عجائب السوابق من الخالق في تسيير أمر الخلائق واختصاص كل مستجيب صادق

للاستماع إلى المحاضرة

مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الشيخ أبي بكر بن سالم بمنطقة عينات، ضحى الأربعاء 22 ربيع الأول 1446هـ بعنوان: 

عجائب السوابق من الخالق في تسيير أمر الخلائق واختصاص كل مستجيب صادق

نص المحاضرة:

الحمد لله الذي تسري سرايات وجوده في عوالم الغيب وشهوده، بما اقتضته رحمته الأزلية ومنّته السرمدية على من شاء من البرية، فخلق النور المُحمدي والحقيقة المحمدية قبل خلق شيء من جميع الكائنات بأصنافها وبمختلف أنواعها.

ومن ذلك النور خلق سبحانه وتعالى العرش والكرسي والسماوات والأرض، والجنة والنار، والدنيا والبرزخ والآخرة، والأوقات والأماكن، والأجساد والأرواح، بحكمة من حكيم وعظمة من الإله العظيم، قدّر كل شيء تقديرًا، وأحاط كل شيء بعلمه وبعنايته سبحانه وتعالى، وصوّر الوجود تصويرًا.

وأرسل الأنبياء والمرسلين حتى ختمهم بحبيبه الأمين سيدنا محمد ﷺ، فجاءنا بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ونصح الأمة وكشف الغمّة وجلى الظلمة ودفع النقمة، وكان رحمة الله للعالمين وكان خاتم النبيين وسيد المرسلين.

عناية الله بأمته ﷺ:

وبرز من سر عناية الله به العناية بأمته، فتميّزت على جميع الأمم، فكان منهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ثم من اتبعهم على قدر اتباعه يحوز حقيقة ارتفاعه، وحقيقة دنوّه من مولاه جل جلاله، ووعيه لما أوحاه سبحانه وتعالى، وعمله بِمُقتضاه، ووفائه بعهد الله في أقواله وأفعاله، وتسيير نظره وسمعه، وبطنه وفرجه ويده ورجله.

فانضبطت حركاته وسكناته بتوجيهات الإله الخلّاق، وأخذ نصيبه من مكارم الأخلاق، التي جُمعت في الحبيب المصطفى محمد ﷺ، وبُعث لإتمامها. 

وبرز لذلك في الأمة العلماء الأصفياء وخواص الأولياء الأتقياء، ممن كانوا بدورًا للحبيب الأعظم ﷺ بعد بروزه إلى هذا العالم، كما كان الأنبياء والمرسلون في هذا العالم بدورًا له قبل بروزه ﷺ.

فإنه شمسُ فضلٍ هم كواكبها ** يُظهِرن أنوارها للناس في الظُّلَمِ

بُشرى لنا معشر الإسلام إن لنا ** من العناية رُكنًا غير مُنهدمِ

لما دعا الله داعينا لطاعتهِ ** بأكرمِ الرسلِ كُنا أكرم الأممِ

فحمدًا لربٍّ خصّنا بِمُحمدٍ ** وأخرجنا من ظُلمةٍ ودياجرِ

إلى نور إسلامٍ وعلمٍ وحكمةٍ ** ويُمنٍ وإيمانٍ وخير الأوامرِ

بقاء سلسلة الاتصال والتجديد في الدين:

ثم كان من ذلك الفضل الرباني تواصل جود الرحمن الامتناني ببقاء سلسلة الاتصال بصاحب الشرف العدناني، عِلمًا ومعرفة، وذوقًا وسلوكًا، وخُلقًا وإنابة، ودلالة وحسن تبيين على ممرّ القرون، بل وكان التجديد في هذا الدين في هذه الأمة في كل قرن من القرون، وكانت مظاهر التجديد في هذه الأمة في كل قرن مِمّن يُبوَّئهُ الله ذروة التجديد، ومن يقوم معه من أهل التسديد، وأهل الرعاية والاستقامة على المنهج الرشيد.

حتى بثَّ الله أنوار هذه الرسالة وهذه النبوة في شرق الأرض وغربها، بواسطة الصحابة وآل المصطفى والخلفاء الأكرمون.

والخلفاء بعدهُ والعِترة ** بهم مع القرآن مستمرة 

ملّته محفوظة من فترة ** على الهدى دأبًا بلا انفصالِ

وصحبه فيهم لهم نجومُ ** منه عليهم فاضت العلومُ

كلٌّ له مقدّر مقسومُ ** من ظاهر أو باطن أو حالِ

وعناية الله في مختلف الأزمان وفي مختلف الأماكن ترعى من سبقت لهم السعادة، فيُلبّون النداء ويتّبعون الهدى ويُنقذون من كل ردى، ويُسدّدون في أقوالهم ويرشدون في أعمالهم وأحوالهم، ولا يستجيبون لدواعي الأنفس ولا لدواعي الشهوات ولا لدواعي الباطل، بأصنافها من شياطين الإنس والجن، وأكثر من يكون على ظهر الأرض من المنقطعين ومن المحجوبين، ومن المبعودين والمطرودين من المغضوب عليهم والضالين، لا يتأثر المُوفَّق ولا يتأثر من سبقت له السعادة بأطروحاتهم ولا ببرامجهم، ولا بأفكارهم ولا بدعواتهم، ولا بزخرف قولهم ولا بعنجهِيتهم، ولا بدعواهم ولا بكبريائهم ولا بغرورهم.

الركيزة التي قامت عليها المَثَلية للمؤمنين:

وقد ضرب الله لنا المثل في امرأة مؤمنة كان من جزائها في صدقها وصبرها أن تكون في الجنة زوجة لسيد المرسلين وخاتم النبيين، وهي آسية امرأة فرعون، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

فتعلّق قلبها بالعندية والظفر بالمَزية، (عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)، والظفر بِقُربِ الرحمن وطلب ذلك، وما مالت إلى الفرعنة وإلى انبساط شؤون المال وشؤون الحكم التي عند فرعون الظالم، قالت: (وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) فإنهُ عمل سوء (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

ثم ضرب المثل بامرأة أخرى نشأت بين المُقرّبين والصديقين من النبيين والمحبوبين للرحمن: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)، فجعل جل جلاله تعلّق القلوب بقُربهِ وبرضوانهِ وبجنتهِ وإرادة الدخول إليها، وحفظ الوِجهة والنية من الشهوات المُردِية.

(الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا) البعد عن المحرمات، والبعد عن ما نهى عنه رب الأرض والسماوات، هي الركيزة التي قامت عليها المَثَلية للمؤمنين في امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، وكان التاج الذي تتوَّجنَ به: (وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)، أي أرباب القنوت والخضوع والخشوع، وكثرة العبادة والإقبال على الله تبارك وتعالى.

سوابق السعادة للصادقين:

هذا كان مظهر وشرف حقائق الإيمان في من مضى في الأمم، وهي كذلك في هذه الأمة، ولا يزال هذا المَثل قائمًا فيمن سبقت لهم سوابق السعادة من ربكم عز وجل، فهم على هذا القدم: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)، يُحبون الصالحين ويُحبون النبيين ويُحبون المقرّبين ويُحبون الأخيار، ويتمنّون جوارهم ومرافقتهم، والدخول معهم في دار الكرامة.

موقنين أن لا سعادة دون دخول الجنة، وأن لا شرف ولا كرامة دون دخول الجنة، وأنه لا شرّ في شرٍّ بعده الجنة، كما لا خيرَ في خيرٍ بعده النار، وقامت عندهم هذه الحقيقة فصارت آمالهم مُتعلقة بأن يُدركوا الخلود في دار الكرامة والمرافقة لأهل الاستقامة، في معاني: (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وبذلك تجد وِجهاتهم في هذه الحياة صدق مع المولى، صدق في محبته بمحبة أوليائه وأصفيائه، والقيام بخدمتهم، والانتظام في سلك إشارتهم، في تلبية لنداء من الرحمن، قال عنه في القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وكونوا مع الصادقين.

حقيقة الصدق أن لا نتخلف عن رسول الله :

وبيَّن لنا حقيقة الصدق أن لا نتخلف عن الذي جاء بالصدق خير الخلق ﷺ، (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ)، وما كان لحاضر هذه المجالس أن يتخلف عن سنة سيدنا رسول الله ﷺ، ولا عن آداب سيدنا رسول الله، ولا عن الشوق لسيدنا رسول الله، ولا عن الذبّ عن شريعة سيدنا رسول الله، وتطبيقها في نفسه وفي أسرته وفي مناسباته وأفعاله.

وأن يُقدِّمها على رأي كل ذي رأي، وعلى عُرف كل ذي عُرف، وعلى كل نظام وعلى كل قانون في الوجود، (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ)، بل يقتدون به ويهتدون بهديه، ويُقدِّمون محبته على كل محبة في العالمين، فليس فوقه إلا الله.

سيد الرسل قدرهُ معلومُ

أين منه الخليل وأين الكليمُ

أين نوح وأين إبراهيمُ

كلهم عن مقامهِ مفطومُ

فعليه الصلاة والتسليمُ

أين كل العوالم العلويه

أين كل العوالم السفليه

أين كل الورى بِكُل مَزِيّه

إنما فوقه العلي العظيمُ

فعليه الصلاة والتسليمُ

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

ورثة سيد الأكوان ﷺ:

وبذلك قام في الأمة ظهور أسرار العلم والولاية، والإنقاذ من الغواية، وتلألأت أنوار الهداية، على أيدي المخصوصين بتجديد الدين على مدى القرون ممن اصطفاهم الرحمن من ورثة سيد الأكوان ﷺ، فأحيى بهم المعالم وأقام بهم الحُجج وأوضح بهم الطريق والمنهج، وهدى بهم القلوب واستجاب لدعوتهم من أراد الله تنقيته عن العيوب، وتخليصه من الشوب، وأن لا يتعرض لكروب يوم تُقلَّب فيه القلوب، الكَرب الأعظم فيدخل في دوائر قوم: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).

ويُنادَون من حضرة الربوبية (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)، وهذه نهايات الاستجابة لدعوة الله ودعوة رسوله ﷺ.

نصيب من انقاد لنفسه وشهواته:

أما من انقاد لنفسه وشهواته، أما من اتّبع أطروحات الفاجرين والمجرمين والفاسقين في أفكارهم وفي أخلاقهم وخرج عن سواء السبيل، فليس له من حسن المصير نصيب، وليس له من حسن العاقبة نصيب، وليس له من حسن المآل نصيب، ولا يُحشر إلا مع من أُبعد، ولا يُحشر إلا مع من طُرِد، لأنه اتبعهم، لأنه اغتر بأقوالهم، لأنه شابههم، لأنه من أجلهم وأجل أفكارهم ترك سنة الحبيب ﷺ، وخالف شريعة الحبيب ﷺ. 

فترك الصلاة أو منع الزكاة، أو تساهل بصوم رمضان، أو عقّ أبًا أو أمًّا، أو قاطع رحمًا، أو آذى جارًا، أو انطلق في الكلام الخبيث لا يُبالي: يغتاب، ويسبّ، ويلعن، ويشتم، ويكذب، ولا يُبالي ما درى أن وراء اللسان رقيب، وأنه يستطيع بهذا اللسان أن يرقى إلى المقام الرفيع، وأن يتصل بالحبيب الشفيع، بتلاوة القرآن، وبكثرة الصلاة على حبيب الرحمن ﷺ، وبالنصح للناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالأخذ بخواطر الناس، وبانتقاء أطايب الكلام وأحسن القول.

وقولوا للناس حُسنا:

(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)، إذا قالوا غير الأحسن دخل الشيطان، إذا قالوا غير الأحسن وسوس الشيطان، إذا قالوا غير الأحسن أفسد الشيطان بينهم، (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) فلا يقولون إلا القول الحسن، (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا). وقال تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، وقالوا (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)، ولا نسلك مسالكهم، يتشبّثون بالمقرّبين والصالحين، هذا أسلوبهم.

إبراز أهل الصدق وخصوصية الشام واليمن:

والحق تعالى يُبرز من الأولياء ومن العلماء الهادين إليه في كل زمان ما يكفي أهل الزمان، وما يكفي أهل المكان، رعايةً من الله لسيد الأكوان، ثم فيهم عجائب انطواء فيمن يتقدم قبلهم ومن يمضي قبلهم، ودرجات عجيبة يختصّ الله بها أهل الخصوصية بكم من مزية.

وانتشر في العالم آثار زين الوجود ﷺ بالخلفاء الأكرمين، والوَرثة المقرّبين الصادقين -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- في مختلف الأزمنة، "وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِّنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ"، و "ليجدنّ ابن مريم - يعني سيدنا عيسى - عند نزوله الأرض قومًا في أمتي مثل حوارييه، من أنصار الله سبحانه وتعالى عليهم الرضوان.

فالخير باقٍ في الأمة، فبرز في الشام واليمن وهما بقعتان مُخصوصتان من بعد الحرمين الشريفين بعنايات ربانية عظيمة، فبرز في الشام واليمن من وصول الصحابة ومن وصول آل البيت الطاهر ومن وفرة الأكابر من ورثة المصطفى محمد ﷺ.

وكان مظهر استجابة ربنا تعالى لرسوله في قوله: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا"، وكرّر الدعوة ثانيةً وثالثة، ولما كرروا عليه: "وفي نجدنا وفي نجدنا"، قال: "هناك الزلازل والفتن، ومنها يطلع قرن الشيطان"، صلى الله على نبينا المصطفى محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بِهُداه.

ثم ما جاءت من الإشارات في الأحاديث المتتاليات في الشام وفي اليمن، حتى أخبر في مجموع أحاديثه أنه عند هياج الفتن في آخر الزمان واختلاط الأمور، وذهاب صور ومراكز أهل الطغيان والكفر، واختلاط الأمور في العالم؛ أن يكون الشام واليمن مركز للإيواء للغرباء وللحفظ من الفتن والآفات، مهما كانت الأحداث ومهما حصل من الشؤون في الظهور والبطون هنا وهناك، فإن الأمين المأمون ينطق عن إذن عالم الظهور والبطون، ومن يقول للشيء كن فيكون، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ٭ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وانتشروا من الشام ومن اليمن في شرق الأرض وغربها، وخصَّكم الله في حضرموت من اليمن بوفرة كاثرة من العترة الطاهرة، ومن الصحابة ومن التابعين ومن الأنبياء من قبل، ثم من تابعي التابعين، ثم من كثرة العلماء العاملين المخلصين الصادقين، وتوفّروا وتكاثروا في مُدن حضرموت وفي قراها، حتى وصلت الأنوار إلى بواديها وإلى كثير من نواحيها، بحسب ما سبق في القسمة الإلهية من حضرة ربنا جل جلاله، وهدى الله من هدى.

ومع ذلك فالشام واليمن كغيرها من بقاع الأرض تتوارد عليها أحوال وظروف مختلفات، وتتعاقب عليها دول وشؤون وسلطات وتأثيرات عرفية وقَبَلية ودولية، ومع ذلك كله فيظل الخير باقيًا في أهله، ومُتعمقًا في القلوب التي استجابت لنداء الرحمن الأعلى، ورعتها عين عنايته في السر والنجوى جل جلاله وتعالى في علاه.

تتعاقب وتتوالى الظروف والأحوال، ويبعد المبعود ويُطرد المطرود ويخسر الخاسر ويسقط الساقط، ويبقى أرباب الصدق وأرباب الثبات في عطايا من الله وافرات وألطاف ظواهر وخفيات.

 فيا رب ثبتنا على الحق والهدى ** ويا رب اقبضنا على خير مِلّةِ

أثر وفادة الإمام المهاجر على حضرموت:

وخصّ الله الوادي بعد مرور زمن الصحابة والتابعين بوفادة الإمام المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى، في أول القرن الرابع بنور ساطع متصل بالحبيب الشافع، أقوى الاتصالات وأثبت الاتصالات وأتم الاتصالات في الظواهر والخفيات، نسبًا طينيًا ونسبًا دينيًا ونسبًا علميًا، ونسبًا معرفيًا ونسبًا ذوقيًا ونسبًا خُلقيًا، ونسبًا عقليًا ونسبًا فكريًا ونسبًا في الوجهة من كل الجوانب، حلّ ما حلّ الوراثة الكاملة لزين الوجود ﷺ، حتى تمثّل فيه ما قال زين الوجود في جده الحسين: "حُسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا".

ولما رأى الإمام عبدالله بن عمر بن يحيى حبيب الله ﷺ وقال: أنت فرحان بخروج أحمد بن عيسى المهاجر إلى حضرموت، أجابه الحبيب فقال: أنا أفرح بكل ما يفرح به أحمد بن عيسى، يعني أحمد بن عيسى صار فرعًا لي بكل معنى، لا يُحب إلا ما أحب ولا يُفكر إلا فيما أريد وأفكر، ولا يمضي إلا فيما أرتضي، أنا أفرح بكل ما يفرح به أحمد بن عيسى، في وراثة "حسين مني وأنا من حسين".

وتفرّع مِن أولئك الأقوام ومن كان معهم من المُستجيبين من مختلف المُقبلين من القبائل التي لبّت نداء الرب سبحانه وتعالى، وتعلّقت باكتساب الفضائل والتخلي عن الرذائل، ولم تزل تسطع البدور واحدًا بعد الثاني حتى جاء علي خالع قسم وجاء محمد صاحب مرباط.

وبرزت شمس الفقيه المقدّم محمد بن علي عليه رضوان الله تبارك وتعالى، مُجدّدًا بالجدّ والصدق ورسوخ القدم، والثبات الكامل في سِعة العلوم وعُمق الفهوم والصدق مع الحي القيوم، وإرث النبي المعصوم ودفع الظلمات والوُهوم، والصدقات والأخلاق الفاضلات، وجدّدَ سير المؤمنين في وجهتهم بحسن الإصغاء لوحي الله وبلاغ نبيه الأمين محمد ﷺ، وكان مثالًا لزين العابدين علي بن الحسين عليه رضوان الله في علومه وفي عبادته وتبتّله، وفي كرمه وإنفاقه وإعطائه وسخائه إلى غير ذلك من المكارم. 

وتوالت البدور وبرز بدر الإمام عبد الرحمن السقاف، وتوالت البدور في أولاده الذين أقلّ واحد منهم كالجنيد بن محمد سيد الطائفة في بغداد، وليس فيهم قليل، 

وكل واحد منهم ** مثل الجنيد أصغرهم ** لي كان شيخ أهل الله 

بسر التربية والاتصال وبسر الإصغاء لكلام الله وكلام رسوله ﷺ، وتفرّع منهم الأكابر، حتى ظهر الإمام شهاب الدين ومن في زمنه وطبقته بعد الإمام العيدروس والإمام العدني ومن في طبقاتهم. 

آثار صدق الشيخ أبي بكر بن سالم:

وبرزت شمس فخر الوجود والعوالم، الشيخ أبي بكر بن سالم، وبسوابق من مكوّن الأكوان جرى قدمه إلى هذا المكان، وأقام في هذه البلدة فكان لها شأن وعُدّة في حفظ العهد والوفاء به، وفي خدمة الشريعة والدين والملّة، بل في تجديد الدين لهذه الأمة في مختلف القبائل ومختلف جهات حضرموت، بل ومختلف جهات اليمن، بل ومختلف جهات من الشام ومصر وأفريقيا ومن الروم، ووفدت الوفود إلى وسط هذه البلدة وإلى وسط هذه القرية وإلى وسط هذه المدينة، وفدوا من أقطار الأرض شرقها وغربها عربًا وعجمًا، لمكان إرث سيد العرب والعجم، الحبيب الأكرم ﷺ. 

ومِن قبل أن يبرُز ويظهر بنحو المائة السنة في هذه البقعة صلّى أحمد بن علوي بن عبد الرحمن السقاف، والأرض هذه خبت وليس فيها ديار إلا ديار داخل نائية لبعض آل كثير، فصلّى في المكان والمكان كله من هذا الزرع والشجر، قال: هذه بقعة لولد لنا يأتي وارث للمصطفى يُجدّد الدين، هذا مصلّاه، هذا مسجده، وهناك يشير إلى بيته: وهناك تربته ومقبرته.

ومرّت السنون وجاء الشيخ أبو بكر بن سالم ،ونزل المنازل وأقامها بأمر الحي القيوم جل جلاله وتعالى في علاه، والتفّ أهل السوابق من أهل العنايات والرعايات، من حُداته ومن خُدّامه ومن تلامذته، ومن الآخذين عنه ومن المتصلين بِسنده، وازدهوا وازدهى بهم الوادي بل والعالم والكون، حتى مرّ على الطريقة المُثلى في صِدقه مع الملك الأعلى؛ متواضعًا، مُتخشعًا، منيبًا، بكّاءً من خشية الله ومن محبة الله ومن معرفة الله، حاضر القلب مع الله، بقي سبعة عشر سنة لا يُرى إلا متوركًا، يقولون: ألا تتعب من هذه الجلسة؟ فيقول: هذه جلسة العبد عند السيد، هذه جلسة العبد بين يدي سيده، وأنا عبد بين يدي سيدي. يشهد ربه، ويرغب ربه، ويخاف ربه، ويُعظّم ربه، ويُحب ربه، ويُكرِم ربه، ويُقدّر أمر ربه، فيبقى على هذه الهيئة في خشوعه وحضوره -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. 

وبسر هذه السوابق الأزلية دامت هذه الخيرات وحصل ما حصل من تجديدات، وحتى فتح الله في البلدة مسجدًا بعد مسجد، وجاء الرباط المُبارك المُنوَّر على يد الحبيب حسن بن إسماعيل الحامد، مُلتفًّا مُرتبطًا بالمناصب في وقته والأولياء والمقرّبين، الذين كانت تعج بهم عينات، بل ومن في زمنه في حضرموت وغيرها عليه رحمة الله، على قدم النسُك والصدق والإخلاص والتواضع عليه رضوان الله تبارك وتعالى.

العودة إلى المسالك الحميدة:

واستمرت الأمور وجرى ما جرى من الأوضاع وغيرها، وها أنتم في عودة إلى تِلكم المسالك الحميدة والمناهج الرشيدة، واجتماعات يضمّ هذا المسجد منكم من شرق الأرض وغربها عدد، ويضمّ المسجد هذا منكم في هذه الساعة من مناصبنا وكبارنا وعلمائنا وأهل السر فينا، وأهل الظاهر والباطن من الإنس والجن والملائكة الأعداد الكثيرة بأمداد وفيرة ليس لها عدّ ولا حد، 

لمن يُحسن التلقي منا وتلبية النداء، لمن يخلّص نفسه من هفواته، يخلّص نفسه من شهواته، يخلّص نفسه من الاستجابة للهوى والاستجابة للنفس الأمارة والاستجابة لشياطين للإنس والجن. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، يخرج بعيدًا عن الشبهات، بعيدًا عن الحرام، بعيدًا عن الكذب، بعيدًا عن الضر، بعيدًا عن الأذى بالمسلمين، مُتعشِّق للقرآن، مُتعشِّق لسنة سيد الأكوان، مُتعشق لذكر الرحمن، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ٭ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، والنتيجة: (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ)، قال تتولعون بالذكر فيذكركم هو، ويشغل ملائكته بذكركم، (يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا).

سلام قولا من رب رحيم:

هذه العطايا المُعجّلة ومخبوء لهم أمر كبير، أشار إليه بقوله: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ)، سلام مِن مَن؟! سلام مِن مَن؟ سلام مِن مَن؟ يأتيك يا هذا الإنسان! سلام مِن مَن؟ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)، (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) جل جلاله (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ٭ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ).

يُسلّمون عليهم من عند أنفسهم ويأتون لهم بالسلام من عند الله، يقول: فلان، يا ولي الله، يدخل عليه المَلَك: الرحمن يُقرئك السلام، الرحمن يقرئك السلام، ويأتونهم بالسلام، ومنهم من يكشف الله له الحجاب ويسمع سلام الله إليه مباشرة في دار الكرامة: (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ).

وأما من ضيَّع هذه الفرص واتبع الهوى (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)، أُبعِدوا إلى بعيد، لا سلام ولا قرب ولا إكرام! بل يُخاطَبون من حضرة الجبروت: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ). فرق بين (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) وبين (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)، فالحذر من طريقة أهل (اخْسَئُوا فِيهَا)، وهم الذين يُحِبون ما حرّم الله ويتركون ما فرض الله.

تميز شهر ربيع الأول :

فالحمد لله الذي جمعكم في هذا اليوم المبارك، في هذا الشهر الأنوَر المُعطَّر بذكر الحبيب وبميلاده فيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، شهر ربيع الأول الذي تميَّز بميلاد الحبيب الأكمل ﷺ، فتطاوَل على الشهور كلها وتقدَّم على الشهور كلها ببروز زين الوجود فيه ﷺ.

وفي علماء بلدكم يقول:

ذا ربيع أول المشهور شأنه مُعظَّم 

نبتهج حين ما يقدم ويا خير مقدم

واجتمعنا بتعظيمه عسى ينجلي الهم

في بلاد ابن سالم لي به السور مُحكم

والقبب سبع واهل السور قُم يالغشمشم

الدعاء:

الله يكرمنا في هذه الساعة بنور حتى لا يبقى منا واحد إلا لبّى قلبه نداء ربه، إلا لبّى قلبه نداء ربه بأحسن التلبية، حتى يُرقّينا بأعلى الترقية.

يا رب اجعلنا مِمن اختصصتهم بفائض جودك وواسع إحسانك وواسع إمدادك، كما أنت أهله بما أنت أهله، فألحقتهم بالصالحين صالحين، وجعلتهم في حزبك المفلحين.

اللهم تُب علينا وعلى الحاضرين، واجعلهم أسبابًا لنشر النور في ديارهم وأسرهم وأهاليهم وأولادهم وبلدانهم، واجعلنا وإياهم ممن ترعاهم عين عنايتك في جميع الأطوار، برحمتك يا كريم يا غفار.

وعجِّل بتفريج كروب المسلمين، وارفع البلاء عن أهل فلسطين وأهل لبنان، ومن يعتدي عليهم الصهاينة الظالمون الغاشمون المعتدون، واخذلهم واخذل مَن يعينهم على ذلك، واخذل من ينصرهم على ذلك الشرّ، من عندك يا جبار لقِّهم الردى، واقطع عنهم اللهم مدد الإمهال واجعلهم للمؤمنين فداء.

والطُف بالمسلمين في المشارق والمغارب، تغيًّرت بهم الديار وتغيرت عليهم الآثار، وتبعثروا وتطيّروا وتهجًروا من مكان إلى مكان، فيا كاشف الغُمم يا جالي الظلم، بالحبيب الأكرم والمجمع المُفخّم، عجِّل بتحويل الحال إلى أحسنه، عجِّل بتحويل الحال إلى أحسنه، عجِّل بتحويل الحال إلى أحسنه، ورُدّ عنا كيد الكائدين وشر أعدائك أعداء الدين، ولا تُبلِّغهم مرادًا فينا ولا في أحد من المسلمين.

وتُب علينا توبة نصوحًا، تُب علينا توبة نصوحًا، تُزكينا بها قلبًا وجسمًا وروحًا، واجعل حظنا من بقية ربيع الأول مُوفرًا كاملًا، واجعل سعدنا تامًا عظيمًا، ووفِّر حظنا من بقية لحظات أعمارنا حتى تجعل خير ساعاتنا ساعة يلقاك كلٌّ منا يلقاك وأنت راضٍ عنه يا رب العالمين.

يا الله بها يا الله بها يا الله بحسن الخاتمة، وثبِّتنا على ما تُحِب واجعلنا فيمن تحب، والحمد لله رب العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

22 ربيع الأول 1446

تاريخ النشر الميلادي

25 سبتمبر 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية