أسرار المحبة ومكانتها في اليقين وأحوال المؤمنين
مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في مجلس الذكر والتذكير في شعب النبي هود عليه السلام ليلة الثلاثاء 6 محرم 1447هـ، بعنوان:
أسرار المحبة ومكانتها في اليقين وأحوال المؤمنين
- 0:46 جنان المعرفة الخاصة
- 2:43 الخوف والرجاء عند العارفين
- 5:24 عظمة معرفة الله
- 7:38 التوجه بالصدق إلى الله
- 9:35 التحقق بالمحبة
- 11:19 ذوق حلاوة الإيمان
- 17:40 قصة الغار ومحبة أبي بكر
- 20:22 المحبة أساس الهجرة والنصرة
- 21:37 تحذير من تدنيس محبة القلوب
- 22:22 أثر المحبة في البيوت
- 23:02 مستشفى القلوب
- 24:23 مدّ الأيدي إلى الله
- 26:13 الدعاء بزيادة المعرفة والمحبة
- 27:49 سؤال التوبة والاستغفار
- 32:19 وصايا ختامية
لتحميل المحاضرة (نسخة إلكترونية pdf) اضغط هنا
نص المحاضرة:
يا مَن لا إله إلا هو، جمعتَنا بفضلك ودَعوتَنا بِطَولك إلى ساحات فضلك وطَولك، والتوسُّل إليك بك وذاتك وأسمائك وصفاتك وأنبيائك ورُسُلك، فلك الحمد على ما مننتَ، لك الحمد على ما تفضّلتَ، لك الحمد على ما وهبتَ، لك الحمد على ما منعتَ، زِدنا من فضلك ما أنت أهله، زِدنا من فضلك ما أنت أهله، زِدنا من فضلك ما أنت أهله وأتمِم النعمة علينا، وأتمِم النعمة علينا.
جنان المعرفة الخاصة
ومبدأ جمال إتمام النعمة دخولُ الجنة - كما قال ﷺ - دخول الجنة، والتي يسبقها لأرباب القلوب جِنان المعرفة الخاصة في هذا العالم ويدخلون فيها.
قال ﷺ للصحابي الذي تولَّع قلبه بسورة الإخلاص وأخذ يُكرّرها، وفي كل ركعة في الصلاة يقرأها، فلما انتخبه يوماً أميراً على سَرِيّة، سمعوه في المغرب والعشاء والفجر في كل ركعة بعدما أن يقرأ الفاتحة وشيئاً من القرآن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وعجبوا منه وقالوا: ما سمعنا هذا من رسول الله ولا أحد من أصحابه في المدينة، فإما تقرأ لنا بسورة أو تقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تكتفي بها، قال: لا، أنا هكذا صلاتي، أقرأ بعد الفاتحة ما تيسَّر وأختم بـ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فإن أردتم أحداً منكم يُصلي بكم فقدِّموه، قالوا: لا، أنت أميرنا ولا نتقدّم عليك.
فلما رجعوا إلى رسول الله ﷺ أخبروه الخبر، فلما أخبروه قال: "ما حملك على ذلك؟" قال: إني أحبها لأنها صِفة الرحمن، قال ﷺ: "حبُّك إياها أدخلك الجنة"، حبُّك إياها أدخلك الجنة، ما قال سيُدخلك الجنة، قال: أدخلك الجنة، فهو في الجنة هنا في أسرار معرفته بالحق جل جلاله، وهو مُهيَّأ لدخول الجنة هناك حيث يكون الأمان التام، مَن لا يرجع إلى العقب ولا يرجع إلى الوراء.
الخوف والرجاء عند العارفين
ولم يزال الناس كذلك حتى قالوا في صُلحاء الأمة وأخيارها في أدبهم مع عالِم جهرها وإسرارها جل جلاله، أنّ الذي أحزن قلوب العارفين وأبكاهم حتى كَثُر بكاؤهم ذِكر ساعة ذَبح الموت، خشية أن تأتي وأحدهم في الدار الأُخرى.
عندما ينادي المنادي وقد ذُبِح الموت - وهو تعبير مِن زَيْن الوجود عن إبراز قضاء يقضيه الملك المعبود - يُصوِّر الموت وهو أمر معنوي مكتوب على النفوس في هذه الحياة كلها، ثم بعد ذلك يأتي الاستقرار في الجنة أو النار؛ فتصدر الإرادة الإلهية برفع هذا الموت حتى لا يموت أحد من أهل الجنة ولا من أهل النار.
فيُصوَّر الموت المعنوي بصورة ذلك الكبش ويذبحه سيدنا يحيى، وينادي المنادي: "يا أهل الجنة خلوداً فلا موت، ويا أهل النار خلوداً فلا موت". قال: وبكى عارفون بالله خشية أن تأتي هذه الساعة وهو في الدار الأخرى في النار والعياذ بالله تبارك وتعالى.
فهذا كان خوفهم، حتى قال قائلهم: لو أني أدخلتُ رِجلي اليُمنى الجنة ولم تدخل يُسرى بعد، لم آمَن مَكر الله! جل جلاله وتعالى في علاه، وكل هذا مع قوة إحسان ظنّهم بالله وثِقتهم به، مُتوافق ومُتواكب ومتركِّب تركيبة صحيحة أساسها المعرفة.
ومَن عرف الله لابد أن يخافه، ومَن عرف الله لابد أن يرجوه جل جلاله وتعالى في علاه، مَن عرف الله أيقن أنه يُسعِد ولا يُبالي، ويُشقي ولا يُبالي. وهو كما قال سيدنا علي زين العابدين: أنت أهلٌ أن لا يغترَّ بك الصدّيقون، ولا ييأس من رحمتك المُخلِّطون والغافلون والجاحدون، ما أنت أهلٌ أن لا يقنط هذا من رحمتك، ولا يغترّ هذا وهو صِدّيق، ولا يغترّ بك الصدّيقون، ولا أن ييأس من رحمتك المُقصّرون والمذنبون والمُخلِّطون والجاحدون والفُسّاق.
عظمة معرفة الله
فهو هو كذلك جل جلاله وتعالى في علاه، أجلّ وأعلى من أن يُحيط به مُحيط، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)، وهذا الذي شاء أَدخلَ في بحره من الأنبياء والملائكة، فحازوا أسرار علومٍ من علم الله تبارك وتعالى عَظُمت وجلّت، لا تحملها السماوات ولا الأرض ولا تحملها الجبال.
وشأنها شأن جميع السماوات والأرض مع العرش والكرسي التي لا تكون السماوات والأرض في جنبه إلا كمثل حَجرة مُلقاة في فلاة من الأرض، أو سبع حصيات مُلقاة في فلاة من الأرض، مع العرش والكرسي كلها بالنسبة لما عرّفهم سبحانه وتعالى مِن علمه ومِن علم صفاته وأسمائه قليلة وحقيرة ويسيرة.
مع ذلك والله لم يُحِط بواحدة مِن صفاته ولا بواحد من أسمائه مَلَك ولا نبي ولا صدّيق ولا مُقرَّب، ولن يُحيطوا! ولن يحيطوا حتى بالاسم من أسمائه، حتى بالصِّفة من صفاته، فكيف بذاته العَليّة؟
وهم في تَرقِّيهم وسط الجِنان ومع النظر إلى وجه الكريم المنّان لا يُحيطون بأسمائه ولا بصفاته فضلاً عن ذاته، وفي كل ما يتجدّد النظر يتجدّد لهم ويتَّسِع هذا العلم والمعرفة ولا يُحيطون، وفي الثالثة والرابعة والخامسة وإلى الأبد ولن يُحيطوا، لأنه الله، لأنه الله! جل جلاله وتعالى في علاه.
يُحيط بكل شيء، (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) جل جلاله.
التوجه بالصدق إلى الله
بفضله أحضركم؛ لتتذلّلوا فيُعزّكم، ولتتواضعوا فيرفعكم، ولتخشعوا فيُقرّبكم ويتجلّى عليكم جل جلاله وتعالى في علاه، وعطايا الحق التي ما تسعها السماوات والأرض وخصَّ بها قلوب الأنبياء والأولياء مِن بعدهم، ما أعظمها! ولا يمكن أن يُتحصَّل على شيء يَقرُب مِن عظمتها في عالم الماديات ولا الحسّيات ولا الكائنات ولا السماوات ولا الأرض.
ولذا وجهتنا في كل صلاة: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ). قال سيدنا الحسن بن صالح البحر: فلا يبقى له مطلوب سماوي ولا أرضي، لأنه توجّه للذي فطر السماوات والأرض، فلا يبقى له مطلوب أرضي ولا سماوي.
(وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، وسيد مَن تحقّق بهذا محمد ﷺ، وبعده الأنبياء والمرسلون والملائكة المقرّبون، ثم الصدّيقون من غير الأنبياء، أهل الصِّدِّيقية الكبرى منهم ثم مَن يليهم، وهم الذين توجّهوا بالصدق بوجوههم إلى فاطر السماوات والأرض.
وسمعنا البارحة أمر الله لحبيبه أن يُعلِن عن وجهه الكريم أنه إلى أين مُتوجّه: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)، وقلنا وفي قوله (وَمَنِ اتَّبَعَنِ): إذنٌ من الله له أن يأخذ وجوه أتباعه فيُسلِمها للحضرة، يُسلِمها للحق جل جلاله وتعالى في علاه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
التحقق بالمحبة
دعاكم وجمعكم وأسمعكم، وإن شاء الله ينفعنا وينفعكم، ويرفعنا ويرفعكم، ويسمعنا ويسمعكم، ويُرقّينا ويُرقّيكم، وينتقينا وينتقيكم.
يا حيّ يا قيّوم، فيك الأمل وأنت الرجاء، وإليك المرجع والمآب، وأنت ربّ الأرباب، وأحبابك المُقرّبون مِن أجلك أحببناهم لك، فحقِّقنا بحقائق محبّتهم؛ حتى تجعل لنا من سرّ محبّتك ما نرتقي به في محبة أحبابك إلى الدرجات العُلى، يا الله، حتى نُمسي ليلتنا هذه وكلّ قلبٍ مِنّا أنت ورسولك أحبّ إليه مِمّا سواكما يا الله.
أحضِروا قلوبكم وتوجَّهوا بها إليه، ما يُعطي هذه العطايا غيره، ولا يهب هذه المواهب سواه، ولا يمنح هذه المِنح أحد عداه، الله تعالى في علاه! توجّهوا إليه، يُكرم هذه القلوب، يُكرم هذه القلوب، يُكرم هذه القلوب.
نبيت ونُصبح ونحيا ونموت وهذه قلوبنا لا أحبّ إليها من الله ورسول الله، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.. وبها تُذاق حقائق الإيمان ويُترقّى في مراتب الشهود.
ذوق حلاوة الإيمان
"ثلاثٌ من كُنّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما"؛ وبذلك يتحرّر في علائقه بالخلائق، فلا تقوم له علاقة إلا مِن أجل الخالق وإلا بالخالق سبحانه وتعالى، "وأن يُحبّ المرء لا يُحبّه إلا لله".
ويبدو طُهره ونقاؤه عن أن تعلَق به الشوائب بكراهته للكفر والمعصية، "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النار".
بها تُذاق حلاوة الإيمان، ومَن ذاق حلاوة الإيمان ولع بالرحمن ولزم الباب ولاذ بالأعتاب، ويَفتح البوّاب، وهناك العطاء بغير حساب ولا غاية ولا نهاية، قال الله لأعلم الكُلّ من خلقه: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وعلى النبي هود، وعلى الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم.
وهذا المطلب نُلِح على الرب سبحانه أن يُكرمنا وإياكم به؛ أن نبيت ونصبح ونحيا ونموت والله ورسوله أحب إلينا مما سواهما! والله ورسوله أحب إلينا مما سواهما! وما أعظم ذلك وما أجل ذلك، وما أكبر ذلك!
ولولا ما عُلِّمنا على لسان رسول الله محمد مِن عظيم فضل الله ما قدرنا ننطق بهذا المَطلب فضلاً عن أن نطلبه! ومثلنا أقل من أن يذكره، نَعم والله! ليس أقل مِن أن يطلبه.. أقل من أن يذكره! نحن كذلك، ولكن كما كُنّا عدم فأوجدنا، كذلك جعل الذي ليس بأهل لشيء أن يؤتاه، فأوتينا ذِكره، سمعنا على ألسُن أصفيائه وأوليائه ثم آتانا وأَذِن لنا أن نسأله، وأن نطلبه مِنه جل جلاله، فنسأل الذي أنعم بهذه النعم أن يُتِمّ النعمة علينا.
ومنهم من يُعجَّل له، فمن الليلة يُصبح غير ذاك الإنسان! على غير ذاك الحال، على غير ذاك الوصف، على غير ذاك الشعور، على غير تلك المعرفة، على غير ذاك الذوق، ذوق ثاني ومعرفة ثانية، وحال ثاني! عالي شريف مُكرَّم.
لا تحرِم نفسك بإصرار على غفلة وإصرار على تبعِيّة لنفس أو هوى، وتُحرِم نفسك هذا العطاء الكبير مِن الكبير جل جلاله وتعالى في علاه.
يا رب لا تجعل فينا محروماً، لا تجعل فينا شقياً، وعُمَّ بهذا العطاء وأوصله إلى كل من في ديارنا وأهلينا، وذرارينا وقراباتنا، وإلى السامعين وإلى من في ديارهم، وإلى المُتعلقة قلوبهم وإلى من في ديارهم.
يا أكرم الأكرمين، يا أول الاولين، يا آخر الآخرين، يا ذا القوة المتين، يا راحم المساكين، يا أرحم الراحمين، اجعلنا نبيت ونصبح ونحيا ونموت وأنت ورسولك أحب إلينا مما سواكما، وأن نُحِب المرء لا نحبه إلا لك، وأن نكره الكفر والفسوق والعصيان كما نكره أن نُقذف في النار، أعطِنا ذلك يا وهاب، أكرمنا بذلك يا رب الأرباب، امنحنا هذا العطاء يا ذا الغيث السكّاب، والجود المُنساب، يا من يعطي ويرزق بغير حساب، يا الله، يا الله.
أوقفكم على بابه، ولُذتم بأعتابه، مُتوجهين إليه بذاته وأسمائه وصفاته وكتابه وأحبابه، اللهم لك الحمد، أتمِم النعمة علينا وعليهم يا ربنا يا ربنا، يا ربنا يا ربنا، يا ربنا أجِب دعواتنا، وبلِّغنا فوق أمنياتنا يا الله.
كأس المحبة سقيته كم مِن قلب في هذا المكان، في هذه الرحاب، في هذه الساحة، ومَن لقلوبنا غيرك يا رب! فانظر إلى هذه الأرواح واسقِها من هذه الراح.
يا الله بذرّة من محبة الله ** نفنى بها عن كل ما سوى الله
ولا نرى من بعدها سوى الله ** الواحد المعبود رب الأرباب
فما أُرَجّي اليوم كشف كُربة ** إلا إن صفى لي مشرب المحبة
ونِلت من ربي رِضا وقُربة ** يكون فيها قطع كل الأسباب
قصة الغار ومحبة أبي بكر
وبِسِرِّ المحبة جاءت الهجرة، وبسرِّ المحبة كان النوم ثلاث ليالٍ في الغار، لا فرش ولا وسادة ولا سرير ولا شيء، وعلى الحجر! وجعل سيدنا أبو بكر رِجله وسادة لسيد الوجود، ولسعته الحيّة أول وثاني وثالث وهو قابض رِجله ما يُحرِّكها خشية أن يُزعِج حبيب الله مِن منامه، حتى اشتدّ الألم ودمعت عيناه ووقعت قطرة بلا اختياره على وجه الحبيب.
ففتح عينيه: "ما يُبكيك يا أبا بكر؟" قال: حيّة تنهشني - تلسعني - قام قال: "ارفع رِجلك"، قرأ عليه فكأن لم يكن به شيء، قال: اخرج الحية، فأخرج الحيّة.
فأول ما وصلوا إلى ذلك الغار في أول ليلة، وبات ثاني ليلة، وبات ثالث ليلة! ونحن نبيت أين؟ نحن وإياكم كل ليلة، ولو أحد قال لك: في الجبل هذا نم هكذا وحدك… ستقول له ما يصلح لي هذا! وهذا مِن أجل مَن؟ المحبة!
المحبة! وهو أبو بكر، لولا المحبة ما كان صاحبه في الغار، ولا نصَّ الإله الجبّار على هذه الصُّحبة وسط الغار، ليلة من أبي بكر، كان يقول سيدنا عمر: خير من عمر وآل عمر. ليلة من أبي بكر، قال وأشار إلى ليلة الغار، (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ).
لمّا وصلوا إلى الغار ووجد فيه الثقوب، قال: يا رسول الله، انتظر، أخشى يكون فيه شيء من الحيّات. وقطع الرداء - وهو الرداء الذي معه، ما عندهم لا فراش ولا غطاء، هذا الرداء فقط - قطع الرداء وسدّ به، وبقيت واحدة ألقمها رِجله، وضع رِجله فيها، قال: ادخل يا رسول الله.. وضع رِجله قال إن فيها شيء أتركه يلسعني أنا ولا يصل إلى النبي ﷺ.
وصادف حيّة فيها، في هذا المكان، وخرجت الحيّة، ويقول بعض أهل الذوق: إنما الحيّة أرادت تتشرّف بالرؤية، ووجدت رِجل أبي بكر تمنعها، فقالت له ابعد من طريقي، ولهذا قال له ﷺ أخرِجها، وأخرجها.. والآن ستقتلها وهي مرتاحة قد رأت الوجه الشريف، وهي حيّة من الحيّات!
وأيّ جماد أو حيوان ما يعرف قدر محمد؟ وهو حبيب الذين يُسَبِّحون بحمده، حبيب الذي يُسبّحون بحمده، الذي يُسبّحون بحمده ما أحبّ أحد كما أحبَّ هذا صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.
المحبة أساس الهجرة والنصرة
وكان ما كان، والهجرة كلها قامت على المحبة، والنُّصرة في المدينة قامت على المحبة، ولولا المحبة ما خرجوا معه، ولولا المحبة ما جاهدوا معه، ولولا المحبة ما بذلوا أنفسهم ولا أرواحهم ولا أموالهم، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
فيا من وهبتهم هذه المواهب نسألك يا أكرم الأكرمين أن تُكرِم هذه القلوب، أن تُكرِم هذه القلوب! واجعل اللهم لنا جائزة في زيارتنا هذه أن تنظُر إلى قلوبنا نظرة فتملأها بمحبّتك ومحبة رسولك يا الله، ومحبة أحبابك من أجلك، فلا نُحِبّ إلا مَن أحببتَ وإلا ما أحببتَ.
ونعوذُ بعظمتك أن يتخلَّل إلى قلوبنا محبة مبغوض لك أو عدوّ من أعدائك؛ فتمقتنا أو تحشرنا في زُمرته، فلو عَبَد الله عابدٌ عند الكعبة بين الركن والمقام سبعين سنة ثم مات، لم يُحشَر إلا مع مَن يُحبّ. "أنت مع مَن أحببتَ".
تحذير من تدنيس محبة القلوب
فيا أحباب، غالية قلوبكم، لا تُدنِّسوها بمحبة الدَّنَس، لا تُدنّسوها بمحبة البُعداء عن الله، بمحبة الشهوات القاطعة عن الله! زيِّنوها بمحبّته، وهو أحقّ مَن تُحِبّوه: خالقكم، رازقكم، موجدكم، مُصوِّركم، فاطركم، المُنعِم عليكم، مَن بيده أمركم، وإليه مرجعكم.
هو أحَقّ مَن تُحبّوه! تصرفون محبة قلوبكم لمَن؟ وهو خالقكم وخالق قلوبكم جل جلاله، ومُنشئكم من العَدم، ومرجعكم إليه سبحانه. والجمال كله له، والجلال كله له، والإحسان كله منه وإليه جل جلاله.
أثر المحبة في البيوت
اللهم املأ قلوبنا بمحبتك، نسألك حُبّك وحبّ مَن يُحبّك وحبّ عملٍ يُقرّبنا إلى حبّك، ومِن أثر هذه المحبة تعرفون تتصرّفون في أُسَركم وفي أهليكم.. ما عاد يبقى في البيت شيء لا يُحبّه الله: لا قول، ولا صورة، ولا برنامج، ولا عمل، ولا معاملة! لا شيء يبقى في البيت مما يكرهه الله.
الله يُحقِّقنا وإياكم بحقائق هذه المحبة، ولا عاد يبقى في خواطركم شيء يكرهه الله جل جلاله، وتبقون أصفياء له سبحانه وتعالى حتى يصطفيكم.
مستشفى القلوب
في هذا المقام الكريم قالوا:
كم رقَوا من مراقٍ عاليات الصعودِ ** تحت ستر الدياجي والورى في رقودِ
كم سُقوا مِن رحيقٍ في كؤوس الشهودِ ** في مثاني قيامٍ أو مُثنّى سجودِ
قُدّسوا ثَمّ - في المكان هذا - قُدّسوا ثَمَّ مِن رِقّ السِّوى والقيودِ
قُدّسوا ثَم!
يا مَن قدّستهم وطهّرتهم، نحن في المكان الذي قدَّستهم، ونسألك يا رحمن - وعزّتك لولا فضلك ما تقدَّس أحد - وأنت القائل: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ)، ونحن أحببناهم من أجلك، وتوجَّهنا بهم إليك أن تُقدِّسنا مِن رِقّ السِّوى وقيود الالتفات إلى الغير، يا الله يا الله يا الله.
مستشفى القلوب أحضركم إليها، له الحمد وله المِنّة! من أين جئتم بالتذاكر حقّها؟ هذا توفيقه، هذا فضل الله، اللهم لك الحمد، وكل متوجّه لابد له من نظرة من هذا الإله جل جلاله.
مدّ الأيدي إلى الله
إن الله حَييٌّ كريم يستحيي إذا مدَّ العبد إليه يديه أن يردّهما صِفراً، مُدّوا أيديكم إليه، واستشعروا كيف شرَّفكم، ما امتدّت إلى غيره! لو أهانكم لامتدّت إلى سواه، لو أهانكم لامتدّت إلى مَن عداه.
نمدّ أكُفّنا إليه جل جلاله، ونبسُط أيدينا إليه جل جلاله، لك الحمد يا مَن وفّقتنا، لك الحمد يا مَن أوقفتنا على بابك ورزقتنا سؤالك وطلبك، وشرَّفتنا بمدّ الأيدي إليك، لا تردّ يداً لنا صِفراً، وهَب لنا من عندك نوراً وذُخراً، وجوداً وفخراً، وعطايا كُبرى، ومِنناً مِن حضرة إفضالك علينا تترى، دُنيا وأُخرى يا الله، يا الله، يا الله.
والملائكة في السماوات العُلى إليك يمدّون أيديهم، والأنبياء والأولياء وأهل البرازخ والحياة إليك يمدّون أيديهم، أنت الذي بيدك الأمر وحدك لا شريك لك، وقد شَرّفتنا بِمَدّ أيدينا إليك فاقبلنا، فاقبلنا وافتح الأبواب لنا، وإلى رحاب قُربك أدخِلنا، ومن نور المعرفة أشرِق في قلوبنا.
الدعاء بزيادة المعرفة والمحبة
اللهم إنا نسألك أن تزيدنا بك معرفة، وأن تزيدنا مِنكَ ولك محبة، وأن تُدخِلنا في الأحبّة، وأن تجود علينا في محبّتك بأنعمِ وأهنأ شَربة يا الله.
فما أُرَجِّي اليوم كشف كُربة ** إلا إن صفى لي مشرب المحبة
ونلتُ من ربي رضاً وقُربة ** يكون فيها قطع كل الأسباب
على بساط العلم والعبادة ** والغيب عندي صار كالشهادة
هذا لعمري مُنتهى السعادة ** سبحان ربي مَن رجاه ما خاب
قد قال ابن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يُحِبّ القرآن فهو يُحِبّ الله.
ارزقنا حبّك وحبّ مَن يُحبّك، حبّ كتابك وحبّ سيد أحبابك، وحبّ النبي هود، وحبّ الأنبياء، وحبّ المرسلين، وحبّ الملائكة المُقرّبين، وحبّ العباد الصالحين، وحبّ المؤمنين أجمعين عامة وخاصتهم خاصة، يا مُعطي العطايا، يا مُسدي المِنَح والهدايا، يا وهّاب المواهب والمزايا، يا عالم الظواهر والخفايا، يا الله، يا الله.
سؤال التوبة والاستغفار
وإنا نتوبُ إليك، يا مَن يُحِبّ التوّابين ويُحِبّ المتطهّرين؛ اجعلنا من التوّابين، واجعلنا من المتطهّرين، واجعلنا من عبادك الصالحين.
اجعلنا من التوّابين، واجعلنا من المُتطهِّرين، واجعلنا من عبادك الصالحين، يا الله.
وأحبابنا الذين ينالونَ وصول الأذى من الكفّار والفجّار اجعلهم من التوّابين، اجعلهم من المُتطهّرين، اجعلهم مِن عبادك الصالحين، حتى تثبُت الشهادة لِكُلٍّ منهم يا الله.
ومَن مِن المسلمين يُقاتل المعتدين والضالين والكافرين والظالمين، نسألك اللهم أن تجعل أولئك المجاهدين مِن التوّابين ومن الشاكرين ومن الذاكرين ومن المُتطهّرين ومن عبادك الصالحين، وأن لا تجعل لهم نِيّة إلا أن تكون كلمتك هي العُليا، يا الله.
فارزقهم في قتالهم أن لا يُقاتِلوا إلا بمقصد ونيّة أن تكون كلمتك هي العُليا، وما خالفَ ذلك من المقاصد والنيّات زَحزِحهُ عن قلوبهم وأخرِجه من صدورهم، يا الله، حتى يصِحّ جهادهم فتنصرهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
واجعل هذا المقصد راسخاً في قلب كُلٍّ منّا، نتحرّك في حياتنا لتكون كلمتك هي العُليا، لننصر دينك ومِلّتك وقرآنك ونبيّك محمداً، وسُنّته وهديهُ ومِلّته وآله وصحابته، وورثته وما جاء به عنك يا الله، تقبَّل مِنّا، انظر إلينا، اعفُ عنّا، يا أرحم الراحمين.
وحرِّكوا قلوبكم بالتوبة إليه نَدَماً عن كل ما حصل مِنّا، في ماضي أعمارنا، مما علمنا ومما لم نعلم، في سرّنا وإجهارنا.
يا توّاب تُب علينا، يا توّاب تُب علينا، وارحمنا وانظر إلينا.
نستغفر الله العظيم، نستغفر الله العظيم، نستغفر الله العظيم، الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم ونتوب إليه، من جميع الذنوب والمعاصي والآثام، ظاهرها وباطنها، بيننا وبين الله وبيننا وبين عباد الله، ومِن جميع ما يعلمه الله.
نستغفر الله لما يعلمهُ الله، نستغفر الله كما يُحِبّه الله، نستغفر الله لما يعلمه الله، نستغفر الله كما يُحبّه الله، نستغفر الله لما يعلمه الله، نستغفر الله كما يُحِبّه الله.
تُب علينا يا ربّ، اغفر لنا ما مضى، واحفظنا فيما بقي، اغفر لنا ما مضى، واحفظنا فيما بقي، اغفر لنا ما مضى، واحفظنا فيما بقي، يا توّاب يا وهّاب، يا ربّ الأرباب، يا الله.
وما بقي من أثر عُقدة إصرارٍ في قلبِ أحدٍ من الحاضرين معنا أو السامعين، فبذاتك وأسمائك وصفاتك ومحبوبيك: حُلَّ عُقدة الإصرار، حُلّ عُقدة الإصرار، حُلّ عُقدة الإصرار عن قلوبنا أجمعين.
واقبلنا يا توّاب، يا مَن يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، يا مُجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، يا ربّ الأرضين والسماوات، يا الله.
وصايا ختامية
واعمروا بكتابه وقرآنه دياركم ومنازلكم وقلوبكم، وأهلكم وأولادكم، ودوموا على هذه التلاوة وعلى الذِّكر له كُلّ ما استطعتم، في ليلكم ونهاركم وصباحكم ومسائكم.
وتعاونوا على البر والتقوى، وتوجَّهوا إلى الله في شأن المسلمين في المشارق والمغارب، وفي شأن الأحياء ومَن في القبور، يا ربّ مَن كان في نعيمٍ زِدهم نعيماً إلى تنعيمهم، وتكريماً إلى تكريمهم، ومَن كان مِن أهل القبور من المسلمين مُعذَّباً في قبره، فارفع العذاب عنهم، فارفع برحمتك العذاب عنهم، فارفع برحمتك العذاب عنهم.
واجعل قبورهم وقبورنا مِن بعدُ رياضاً مِن رياض الجنة، لا تجعل فيها حُفرة من حُفَر النار، يا كريم يا غفّار، يا ذا الغيث المِدرار، يا حيّ يا قيّوم، يا الله، برحمتك يا أرحم الراحمين.
يقبلنا الله وإياكم. (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، برحمتك يا أرحم الراحمين.
والحمد لله ربّ العالمين.
06 مُحرَّم 1447