خلوه خلف أبي بكر وأخَّروه عن رأسه، فكان مُتأخر عن رأسه وهو خلفه من جِهة القبلة، ووضعوهُ هناك من أجل الأدب، يُراعون الأدب!
سيدنا أبوبكر لما طلع فوق المنبر جلس على الدرجة الثانية، قالوا له إنَّ رسول الله كان يصعد الثالثة، قال: تلك لرسول الله أنا أقل منه، يراعي الأدب في قيامه في المنبر بعد وفاة زين الوجود صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
قالت السيدة عائشة: وكنتُ أدخل إلى الحجرة - لأنها تسكن بجانبها في حجرة بجانبها - كنت أدخل إلى الحجرة أزور النبي صلى الله عليه وسلم وأبي أبا بكر غير مُنتقبة، وأقول إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفِن عمر لم أدخل إلا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر، لم أدخل إلاَّ مشدودة علي ثيابي حياءً من عمر! وهذه من أين تعلمت العقيدة! من أين تعلمت الشعور هذا؟! مَنْ مِنْ شيوخها قال لها الميت ما عاد يسمع ولا عاد يرى ولا عاد له حُرمة؟ ما أحد قال لها كذا! شيوخها محمد وأبوها أبو بكر السابقون الأوّلون، هؤلاء شيوخها ما أحد منهم قال لها هكذا بل ملؤوها هَيبة، قالوا لها عمر بيشوفك وأنتِ غير مُنتقبة، لا تُخرجي النّقاب حتى أمام القبور، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الصحيح: "ما مِن مسلم يمرُّ بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا إلاَّ عرفهُ واستأنس به".
ويقول في حديثه الصحيح: "إنهم لينصرفون عن الميت بعد دفنه وإنه ليسمع قرع نعالهم" وإنه ليسمع قرع نعالهم، إيش السماع القوي هذا! فوقه كم من لبنة وفوقه كم من تراب ويسمع من فوق وهم يمشون قرع نعالهم يسمعه هذا الميت، صلى الله على الصادق المصدوق الذي كان إذا زار المقابر قال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجّلون وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمُستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية".
وهذه الخطابات كلّها لهذهِ القبور، فما مضى الصحابة ولا التابعون ولا آباءكم الأكرمون إلاَّ على نور وبصيرة من الوَحي الشريف وسُنة المُصطفى في أفعالهم وأقوالهم، وصِحة التوحيد وصِحة الإيمان وصِحة الإسلام بل وصِحة الإحسان، بل ونَيل المعرفة الخاصّة بالله سبحانه وتعالى.
اجتمعتُم هذا الاجتِماع الله يُبارك لكم فيه، وكما سمعتم إنما نستقي هذه المفاهيم والأذواق وتتمكّن فينا بِواسطة العلم ومجالس العلم، وكم نحن فَرِحون بِبِناء هذا المعهد عندكم الذي يُبنى، ويتم إن شاء الله على خير حال ويعمّ الله بنفعه الوادي والبلاد والعِباد في المشارق وفي المغارب، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
والعلوم المُسنَدة التي تُثمِر الخشية، تُثمِر الأدب وحقيقة الصِّلة بالرب، هي التي نفتقدها وهي التي نحتاجها، بقية المدارس نُشارك غيرنا فيها، بقية المعلومات نشارك غيرنا فيها.. مسلم وكافر وفاجر وصالح كلهم يتعلّمونها؛ لكن في علم يُثمر الخشيَة، وعلم يثمر القرب من الله، هذا ما هو في كل مكان ولا هو في كل مدرسة، ولا هو عند كل إنسان ولا يعرفه الكفار ولا يعرفه الفساق؛ ولكنه ميراث محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فيمن اختصهم الله سبحانه وتعالى به.
أولئك وُرّاث النبيِّ ورهطهُ ** وأولادهُ بالرُّغمِ للمتعامي
الله يُحيِي فينا هذه العلوم النافعة ويبارك لنا في هذه المجالس، ويجزي عنا خير الجزاء حبيبنا عمر بن أحمد بن عمر بن حسين الجيلاني أبقى الله له هذه الذكرى والأثر على مَمرِّ القرون، لولا حاله في علاقته بالله ما بقي مثل هذا ولا استمر مثل هذا، وإذا بالخير يستمر قرن بعد قرن فضلاً من فضل الله سبحانه وتعالى، في اتِّصال بسلسلة نورانية قوية عندكم في الوادي الميمون، الذي امتلأ بعد الأنبياء بأولياء وأصفياء كثيرين، جاؤوكم مِن عند الشيخ سعيد بن عيسى العمودي، واطلع إلى أنْ تمر على الشيخ معروف بن عبد الله باجمال، وتجيء إلى الشيخ فارس باقيس وتجي إلى الرِّحاب الطاهرة والشيخ سليمان بامنيع الذي ذكره الحبيب علي بن حسن في القصيدة، ومن جاء بعدهم تجيء إلى الشيخ عبدالله بن أحمد باسودان، وتجيء إلى من حواهم الوادي هذا الميمون من هنا ومن هنا، الله يشعشع أنوارهم في قلوب ذراريهم وفي قلوب أهل بلدانهم، وتعود عوائدهم بحياة حقائق الإسلام والإيمان فينا، وظهور راية لا إله إلا الله مُتحقِّقين بحقائقها محمد رسول الله قائمين بواجبها منشورة في الآفاق كلها.
اللهم أتمِم النعمة وبارك في جمعِنا في هذا اليوم.. اليوم الأزهر، واجعلنا فيه مِمّن امتلأ بالنور الذي يتنزّل من حضرتك على من أقبل وتطهّر، اللهم نَقِّنا عن الشوائِب، اللهم ارفعنا عليَّ المراتب، اللهم انضِمنا في سلك الأطايب، اللهم اجعلنا في الذين لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، واجعلنا في المُقبلين بالكُلِّيّة عليك.
وأعلِ درجات من ذكرناهم الشيخ علي باراس ومن لم نذكرهم من بقية أئِمّة الوادي والنادي، اللهم اجزِهم خير الجزاء وأفضله وأكمله واخلفهم فينا بخير الخلف، وبارِك لنا في حبيبنا عمر بن حامد وإخوانه وفي أولادهم وفي أحفادهم، وفي القائمين في هذا المسجد وفي هذه البلدة والقائمين في هذا الوادي، والحداة الذين يحدون بهذه الأناشيد وهذه الأشعار، التي لها زجل في القيامة وزجل في البرازخ عند أهلها وزجل حتى في الجنة.
شوفوا بعض الأغاني تُخزي صاحبها في القيامة وتُسوِّد وجهه، وشوفوا بعض الأناشيد حتى وسط الجنة يترنّمون بها، يردّدون نفس الألفاظ اللي يردّدونها في الجنة يتنعّمون بها هناك، لأنها محبوبة عند الله ولأنها مقبولة عند الله، وبعضها فيها مُجون وفيها استهزاء بآيات الله تُخزي أصحابها في البرزخ وفي القيامة والعياذ بالله وإلى سوء المصير.
الله يملأنا بما ينفعنا به ويرفعنا به، ويصلح به قلوبنا وقوالبنا، ويُثبِّتنا على الحق فيما نقول وفيما نفعل وفيما نعتقد، ويُضاعِف هِباته وينزل عطيّاته، ويدفع البلاء عن أمة نبيه محمد ويُحوِّل الأحوال إلى أحسنها والحمد لله رب العالمين، والعفو منكم.
08 جمادى الآخر 1444