محاضرة في معهد الفخرية في جاكرتا 1447هـ

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في معهد الفخرية في العاصمة الإندونيسية جاكرتا، ليلة الإثنين 28 ربيع الثاني 1447هـ

 

نص المحاضرة:

الحمد لله على حبل الله الممدود، وواسع الكرم والجود، والفيض الذي ينهلّجُ من غير تحديد، والنعم التي تتوالى من دون تعديد. ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحميد المجيد، لديه لأهل سوابق الفضل المزيد، فوق ما يشاءون وينتهي مُرادهم المَديد، (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ).

ونشهد أنَّ سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله خير العبيد، وسيد أهل حقيقة التوحيد، أول شافع ومُشَفَّع في يوم الوعد والوعيد، بهِ كُنا خير أمة، وعَظُمَت به علينا النعمة، وانبسطَ لنا به بساط الرحمة، وكانت واسعة مديدة على قدر ما آتاه الله من وجاهةً وهِمّة، وهمته تعلو جميع الهمم، ومَرَاِتبه خَفَضَت رفيع القِمم، فسبحان من اختصهُ بواسع الجود والكرم، وجعلهُ الأصل لكُلِّ ما وهب سبحانه وتعالى، به ابتدأ وبه خُتِم.

 صلِّ يا ربنا على حبيبك الأعظم، ونبيك الأكرم، صاحب الجاه الأفخم، وعلى آله وأهل بيته الثابتين على طريقه واللَّقَم، وعلى أصحابه أهل الصدق والعزيمة في خير من عَزَم، وعلى من تبعهم بإحسان في خير قَدَّم، وعلى آبائهِ وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين المخصوصين بالفضل الأعظم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم مِن كل مُكَرَّم، وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلى صاحب الذكرى فخر الوجود الشيخ أبي بكر بن سالم، وأصوله وفروعه الأكارم، وكُل صادق عامل عالم، من زيَّن الله بهم العوالم، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا ذا الفضل الدائم.

سر الحضور مع الله

أما بعد، فأحضروا قلوبكم عسى أن تنال نظرة، وتنال من أمطار الجود الإلهي مَطْرَة، (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). والحضور مع الله تبارك وتعالى نتيجة صدق الإيمان، فما مِن صادق في الإيمان إلا وله نصيب من الحضور مع الرحمن، في ساعات يُغْمَرُ فيها قلبه بشهود إحاطة الملك الديَّان، وأنه المُطَّلِع على السر والإعلان، وأنه الأعلم بما في الجَنان من نَفْس الإنسان صاحب الجَنَان، وأنه الذي أحقُّ أن يُهاب، وأحقُّ أن يُرجى منه العطاء والثواب، وهو أحق من يُحَب على سبيل الإطلاق.

وبذلك الحضور تنفتح له أبواب من العطاء الموفور، ويزداد نصيبه في قلبه من النور. وفَّر الله حظنا من ذلكم النور، وجعل كل قلب مِنا بنور الحضور معه معمور، وبكريم المشاهدة مغمور. 

وبالحضور وسِرِّه يعظمُ ما يقوم به العبد من امتثال أمر ربه واجتناب زجره، تعظم فوائد الصلاة والمحصولات من عطايا الرحمن فيها بقدر الحضور. كان الحسن البصري يقول: "ليس للعبد من صلاته إلا بمقدار ما عقل منها"، قال سيدنا الإمام الحداد: "فمن خلت عبادتهُ عن الحضور فعبادته هباء منثور".

وأرسل شيخنا الحبيب عبد الله بن حسن بلفقيه إلى شيخنا الحبيب أبي بكر بن عبد الله العطاس يقول: 

"يا أهل القلوب الحاضرة مع الله ** عسى عسى جاء الفرج من الله". 

فأرسل له قصيدة يقول فيها: "يا أهل القلوب الحاضرة مع الله ** في جنة العرفان والمُصَافَاة ** مُستغرقة به ذاكرة لآلاه".

 وكذلك ما يكون من ذكر للرحمن يعظم أثره على القلب بالحضور، قال سيدنا الحداد: 

وإن رُمت أن تحظى بقلب مُنَوَّرٍ  ** نَقِيٍّ عن الأغيار فاعكف على الذكرِ

وثابر عليه في الظلام وفي الضيا ** وفي كل حال باللسان وبالسرِّ

فإنك إن لازمتهُ بتوجُّهٍ ** بدا لكَ نورٌ ليس كالشمس والبدرِ

ولكنه نور من الله وارد ** أتى ذِكرهُ في سورة النور فاستَقرِ

وجاء رجل لسيدنا كليم الله موسى يقول: "يا كليم الله عَرَضت لي حاجة أدعو الله فيها، فعلمني الاسم الأعظم أدعو ربي به". فَعَلَّمه دعاء يدعو به، فعاد بعد سنة قال: "يا نبي الله إني أدعو الله بهذا الدعاء وما انقضت حاجتي بعد"، قال: "إذا خاطبت ربي فسأسأله عنك"، فلما خاطب ربه قال: "يا رب فلان يدعوك سنة كاملة ولم ير أثر الإجابة، وأنا عبدك الضعيف لو كانت حاجته عندي لرحمته وأعطيته حاجته"، قال: "يا موسى إنه يدعوني هذه المُدة كلها وقلبه مع غَنَمِه، فلو دعاني مرة واحدة وقلبه معي لأجبته"، نوَّر الله قلوبنا بالحضور.

معاني الحضور في الأفعال والعبادات

قال أئِمتنا الكرام: "وأن الحضور في الأفعال كمثل الحضور في الأقوال وأهم"، فالقيام فِعْلٌ في الصلاة بين يدي الله يحتاج إلى حضور، والحضور فيه استشعار أنك واقف وقائم بين يديه محبة وتعظيمًا وإجلالاً وإكبارًا، وهو يراك ويحيط بك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد. 

كذلك في الركوع تشهد الخضوع والانحناء في التواضع القلبي، كذلك في السجود تستشعر التذلُّل التام للمَلِك العلام، وأنك في إجلال وإكبار تضع الجبهة أعز الأعضاء على الأرض مَمَرِّ الأقدام، حتى يتَّصل سجود الجبهة بسجود القلب. وإذا تم سجود القلب لم يَقْدِر صاحبه أن يرفع عن ذلك السجود أبدًا. 

وكذلك في الجلوس بين السجدتين وفي التشهد الأول والأخير، أنكَ قاعد بين يديه خاضع خاشع، تُحَيِّيه بما هو أهله، وفي طلب رضاه تُحيِّي عبده المصطفى محمدًا، وتُحيِّي عباده الصالحين استرضاءً له، كما شَرَعَ ذلك لنا، وتُجدِّد العهد بينك وبينه بالشهادتين. 

وكذلك يمتد الحضور إلى الزكاة، فاستشعار أنها فرض الله وأنّ بذلها من أجله شأن عظيم، وأنواع الصدقات كذلك، قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ..) على حبه: محبة له، يبذلون ما يبذلون محبة لربهم، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا). 

وقد لقي بعض الصالحين صالحًا فأعطاه بعض المال وقال: "خذ هذا ليس لك"، يعني إنما بذلته لله تبارك وتعالى. وكان المُسْتَلِمُ الفقير من الصالحين كذلك، قال له: "وأنت هات لا منك"، هو خلقك وخلقهُ وملَّكك إياه وسلَّط على قلبك فتُسَلِّمَه إليه، فهو المُعطي ما هو أنت.

 وبذلك كنا نسمع العوام يتحدثون بينهم البين بسبب تأثير مجالستهم مع الأصفياء، فيقولون: "الحقيقة ما أحد يعطي أحدًا من الخَلْق، إلا: يا عبدي أعطِ عبدي". وبهذا يعبدون الله بصافي العبادات، لا تتعلق قلوبهم بما في أيدي الناس، ولا يقولون: "فلان أعطاني وفلان منعني، ولا هذا سيعطيني أكثر وهذا سيعطيني أقل".

 أيقَنوا أن العطاء بيد مُعْطٍ واحد، والمنع بيد مانع واحد، وعلَّمهم نبيهم ينادونه ويناجونه بعد كل صلاة: "لا مُعطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت"، فتتعلق قلوبهم بالإله ويصدقون مع الله، فيفتح لهم من أبواب عطاياه فوق وأعظم ما أراده الواحد منهم وتمناه.

اللهم املأ قلوبنا بالإيمان واليقين، وارزقنا الحضور معك يا أكرم الأكرمين. 

كذلك يعظمُ فضل الصوم ويكبر بالحضور مع الله في الصوم، وهو ما أشار الحق إليه في الحديث القدسي: "يَدَعُ طعامه وشرابه وشهوته من أجلي"، من أجلي! فهو حاضر مع الله، يستلذُّ ترك الشهوات من أجل محبة رب البريات، "الصوم لي وأنا أجزي به". 

وكذلك بقية العبادات، قال الإمام عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه عليه رضوان الله الأكبر أن كثيرًا من الناس قد يَبَرُّ أباه أو أمه ولا يجد الآثار التي وجدها أُوَيْس القَرَني، لأنه لم يَقُمْ بالبِرِّ بالعبودية التي قام بها أُوَيْس، وبالحضور مع الله تعالى، القائل: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)، والقائل: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، فمن كان يَبَرُّ والديه عادة أو طبيعة أو عُرْفًا، أو لِيُثني الناس عليه، وما إلى ذلك من قصد غير الله، فلا حضور له بالبر ولا تحصل له النتيجة.

من أحوال أويس القرني

ارتقى سيدنا أُوَيْس القَرَني في مراتب المعرفة الخاصة بالله، واشتهر ذكره في السماوات بين الملأ الأعلى، كُرِّم بذكر رسول الله ﷺ له، بل بأمر عمر وعلي إذا لقياه أن يسألاه أن يستغفر لهما.

وقال عنه ﷺ: "إذا كان يوم القيامة قيل له: قِفْ فاشفع، فيُشفَّع في عدد كربيعة ومُضَر"، وهما أكبر قبائل العرب، ملايين، بل ربما وصلوا إلى مليارات، يشفع في هذا العدد أُوَيْس القَرَني يوم القيامة. 

وكان في عبوديته للرب إذا رماه الأطفال بالحجارة يقول: "يا أولادي إن كان ولا بد، صغيرة صغيرة حِجَار، حتى لا تكسروا رِجْلي فأعجز عن القيام في الليل"، وكان إذا جاء إلى القمامة يلتقط الكِسَرَ من الخبز فيُنظِّفها ويأكل بعضها ويتصدق بالبعض، فإذا حضر كلب أيضًا يلتقط الكِسَرَ فنبح، قال له: "يا كلب خذ مما يَلِيك وأنا مما يَلِيني، فإن أنا جُزْتُ على الصراط فأنا خير منك، وإن أنا لم أَجُزْ على الصراط فأنت خير مني"، قلب متواضع خاضع، فمن تواضع لله رفعه الله، اللهم انظر إلى قلوبنا.

الشيخ أبي بكر بن سالم

وقد كان نفع العباد والإنفاق عليهم في كمال الحضور مع الله ديدن الشيخ أبي بكر بن سالم، فكان يُطبخ في مطبخه في اليوم ما بين سبعمئة قرص إلى ألف قرص من الخبز. ولم يزل على كمال الرحمة بالصغير والكبير والقريب والبعيد. 

وفي عبوديته وحضوره مع الإله مكث خمسة عشر سنة لا يُرَى إلا مُتَوَرِّكًا كأنه في الصلاة، فقيل له: "ألا تتعب يا شيخ من طول هذه الجلسة؟" قال: "هذه جلسة العبد بين يدي السيد، وأنا عبد بين يدي سيدي"، فانظر إلى ما رفعهم الله في الدنيا والرفع في الآخرة أكبر. 

كم من مسافة بيننا وبين مَحَلِّه ومحل نشأته ومحل وفاته، وقد مرت على وفاته عليه رضوان الله تبارك وتعالى أربعمئة واثنين وخمسين سنة، كم في وقته من ملوك وأثرياء وأكابر لا يذكر أحد منهم اليوم، وهو تُعقَد له الحوليات والجموعات المُتوجِّهة إلى رب البريات، هو سر العبودية والانكسار، وصدق التذلل والافتقار إلى الكريم الغفار، فالله يُكرمنا في هذه المجامع والذكريات، بتلك القلوب الحاضرات النيِّرات، وينظر إلى قلوبنا، ويُصفّينا عن شُوْبِنا، ويُذهب عنا جميع الأكدار.

الدعاء وطلب الغوث

اللهم اجعلها ساعة من أبرك الساعات، ومَجْمَعًا من أشرف الجُموعات، واجعلها من أوقات الإجابات، وأسرِع الإغاثات، لكل فرد منا في نفسه وأهله وأولاده وقرابته وأرحامه وجيرانه، وأسرِع الغياث للمؤمنين والمؤمنات، بكشف جميع الكُربات. 

وأصلح إندونيسيا وأهلها، وادفع عنهم الشرور كلها، وألهِمهم الرشد في الحركات والسكنات، وارفع جميع الفتن والمحن. 

وعجِّل بالفرج لأهل غزة وأكناف بيت المقدس، ولأهل الشام واليمن، ولأهل الشرق والغرب.

 يا سريع الغوث غوثًا منك يدركنا سريعًا ** يهزم العُسْر ويأتي بالذي نرجو جميعًا

 يا قريبًا يا مجيبًا يا عليمًا يا سميعًا ** قد تحققنا بعجز وخضوع وانكسارِ

وبارك في هذا الخير الصَّبَّاب على حبيبنا نوفل بن سالم بن أحمد وعلى والديه، وزِدْ أرواحهم سرورًا إلى سرورهم، وهَيِّئنا وإياهم للاجتماع في الدرجات العُلَى، وضاعف الخير والبركة والنفع في أولادهم وأحفادهم وأسباطهم، وفي التلامدة والمُحبين، واجز عنا العلماء خير الجزاء، وارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم.

اللهم اجعلها ساعات استمساك بحبلك المتين، فَنَسْتَمْسِكُ بالعروة الوثقى لا انفصام لها، إيمانًا ومحبة وأدبًا، وقربًا ومعرفة ورضًا، مددنا أيدينا إليك، مددنا أيدينا إليك، فقراء محتاجين، وأنت الغني السخي. 

خزائنك يا ذا الجود لا تنتهي ** بكثرة عطاياك للراغبين

 انظر إلينا وجُدْ علينا، وتولَّنا في جميع شأننا، وأذنْ بالاجتماع في دار الكرامة. 

فيا رب واجمعنا وأحبابًا لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضعِ

ونتجه جميعًا إليه، ونحضر بين يديه، سائلين أن يديم حضور قلوبنا معه. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني: "إني أُعاشِر أهلي وأجلس مع أولادي كمثل حالتي في الصلاة في الحضور مع الله". 

اللهم أكرِم هذه القلوب بالحضور معك، ونتوجه إليه أجمعين، ونقول كلنا: 

يا أرحم الراحمين ** يا أرحم الراحمين ** يا أرحم الراحمين ** فرِّج على المسلمين

 

تاريخ النشر الهجري

01 جمادى الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

23 أكتوبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية