(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مسجد الشيخ حسن بن عبد الرحمن السقاف في حارة الخليف بمدينة تريم، ليلة السبت 28 جمادى الآخرة 1444هـ بعنوان:
حسن الاستجابة لنداء الحق والسلوك بنورانية وحيه أمام تنوع التجارب البشرية وتزعزع الفهم في معاني الخطاب
الحمد لله على نعمةِ التوجُّهِ إلى الله والتلْبيةِ لنِداه والاتباع لِمُصطفاه، وهذا مسْلكُ الهِداية وهذا سببُ الرُّقِيّ إلى المراتب العالية، وهذا سبب الفوز والسّعادة، في الغَيب والشَّهادة، في الدُّنيا والآخِرة.
جمَعَكم الحقُّ تبارك وتعالى كما سمِعْتم في المسجد المُبارك النَّوير فيما بين المغرب والعشاء، وسماع شمائل المصطفى محمد وكلام الله وكلام رسولهِ، وسمعتم هذا الكلام الطيِّب العذب الخارج من القلب الذي يحْدو القلوب لِأن تدرِكْ حقيقة، الحقيقة التي يوقِفكم عليها.. والدنيا ملآنة بالناس بالتجارب، وساعة واحد يجيب لكم تجربة، كل ساعة واحد يجيب لكم تجربة؛ في الأفكار، في الأخلاق، في التَّلَقِّي، يجيبون لكم تجارب يُجرِّبون عليكم، وجدوا فينا صُوران وبُلْهان يمشُّون كل تجربة.. وإلَّا الطريق واضح، المسلك قويم والصراط مستقيم والسند عظيم، وهذه الطريقة الناجحة سواءً في قراءةِ هذه الكتب النافعة أو في أخْذ هذه الأخلاق الفاضلة، أو قَرْن العلم بالعمل أو تَوَقِّي موجبات الخَطَل والزلَل وظهور الفضائح في يوم القيامة فإن الظُّلم ظُلُمات يوم القيامة إلى غير ذلك، مسلك وتجربة قَويمة أصْلها تلبية لِنداء ربَّاني، ما هي تجربة بشريَّة لكن بشر لبَّوا نداء الرب الأكبر بدعوة حبيبه الأطهر صلَّى الله عليه وسلم، نجحوا وأفلحوا وفازوا وسَعِدوا وجاءتكم الزُّبدة من وحي الله وبلاغ رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، وصلتْ إليكم وهيّأ الله سبحانه وتعالى لكم في الوادي المَيمون أئمة ورجال كبار، من الصادقين المُخلصين المُنيبين الخاضعين الخاشعين المُقْبلين بكليِّاتهم على رب العالمين.
فهمُ القومُ الذين هُدوا ** وبفضل الله قد سُعِدوا ** ولغير الله ما قصدوا ** ومع القرآن في قَرَنِ
عليهم الرضوان، ونجحوا وفازوا وربِحوا وانتشر على أيديهم الإسلام في المشارق والمغارب، وقامت على أيديهم تطبيقات شؤون الشريعة في الأفراد وفي الأُسر وفي المجتمعات، بلْ وقامت تحت أمْرِهم أيضاً وتحت توجيههم وتعليمهم دول وحُكَّام وسلاطين امتثلوا أمر الله وجعلوا الأمر للشرع، وإذا بالعالَم عندنا يمتلئ، ذا يقول بغينا نقيم خلافة الإسلام، وذا يقول بغينا نقيم راية الإسلام، وذا يقول بغينا نقيم الدولة الإسلامية وتطاحنوا بينهم البَين واعْتجنوا وتضاربَوا وتجرَّأوا على المتقدّمين، وتجرَّأوا على من في زمنِهم من العلماء والصالحين، وإذا بهم كل ساعة يجيبون لنا تجربة ويوم كذا ويوم كذا ويوم كذا وكلها خرْبطة في خرْبطة من هنا ومن هناك.
لِمَ والطريق واضح! لِمَ والسبيل بيِّن! لمَ وهذا مسلك فيه واحد بعد واحد من عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى من أدْركْنا من شيوخنا! ما أحد منهم على قول العوام عندنا (قرْشهُ خَنْ) ماحد منهم، كلهم على استقامة وعلى تقوى عليهم رضوان الله.
أبٌ يتلقَّى عن أبيهِ وهكذا ** فيا لَكَ من آباء كرامٍ وأجدادِ
مسلسلةً عنهم أسانيدُ أخْذِهم ** إلى خير محمودٍ وأشرفِ حمّادِ
صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم، وقد بُعِث بالشريعة الغرَّاء وأقام لنا المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها، ترَكَنا عليها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فيها موازين التعامل مع المسلمين، مع الكفار، مع المُقْبلين، مع المدْبِرين، مع المُحبِّين، مع المُبْغضين، مع الدنيا، مع الدين، مع الأرض، مع الحيوانات، مع النباتات؛ موازين ثابتة.
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)
(الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)
ما هذا الميزان الذي وضَعَهُ ربكمْ؟ هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ).
فتكونوا أهل حق لأنكم تأخذون النور من الرَّبِّ جلَّ جلاله، بواسطة رسُلِه وورثةِ رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحْبهِ وسلَّم، ما هُو تجرُبة! وهم هؤلاء شُوفوهم يُجرِّبون ولا زالوا في تجارُب، والتجارب كلَّها حقهُم فاشِلة والتجارب كلها حقهم مؤدِّية إلى هلاك، وما ترَوْهُم يُهْلِكون بعضهم البعض؟! يُهْلكون النَّاس ويرجعون يتهالكون بينهم البين.
وهذه سُنَّة الله في الوجود، يا ويلْ من أعْرض عن ذِكر الله، يا ويل من أعْرض عن أمر الله وخالَفهُ، وارتكب ما حرَّم الله سبحانه وتعالى عليه في قول أو فعل أو في معاملة.
وسمعتمْ في مثل ما نزل في هذه المجالس، إيش الذي يحْصل للقلوب! ايش الذي يحْصل من تقريب! إيش الذي يحْصل من فضل! إيش الذي يحْصل من وصْل! ايش الذي يحْصل من تنْقية إيش الذي يحْصل من تصْفية، بأنفاس العارفين بالله وأنفاس المُقرَّبين، طريقة قَويمة ومسْلك ناجح ثابت ما هو بالتجربة، أصْلهُ نِداء ربَّاني، لبَّوه ونجحوا وأفلحوا، قَرْن بعد قَرْن وطائِفة بعد طائِفة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا كما قال سيدنا الحدّاد:
وإنّا على آثارهم وسبيلهم ** وما نحن عن حقٍّ لهم بِنِيامِ
فيا ربِّ ثبّتنا على الحقِّ والهُدى ** وياربِّ أقْبِضْنا على خير ملَّةِ
تراهُم في عقْدِ هذه المجالس يُهَيِّؤون النّاس للرب، وللقُرب من الربّ وللمعرفة بالرب، وللخضوع للرب وللخشوع للرب وللإخلاص لِوَجهِ الرب جلَّ جلاله، وينتبهون من أشْهُرِهم ومن أيامِهم ولياليهِم، يأتيهم شهر رجب فيكون لهم الاستغفار ويكون لهم الإقبال ويكون لهم التَّوجُّه، ويكون لهم التنبُّه ويكون لهم الخضوع ويكون لهم الخشوع، وهذا الذي ما عرَف المسْلَك الحق ويظل يُجرِّب كلمة من هنا وكلمة من هنا، إذا قالوا النَّاس "ربِّ اغفرْ لي وارحمني وتب عليّ" قام شل نفسه! جلسة بعد صلاة وما زالت الملائكة تُصلِّي على أحدكم مادام في مجلسهِ الذي يصلِّي فيه، تقول اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تُبْ عليه، حتى قال بعض أهل العلم: لو سمع الملائكة ما عاد بيقوم من مكانه، وهذا مستعجل بيقوم.. "رب اغفر لي" ما يحتاج للمغفرة؟! ما يحتاج للرَّحمة؟! وأكبر من ذلك يقول لك هذا بدعة وإلّا ذا وإلّا كذا، ويُظل يُستهزئ بهم ويضحك عليهم، والقرآن صريح في أنَّ أهلِ هذه الدعوات يسْتهزئ بهم من يسْتهزئ في الدنيا فيكون مآلهُمُ النار فيعاتِبهم الجبَّار جلَّ جلاله.
(قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا)
ضحِكتوا عليهم، قلْتم ما يعْرفون أو قلتم مبتدعين أو ما معهم شُغُل أو قلتم مِن أين جابوا هذا! أو قُلْتم ما قلْتم وهم يدْعون ربهُم جلَّ جلاله.
(حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)
الفائزون أهل الذِّكْر، الفائزون أهل الدعاء، الفائزون أهل التضرُّع، إذا أقبل أهل الجنة على بعضهم البعض (قالوا وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)، كانوا في مجالس الدعاء وكانوا في مجالس التضرُّع، والحق يقول لنبيِّهِ سيِّد الذاكرين وإمامهم: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ).
فيا ما أحْسنها مِن مسالك سَلكَها خيارُ الأمَّة، وخصَّ الله واديِكمْ منْها بخُلاصة الخُلاصة ولُبّ اللُّب فالحمد لله على ذلك، وعلينا أن نعْرف قدْر النِّعمة، ونشكرها ونقوم بِحقّها ونصدق مع الله سبحانه وتعالى، ونعْمُر مساجدنا ونعْمُر قلوبنا ونعمر ديارنا بما عمَرَ به الأصْفياء والأتْقياء والأنْقياء، ديارهم وقلوبهم وأُسرهم وأهاليهم وبلدانهم، وعمروها بالتقوى وعمروها بالإخلاص وعمروها بالصدق، وعمروها بالانقياد لأمر الشرع المصون، وعمروها بِسُنَّة النبي الأمين المأمون صلى الله عليه وآله وسلم.
وهكذا يهِلُّ علينا إن شاء الله شهر رجب بفرج للمسلمين وغياث للمسلمين وبُعد عن التَبعية للفُسَّاق.
لما ذكَر النبي صلَّى الله عليه وسلّم شؤون اغترار كثير من أمته بما يَطرح عليهم ذا وذاك، قال: " لتَتبّعن سَنَن من قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضبٍّ لدخلتموه"، مكانكم خلاص بلا عقول وأنتم تتبِّعون اللذي يملون عليكم هؤلاء؟! يقول يا رسولُ الله اليهود والنصارى؟ قال "فَمَن؟" يهود ونصارى ومُلْحدين وكفار يقودونَكم وتمشون وراءهم! والعياذ بالله تبارك وتعالى، يُخالفون بينكم ويُخالفون بين قلوبِكم، يقْطعونكم عن ربكم جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
فما أخْطر تتبُّع هذا السَّنَن الخبيث، وما أحسن اتِّباع الأصفياء والأتقياء والأولياء والمحبوبين عند الله تبارك وتعالى، الذي شرَّف الله بهم المنازل والديار والمساجد، ومُجرَّد ما تدخلها تحسُّ بالرَّوْحنة وتحس بانشراح في صدرك، تدوِّر له في كثير من مساجد في شرق الأرض وغربها ما تحصِّله بهذه الصورة، من الذي أعطاهم؟ من الذي منحهم؟ وأسباب ذلك صدْقهم وإخْلاصهم، ولا يزال الصادقون والمخلصون في كل مكان لهم من الإمدادات الربانية والفيوضات الإحْسانية نصيب، وفي بلدتكم نصيب وافي ونصيب كبير.
اعرفوا قدْر النعمة واعْرفوا قدْر المُنعِم، واستقبلوا رجب بالأدب والتوجُّه إلى الربّ، سيدنا علي يُفرِّغ نفسه للعبادة أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان.. تفريغ للعبادة، ومن أين يتفرَّغ للعبادة بأمر من؟ بتعليم من؟ من أين يجيب وِجْهته؟ من أين يجيب مسْلَكه؟ ومن صِغَره هو في رِحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم. وما يُمْلي عليه إلا هو، ولا يأخذ إلّا منْه حتى صرَّح وقال"أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها"، ويُفرِّغ نفسه للعبادة في أول ليلة من ليالي رجب، ومن دعواته في خضوعه وتذلله كما سمعتم وفي كلام الحبيب حسن أن الله يقول أنا عند المنْكِسرة قلوبهم، يقول "اللهم إنّ مغْفرتك للظالمين وأنا من الظالمين فاغفر لي" هذا علي بن أبي طالب! لا إله إلا الله.
الله يملأ قلوبَنا بالإيمان واليقين، ويعيد علينا عوائد الصالحين، ويبارك لنا في إقْبالة شهر رجب وفي شعبان ويبلِّغنا جميعاً رمضان، ويجعلنا من القائمين بحقِّه والظافرين في حياتنا بما ندرك به الفوز الأكبر، والسعادة العظمى في الدنيا والأخرى، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
01 رَجب 1444