(535)
(339)
(364)
كلمة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في مسجد سلطان، سنغافورة، ظهر الجمعة 25 ربيع الثاني 1447هـ بعنوان:
المرء على دين خليله
الحمد لله المحيط بكل شيء، والقائل: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد اَلقَيُّوم الحي، (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أكرم جليس في الخلائق، وأعظم خليل بِمُخَالَلته يُتَقَرَّب إلى الخالق، وعلى آله وأهل بيته وصحابته من المهاجرين وأهل نُصرته، الفائزين بِصُحبَته ومُخَالَلته، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان بظاهر أمره وسريرته، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
أما بعد؛ فإن الله تبارك وتعالى خالق الإنسان كوَّنه على هيئة تتأثر بالجليس والخليل، وبذلك نطقت الحكمة: "قُل لي مَن تُجالس أقل لك مَن أنت". وقد جاءنا الحديث الشريف بقوله ﷺ: «اَلمرءُ على دينِ خليلهِ، فَلْيَنظُرْ أحدكم مَن يُخَالِلُ». يعني: لِيَنْتَبِه ويُقِيم الميزان ويُحسِن النظر فيمن يُخَالِلُه، فإنه لا بد أن يَتأثَّر به، وأن تَسْرِي صفاتُه إليه، وأن تتأثر أخلاقه به، بل أن يتأثر فكره به، بل ويميل قلبه إليه؛ فيكون ذلك مُوجِباً للحشر معه في القيامة، فإذا كان هذا الأمر على هذا الشأن الخَطِير، فيجب الاِختيار الدقيق للخليل.
بل تبدأ الآثار عند الإنسان من حين أن يكون جنيناً في بطن أمه، يَتَأثَّر بما تقول أمه، بل وبما تفكر فيه أمه، إن كان طيّباً أو خبيثاً، بل بما تنظر إليه أمه وتُشاهده، وبما تَسْمعه من الأقوال مما يَتكلَّم به أبوه أو إخوانه في البيت وهو جنين، أو تَسمعه في الجوال والبرامج؛ كلّها مؤثرات على هذا الجنين.
ومن هنا أمرنا رسول الله ﷺ أن نَتَخَيَّرَ لِنُطَفِنا، فنختار الزوجة الصالحة، قال: «فإن العِرْقَ دَسَّاس». وإذا كان هذا الأثر وهو جنين، فكيف الأثر بعد خروجه من بطن أمه؟ فقد شُرِعَ لنا أن نُؤَذِّن في أُذُن المولود اليمنى عند ولادته ونُقِيم الصلاة في الأذن اليسرى، فلو لم يكن من تأثير وفائدة ما شرع لنا رسول الله ذلك؛ ليكون أول ما يَطرُق سمع المولود عند خروجه من بطن أمه ذكر الله وذكر رسوله محمد.
ثم إن ما تأكله أمه من طيب أو حرام كذلك يُؤَثِّرُ عليه في رَضَاعِه، وكان الصالحون من المؤمنين يَشرطون على الأم والمُرْضِعة أن لا تُرْضِعَ الولد إلا بعد تسمية الله، وأن تستمر وقت رَضَاعِه في ذكر الله من تلاوة أو من أي ذكر من الأذكار، فمع ما يَرْضَعُ من اللبن، يَرْضَعُ نور الذكر للرحمن.
بل كان الصحابة في المدينة المنورة يُولَد لأحدهم مولود فلا يُطعمه شيئاً حتى يَحمله إلى زين الوجود، ويقول لزوجته: إذا ولدتِ في الليل لا تُرْضِعِيهِ ولا تُطْعِمِيهِ حتى أحمله في الفجر إلى رسول الله. فيحمل معه تمرة يُلَيِّنها رسول الله ﷺ بفمه، ثم يُحَنِّكُ بها الصبي، فيكون أول ما يدخل جوفه ريق رسول الله.
وخرج أولئك أبطالاً هُدَاةً في الأمة، ممتلئين بمحبة الله ومحبة رسوله، ثم كانوا يَحملونهم من وقت إلى آخر إليه، فيَضعهم على رجله الكريمة، فإذا مَيَّز أحدهم، أحضره معه أبوه إلى المسجد، وبعد أن يُصلي رسول الله الضحى، يقول له: ادخل معه إلى البيت، فإذا وجدت الإناء الذي توضأ منه في الليل بقي فيه ماء فاشرب منه. فلو رأى عملهم هذا أحد ممن لا يعرف السُنَن لقال إن الصحابة مُتصوِّفُون، ويُرسل أحدهم بماء مع ولده يَحمله إلى رسول الله ليضع رسول الله يده فيه، فيأتي به إلى البيت فيشرب أهل البيت كلّهم من هذا الماء.
وإذا كان هذا التأثير في أيام الطفولة والصبا، فكيف التأثير عندما يبدأ فِكْرُ الإنسان يتحرك على الأشياء؟ فيبدأ التأثير أكثر عندما يَتَهَيَّأُ الولد أو الابن أو البنت للخروج إلى المدرسة، فيحتاج إلى عناية أبويه أكثر فأكثر؛ حتى لا يتأثر بشيء من السيئات عند زملائه ومَن يُصاحِبه في التعليم.
وأما عند مُقَاربة البلوغ فالتأثير أكبر؛ فِكْراً وتَصَوُّراً واِعْتِقَاداً وسُلُوكاً. حتى انتهى الأمر ببعض الكفار وهم كفار أن يختاروا للأولاد ويُصْدِروا قوانين بأن يكونوا في بيوتهم يدرسون عن بُعد؛ لِما رأوا من التأثر في الاِختلاط السيئ في المجتمع الذي أدَّى بهم إلى مشاكل كثيرة.
بل اِنتهى الأمر في بعض دول أوروبا أنهم عندما يُكمل الإنسان مرحلة التعليم الأساسي صاروا لا يعتمدون في التعليم العالي على شهادته، ولكن يسألون عنه أساتذته ويسألون عنه مَن يُجالس ومَن يُصاحِب؛ فَيُقَيِّمونه بذلك لقبوله في الدراسة العليا. اضطَرَّهم لذلك واقع الحياة، من حيث التأثر الفكري والتصوري والمعاملة، ليس نظرهم من حيث الدين ولا يؤمنون بالآخرة، لكن المشاكل الاِجتماعية والمادية في حالة الأولاد وتَدَنِّيَهم في التحصيل العلمي ومشاكلهم في المجتمع.
وبذلك يقول الحبيب عبد الله الشاطري عليه رحمة الله: ما ضَرَّنا غير الجليس وغَرَّنا ** وأضاعنا فَتَحَرَّ في جُلَسَاكَ
بل من عند ما يَتَعَلَّقُ الطفل بِالأَلعاب إلكترونياً أو غيرها، فيَتَأثَّر بما فيها.
ونعرف بهذا مكانة الصحابة؛ إذ مَن جليسهم؟ خالَلُوا من؟ وفي الحديث الآخر: «اَلمرءُ من جليسه». وهؤلاء جالسوا أكرم مَن يُجالس في الخَلْق أجمعين، فالحَطُّ من قَدْرِهم حَطٌّ من قَدْرِ الجليس. كان جليسهم أكرم جليس، فلذلك هم كانوا أفضل الصحابة في الأنبياء كلهم. ونبينا خير الخلق على الإطلاق، وأمته خير الأمم، وصحابته خير صَحْبٍ، وآلُه خير آل.
وهكذا يحصل التأثر القوي من الجليس، أراد الإنسان أو لم يُرِدْ. وهذا واضح في المثل الذي ضربه ﷺ، قال: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير». فقال: فبائع المسك إما أن يُحذيك (يعني: يُعطيك)، أو تشتري منه تبتاع، أو تجد منه رائحة طيبة. ونافخ الكير إما أن تَطِير شرارة فَتُحْرِقَ ثوبك أو تَخلُص إلى جسدك، أو تجد منه رائحة خبيثة.
فهل يملك أحد أن يُجالِس نافخ الكير الذي يَنفُخُ بالكير في النار الذي يَطير منه الشرر، ثم يقول: أنا سأُجالِسه ولا يمكن أن تأتي إليَّ شرارة ولا يمكن أن أجد رائحة خبيثة؟ فهل تَستأذنك الشرارة عندما تَطِير وتَقَعُ عليك أم لا؟ وهل تملك أنفك وشمك أن لا يَشُمَّ الرائحة الموجودة؟ فكل مَن اِختار صُحبة الأشرار والفُجَّار لا بد أن يتأثر بهم.
قال سيدنا الإمام الحداد:
واصْحَبْ ذوي المعروف والعلم والهدى ** وجانب ولا تصحب هُدِيتَ مَن افتتنْ
ونعلم أيضاً أن رُقي الصالحين من الأمة والعارفين كان بواسطة مجالستهم لأكابر ممن كان قبلهم.
وقال الحبيب علي الحبشي:
وَإيَّاكُمُ مـِن صُحبةِ الضِّدِّ إِنَّنِي ** رَأَيْتُ فَسَادَ المَرْءِ صُحْبَةَ أَضْدَادِ
فَفِي صُحبةِ الأَضْدادِ كُلُّ رَذِيلَةٍ ** تُؤَدِّي إِلَى ضُرٍّ وَبَغْيٍ وَإِفْسَادِ
وَفِي صُحْبَةِ الأَخيارِ كُلُّ غَنِيمَةٍ ** وَرِبْحٍ وَفَوْزٍ لَيْسَ يُحْصِيهِ تَعْدَادِ
هُمُ العلماء العارفون الذين في ** مجالسهم للمرءِ أعظم إسعادِ
وقال:
أُفِيدُكَ أَنَّنِي جَالَسْتُ قَوْمَاً ** حدَوْنِي بِالمَقَالِ وَبِالفِعَالِ
رِجَالاً مَا رَأَيْتُ لَهُم مَثِيلاً ** يُزَعْزِعُ حدْوُهُم صُمَّ الجِبَالِ
فَحَرَّكَ حدْوُهم قَلْبِي فَأَبْدَى ** غَرَامَاً مِنهُ فِي حُبِّ الجَمَالِ
صار مُتَعلِّقاً بالله، ومُتولِّعاً بالله، ومُشتاقاً إلى قُرْبه ورِضاه. وفي ذلك قال العارفون الصالحون: مَن لم يَرَ وجه مُفْلِحٍ كيف يُفْلِحُ؟ ومَن رَأَى وجه مُفْلِحٍ بنِيَّةٍ وأَدَبٍ كيف لا يُفْلِحُ؟.
وأثبت هذا رسول الله ﷺ، وأن التأثير حتى بالنظر. ففي صحيح البخاري: «يَغْزُو فِئَامٌ من الناس، فيُبطئ الفتح عليهم، فيُقال: هل فيكم مَن رَأَى رسول الله؟ فَيُقَدِّمونهم فيُفتَح لهم»، ثم يَغْزُو فِئَامٌ، فيُبطئ الفتح عليهم، فيُقال: هل فيكم مَن رَأَى مَن رَأَى رسول الله؟ وهكذا ذَكرَ إلى الصف الثالث؛ ففيه تأثير النظر.
وصحبة الأخيار تُهَيِّئ روحك لصحبة النبي محمد، وصُحْبَة روحك للنبي محمد تُهَيِّئُكَ لِحُسْنِ مُجَالَسَةِ الله، فالله جليسك الذي لا يَغيب عنك.
اللهم ارْزُقْنَا حُسْن المُصاحبة، وحُسْن المُجالسة، واجعلنا من جُلساءِ الأخيار والصالحين برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
أَصْلِح أولادنا وأهلينا وبيوتنا وذوينا، وجَنِّبهم صُحبة الأشرار والفُساق والفُجَّار في السر والإجهار يا رب العالمين، الحمد لله رب العالمين
08 جمادى الأول 1447