للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المجلس الثالث من مجالس الدعوة إلى الله في شعب النبي هود عليه السلام، ضمن محاور (تقوية الإيمان وتقويم السلوك) ، ليلة الجمعة 8 شعبان 1446هـ بعنوان:

مكانة القدوة النبوية وعظيم نتائجها

لتحميل المحاضرة مكتوبة (نسخة إلكترونية pdf):

https://omr.to/dawah46-3-pdf

فوائد مكتوبة من المحاضرة:

https://omr.to/dawah46-3f

نص المحاضرة:

الحمدُ للهِ، المَلِكِ الحَقِّ الخالِقِ، الإلهِ الواحِدِ الرازِقِ، مَن بيدِهِ أمرُ المُلْكِ والمَلَكوتِ وجميع الخلائِق، نشهدُ أنَّهُ اللهُ الذي لا إلهَ إلا هو، وحدَهُ لا شريكَ له، شهادةً ينتشرُ نورُها في كلِّ قلبٍ مِن قلوبِنا وقلوبِ الحاضرينَ والسامعينَ، حتى تتولَّعَ بهذا الإلهِ وتتولَّه، وتشتاقَ وتعشقَ وتتدلَّه، شهادةً تثبُتُ بها في الصدورِ من الإيمانِ قواعدُهُ، وتلوحُ على أهلِ يقينٍ من سرِّ ذلكَ الإذعانِ والتصديقِ شواهدُه.

ونشهدُ أنَّ المُجتبَى المصطفَى المختارَ من البريةِ عبدُ اللهِ ورسولُهُ محمد، صَفوتُهُ وخيرتُهُ ومجتباهُ، جعلَهُ سيدَ أهلِ حضرتِهِ ومُقدَّم أهلِ قُربِهِ وموَدَّتِهِ، خاتمَ أنبيائِهِ وأصفَى أصفيائِهِ، وسيدَ أهلِ أرضِهِ وسمائِهِ، صلَّى الله وسلَّمَ وباركَ وكرَّمَ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأهلِ ولائِهِ، وعلى نبيِّ اللهِ هودٍ، وآدمَ وحَوَّاءَ، وشِيثَ بنِ آدمَ، وإدريسَ، ونوحٍ، وصالحٍ، وإبراهيمَ، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويعقوبَ، ويوسفَ، ولوطٍ، وشُعيبٍ، وموسَى، وهارونَ، وداوودَ، وسليمانَ، ويحيَى، وزكريَّا، وعيسَى ابنِ مريمَ، ومَن بينهُم من النبيينَ والمرسلينَ، وآلهِم وأصحابِهِم وتابِعيهِم، وعلى ملائكتِهِ المُقربينَ وجميعِ عبادِهِ الصالحينَ، وعلينا معهُم وفيهِم، إنَّهُ أكرمُ الأكرمينَ وأرحمُ الراحمين. 

أفضلُ الصلواتِ وأتم الصلواتِ وأزكَى الصلواتِ والتسليماتِ، عددَ ما خَلَقَ ومِلء ما خَلَقَ، وعددَ ما في الأرضِ والسماءِ وملء ما في الأرضِ والسماءِ، وعددَ ما أحصَى كتابُهُ وملء ما أحصَى كتابُهُ، وعددَ كلِّ شيءٍ وملء كلَّ شيءٍ، عددَ خلقِهِ ورِضَا نفسِهِ وزِنَةَ عرشِهِ ومِدادَ كلماتِهِ.

نعمة الاجتماع والتذاكر في الله

وبعدُ: أيُّها الأحبابُ في فسيحِ الرِّحاب، وميادينِ الاقترابِ، والغيثِ الصَّبَّاب من ربِّ الأرباب، وحيثُ يُسترضَى الربُّ بتوحيدِهِ والإيمانِ به، وشكرِهِ وحمدِهِ والثناءِ عليهِ، وبتمجيدِ مَن مَجَّدَ مِن أنبيائِهِ ورسلِهِ وملائكتِهِ المقربينَ وعبادِهِ الصالحينَ، وولائِهِم مِن أجلِهِ جلَّ جلالُهُ وتعالَى في عُلاهُ.

وَفَدْتُم وتذاكرتُم شؤونَ عظمةِ خالقِكم، ولماذا خلقَكُم، وما مَدَّ لكُم من أُهْبَةِ وعُدَّةِ الاستعدادِ للقائِهِ والرجوعِ إليهِ جلَّ جلالُهُ، وتذاكرتُم شؤونًا وواجباتٍ؛ في الأُسَرِ والتربياتِ، وفي القرآنِ والذِّكْرِ لخالقِ الأرضِ والسماواتِ، وفي العنايةِ بسيرةِ خاتمِ النبيينَ خيرِ البريَّاتِ ﷺ.

وتذاكرتُم وأنتُم مِن جهاتٍ مختلفةٍ وبلادٍ شتَّى وقبائلَ شتَّى، جمعتْكُم عنايةُ الحقِّ تعالَى وسابق إرادتِهِ في حضراتِ التقرُّبِ إليهِ، والتذلُّلِ بينَ يديهِ، والتطلُّب لما يُرضيهِ عنَّا، ولِما ننالُ به مغفرتَهُ لذنوبِنا وعيوبِنا وسيئاتِنا وزلَّاتِنا وخطيئاتِنا ومعاصينا، صغيرِها وكبيرِها، قليلِها وكثيرِها، أولِها وآخرِها، باطنِها وظاهرِها، ما علِمنا منها وما لم نعلم.

نحنُ متعرِّضونَ لمغفرتِهِ: 

  • بالاجتماعِ بصلاةِ الجماعةِ، 

  • بالقرآنِ، 

  • بالصلاةِ على المصطفَى محمدٍ ﷺ وعلى النبيِّ هودٍ، وعلى الأنبياءِ والمرسلينَ، 

  • وبالحمدِ وبالشكرِ، 

  • وبقراءةِ القرآنِ، 

  • وبالتواصي بالحقِّ والصبرِ، 

  • وبالتذاكُرِ في المهمَّاتِ الكبيراتِ العظيماتِ والواجباتِ، التي بالقيامِ بها نَحوزُ السعاداتِ من المُسعِدِ الذي بيدِهِ الإسعادُ وحده، رب كلِّ شيءٍ ومليكِهِ جلَّ جلالُهُ وتعالَى في عُلاهُ.

علامة محبة الله اتباع حبيبه ﷺ

لهُ الحمدُ، لهُ المِنَّةُ، لهُ الفضلُ، لهُ الإحسانُ، وهوَ الذي إذا مَنَحَ عنايتَهُ لمكلَّفٍ مِنَ المكلَّفينَ، جعلَ اعتناءَهُ بما أحبَّ منهُ الاعتناءَ به. ولقد وعدَ على الاتِّباعِ لرسولِهِ بأعلَى شيءٍ، وهوَ محبتُهُ جلَّ جلالُهُ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}؛ تتحقَّقونَ بمحبتِهِ سبحانَهُ، وتُبرهِنونَ على صدقِ محبتِكُم لهُ باتِّباعِ هذا النبيِّ، لكنَّ النتيجةَ أن تكونوا ليسَ مُجرد مُحبين، ولكنَّكُم أيضًا باتِّباعه محبوبين: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} جلَّ جلالُهُ وتعالَى في عُلاه.

وذلكَ أنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا لم يُعذِّبْه، ولمَّا ادَّعَى اليهودُ والنصارَى أنَّهُم أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤهُ، ومع ذلكَ يقولونَ أنَّ اللهَ يُعذِّبُهم أربعينَ يومًا فقط في النارِ {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} ثمَّ يُخرجُهُم. ذكرَ اللهُ قولتَهُمُ الشنيعةَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، ومع قولهم: {يُعَذِّبُنَا ثُمَّ يُخْرِجُنَا لِلْجَنَّةِ}، قالَ: قُل لهُم: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم}، لو كنتُم أحبَّاءهُ لا يومَ ولا نصفَ يومٍ ولا ساعةَ ولا نصفَ ساعةٍَ.. ما يُعذِّبُكُم، فإنَّ اللهَ لا يُعذِّبُ مَن أحبَّ جلَّ جلالُهُ، لذلكَ قالَ: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. 

وآيةُ حُبِّ اللهِ مِنا اتِّباعهُ ** بهِ وَعَدَ الغفرانَ بعدَ المحبةِ

العلامة على محبّتنا لهُ: متابعة هذا النبيِّ، فلا يَصدُق أحد في أنَّهُ أحبَّ اللهَ إلَّا بحَسَبِ ورتبةِ ومكانةِ وقَدْرِ متابعتِهِ لمحمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ، الرحمةِ المهداةِ والنعمةِ المسداةِ، صاحبِ السيرةِ، صاحبِ الخُلُقِ، صاحبِ الشمائلِ، صاحبِ الفضائلِ، صاحبِ الكمالِ في الأخلاقِ، واجتمعتْ مكارمُ الأخلاقِ ومحاسنُ الشِّيَم فيهِ كاملةً مِن كلِّ وجهٍ، وهوَ الذي لم يَحصُلْ لغيرِهِ مِنَ الكُمّل، كَمَلوا ولم ينتَهوا إلى الذروةِ في الكمالِ، كَملوا ولم ينتهوا إلى مرتبةِ خاتمِ الإنباءِ والإرسالِ صلواتُ ربي وسلامُهُ عليهِ.

لذا هوَ أحبُّ حبيبٍ وأقربُ قريبٍ، يا رب أدِمْ صلواتِكَ عليهِ، وقرِّبْنا إليهِ، وخلِّقْنا بأخلاقِهِ، وأدِّبْنا بآدابِهِ.

الغايات الخطيرة للإفساد

إنَّها شؤونُ تَطهُّروتَحرُّر، تبعيةً لمَنِ اختيرَ لأنْ يُتَّبَعَ مِن قِبل من خَلَقَ وبَرَأَ وفَطَرَ وأوجدَ، اللهُ الواحدُ الأحد،بذلكَ يستقيمُ الحال في تحقيقِ لا إلهَ إلا الله، بتنقيةِ الضمائرِ والمشاعرِ عنِ اتِّخاذِ أُسوة لا يرضاها الله، خصوصًا في الاعتقاداتِ وفي الأخلاقِ والقِيَم.

 وقد ذكرنا البارحة مِن مغالطاتِ بعضِ فئاتِ الكفرِ الذينَ اعتنَوا بنشرِ الإفسادِ وزعزعةِ إدراكِ الحقائقِ، كانَ مِن مغالطاتِهِم أنْ ادَّعَوا رَبْطَ النجاحِ في شيءٍ مِن مصالحِ الحياةِ بالتخلِّي عنِ التعظيمِ للإلهِ، عنِ التعظيمِ لمحمدِ بنِ عبدِ اللهِ، بالتطرُّقِ إلى ميادينِ القِيَمِ والمعتقداتِ، ولا شأنَ لهُم بها، لا شأنَ لهُم بها مِن قريبٍ أو مِن بعيد.

شؤونُ الحياةِ مائدةٌ مبسوطةٌ للبرِّ والفاجر، والمؤمن والكافر؛ إنْ كانتْ زراعةً وإنْ كانتْ صناعةً وإنْ كانتْ بناءً، وإنْ كانتْ سياسةً وإنْ كانتْ مؤسساتٍ، وإنْ كانتْ ما تكونُ مِن شؤونِ الحياةِ، مائدة بَسَطَها الخلاق يستوي فيها البرُّ والفاجرُ، كلُّ مَن يقومُ بالأسبابِ فيها يُعطاهاولكن إلى مدًى، وبعدَ ذلكَ فالغاياتُ الخطيرةُ أنَّهُ مهما أخذَ هذهِ الأسبابَ وأتقنَها مَن لم يعرِفْ قدرَ المُسبِّبِ، أنَّهُ يسيءُ استعمالَها، فيتوصَّل بها إلى الظلمِ، وإلى الاعتداءِ على الغيرِ، وأخذِ حقِّ الغيرِ مِن غيرِ حقٍّ، وإلى الخروجِ عنِ القِيمِ والمروءةِ والإنسانيةِ مِن أصلِها، وحينئذٍ يحلُّ عليهِم غَضبَة الجبار جلَّ جلالُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} جلَّ جلالُهُ وتعالى في علاه.

صفات المؤمن الناجح

ولا تكونُ الغايةُ مهما أُخِذَت الأسباب - فوافَت أو تَصَعَّبَت - لا تكونُ الغايةُ حسنةً وطيبةً إلا لمَن عرفَ قدرَ المسبِّبِ والخلاق، وأحسنَ صِلتَهُ به، وهذا الذي يعيشُ في النجاحِ في كلِّ الأحوالِ والظروفِ المختلفةِ: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ" ؛

عندَ السرَّاءِ:

  •  لا يتعاملونَ معَ السرَّاءِ تكبُّرًا على أحدٍ مِنَ الخلقِ، 

  • ولا يستعملونَ إمكانياتِهِم في السرَّاءِ عدوانًا على أحدٍ مِنَ الخلقِ، 

  • ولا يخونونَ صغيرًا ولا كبيرًا، ولا موافقًا ولا مخالفًا. 

وعندَ الضرَّاءِ: 

  • لا يجزعونَ ولا يتبرَّمونَ ولا يؤذونَ، ولا يُلقونَ باللومِ على غيرِهِم، 

  • فهُمُ الصُّبَّر في الضرَّاءِ، وهُمُ الشاكرونَ في السرَّاءِ، 

  • هُمُ الذينَ في مختلفِ الظروفِ: شرُّهُم مأمون، وخيرُهُم مسهون، 

  • لأنَّهُم مُزكَّوْنَ مؤدَّبونَ، بتأديبِ الخلّاق، فلا يأتي منهُم إلا الطيِّب.

حينئذٍ يكونونَ في صلتِهِم بالمُرسل رحمةً للعالمينَ حاملينَ رحمةً للعالمينَ؛ في نيَّاتِهِم وأفكارِهِم، في مُراداتِهِم وتمنياتِهِم، في معاملاتِهِم ظاهرًا وباطنًا. 

قصة الصحابي خبيب بن عدي

"إنَّا أصحابُ محمدٍ لا نغدِر"، قالَ سيدُنا خُبيبٌ، "إنَّا أصحابُ محمدٍ لا نغدِرُ" ، هيَّئوهُ للقتلِ بغيرِ حقٍّ مِن غيرِ شكٍّ، لكنَّهُم يَشفونَ غيظَ نفوسِهِم، وهُم قابلوا الحقَّ والهدَى بالإنكارِ ثمَّ بالأذَى، ثمَّ بالملاحقةِ والمطاردةِ، ثمَّ بالصدِّ عن ذلكَ، فتقابلوا، فقُتِلَ مَن قُتِلَ في المقابلةِ في المعاركِ مِن قراباتهم، فأرادوا أنْ يتشفَّوا في خُبيب، وأوثقوهُ وهيَّئوهُ منتظرينَ أنْ يخرجَ الشهر الحرام ليخرجوا بهِ مِن حدودِ الحرمِ ويقتلوهُ.

وقد دنى الوقت، فَطَلَبَ موسَى يَستحِدُّ بها تهيئًا للقاءِ ليتزيَّنَ للقاءِ ربِّهِ، وبينما هوَ كذلكَ إذا بطفلٍ مِن أطفالِ أهلِ هذا البيتِ الذي أَسَروهُ وأَعَدُّوهُ للقتلِ يدرجُ ويبكي، فأخذَه يسكته، وضعَهُ على رجله رحمة! في أسرة المشركين الذين سيقتلونه، وحانتْ نظرة مِن أمِّ البيتِ والموسَى بيدِهِ والولدُ في حجره، قالت آه! فظنَّتْ بالتصرفِ البشريِّ العاديِّ  أن الرجلُ سينتقِمُ منا، سنقتله وإذا كنا سنقتله ماذا سيفعل؟ سيذبح ولدنا ويتشفّى فينا! فأحسَّ منها بالفزع: أَخِفتِ على الصبيِّ؟ لا تخافي، إنَّا أصحابَ محمدٍ لا نغدِر.

التفكيرُ البشريُّ المنحطُّ طهَّرَنا منهُ بواحدٍ اسمُهُ محمد، رفعَنا ورفعَ معنوياتِنا ومستوياتِ طبعِنا ومداركِنا وما عاد صِرنا بهذهِ الصورةِ، والتفكيرُ الذي أنتُم فيهِ هذا! أنا ما أقتلُ طفلا حتى ولو كنتُ في المعركةِ أو في الحربِ، فضلًا أنْ أنّا في بيتِكُم، وكانتْ تذكرُ هذا بعدَما أسلمَتْ قبلَ الإسلامِ، تبكي وتقولُ: ما رأيتُهُ أسيرًا خيرًا مِن خُبَيبٍ، قالَ لي كذا، ولقد رأيتُهُ يومًا بيدِهِ عنبٌ يأكلُ منهُ، والله ما بمكةَ قِطْفٌ مِن عنبٍ ولا حبةٌ مِن عنبٍ، ولكنْ رزقٌ رزقَهُ اللهُ خُبَيباً! عليهِ الرضوانُ، لكنَّهُ حاملٌ لهذهِ المشاعرِ في الاتصالِ بالحبيبِ الطاهرِ وحمل قِيَمه وأخلاقَهُ وسيرتَهُ، حاضِرٌ معهُ في كلِّ حركةٍ منهُ وسكون.

وأُخرِجَ إلى خارجِ الحرمِ واجتمعَ القومُ، وتقدَّمَ أبو سفيانَ: خُبَيبُ، أَيسرك أنَّكَ الآنَ في أهلِكَ وولدِكَ آمِنٌ مطمئنٌّ ومحمدٌ مكانَكَ؟ - هنا نضعه نقتلُهُ بدلَكَ- اهتز سيدنا، قال: لا واللهِ، ما أُحِبُّ أنِّي في أهلي وولدي ورسولُ الله في مكانه الذي هو فيهِ تُصيبُه شوكةٌ في رجلِهِ، يُشاكُ بشوكةٍ، أحسن لي أن أُقتَل ولا تُصيبُ شوكة قدم رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، اللهُ أكبَرُ! أخذ يقول: "ما رأيتُ أحدًا يُحبُّ أحدًا كما يُحبُّ أصحاب محمدٍ محمدًا" صَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وباركَ عليهِ وعلى آله.

لا تقدموا على المحبة شيء! 

ولنُحِبّه! فما أَذِنَ خلّاقنا أنْ نُحبَّ بعدَهُ شيئًا في الكائناتِ بأصنافِها مثلَ حبيبِه محمد، وهدَّدَنا إنْ قدَّمنا في المحبةِ شيئًا عليهِ: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه.. }.

وترجمةُ المحبةِ لرسولِهِ: قال تقومون معهُ بنُصرتِهِ، لا أن تقولوا نُحبُّهُ كذا (وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِه)، إنْ كانَ شيءٌ أحبَّ إليكُم مِن هذا (فَتَرَبَّصُوا) تربصوا! تهديد مِن قَويٍّ، تهديدٌ مِن قوي قديرٍ؛ قال لا تُقَدِّموا في المحبةِ شيئًا علي وعلى رسولي والقيامِ بنُصرتِهِ، يا ربِّ صلِّ عليهِ. 

وانظُرْ إلى هذهِ القلوبِ، لا بات منا قلبٌ إلا وأنتَ ورسولُكَ والجهاد في سبيلِكَ أحبُّ إلينا مِن أنفسِنا وأهلِنا وأموالِنا وتجاراتِنا ومساكنِنا وعشائرِنا وكلّ شيءٍ في الوجودِ، يا برُّ يا ودودُ. ومَن قُبِلَتْ منكُم فيهِ الدعوةُ فسيرَى أثرَها في الحياةِ قبلَ الوفاة، وأكبرَها عندَ الوفاة، وسيتذكَّرُ قولَ بلالٍ: (وا طرباهْ، وا طرباهْ، غدًا نلقَى الأحبةَ محمدًا وحِزْبَهْ)، وسيرَى أثرَها في مواقفِ القيامةِ ثمَّ في دارِ الكرامةِ.

يا مُجيبُ استجِبْ، يا قريبُ أجِبْ، يا خيرَ مدعو، يا أكرمَ مرجو، لا تُخيِّبْنا ولا تُخيِّبْ أحدًا منَّا، انظُرْ إلى هذهِ القلوبِ؛ تَبيتُ الليلةَ وأنتَ ورسولُكَ أحبُّ إليها ممَّا سواكُما، يا الله يا الله يا الله.

أحقية القدوة لمن؟ 

ويقومُ بهذا حقيقة ما نعرفُ مِنَ القُدوةِ، أنَّنا مهما جاءَنا الشرعُ بإباحةِ التعاملِ والتعاون معَ غيرِ الحربيِّ مِن أصنافِ الكفَّارِ، بل نَدَبنا إلى حُسنِ الجِوارِ وإلى البرِّ والقِسْطِ بكلِّ مَن لم يُحارِبْ، أنَّ ذلكَ لا يُبيحُ لنا أنْ نتَّخذَ في الخُلُقِ والاعتقادِ قُدوةً منهُم مِن قريبٍ ولا مِن بعيدٍ، وأنَّ القُدوةَ حبيبه المصطفَى.

ورأسُ هذهِ القُدوة قامتْ بها القُدوةُ بالأنبياءِ والمرسلينَ: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقامتْ بهِم أحقيّة القُدوةِ لمَن حملَ عنهُم أسرارَهُم وعلومَهُم وورِثَهُم مِنَ المنيبينَ والصادقينَ: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.

غير الأنبياءِ، غير المنيبينَ، غير الصادقينَ، لا يجوز أنْ يكونوا قُدوةً لمسلمٍ، في فِكرٍ ولا في خُلُقٍ أبدًا، مِن قريبٍ ولا مِن بعيدٍ، هؤلاءِ القُدوة المرتضاة مِن قِبَلِ ربِّ الأرضِ والسماءِ، ارتضَى لنا القُدوةَ أنبياءَ ورسل ومنيبينَ وصادقينَ مِن أتباعِهِم وحَمَلة علومِهِم وأسرارِهِم، عليهِم رضوانُ اللهِ تباركَ وتعالَى.

"فعليكُم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ مِن بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذِ". 

"اللهمَّ ارحمْ خلفائي، مَن خلفاؤكَ؟ قومٌ يأتونَ مِن بعدي يتعلَّمونَ سُنَّتي ويعلِّمونها عبادَ اللهِ" . 

"يحملُ هذا العلمَ مِن كلِّ خَلَفٍ عُدولُهُ، ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المبطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ".

" لا تزالُ طائفةٌ مِن أمَّتي ظاهرينَ على الحقِّ، لا يَضُرُّهُم مَن خذَلَهُم، لا يضرُّهُم مَن خالفَهُم، حتى يأتيَ أمرُ اللهِ وهُم ظاهرونَ". اللهمَّ لكَ الحمد. 

ولا انقطَعوا بحمدِ اللهِ، على مدَى القرونِ كلها كم حملاتٍ قامتْ شرقيةً وغربيةً، ولكنْ ما انقطعَت هذهِ الطائفة! ولا انقطَعَ هذا السند، ولا انقطَعَ هذا السبيلُ، اللهمَّ لكَ الحمد، زِدْنا إيمانًا ويقينًا وتوفيقًا، وهَبْ لنا منكَ نصرًا وخيرًا، يا أكرمَ الأكرمينَ ويا أرحمَ الراحمينَ. 

فائدة الاعتناء بالسيرة النبوية

بهذا كُلِّهِ نعرفُ وجوبَ الاعتناءِ بالسيرةِ النبويةِ في قلوبِنا وأفكارِنا وعقولِنا وأهلينا ومعاملاتِنا وأُسَرِنا وما يقومُ فيها في ليلِنا ونهارِنا، وإنَّ أحدَنا لَيَلبَسُ خاتمًا أو إزارًا أو قميصًا أو سراويلَ أو عمامةً أو رداءً أو غيرَ ذلكَ مِنَ الملابس، فيسمِّي اللهَ ويقتدي بمحمدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ، يحوزُ مباشرةً ثوابًا وأجرًا ونورانيةً وزيادةَ إيمانٍ، وقُربًا مِنَ الحقِّ، وطَرْقَ بابِ المحبةِ باتِّباعِ سيدِ الأحبةِ، بل يدخلُ بيته ويخرجُ كذلكَ، بل ويأكلُ طعامه ويشرب شرابَهُ كذلكَ، تسري سراية التبعية فيه.

وأهلُ العربيةِ عندَنا يقولونَ إنَّ هناكَ توابِع في الإعرابِ، وأنَّ التابِع لهُ حكمُ المتبوعِ، إنْ كانَ مرفوعًا وإنْ كانَ منصوبًا وإنْ كانَ مخفوضاً وإنْ كانَ مجزومًا، هو تابعٌ لهُ؛ ومَن صحَّتْ متابعتهُ لمحمدٍ فهوَ أرفع مرفوعٍ وأعلَى عليٍّ في الخلائقِ، فيُرفَعُ على قَدْرِ اتِّباعِهِ لهذا النبيِّ. 

فلا بدَّ أنْ ننطلقَ بهذهِ التبعيةِ ونُحييَها، ونعلمَ أنَّ الخلائقَ مهما كانَ جاحدوهُم وملحدوهُم ومَن سواهُم مِن أصنافِ الكفَّارِ محتاجونَ لهذا النبيِّ ولمعرفةِ هذا النبيِّ ولسيرةِ هذا النبيِّ، ولكنَّ المُوكَّل بتوصيلِها أتباعُ هذا النبيِّ، فاللهُ يُهيِّئُنا وإيَّاكُم للقيامِ بحقِّ هذا التوصيلِ وحقِّ هذا التبليغِ وحقِّ هذا النشرِ لِمَا جاءَ بهِ، حتى نفيَ بعهدِ اللهِ الذي عاهَدَنا عليهِ، ونَصدُق معَ اللهِ تعالَى في الوفاءِ بهذا العهدِ، وننالَ منهُ المحبةَ، بهِ وَعَدَ الغفرانَ بعدَ المحبةِ.

ثمَّ بعدَ ذلكَ نعلمُ أنَّنا بهذهِ العنايةِ إنَّما نقرأُ عنوانَ عنايةِ اللهِ بنا، فإنَّهُ لا يسوقُ إلى حبيبِهِ إلا مَن أحبّه، ولا يقذف في قلبِكَ العنايةَ بأخبارِ حبيبِهِ إلا وهوَ اعتنى بك سبحانَهُ وتعالَى، وبذلكَ نُدركُ ما يحصلُ مِنَ الأذواقِ ثمَّ الأشواقِ وَسْطَ القلوبِ إلى ذلكَ الجنابِ الشريفِ، والاستعدادُ للقائِهِ ومرافقتِهِ، اجعلْنا اللهمَّ مِن رفقائِهِ، اجعلْنا اللهمَّ مِن رفقائِهِ، اجعلْنا اللهمَّ مِن رفقائِهِ، يا أكرمَ الأكرمينَ.

نور التبعية لخير البرية

ولتَتَحرَّروا أنتُم في المجلس نيات، يعلمُها ربُّ الأرضِ والسماواتِ، ويتمُّ عرضٌ لها على خيرِ البريَّاتِ، يُسَرُّ قلبهُ ويُسَرُّ قلبَ النبيِّ هودٍ، الذي هِمَّتُهُ همَّةُ زينِ الوجودِ، ومهمَّتُهُ مهمَّةُ زينِ الوجودِ ﷺ؛ في وصلِ الخلقِ بالخالقِ جلَّ جلالُهُ، وإقامةِ هذهِ الشريعةِ التي لو اجتمعَ النبيونَ مِن آدمَ إلى عيسَى ابنِ مريمَ أمامَهُ لَمَا وَسِعَهُم في معرفتِهِم باللهِ وتقرُّبهم إليه إلا اتِّباعُهُ والاقتداءُ بهِ ﷺ، وهوَ الذي قالَ لسيدُنا عمرُ: "لو كانَ موسَى حيًّا ما وَسِعَهُ إلا اتِّباعي"، ولنا الشرف باتِّباعِهِ، ارزُقْنا حقيقةَ اتِّباعِهِ يا ربَّنا يا الله. 

وبهذا الاتِّباع تُرفَعُ الغباراتُ والكدوراتُ عن أهلِ فلسطينَ، وعن أهلِ الشامِ، وعن أهلِ ليبيا، وعن أهلِ العراقِ، وعن أهلِ الصومالِ، وعن أهلِ أفريقيا كلِّها، وعن أهلِ إندونيسيا، وعن أهلِ ماليزيا، وعن أهلِ شرقِ آسيا، وعن أهلِ البلادِ العربيةِ، وعن بقيةِ بلادِ العالمِ، كلَّما أشرقَ نورُ التبعيةِ لخيرِ البريةِ رُفِعَتِ الغباراتُ وذهبتِ الكدوراتُ، وهذا نتيجة محبة ربِّ الأرضِ والسماوات. 

اللهمَّ ارزُقْنا حُسنَ اتِّباعِهِ، وأحيِ اتِّباعَهُ فينا وفي أهالينا، وارزُقْنا حِفظَ كرامةِ الاتصالِ بهِ والاطِّلاع على أحوالِهِ ونشرِ ذلكَ في عربِ الخلقِ وعجمِهِم، وقريبِهِم وبعيدِهِم وذَكَرِهِم وأنثاهُم، يا مُكرِمَ المُوفَّقينَ بإمداداتِكَ القويةِ لبيانِ سبيلِ خيرِ البريةِ، وإيصالِ أنوارِهِ النبويةِ، أكرِمْنا جميعًا والحاضرينَ والسامعينَ بنصيبٍ وافٍ مِن هذهِ العطية، وحظٍّ كاملٍ مِن هذهِ المزيةِ، يا عالِمَ الظاهرةِ والخفيةِ، يا مَن لا يتعاظمُهُ عطاءٌ ولا إمدادٌ ولا كرمٌ ولا جودٌ، يا جوادُ يا الله، أكرِمْنا بهذهِ الكرامةِ، ارفعنا مراتبَ الاستقامة، واجعلْنا ممَّن اقتدَى بحبيبِكَ محمدٍ ﷺ فأحسنَ الاقتداءَ به والائتمام، وكتبتَ لهُ مرافقتهُ في الحياةِ وعندَ الوفاةِ والحِمامِ، وفي البرزخِ ويومَ القيامِ وفي دارِ الكرامةِ والسلامِ، يا ربَّنا يا كريمُ يا سلامُ، يا أكرمَ الأكرمينَ وأرحمَ الراحمينَ.

وبارِكْ في هذهِ الجمعياتِ وما بقيَ مِنَ الليالي المعدوداتِ، واجعلْ خيراتها غيرَ معدوداتٍ ولا محدوداتٍ، لائقة بواسعِ جودِكَ تعمُّ جميعَ البريَّاتِ والعوالمِ العُلوياتِ والسفلياتِ، يا مجيبَ الدعواتِ يا أرحمَ الراحمين.

تاريخ النشر الهجري

09 شَعبان 1446

تاريخ النشر الميلادي

07 فبراير 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية