الإشارة إلى حصن السلامة من التلبيس وخدع إبليس بأسرار الصلة بالحق ورسوله أهل التقديس
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المجلس الرابع من مجالس الدعوة إلى الله في شعب النبي هود عليه السلام، ضمن محاور (تقوية الإيمان وتقويم السلوك) ، ليلة السبت 9 شعبان 1446هـ بعنوان:
الإشارة إلى حصن السلامة من التلبيس وخدع إبليس بأسرار الصلة بالحق ورسوله أهل التقديس
نص المحاضرة:
الحمدُ للهِ المُوجِدِ المُبدِئِ المُنشِئِ المُعيدِ، الواحِدِ الأحدِ الحميدِ المجيدِ، (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)، ونشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، منهُ المبتدأُ وإليهِ المرجعُ والمصير، لهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ يُحيي ويُميتُ وهوَ حيٌّ لا يموتُ، بيدِهِ الخير وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
ونشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وحبيبُهُ وصفيُّهُ وخليلُهُ، خَتَمَ بهِ النبوةَ، وجعلَهُ سيدَ أهلِ الفُتُوَّة، جمعَ فيهِ الكمالاتِ الإنسانيةَ الخَلقية، وجعلَهُ مظهرَ التجلِّياتِ الربانيةِ الحَقِّيةِ، فصلِّ يا ربِّ على خيرِ الخلقِ عبدِكَ المختارِ سيدِنا محمدٍ وعلى آلِهِ الأطهارِ وأصحابِهِ الأخيارِ، ومَن والاهُم وعلى منهجِهِم سارَ، وعلى نبيِّكَ هودٍ وأبينا آدمَ وأمِّنا حوَّاءَ وشيثَ بنِ آدمَ، وإدريسَ ونوحٍ وصالحٍ وإبراهيمَ وموسَى وعيسَى، ومَن بينَهُم مِن أنبيائِكَ ورُسُلِكَ وآلِهِم وصحبِهِم وتابعيهِم، وعلى ملائكتِكَ المُقربينَ وجميعِ عبادِكَ الصالحينَ، وعلينا معهُم وفيهِم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
"يخرجهم من الظلمات إلى النور"
واملأ هذهِ القلوبَ بإيمانٍ ويقينٍ تتبيَّنُ لأهلِهِ الحقائقُ، ويَصدُقوا في العبودية للخالق، ويقتدوا في الشؤونِ الظواهرِ والبواطنِ بخيرِ الخلائقِ، فيستمسِكونَ بالعُروةِ الوثقَى لا انفصامَ لها، يا سميعُ يا عليمُ.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، واستمرارُ الإخراجِ باستمرارِ الإقبالِ والتوجُّهِ بالصدقِ والابتهاجِ، والتعظيمِ والخوفِ والخشيةِ والانتهاجِ، (يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) وكلُّ ما حِيكَ مِن حوالَيهِم مِنَ الأنفُسِ أو الأهواءِ أو شياطينِ الإنسِ والجنِّ، وكلُّ ما بولِغَ في حِياكتِهِ ليبرُزَ شرًّا في مظهرِ خيرٍ، أو ليبرُزَ باطلًا في مظهرِ حقٍّ، يُخرَجُ هؤلاءِ مِنَ الظلماتِ إلى النورِ، فلا تشتبه عليهِمُ الأمورُ.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} ، {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
استمساكنا بالعروة الوثقى
قالَ تباركَ وتعالَى قبلَ هذا الكلامِ: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، في استمساكنا بالعروةِ الوثقى الذي أولُهُ وأصلُهُ لا إلهَ إلَّا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، حقَّقَنا اللهُ بحقائقِها وجعلَنا مِن خواصِّ أهلِها.
استمساكُنا بالعروةِ الوثقَى بما ذُكِرَ في لياليِنا مِنَ التأمُّلِ والتدبُّرِ للقرآنِ الكريمِ، وكثرةِ الذِّكرِ للعليِّ العظيمِ، والمحافظةِ على الأُسَرِ والتربيةِ وتقويمِها، والسلوكِ بها إلى المسلكِ القويمِ والصراطِ المستقيمِ، وما يتعلَّقُ بالعنايةِ بسيرةِ المصطفَى ذي الخُلُقِ العظيمِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وما سمعتُم مِمَّا يتعلَّق بالحقائقِ ممَّا يذكر إخوانُنا، وفيهِمُ الذينَ أُكرِموا بإشراقِ أشعةِ نورِ لا إلهَ إلَّا الله في قلوبِهِم، وساعدَهُمُ التوفيق لأن يسلُكوا في قَويمِ الطريقِ، ويلحقوا بخيرِ فريقٍ، زادَهُمُ اللهُ إيمانًا وثبَّتَهُم على حقائقِ الإحسانِ، والارتقاءِ إلى مراتبِ العرفانِ، وأجرَى على أيديهِم الخيراتِ في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ آمين.
وانقشعَتْ أمامَهُم كثائف سُحُبِ الإغراءِ والإغواءِ والتضليلِ، وتصوير الأشياءِ على غيرِ ما هيَ عليهِ، فالحمدُ للهِ على ذلكَ، وسِرُّ الوحيِ الكريمِ الذي يتجدَّد ولا يبيدُ، ولا ينقُصُ بل يزيدُ، الذي انقطعَ نزولُهُ بوفاةِ سيدِنا المصطفَى محمدٍ، وتنزُّلُهُ في حياتِهِ وبعدَ وفاتِهِ لا يزالُ في مزيدٍ إلى يومِ الوعدِ والوعيدِ.
تنزُّلُهُ على العلماءِ باقٍ ** لديهِم وهوَ منقطعُ النزولِ
بحُكمِ الإرثِ للمختارِ نالوا ** غريبَ الفهمِ مِن أعلَى مُنيلِ
ولكنْ بعدَما اتَّبَعوهُ فيما ** تلقَّوا عنهُ مِن فعلٍ وقولِ
فدونَكُم سبيلَهُم اسلكوها ** فإنَّ الخيرَ في هذا السبيلِ
النتائج الكبرى للأمنيات الرفيعات
أيُّها الأحباب:
وردَ إلى رحابِ المدينةِ المنورةِ مَن كانوا نصارَى، وقُرِئَ عليهِمُ القرآن، وفاضَتْ أعينُهُم مِنَ الدَّمعِ، ودخلوا دائرةَ الحقِّ، وأنزلَ الحقُّ تعالَى فيهِم: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
ما الذي انكشفَ لهؤلاءِ؟ وما الذي استغرقَهُم حتَّى أخذَ جميعَ مشاعرِهِم؟ وحتَّى كانَتْ أمنياتُهُم هذهِ الأمنياتِ الرفيعاتِ، وخرجوا بها عن جميعِ القواطعِ التي يتعرَّض لها الناس على ظهرِ الأرضِ، فينحطُّونَ في أفكارِهِم، ينحطُّونَ في مقاصدِهِم وإراداتِهِم، ينحطُّونَ في أمنياتِهِم ورغباتِهِم، وهؤلاءِ في قِمَّةٍ وعُلو {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}؛ وتحقَّقَتِ النتائجُ الكبرَى {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}، وذلكَ جزاءُ المحسنينَ.
جاؤوا إلى حضرةِ النبوةِ وقابلوا الجمالَ والجلالَ والكمالَ المحمديَّ النبويَّ، ومعهُم أقلُّ أو شيء مِنَ الاستعدادِ لاستقبالِ شيءٍ ممَّا يَفيضُ بهذا النور ومِن هذا النورِ، فحصلَتِ الآثار الكبيرة، وعرفوا الحقَّ، وانتقلوا إلى تلكَ المراتبِ الكبيرةِ، وكذلكَ شأن مَن سبقَتْ لهُم سوابقُ الإلهِ المنَّانِ على مدَى الأزمانِ، اتَّصلوا بالرسلِ والأنبياءِ، ورَقَوا إلى المراتبِ العُليا، عليهِم رضوانُ اللهِ تباركَ وتعالَى، وتحوَّلوا مِن أحوالٍ إلى أحوالٍ.
وقد قرأنا خبرَ السَّحرة الذينَ كانوا يرتجونَ فرعونَ، وتحوَّلوا إلى مؤمنينَ يرتجونَ الرحمنَ، ويقولونَ لفرعونَ: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ}، ويحتقرونَ كلَّ ما عندَهُ مِنَ المُلكِ أمامَ الحقيقةِ المُلكِ الكبيرِ، فقالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}، وكذلكَ مَن قبلهم ومَن بعدهم، حتَّى جاءَ خاتمُ النبيينَ.
سراية حمل الأمانة
ثمَّ أماناتُ هذا المصطفَى سرَتْ مِن خلالِ هؤلاءِ الحَمَلة مِنَ الصحبِ الأكرمينَ وآلِ البيتِ الطاهرينَ، ومَنِ اتَّصلَ بهِم ممَّن رسخَ لهُ قدم في المعرفةِ عنِ اللهِ تباركَ وتعالَى وعن رسولِهِ ﷺ، بالميزانِ الذي رضيَهُ اللهُ ورضيَهُ رسولُهُ، وأخذَ عليهِ وقامَ بهِ الرعيلُ الأوَّل مِن آلِ البيتِ والصحابةِ، ثمَّ بنى عليهِ كلُّ مَنِ اتَّبعَهُم بإحسانٍ، عليهِم رضوانُ الله.
فكانَتْ هيَ الوسائل التي يتفضَّلُ الكريمُ الوهَّابُ بنشرِ أنوارِ المعارفِ والحقائقِ إلى قلوب مَنِ اتَّصلَ بهِم مِن هنا أو مِن هناك، وبقيَ الأمرُ كذلكَ في أنَّ ظُلُماتِ الزيغِ والباطلِ وتلبيسِ إبليسَ إنَّما تنجاب عمَّنِ اتَّصلَ بهذا التأسيسِ، واتَّصلَ بعُنصرِ هذا الاتصالِ بسيدِنا الرئيس؛ رئيسِ المعارفِ والعلومِ، حبيبِ الحيِّ القيومِ، السيدِ المعصومِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ.
البصيرة أمام أعظم فتنة
وهوَ القائل في أعظم ما يستقبلُ الأمةَ مِن فتنةٍ، وهيَ فتنةُ المسيحِ الدجَّالِ: "إنْ يخرجْ وأنا فيكُم فأنا حجيجُهُ دونَكُم"؛ فالعِصمة مِن أنواعِ الفتنةِ الصِّلة بهذا الجنابِ، وإلَّا فكلُّ امرئٍ حجيج نفسِهِ.
ويُخبرنا عنِ الذي يقتلُهُ هذا الدجَّالُ - وهوَ مِن أفضلِ الشهداءِ عندَ اللهِ - ويذكرُ لنا أنَّ سرَّ ثباتِهِ وقيامِهِ يقولُ: "أنتَ الأعورُ الخبيثُ الذي حدَّثَنا عنكَ رسولُ الله"، الذي حدَّثَنا عنكَ؛ يعني عرفتُكَ مِن هذا الطريقِ، أنا مِن وسطِ هذا الحصنِ ما تستطيعُ ولا تُطيقُ أن تُضِلَّني ولا أن تلبِّسَ عليَّ، حتَّى وإنْ أجرَى إلهي على يدِك صورةَ إماتتي وإحيائي فعندي خبر، أنا عندي حصانة ما يغلبُني بها مَن كفرَ، ولا يغلبُني بها مَن ضلَّل!
لمَّا يريدُ أن يقتلَهُ يقولُ: "اثبُتوا فإنَّهُ لن يُسلَّط على أحدٍ بعدي" ، يُشقه نصفينِ ويسيرُ بينَ الشقَّيْنِ، ثمَّ يقولُ: تريدونَ أن أرُدَّهُ لكُم وأُحْيِيَهُ وتعلمون أني ربكم؟ يقولونَ الذين حواليه: نعم، فيجمع بينَ نصفَيْهِ فيقول: قُم؛ فيُحييهِ اللهُ ويقوم، يقولُ: رأيت أمتَّك وإذ عَرَفْتَ أنِّي ربك؟ قال: أنت الأعور الخبيث الدجَّال، حدَّثَنا عنكَ رسولُ اللهِ، واللهِ ما ازددْتُ فيكَ إلَّا بصيرةً، قال أنت لا تعرف في أيِّ حصنٍ أنا، أنت ما تدري! الآن بصيرتي أكبر، كنتُ على بصيرةٍ وما قَدَرْتَ عليَّ حتَّى قتلتَني، الآنَ بصيرتي أكبرُ مِن تلك، واللهِ ما ازددتُ فيكَ إلَّا بصيرة!
وكذلكَ تقولُ ألسن الصادقينَ أمامَ أنواعِ الفتنِ والتقليباتِ للحقائقِ، ساعة كلامٌ عن مَرْأةٍ، وساعة كلام عن عدلٍ، وساعة كلام عن ديمقراطيةٍ، وساعة كلام عن مُسمَّياتٍ مِن هنا ومِن هناكَ؛ يقولُ أهلُ الصدق: واللهِ ما ازددنا فيكُم إلَّا بصيرةً!
{قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} ، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} جلَّ جلالُهُ وتعالَى في عُلاهُ.
وكما سمعتُم مِن حديثِ إخوانِنا، كشفَ اللهُ لمَّا أرَى كثيرًا مِنَ الحقائقِ المخبَّأةِ للناسِ، ووُجِدَ في صفوفِ الذينَ كانوا على قناعةٍ قويةٍ بتصديقِ فِئات خطط الحضارة الزائفة، وأنَّهُم قادةُ السلامِ في العالمِ وقادةُ العدلِ وما إلى ذلك، ما الذي أوصلَهُم إلى التشكُّك؟ سبحانَ اللهِ، ولو اجتهدَ المجتهدونَ ما سهُلَ الوصولُ إلى مثلِ هذا، ولكنْ نفس عملِ القومِ وبلوغُهُم القِمة في الانحطاط هوَ الذي جعلَهُ السببَ - سبحانَهُ وتعالَى - لأن يسطَع نورُ الحقِّ مِن هنا، يقول أنتُم كذا؟ أين الكلامَ الثاني الذي يأتي مِن هناكَ، فسبحانَ اللهِ.
عظمة آثار المجامع المباركة
تهيَّأَتْ نفوسٌ في العالمِ لأن تُصغيَ إلى ما يقولُ القُدُّوسُ، وإلى بلاغ مُزكِّي النفوسِ، المؤتمَنِ على التزكيةِ مِن قِبَلِ الإلهِ ﷺ، وكلُّ هذا يحدونا لأن نصدق معَ إلهِنا، ونتوجَّهَ في القيامِ بالأمرِ، مجامع مباركة ذِكرُها في العالمِ الأعلَى أكثر، وتُنشَر ببعضِ الوسائلِ في الأرضِ، ولكنَّ ذِكرَهُا فوق أكبر، وسيكونُ إن شاءَ اللهُ لها أثر كبيرٌ في الحاضرينَ والسامعين وفي واقعِ الأمةِ، لسِرٍّ واحدٍ: اتصالها بالأصلِ! والأصلُ حضراتُ النبوةِ كلُّها في تبعيتِهِ ﷺ، ما أسرَّ قلبُ هودٍ إذا أحسَّ بسرورِ قلبِ زينِ الوجودِ، إنْ يرقُب تحت منه نظرة إلى المجمعِ وما فيهِ وأسرارَ اتصالِه بفوقُ وما يترتَّب عليهِ يَنسَر، وكلما سُرَّ زينَ الوجودِ سُرَّ أهلَ حضيرةِ الحقِّ جلَّ جلالُهُ وتعالَى في علاه.
وللهِ الحمدُ على ما هيَّأَ، وللهِ الحمدُ على ما أوصَلَ، وما كانَ ذلكَ بحاصلٍ بجهدٍ منَّا ولا بحركة منَّا ولكنْ عناية الحقِّ جلَّ جلالُهُ، ووجهات وهِمّات بثَّها في قلوبِ مَن لفَّهُم حولَ سيدِ أهلِ العزماتِ ﷺ، والمخاطَب: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ}.
وإنَّ الأمورَ كلَّها تنقضي كما أرادَ وقدَّرَ ودبَّرَ الحقُّ جلَّ جلالُه، ثمَّ الغايةُ الكبرَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}.
نعمة الاتصال بأهل النبوة والرسالة
إذن فأمامكُم نعمةُ الاتصالِ بهذا الأمرِ العظيمِ والشأنِ الفخيمِ، فيا ربِّ ثبِّتْنا على الحقِّ والهدَى، ويا ربِّ اقبِضْنا على خيرِ ملَّةٍ، ونتهيَّأ للاستقامةِ فيما بقيَ مِن أعمارِنا وحياتِنا على ظهرِ الأرضِ، لمرافقةِ أهلِ النبوةِ والرسالةِ في البرازخِ ويومَ القيامةِ.
وقد علِمتُمُ الأحرار قلوبُهُم وأرواحُهُم لا تُطيقُ كثرةَ الانتظارِ، فيُرسِل لهُمُ الغفَّار مِن أسرارِ الاتصالاتِ بالنبوةِ والرسالةِ وهُم في هذهِ الدارِ، يقولُ المختارُ عن نماذجَ منهُم: "يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يَرَانِي بِنَفْسِهِ وماله"، ويُرسِل إليهِم معنَى شوقه إليهِم قبلَ أن يُخلَقوا ويوجَدوا: "وَدِدْتُ لَوْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَاني قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي، آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بنفسه وَمَالِهِ،" و "مَن رآني فقد رأَى الحقَّ"، يقولُ ﷺ،" ومَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ".
فالحمدُ للهِ على ما أوصلَ مِن هذهِ الخيراتِ، التي بها الاحتماء عن جميعِ التلبيساتِ والتدليساتِ، وأن نكونَ على وعيٍ في مسارِنا وصدقٍ في قيامِنا بأمرِ إلهِنا ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم في الأنفسِ وما حوالَينا، ثبَّتَ اللهُ قلوبَكُم وأقدامَكُم، وأخذَ اللهُ بأيدينا ونواصينا إليهِ أخذَ أهلِ الفضلِ والكرمِ عليهِ، كانَ لنا بما هوَ أهلُهُ حيثما كنَّا وأينما كنَّا.
اللهمَّ يا مَن جمعتَنا على هذا الخيرِ، ثبِّتْ أقدامَنا على ما تُحِبُّ منَّا وترضَى بهِ عنَّا، حتَّى نلقاكَ وأنتَ راضٍ عنَّا، يا مجيبَ الدعواتِ، يا قاضيَ الحاجاتِ، يا أرحمَ الراحمينَ.
10 شَعبان 1446