مذاكرة الحبيب عمر في المولد السنوي في روضة الحبيب سالم بن حفيظ في مشطة 1446 هـ
مذاكرة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المولد السنوي في روضة العلامة الحبيب سالم بن حفيظ ابن الشيخ أبي بكر بن سالم في مشطة، حضرموت
عصر الجمعة 17 ربيع الأول 1446 هـ
لمشاهدة المجلس عبر اليوتيوب:
https://www.youtube.com/live/ZdSVn0s3s4o
نص الكلمة :
الحمد لله على مواهبه التي لا تزال في توال، يُوالي بها العباد والكائنات في السماوات والأرضين، وخصَّ أمة خاتم النبيين وسيد المرسلين بواسع من تلك المزايا والمِنح والمواهب، وتجليات حضرة الرحمن جل جلاله للقلوب المُتوجِّهة إليه وأهل الإقبال عليه سبحانه وتعالى.
وجمعكم في الشهر الكريم المبارك على سَنَن من أرباب الصدق وأرباب الإخلاص وخواص الخواص، وراث المصطفى محمد المخصوص من حضرة الرحمن بأعلى الاختصاص، صلوات ربي وسلامه عليه، وكنتم بذلك خير أمة أُخرجت للناس من بين الأمم كلها، مع أننا وفي قروننا كلها وأعدادنا قليل جدًا بالنسبة للأمم السابقة، "وما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود"، ومع ذلك كله فهم المُقدَّمون وهم أكثر الأمم دخولًا إلى الجنة في يوم القيامة، "أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفًا، ثمانون من هذه الأمة".
هذه آثار تجليات الكريم الغفار جل جلاله وتعالى في علاه، وما بعث به نبيه المختار ﷺ، وما جعله سببًا لتكفير الذنوب والأوزار، وسببًا لتوالي الأنوار، ولارتقاء الدرجات الكبار بالفضل والإحسان من حضرته سبحانه وتعالى.
وجعل الطهارة وإحسانها وإحسان الوضوء الذي أثنت به سيدتنا نفيسة على الإمام الشافعي، وعرفتم الإمام الشافعي وسعة علمه وسعة أخلاقه وسعة جهاده واجتهاده، وما ذكرته إلا بهذا الوصف وحده. وقالت: "رحم الله الإمام محمد بن إدريس الشافعي، إنه كان يحسن الوضوء"، إشارة إلى أنه من أرباب الإحسان؛ فإن محسن الوضوء محسن الصلاة، ومحسن الوضوء ومحسن الصلاة يحسن بقية العبادات كلها، ثم يحسن وصفه ويحسن شأن باطنه، ويحسن حاله مع الرحمن جل جلاله (وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ).
ولكن القلب الذي لا يعطي الوضوء حقه لا يعطي الطهارة حقها، فهو لا يعطي الصلاة حقها، وهو إذن لا يعطي بقية الأوامر والنواهي حقها، فهو إذن بعيد -والعياذ بالله تبارك وتعالى-! ويخسر في عمره مواهب كثيرة وعطايا كبيرة بإهمال قلبه لتعظيم هذه الشعيرة، شعيرة الطهارة.
قال عنها صاحب الرسالة ﷺ: "الطهور شطر الإيمان"، نصف الإيمان الطهارة بالوضوء وبالغسل عن الحدث الأصغر والأكبر، والطهارة عن النجاسات الحسية، والطهارة عن النجاسات المعنوية، شأن أرباب التصوف وشأن أرباب القلوب، يعتنون بالقلوب لأنها محل نظر علام الغيوب جل جلاله وتعالى في علاه.
فينالون كما سمعتم إذا حضروا المجالس من العطايا النفائس ما به يرتقون، وبه يُنقّون، يُنقّون عن الشوائب التي تعلق بقلوب بني آدم على ظهر هذه الحياة الدنيا، والشوائب غفلة عن الله جل جلاله، والشوائب استرسال في مكروهات، وأشد منها في معاصٍ ومحرمات، إما بالعين وإما باللسان وإما باليد وإما بالبطن وإما بالفرج، وإما بالرجل وإما بالأذن والسمع، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) يقول ربنا فيما أنزل على هذا المصطفى المختار.
فبسماع هذا الكلام الطيب، وبالاستماع إلى المواعظ، واستماع الذكر وأوصاف الطيب المُطيب المُزكي لنا ﷺ، تتطهر أسماعنا من أن تسترسل في سماع غيبة أو نميمة أو كلام أهل الفجور، وأهل الفسق وأهل السقوط، وأهل البعد وأهل الغفلة عن الله سبحانه وتعالى.
قال ربنا: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ)، والآية هذه حرَّمت علينا الإصغاء لأقاويل أهل الأباطيل.
وأكثر ما ينتشر اليوم من البرامج في الوسائل المختلفة هذه للتواصل الذي سموه التواصل الاجتماعي، وقع فيه جانب تواصل، ووقع فيه جانب تطاول، ووقع فيه جانب تسابب، ووقع فيه جانب من الجوانب تضالل، ووقع فيه جانب من الجوانب انقطاع، ووقع فيه جانب من الجوانب حجاب، ووقع فيه جانب من الجوانب إفساد - والعياذ بالله تبارك وتعالى.
والميزان عندك: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
وإذا استمع القلب لمعاني الكلام الطيب من كلام الله وكلام رسوله ومدح المصطفى محمد ﷺ، وذكر المُقربين عند الله سبحانه وتعالى بالثناء عليهم، إذا استحلى ذلك السمع أنِف وتعفَّف أن يستمع إلى الكلام البذيء، أن يستمع إلى الكلام البطال، أن يستمع إلى كلام أهل السوء، (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) كما يقول جل جلاله وتعالى في علاه.
"وهل يكُبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"، يقول صاحب الرسالة ﷺ.
فبهذا يكون لهذه المجالس كسوة لحاضرها؛ يتنور قلبه وباطنه، فلا يميل إلا إلى استماع القول الجميل (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ).
تتقوى الصلة بالحق برسوله في هذه المجالس الكريمة المباركة، ويتقوى الإيمان، ويزداد المؤمن إيمانًا، وقد جاءنا في الحديث أن يأتي المؤمن إلى مجلس من المجالس وكان عليه الذنوب كالظلة فوقه كأنها جبل، فإذا جلس تذكر واتعظ وأناب فتتحات عنه حتى يخرج من المجلس صافيًا ولا ذنب عليه.
وهي شواهد ما جاء في الأحاديث الأخرى: "وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، "إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات".
وعناية رب الأرض والسماوات جمعتكم في هذا المجمع المبارك وفي هذه العشية المباركة من قبائل شتى وبلاد شتى، تجتمعون على ذكر الله وذكر رسوله ومصطفاه محمد، وعلى التذاكر بما يوجب لكم الفوز والقرب والمرافقة للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، (وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا) كما قال ربنا جل جلاله وتعالى في علاه.
المرافقة الكريمة التي يُحرَمها كثير من الناس؛ بحسد أو بحقد أو بكبر أو برياء، أو بإصرار على النظر الحرام، أو باستماع إلى الغيبة والنميمة، أو بأذية لأحد من المسلمين، أو قطع للصلاة، أو إهمال للأولاد وللأبناء والبنات، أو بشيء من هذه القواطع التي تقطع الإنسان عن ربه، فيخسر مرافقة النبيين.
ومن خسر مرافقة النبيين أي شيء خسر هذا؟ ما مقدار خسارة هذا؟ خسر ماذا؟ خسر مرافقة النبيين، فيرافق من؟ إذا خسر مرافقة النبيين سيرافق من؟ يرافق أبعد الخلق عن الله! يرافق من غضب الله عليهم ومرافقة أبدية والعياذ بالله سبحانه وتعالى.
(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ).
من حين ما أسس الجد سالم عليه رحمة الله هذا المولد، كم أعداد الذين حضروا معه من أول تأسيس وثاني، وفي حياته وبعد مماته، مع الوالد عليه رحمة الله، وجاء الحبيب علي المشهور، وكم كانوا من الحاضرين هم الآن في برازخهم يستقون أثر هذه المرافقة والموافقة باللقاءات في منازل النفحات والتجليات، ويقتطفون هذه الثمار البديعة الجانية بفضل ربكم جل جلاله.
حتى كان يقول بعض العارفين بالله: لو فرضنا أن واحدًا من الأموات في البرزخ أرجعه الله إلى الدنيا ومكَّنه أن يكسب حسنات مرة ثانية، لما آثر طول عمره شيئًا على مجالس الذكر والعلم، لما يرى من أثرها في البرزخ، ما سيقدم شيئًا عليها، وسيقوم يبحث عنها حيث ما هي.
وهكذا كانوا يذكرون للاعتبار في ذلك رؤيا لبعض الصالحين لامرأة صالحة، كانت في بلدهم يقال لها مسكينة، توفيت فرآها بعض صلحاء البلدة وهي في حُلَّة من حُلَل الجنة تمشي متبخترة، وهو من ورائها ينظر عرفها، صاح: "يا مسكينة! يا مسكينة!" فالتفتت له وقالت: "هيهات! ذهبت المسكنة وجاء الفوز الأكبر، المسكنة راحت، كنتوا تسمونني مسكينة في الدنيا لكني عُزِّزت وأُكرمت بالعطايا من ربي والمِنَح، قال: "ما شاء الله! ما حالك؟" قالت: "لا تسأل عمن أبيحت له الجنة بحذافيرها." قال: "بما أدركتِ ذلك؟" قالت: "بمجالس الذكر والعلم" وكانت في حياتها ما تسمع بمجلس في بلدها إلا جاءت، إن كان مجلس نساء، وإن كان مجلس الرجال جاءت من خلفهم من بعيد تستمع إلى الذكر وتستمع إلى التذكير، كان هذا شغلها في الدنيا، قالت له: "لا تسل عمن أبيحت له الجنة بحذافيرها"، "بما أعطيتِ ذلك؟ بما بلغتِ ذلك؟" قالت "بمجالس الذكر والعلم" قال: "فلم تتبخترين في المشية؟" قالت له: "هذه مشية الخُدَّام في دار السلام" ما دريت بالجنة، هذا للخدام يمشون بهذه الصورة، كرامة فوق الحد. (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وكان نبينا يقول لنا: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا: "ما رياض الجنة؟" قال: "حِلَق الذكر" حِلَق الذكر هذه رياض الجنة، يرتع الراتعون فيها، ويجنون الثمرات في البرازخ وفي القيامة ثم في دار الكرامة.
فيا ربنا اجمعنا وأحبابنا لنا * في دارك الفردوس أطيب موضعِ
وتستعدون لختام الشهر الكريم؛ حتى ما ينصرم الشهر إلا وقد انصرف عنا كل ظلمة وكل كدورة، وكل آثار الذنوب والمعاصي والسيئات وكل الغفلات إن شاء الله.
وظفرنا مع من يظفر في هذه الأسواق الرابحة بالتجارات الرابحة، والموازين الراجحة والعطايا المتوالية من حضرة الذي يعطي ولا يبالي، ربكم مولى الموالي جل جلاله وتعالى في علاه، الذي يغفر للمستغفرين ويتوب على التائبين، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ).
وبهذه الأبواب أو الوقوف عليها واستفتاحها تُجلى عن الأمة الكروب والشدائد والآفات، ومهما حاولوا رفع البلايا والكربات من غير بابها لن ترتفع، حتى يؤوبوا إلى ربهم، حتى يرجعوا إلى ربهم، حتى يعظموا شريعة ربهم جل جلاله، حتى يقيموا أمر الله في أنفسهم وفي أهليهم، وفي أزيائهم وفي كلماتهم وفي مآكلهم وفي مشاربهم وفي معاملاتهم. "الدين المعاملة"
فإذا أقاموا أمر الله في ذلك فتح عليهم البركات من السماء والأرض، ولا يقدر يغلقها عليهم لا اقتصاد عالمي ولا الأمم المتحدة ولا غيرها. إذا فتح عليهم البركات رب السماوات والأرضين. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
في الساعة المباركة كلكم توجهوا إلى مولاكم الرحمن، متوسلين بحبيبه سيد الأكوان، وبيننا وبينه حبال الهدى وحبال التقوى وحبال الإرث الكامل أهل الفضائل، الحمد لله رب العالمين من مؤسس هذا المولد وشيوخه الكثيرين وهم أكابر من كان في زمنه عليه رحمة الله تبارك وتعالى، بسلاسل إسنادهم إذا اسم ذِكر الواحد منهم يهتز له العرش، إن قلت: عيدروس بن عمر الحبشي، وإن قلت: عبد الرحمن بن محمد المشهور، وإن قلت: علي بن عبد الرحمن المشهور، وإن قلت: علي بن محمد الحبشي، وإن قلت: أحمد بن حسن العطاس؛ هؤلاء الخمسة الذين يستفتح بهم كتابه "منحة الإله"، ذكر كل واحد منهم يُحرّك ملائكة في السماوات العُلى، يُحرّك قومًا في الملأ الأعلى عليهم رضوان الله تعالى، لِما تحقق فيهم من إرث سيد الملأ ﷺ.
ومضوا على قصد السبيل إلى العُلى ** قدمًا على قدم بجدٍّ أوزعِ
ثبتوا على قدم الرسول وصحبه ** والتابعين لهم فسل وتتبعِ
ثم تتصل أسانيدهم بالأكابر الأمجاد في شرق الأرض وغربها عليهم رضوان الله تعالى، من حيث الظاهر ومن حيث الباطن، ومع ذلك لهم سند النسب، والواحد منهم الذي ذكرناهم هؤلاء كلهم تلقى عن أبيه وأبوه ولي وعالم، وأبوه تلقى عن أبيه وهو ولي وعالم، وذاك الجد تلقى عن أبيه وهو ولي وعالم، وذاك الجد تلقى أيضًا عن أبيه وهو ولي وعالم، واطلع.
مسلسلة عنهم أسانيد أخذهم ** إلى خير محمود وأشرف حمّادِ
أب يتلقى عن أبيه وهكذا ** فيا لك من آباء كرام وأجدادِ
فالله يرحم المتقدمين وينظر إلى الحاضرين، وإلى القلوب المتوجهة إليه في هذا الشهر الكريم، نظرة ربانية رحمانية يدفع بها كل أذية وبلية، ويُصفي لنا بها كل قلب وكل طوية، ويجعل حوائجنا كلها من حيث أحاط بها علمه في الدارين على خير الوجوه مقضية.
حاجة في النفس يا رب ** فاقضها يا خير قاضٍ
وأرح سري وقلبي ** من لظاها والشواظ
في سرور وحبورٍ** وإذا ما كنت راضي
فالهنا والبسط حالي ** وشعاري ودثاري
نسألك رضوانك الأكبر، يا الله رضا يا الله رضا، والعفو عما قد مضى، ولا تصرف من المجمع أحدًا إلا مرضيًا عنه من قبلك يا رب العالمين، وازدد عنا رضًا أبدًا سرمدًا في كل شأن وحال وحين، وعجل بتفريج كروب الأمة، واكشف الغمة، واجلُ الظلمة، وادفع النقمة، واختم لنا بأكمل حُسنى وأنت راضٍ عنا برحمتك، والحمد لله رب العالمين.
18 ربيع الأول 1446