(535)
(339)
(364)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في ملتقى "حركة نهضة مساجد إندونيسيا المزدهرة"، في جاكرتا، إندونيسيا، يوم الإثنين 28 ربيع الثاني 1447هـ
الحمد لله جامعكم على مُهِمّة بيوته في الأرض، وهي أعظم المُهِمات لمن يعيش هذه الحياة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل بيوته في الأرض المساجد، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أكرم كل راكعٍ وساجد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأماجد، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم.
أما بعد، فإن رسالة المساجد عظيمة، كانت أول مَعلمٍ من المعالم التي أقامها رسول الله ﷺ ليَبُثّ فيها هذا الدين ويُعلّم الأمة، فهو موطن جمع القلوب على الله، وتطهيرها من الحسد والحقد والكبر والرياء وما لا يرضاه الله، ومحلّ التعلّم لأحكام شرع الله، ومحلّ الذكر الكثير والتسبيح لله، ومحلّ التعاون والتآلف والتحابُب بين المؤمنين بالله.
فيجب أن تُحفَظ هذه المساجد وتُصان عن كل ما ليس من مقاصدها، فإن الله أَذِن أن تُرفَع، أي أَمَر بأن تُجَلّ وتُكرَم وتُميَّز على غيرها، (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).
ومن أعظم مهام المساجد: أن يتوفر من المُصلِّين فيها من يحرص على الطهارة؛ طهارة القلوب من جميع أمراضها وعللها وغفلاتها، وكذلك تُطهَّر الجوارح من الذنوب مع الطهارة في الأجساد والثياب، وكل محمول عن جميع أنواع النجاسة.
فيحرم إدخال أي نجاسة إلى المسجد، ويُكره إدخال أي شيء يُستقذَر غير النجاسة، (أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ): تُعظَّم وتُميَّز على غيرها، لا يجوز فيها البيع ولا الشراء، فمن باع أو اشترى سُنّة أن يُقال له: "لا أربح الله تجارتك"، بل من ضاع عليه شيءٌ من أمتعة الدنيا فلا يُناشِد به وينشده وسط المسجد، بل خارج المسجد يكلّم المُصلين، فمن نشد ضالّة وسط المسجد يُسن أن يُقال له: "لا ردّ الله عليك ضالّتك".
المساجد محلّ توحيد الله تعالى وزيادة الإيمان به: بواسطة الصلوات، وبواسطة القرآن، وبواسطة التعلّم، وفي الحديث عنه ﷺ: "من أتى المسجد لا يريد إلا أن يُعلِّم خيراً أو يتعلّمه، كان له كأجر حاجٍّ تامّ حجّته".
المسجد محلّ الرحمة والشفقة، ومحلّ البذل والصدقة، وتفقُّد أهل الحاجة، ومقابلة المؤمنين وتصافحهم وزيادة الألفة بينهم، فيجب أن لا يدور في المسجد إلا هذه الخيرات والمصالح.
اللغو فيه والكلام بأمر الدنيا يهدم الحسنات، كذلك يجب أن لا تكون الخُطب ولا التذكيرات والدروس في المساجد إلا ما يُنَمّي الإيمان ويُطهّر الجنان ويجمع بين الإخوان، فلا يجوز أن تصير المساجد مسارح لأغراض الناس سواء السياسية وغيرها من أغراض الدنيا، بل لا يكون في الخُطب ولا في التعليم إلا ما يُطهّر القلب وما يُقرب إلى الرب وما يُبيّن أحكامه وما تُذكر به الدار الآخرة.
فينبغي كل داخل إلى أي مسجد من مساجد المسلمين يجد الطمأنينة والسكينة والمحبة والأُلفة، ويجد الخشوع والسكينة ويجد التعظيم لشعائر الله، فإذا استُعمِلت المساجد للسب أَو للشتم أو للأغراض الدنيوية فأين يجد المؤمن خشوعه وحضوره مع الله تعالى، فيجب أن يكون في المسجد ما يُساعد على تطهير القلب وتنقيته.
قال تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
وقد ذم سبحانه في القرآن مقاصد المنافقين في المساجد، قال: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا)، فقصدهم المُضارّة وهذا عكس وضدّ مقصد المؤمنين، (وكفراً) بدل زيادة الإيمان هم يعملون من أجل نشر النفاق والكفر، (وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) ليُشَتِّتوا شمل الناس المؤمنين ويُفرِّقوا بينهم، وهذا ضدّ وعكس ما أراد الله ورسوله في المساجد، وعكس وضد مقاصد المؤمنين، وإقصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل فيجعلونه مكان ليجتمعوا وإياهم على الشر.
ومع ذلك قالوا: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ)، ولكن كلامهم ذلك وحلفهم لا ينفعهم، (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، قال الله لنبيه: (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) فأمر النبيّ ﷺ أن يُهدَّم ويُكسَّر مسجد الضرار ذلك.
عَلِمنا إذن مهمتنا في المساجد: أن ننفع عباد الله، وننشر أحكام الله ونُفقِّه في دينه، ونذكر الله ورسوله، وأن نخشع ونخضع وتحضر قلوبنا مع الله، وأن يتفقّد بعضنا بعضاً، ويساعد بعضنا بعضاً، وأن نحلّ المشاكل بيننا، وأن نساعد الفقراء والمحتاجين منّا، وأن ننشر الألفة والأخوّة والمحبّة في الله.
روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله ﷺ قال: "إن للمساجد أوتاداً"، أي قوم من المؤمنين يكونون كالوتد للمسجد، يعني يلازمون المسجد ويُكثرون الجلوس فيه والاعتكاف، "الملائكة جُلساءهم، إن غابوا افتقدوهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن ماتوا شيّعوا جنائزهم".
كما روى الإمام أحمد وغيره عنه ﷺ: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، والمؤمن في المسجد كالطائر في البستان، أن يكون مرتاحاً مُطمئنّاً مُنبسطاً، يتنقَّل الطائر من شجرة إلى شجرة، والمؤمن يتنقّل ما بين قراءة قرآن وذكر وصلاة وطلب عِلم، ومَثَل المنافق في المسجد كطيرٍ في قفصه أخرج رأسه وبقيت رِجلاه.
وكل البُقع التي وُقِفت مسجداً لله في الأرض تُحشَر يوم القيامة، والملازمون على الصلاة فيها يدخلون فيها فتمرّ بهم على الصراط.
وفي الحديث: "أحبّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها"، لأن فيها الغفلة والغشّ والكذب والخيانة، فلهذا كانت أبغض الأماكن إلى الله، وأن خير المؤمنين أوّلهم دخولاً إلى المسجد وآخرهم خروجاً منها، وآخرهم دخولاً إلى السوق وأولهم خروجاً منها.
جعلنا الله مِمّن يُعظِّم شعائر الله، وأعانكم على هذه الأمانة العظيمة، ووفَّقكم للقيام بها، وجعل بينكم التزاور والتعاون على البرّ والتقوى.
واعلموا أن المساجد منابر لله ولرسوله، لا يجوز أن تُحوَّل إلى شيءٍ من الأغراض والصراعات بين الناس، قال تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).
وكان مِن مُلازمي المسجد في عهد النبي ﷺ رجلٌ جاء من أرضه ولا زالت أكثر قبيلته كفّاراً، وأسلم وأحبّ الله ورسوله، فجاء إلى المدينة ولُقِّب بذي البِجادَين، ترك ماله وما عنده لأهل بلده مقابل أن يصل إلى رسول الله ﷺ في المدينة، فوصل ومعه إلا بجادين، يعني الثوبين الخَلِقين، فلُقِّب بذي البِجادَين، لكنه ارتاح لمّا وصل إلى عند رسول الله ﷺ.
كان يعتكف في المسجد كثيراً ويذكر الله كثيراً، حتى مرّ ﷺ يوماً تحت المسجد ومعه بعض أصحابه، فسمعوا صوته وهو يذكر الله، فقال بعض الصحابة: "أخاف أن يكون هذا مرائياً يا رسول الله". قال: "لا، ولكنه أوّاه"، يعني رجّاعٌ إلى الله.
خرج مع النبي في غزوة خيبر، وعند رجوعهم مات هذا الرجل في الطريق، فأمر النبي بتجهيزه، وكان مِمّن حفر القبر أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهما، فلمّا صلّى عليه ﷺ وجاءوا به إلى القبر نزل بنفسه إلى وسط القبر ﷺ، وتناوله بيده الكريمة ووسَّده في القبر، ورفع يديه يدعو الله تعالى، وقال: "اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راضٍ"
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنها أن رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة المكتوبة كان على عهد النبي ﷺ، قال: "فكنت أعلم أنهم انصرفوا - يعني أكملوا الصلاة - بذلك إذا سمعته"، وكان طفلاً صغيراً وكان خارج المسجد، فإذا سمع أصواتهم بالذكر علم أنهم أكملوا الصلاة مع رسول الله ﷺ وسلّموا من الصلاة.
بارك الله في إندونيسيا وأهلها، وضاعف البركة في مساجدها، وأئمتها ومؤذنيها، والذاكرين فيها، والمعلمين والمتعلمين فيها، والتالين للقرآن فيها، ورزقهم حُسن أداء الأمانة للمساجد، والقيام بنشر الرسالة المسجدية في أوساط الأمة.
وبارك الله في هذا المَجمَع والحاضرين فيه، وجزى بالخير كل من ساهم فيه، وجعل هذا المجمع حُجّة لنا يوم القيامة لا حجّة علينا، وسبباً لعمارة مساجدنا بما هو أحبّ عند الله تعالى وأطيَب عنده، ولا صرفنا الله إلا وقد نظر إلينا، وأصلح قلوبنا، وغفر ذنوبنا، ودفع البلاء عنّا.
وجاء في الحديث القدسي أن الله قال: "إني لأهمّ بالعذاب على أهل البلدة، فإذا نظرت إلى عُمّار بيوتي والمتحابّين فيّ والمستغفرين بالأسحار، صرفتُ عذابي عنهم".
وكان بعض الصالحين يقف على باب المسجد ولا يدخل معه غيره فقيل له في ذلك، فقال: إنّه بيت الله، والله عندما أدخل ينظر إلى قلبي، وأنا أدخل إلى بيته وقلبي ليس بصالح ونظيف، فأحبّ أن ينظر إلى قلب واحدٍ من المؤمنين قبلي حتى يُشَفِّعهُ فيَّ وأدخل في بركته.
لذا، لا يدخل إلا باليمين، ويبسمل ويُصلّي على النبي محمد ﷺ، ويقول: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك"، وينوي الاعتكاف من عند باب المسجد، ويقف قليلاً فوق قدر التسبيحة حتى يبتدئ الاعتكاف، ليُحسَب مشيهُ من الباب إلى محلّ الصلاة من جملة الاعتكاف، فيكون أوفر لأجره.
نظر الله إلينا وإليكم، أقبل الله بوجهه علينا وعليكم، وكما جمعنا وإيّاكم على ذكر رسالة المساجد يجعلنا سبحانه مِن خواصّ الساجدين، ويحشُرنا في المعلَّقة قلوبهم بالمساجد يوم القيامة، الذين يُظِلّهم في ظلّ عرشه.
اعزموا العزم الطيّب الصالح، وانووا النيّة الصالحة بما تعمرون به المساجد، من ليلتكم هذه إلى نهاية أعماركم، فمن عمر بيت الله عمر الله بيته، وعمر قبره، وعمر قلبه، والعمارة بعد بناء المساجد ببناء الساجد، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
اللهم حقّقنا بحقائق الركوع والسجود، واكتب لنا القبول والتوفيق والصلاح والنجاح، والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، وأصلح مساجد جاكرتا وإندونيسيا خاصة، ومساجد المسلمين في المشارق والمغارب، وارزقهم أداء رسالتها والقيام بِحَقّها وحفظ أمانتها.
بسرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ... الفاتحة.
06 جمادى الأول 1447