عظمة المآلات والنتائج والمستقبل لضبط الشهوات بميزان الوحي وخطر مخالفته

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في المجلس الخامس من مجالس الدعوة إلى الله في شعب النبي هود عليه السلام، ضمن محاور (تقوية الإيمان وتقويم السلوك) ، ليلة الأحد 10 شعبان 1446هـ بعنوان:
عظمة المآلات والنتائج والمستقبل لضبط الشهوات بميزان الوحي وخطر مخالفته
نص المحاضرة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لا إلهَ إلَّا هوَ، جامعنا لحكمةٍ كما خلقَنا لحكمةٍ، والحكمةُ التي خلقَنا من أجلِها سرُّها ومقصودُها وصحيحُها وعلوُّها هوَ الذي جمعَنا من أجلِهِ.
لكَ الحمدُ يا منَّان، لكَ الحمدُ يا رحمن، لكَ الحمدُ يا مَلكَ الدنيا والآخرةِ، لكَ الحمدُ يا مولج النهار في الليلِ والليلِ في النهارِ، لكَ الحمدُ يا مَن بيدِهِ ملكوتُ كلِّ شيءٍ.
اخترتَ أنبياءَ، واخترتَ أتباعًا للأنبياءِ، وجعلتَ في أمةِ كلِّ نبيٍّ آلًا لهُ مِمَّن آمنَ بهِ ودخلَ في دائرةِ دينِهِ مِن قرابتِهِ، وجعلتَ لهُ صحبًا مِمَّن عاصروهُ وقتَ حياتِهِ، وجعلتَ لهُ بقيةَ الأمةِ أتباعًا وراءَ آلِهِم وأصحابِهِم، عليهِم صلواتُ اللهِ وتسليماتُهُ.
وجعلتَ خيرَ الأممِ هذهِ الأمةَ، فكانَ صَحْبُ نبيِّها خيرَ أصحابٍ، وآلُ نبيِّها خيرَ آلٍ، وأتباعُهُ خيرَ أتباعٍ للأنبياءِ. اللهمَّ لكَ الحمدُ، ونسألُكَ أن تُتِمَّ علينا النعمةَ.
عظيم نتائج ضبط الشهوات
والذي جرَى في هذا الكونِ أنَّ إبليسَ وجندهُ للزيغِ والانحرافِ عن سبيلِ اللهِ يوقدونَ نارَ الأغراضِ والشهواتِ والأهواءِ، ويستعملونَها لإغواءِ هذا الإنسانِ، ونورانيةُ الوحيِ الربانيِّ تُبيِّنُ للإنسانِ أنَّ الشهواتِ خُلِقَتْ لحكمةٍ، وأنَّ الغضبَ خُلِقَ لحكمةٍ، وأنَّهُ إن استعملَ الشهواتِ بالمنهاجِ الذي ارتضاهُ خالقُ الإنسانِ وخالقُ شهواتِهِ نجحَ وأفلحَ، وصارَتْ هذهِ الشهوات سببًا لفوزِ هذا الإنسانِ بما يقبلُ منها مِنَ المباحاتِ، وبما يَردُّ منها مِنَ المكروهاتِ والمحرَّماتِ، ينتظم لهُ شأنُهُ الحسي والهيكل الدنيوي قبلَ موعود الآخرةِ مِنَ الثوابِ والعطاءِ والنعيمِ العظيمِ.
ويخرجُ مِن شرورِ هذهِ الشهواتِ وآفاتِها وعِلَلِها ووبائِها وما تؤدِّي إليهِ مِن أنواعِ الأضرارِ بتقويمِ الشهوةِ، يخرجُ مِن آفاتِها وأضرارِها وعاهاتِها إذا قوَّمَها بميزانِ خالقِها جلَّ جلالُهُ وتعالَى في علاه، وثمَّ تتحوَّلُ شهوتُهُ هذهِ إلى أن يشتهيَ المعالي التي النفسُ في أصلِها ما كانتْ طبعًا ترغبُ فيها، إلَّا بعدَ أن تنكشفَ لها ما فيها مِن كمالٍ، وتحصيلِ نَوَالٍ، ودرجاتٍ عوالٍ، وجزاءٍ غالٍ.
حينئذٍ ترغبُ فتتحوَّلُ شهوةُ هذا الذي صدقَ معَ الله في ضبطِ شهوةِ النظرِ، وضبطِ شهوةِ اللسانِ، وضبطِ شهوةِ الفرجِ، وضبطِ شهوةِ المالِ، وضبطِ شهوةِ الجاهِ والسُّمعةِ، إذا ضبطَ هذهِ الشهواتِ بضابطِ الشرعِ، وأعرضَ وغضَّ عمَّا حرَّمَ اللهُ عليهِ، ثمَّ عمَّا كَرِهَ؛ يُعجَّلُ لهُ في الدنيا أنَّهُ سواءٌ في جانبِ المالِ، أو في جانبِ الجاهِ، أو في جانبِ شهواتِ البطنِ والفرجِ، أو في كلِّ هذهِ وشهوةِ الأعين؛ صحّة مُعجَّلة، واستقرار وطمأنينةٌ وسكينة، وحسن التئام وانتظام في شؤونِ الحياةِ، هذا مِمَّا يُعجَّل في الدنيا.
ويُخبَّأُ لهُ أجرٌ، ويُرفَعُ لهُ قَدْرٌ، ويُوعَدُ وعد الصدقُ بمآلٍ حسنٍ، ومرافقةٍ للأنبياءِ والأولياءِ والصالحينَ ورأسُهُم جدُّ الحُسن والحَسنِ ﷺ، ماذا كسبَ مِن تقويمِ الشهواتِ؟ كسبَ الدرجاتِ، وأصبحَ يشتهي المعاليَ، ويشتهي الرقي، حتَّى ما يكونُ صعبًا على النفسِ في البدايةِ مِن مجاهدةٍ ومكابدةٍ، يتحوَّلُ إلى لذَّةٍ معجَّلةٍ لهُ يتلذَّذ بها.
شهوات القوم العُلوية الراقية
قالوا للإمامِ عمر بن عبدِ الرحمنِ العطاس: تُتعِب نفسَكَ في طولِ القيامِ وتُخفِّف أحسِن، فمرَّ معَ الذينَ وضعوا هذا الطرحَ على قومٍ عندَهُم زواجٌ وهُم في لهوِهِم يُغنُّونَ، قالَ: ما يعملُ هؤلاءِ؟ قالوا: عندَهُم غناءٌ، قال: لماذا؟ قالوا: مناسبةُ زواجٍ، قالَ: قيامٌ أم جلوسٌ؟ قالوا: قيامٌ، قال: مُدَّةُ كم يقومونَ؟ قالوا: أكثرَ الليلِ.. طول الليل، قالَ: ما يتعبونَ؟ قالوا: الفرحُ الذي فيهِمُ والمحبة والرغبة تُنسيهِم تعبَهُم هذا، قالَ: حسبُكُمُ الله! فرِحوا بغيرِ اللهِ وبشهواتِهِم ونفوسِهِم ونسوا التعبَ، وأنا فرِحٌ بربِّي وتقولونَ لي أتعبُ مِنَ القيامِ؟ أتعبُ مِنَ القيامِ له؟ هؤلاء فرِحوا بالغناءِ وقاموا له وما عادَ حسُّوا بالتعبِ، وأنا فرحتُ بربِّي وأقومُ له وأحس بالتعبِ؟ وأمامي إمام قالَ لهُ الرب: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا).
فيتحوَّل القيامُ إلى شهوةٍ مِنَ الشهواتِ لهؤلاءِ القومِ الذينَ هذَّبوا شهواتِ أعينهم، هذَّبوا شهواتِ ألسنتهم، هذَّبوا شهوات فروجهم وبطونهم، هذَّبوا شهوةَ المالِ، هذَّبوا شهوةَ الجاهِ؛ لمَّا هذَّبوا هذهِ الشهواتِ صارَتْ شهواتُهُم علويةً، تحوَّلتْ إلى أن يشتهوا المعالي، أن يشتهوا المراقي، إلى حدِّ أن يقول قائلهم: لولا القيامُ في الليلِ ما أحببتُ البقاءَ في الدنيا، ولكنْ لهذا القيامِ الذي ظاهرُهُ صعب.
شهوات مَن تربّى في المحيط النبوي
بل سادتُنا الصحابةُ الأوائلُ لمَّا ذاقوا لذَّةَ القتلِ في سبيلِ اللهِ معَ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ اشتهوا ذلكَ، واشتهوه في حياتِهِم فكانَ شبابهم أبناء 14 سنة يبكي أحدهُم إذا ردَّهُ النبي ﷺ، في الخروجِ للمعركة كان يستعرِضُ جيشه فالصغار يردّهُم، فيبكي لأنَّ الشابَّ عندَهُ رغبةٌ، صارَ يشتهي الجهادَ في سبيلِ اللهِ، يشتهي نصرةَ النبيِّ محمدٍ ﷺ.
هذا سنُّ المراهقةِ، شهواتُ الناسِ فيهِ تختلفُ، غيرُ المربَّينَ، غيرُ المزكَّينَ، شهواتُهُم فيهِ أكبرُ سلاحٍ لعدوِّهِم يوقِعُهُم به في الدنايا وفي الرزايا، لكنَّ هؤلاءِ لمَّا تربَّوا في المحيطِ النبويِّ صارَتْ شهوتُهُم أن يخرجوا للجهادِ في سبيلِ اللهِ، فإذا رَدَّ أحدُهُم بكَى.
ووقعَ وهوَ متوجِّهٌ لغزوةِ أُحُدٍ، وعُرِضوا عليهِ، ورُدَّ جماعةٌ منهُم، واحدٌ مِنَ الذينَ رُدهم جاءَ يبكي عند أبيه، وقال: إنَّ رسولَ الله أجازَ فلانَ بن فلانٍ، شفع له أبوهُ عندَ النبي وقَبِلَه، وهذا لو صارعَني لصرعتُهُ، أنا مستعدٌّ للجهادِ أحسن منه والقتال، لو صارعني لصرعته، وأنت تترك رسول الله يردنا هكذا وما تتكلم؟ ذهب الأب، قال يا رسول الله، ابني يقول إنك أجزت فلان ابن فلان وهو لو صارعه لصرعه، فكيف ترد ابني؟ قال ائت بهما، قال تصارعا أمامي، فصرعه، قال اخرجَ معه، ضحك الشابُّ، ضحكَ هذا المراهقُ، فرِحَ بالخروجِ في سبيلِ اللهِ، فرِحَ بالمشيِ معَ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ.
ما ذاقه شهداء أُحُد
وأمَّا الذينَ ذاقوا ذلكَ مباشرةً فشهداء أُحُد، يُحدِّثُنا حبيبُ الرحمنِ عن غاياتٍ ومآلاتٍ لهُم في وقوفِهِم بينَ يدَيِ الإلهِ الحقِّ، وعن مُحاورةٍ كانتْ بينَهُم وبينَ الرحمنِ، لَقُوهُ رضيَ عنهُم وأرضاهُم ومنّاهُم، وقالَ: تمنَّوا عليَّ ما شئتُم، رأيت المصيرَ لهؤلاءِ القومِ؟ رأيت المستقبلَ لهؤلاءِ القومِ؟ لبَّوا دعوةَ زينِ الوجودِ ﷺ.
سبعين في أُحُدٍ، قالوا يا ربَّنا، تعطينا ما تمنَّى؟ ثاني مرةٍ تردَّنا إلى الدنيا نُقتَلُ معَ نبيِّكَ، نُقتَلُ ثاني مرةٍ! الجماعةُ في أُحُدٍ أحد جدعوا أنفُهُ وأحد بقروا بطنُهُ، قالوا: ثاني مرة خلونا نصل إلى مثلَ هذا يحصل لنا، اشتهَوا ماذا؟ لا قالوا: نرجعُ للدنيا سنبني، ولا نرجعُ للدنيا سنتاجرُ، ولا نرجع للدنيا سنزرعُ، بل نرجعُ للدنيا قتل ثاني مرة، نجد مثل هذا الحالي، هذا الذي ذُقنا حلاوتَهُ. قالوا: رُدَّنا لنُقتَلَ ثاني مرة معَ نبيِّكَ وحبيبِكَ هذا محمد ما دام أنه في الوجودِ الآن والدنيا، ثاني مرةٍ في الصفوفِ نحنُ رأينا النتيجةَ حقَّ القتلِ معه كيفَ هي وحلاوتُها ولذَّتُها! ثاني مرةٍ، قالَ: فقالَ لهُمُ اللهُ: إنَّهُ سبقَ القضاءُ منِّي أنَّهُم إليها لا يعودونَ، قالوا: فأبلِغْ عنَّا مَن وراءَنا أنَّنا لقيناكَ فرضيتَ عنَّا وأرضيتَنا، فأنزلَ اللهُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}.
ولمَّا قَبَرَهُم قالَ لهُم: أشهدُ أنَّكُم الشهداء عندَ اللهِ يومَ القيامةِ، أشهد! شهادته مقبولة، وقال: لا يقفُ عليهِم أحد فيسلِّمُ عليهِم إلى يومِ القيامةِ إلَّا ردُّوا عليهِ السلامَ، فعلى النبيِّ هودٍ وعلى سيدِ الوجودِ، وعلى أهلِ أُحُدٍ وأهلِ بدرٍ سلامُ الله ورحمتُهُ وبركاتُهُ، السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ.
حسن المصير لمن بذل الأرواح
هؤلاءِ بهذا الحالِ والمصيرِ، مَن يقاربُهُم في حُسنِ المصيرِ مِمَّن حصلَ على شهادةَ دكتوراة، أو بروفيسورٍ، أو كانَ وزيرًا، أو رأسَ الدنيا مثلًا؟ مستقبل هؤلاءِ أطيب، مستقبل هؤلاءِ أعلَى، مستقبل هؤلاءِ أحلَى، مِن أينَ جاؤوا بهذا المستقبل؟ صدقوا معَ الحقِّ واتَّصلوا برسولِهِ، وبذلوا الأنفسَ والأرواحَ هؤلاءِ رؤوسُنا وهؤلاءِ أئمتُنا وقادتُنا.
جاءَ في بعضِ الرواياتِ، وأوردَها في بعضِ شروح مسندِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ، أنَّهُ ﷺ وكانَ على رأسِ كلِّ حولٍ يخرجُ إليهِم إلى أُحُدٍ يسلِّمُ عليهِم، عليهِمُ الرضوانُ، كانَ في كلِّ شوالٍ لمَّا يجيء وقت القتل لهم يخرج يسلِّم عليهِم ﷺ، وبقيَ السنواتِ الباقيةَ منه في حياتِهِ يتردَّد عليهِم، ثمان سنواتٍ كانَ يتردَّدُ عليهِم ﷺ.
أمَّا ابنته فاطمةَ، عم أبيها هناكَ حمزةُ، وتعلمُ منزلتَهُ عندَ اللهِ وعندَ رسولِهِ، فكانتْ في كلِّ خميسٍ تخرجُ إلى أُحُدٍ وتزورُ قبرَ عمِّ أبيها، أسدِ اللهِ ورسولِهِ حمزةَ بنِ عبدِ المطلبِ، عليهِم رضوانُ اللهِ تباركَ وتعالَى.
هؤلاءِ الذينَ بعدَ أربعينَ سنةً مِن وقعتِهِم ومقتلِهِم جرَتْ سيول فكشفَتْ قبورَهُم، فإذا بهِم كما وُضِعوا، نفس الخِرَقِ، أحدُهُم مُغطًّى رأسُهُ ورِجلُهُ مفتوحةٌ، لا شيء إلَّا الإذخِر كانَ فوقَها، وأحد له غطاء كاملًا، نفسُ ثيابهمُ التي ماتوا فيها، ما مسَّتْها الترابُ، ما بالت، ما فَنِيَتْ، اللهُ أكبر، وجدوهم كذلكَ، فنادَى مناديَ الأميرِ، يقولُ: انقُلوا مَن لهُ قتيل في أُحُدٍ، يخرجُه ينقلُهُ إلى الجهةِ الثانيةِ، نقلوهُم، أكثرُهُم إلى الجهةِ التي كانَ فيها سيدُنا حمزةُ، ذاكَ الحوشُ، القبورُ الثلاثةُ: سيدُنا حمزةُ، وسيدُنا مصعبُ بنُ عميرٍ، وسيدُنا عبدُ اللهِ بنُ جحشٍ، وأكثرُ السبعينَ وراءَهُم، باقي عددٌ منهُم قريبٌ مِنَ الجبلِ في المحلِّ الثاني، سبعينَ، هؤلاءِ السبعين كلُّهُم شهداءُ بشهادةِ محمدٍ ﷺ، ونالوا هذا المصيرَ العجيبَ البديعَ، الذي لا يُغبَط مُقابلهُ لا رئيسٌ ولا صاحبُ شهاداتٍ، ولا ما يُحصّل مثلَ هذا المصيرِ الكبيرِ والمستقبلِ العظيمِ، عليهِم رضوانُ ربِّي جلَّ جلالُهُ.
مواقف أهل الصدق والإخلاص
ومعَ ذلكَ كانَ يذكرُبعضُ التفصيلِ في مقابلتِهِم للحق، ويُبشِّر سيدُنا جابرُ بنُ عبدِ اللهِ: جابرُ، إنَّ اللهَ كلَّمَ شهداءَ أُحُدٍ مِن وراءِ حجابٍ، وكلَّمَ أباكَ كِفاحًا، أباهُ كانَ شائب، وكانَ عاشقَ النصرةِ للحقِّ ورسولِهِ والموتِ في سبيل الله، يقولُ لولدِهِ جابرٍ: بناتٌ عندَنا في البيتِ كثير، ونحنُ مسؤولونَ عنهُنَّ، وأنا ما أُؤثِرُكَ بالخروجِ معَ رسولِ اللهِ والقتلِ في سبيلِ اللهِ، أنا سأخرجُ وأنتَ ابقَ عندَ البناتِ، وابقَ في الأسرةِ، حتَّى إنِ اختارَني الله وحصّلتُ الشهادةَ تقومُ مِن بعدي بهذه الأسرةَ والبيتَ.
قالَ: لبَّيكَ، وكانَ الولدُ حريصًا أن يخرجَ، ولكنَّ أمرَ أبيهِ معَ واجبِ هذا البرِّ وأداءِ المهمةِ التي عليهِم معَ الأسرةِ قَبِلَ ذلكَ. وخرجَ شائب كبير السنِّ، معذورٌ في الظاهرِ مِنَ المواجهةِ، ولكنَّهُ خرجَ واستُشهِد، يقولُ لهُ رسولُ اللهِ لابنِهِ: كلَّمَ أباكَ كِفاحًا، عليهِ رضوان الله.
حتَّى خرجَ في اليومِ الثاني لغزوةِ حمراءَ الأسدِ، قالَ: لا يخرجْ معَنا أحدٌ إلَّا مَن حضرَ معَنا في أُحُدٍ، الذينَ رجعوا في الطريقِ ممنوعٌ أحدٌ منهُم يجيءُ، ما أحد إلا هؤلاءِ الأصفياءُ الصادقينَ، والذينَ حضروا في أُحُدٍ كلُّهُم جَرْحَى، كلُّهُم جَرْحَى، ما أحدٌ منهُم ما فيهِ جروحٌ، كلُّهُم الذينَ حضروا معهُ في أُحُدٍ جرحى، قال هم هؤلاء الجرحى معي والآخرين لا أربدهم، هؤلاءِ الجَرْحَى وصلَ النداءُ في الصباحِ إلى بعضِهِم، ووصلَ آخرَ الليلِ إلى بيتِهِ، فيهِ الجروحُ، زوجتُهُ قرَّبَتْ جمرًا وهيَّأتْ لأجلِ تُضَمِّده، لأجلِ تُضَمِّد جروحه، وهذا حصلَ لعددٍ منهُم، صلَّى الصبحَ فسمعَ النداءَ في الشارع المنادي يقولُ: إنَّ رسولَ اللهِ ﷺ خرجَ يلحقُ المشركينَ، ويقولُ: مَن حضرَ معهُ أمس في أُحُدٍ فليخرجْ. قالَ: ماذا يقولُ النداءُ؟ قالوا: نداء النبي خرجَ يقول الذين حضروا... قالَ: هيَّا أقومُ، الزوجة بعدَ الصلاةِ قرَّبَتِ التدفئة ستضمد الجروحَ، تقولُ لهُ: اتركني أضمدَ جروحك وتلحق، قالَ: لا لا لا لا! ما سمعتِ النداء؟ رسولِ الله خرجَ وأنا أجلسُ؟ ما عاد انتظر يُضَمِّد جُرحه، خرجَ بجرحه، عليهِم رضوانُ ربِّي، وأرانا الله وجوههم.
العجيب في مرحلتِهِ الأولَى لمَّا وصلَ إلى مكانٍ سيبيت فيهِ الليل ونَصَبوا له خيمة ﷺ، سألَ عن اثنينِ مِنَ الذينَ حضروا أُحُدًا - وهوَ يعرفُ إيمانَهُم - قال فلانٌ فلانٌ. قالوا ليسوا معنا، ما حضروا، لمَّا دخلَ الخيمةَ قالَ لبعضِ الصحابةِ: إذا وصلَ فلان وفلان فأدخِلْهُم عليَّ، وآخرَ الليلِ وصلوا، الاثنين، أخوين كانوا، استأذَنوا على رسولَ الله، قال أدخلهم، قال ما خلَّفكُما عنِّي؟ قالوا: واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما تخلَّفنا عنكَ، ما هوَ إلَّا أن سمعنا مناديكَ فخرجنا، لكن فينا جروحٌ كثيرةٌ، وأخي أشدُّ جروحًا منِّي - يقولُ أحدُهُما - فكانَ لا يستطيعُ المشيَ حينًا فأحملُهُ، فإذا حملتُهُ مدَّةً أوقعته على الأرضِ فمشَى ما يستطيعُ، ثمَّ أحملُهُ ثانياً، فهذا الذي خلَّفَنا، نحن وقتَ ما نادَى مناديكَ خرجنا، والآنَ وصلنا، دعا لهُما وبشَّرَهُما بالخيرِ، صادقون مخلصون معَ اللهِ ومعَ رسولِهِ.
حقيقة الاستجابة لنداء الله
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}، وهذا النداء نفسُهُ الآنَ في آذانِ كلِّ صادقٍ منا، قوموا بسنَّتي، قوموا بهَدْيي، قوموا بشريعتي، انصروني في أمَّتي وما أتيتُ بهِ عنِ اللهِ، فذلك نصرُكُم للهِ خالقِكُم، {وَإِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}.
وإن شاءَ اللهُ قلوبُنا تستجيبُ مِن جميعِ الحاضرينَ، ومِن جميعِ السامعينَ، وممَّن يصلُهُم هذا الكلامُ، وممَّن في ديارِنا، إن شاءَ اللهُ نلبِّي نداءَ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ، {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}، انظروا هذهِ الدعوةَ العجيبةَ، أشار الإخوان إلى بعضِ هذهِ الجوانبِ العجيبةِ، الاجتماعاتُ في الدنيا بمختلفِ أَصْنافِها، ما تكونُ إلَّا مِن دوافعِ سلاحِ الشهواتِ والأغراضِ، أو بشيءٍ بالقوَّةِ فيها، لكنَّ مجامعَ الخيرِ هذهِ ترونَها وتجديدها وكثرتَها، ما شيء قوَّة ولا شيء أغراض، ودولُ العالمِ اليومَ الموجودة لمَّا تريد تجمُّع وتريد مسيرة، تبقى تُرغِّب، ساعةً تأخذ بالقوَّةِ الذين في المؤسساتِ حقَّها يروحونَ يتجمَّعونَ، وساعةً تأخذ الطلبةَ مِنَ المدارسِ بالقوَّةِ، ليس بالرغبةِ، ويعملون لهُم تُجَمُّع ويعملون لهُم مهرجان ويعملون لهُم شيء غالباً! لكنْ بلا أحد يدعوكَ: تعالَ إلى شعبِ هود، ولا أحد يعطيكَ مقابلًا، ولا أنتَ عندَكَ أغراضٌ مِن أغراضِ الدنيا ويجيئونَ ألوفًا مؤلَّفةً، ومجالسُ الخيرِ كذلكَ، ما السرِّ في هذا؟ نداءاتُ الأرواحِ! إذا تجاوزَتِ الخضوعَ والخنوعَ للشهواتِ استجابَتْ للنداءِ العلويِّ، استجابَتْ للنداءِ العلويِّ، وصارَتْ ترغبُ وتُجيبُ وتلبِّي، الحمدُ للهِ على فضلِ اللهِ جلَّ جلالُهُ وتعالَى في عُلاه، فتجدونَ هذهِ الإقبالاتِ والمعاني.
صدق الدعوة في التبليغ عنه
ثمَّ حيثُ ارتبطَ كلُّ مؤمنٍ لهُ همُّ الدعوةِ بصدقٍ معَ اللهِ فلهُ نجاح، فإن ارتبطَ معَ هذا الصدقِ بأسرارِ إذنٍ مخصوصٍ، إما له أو مِن مأذونٌ لهُ في عصرِهِ أو في مكانِهِ، تضاعفَ خيرُ الدعوةِ وأثرُها وثمرها، سُنَّة الله تعالى.
وهكذا الذينَ كانَ يرسلُهُم ﷺ، وهوَ ربطَنا بهذا السرِّ في رأسه، قالَ لنا: "بلِّغوا عنِّي" ، عنِّي، عنِّي، تعرِفْ عنِّي؟ عني! "ولو آيةً" ، كانَ يمكنُ يقولَ بلِّغوا ولو آيةً، ما فيها روحها، ما فيها نورانيتها، ما فيها سرها، تبلِّغ أنتَ بنفسِك؟ قالَ لك: "عنِّي" ، مربوط بي، يعني أنا المبلِّغُ، أنتَ فقط توصِّلْ عنِّي، يا ربِّ صلِّ عليهِ.
والسرُّ في آية: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ}، الله! يعني ما خبَّأَ ربُّنا بإرادتِهِ الأزليةِ مِن أنواعِ الهدايةِ للمكلَّفينَ في العالمِ، بل لجميعِ المهديِّينَ في الأرضِ والسماءِ، جعلَها سبحانَهُ وتعالَى مطروحةً في هذا النورِ والقالب، ومنهُ تنتشرُ في الوجودِ، فهوَ الداعي إلى اللهِ بإذنِهِ، بإذنِهِ!
النيابة عن رسول الله
هذا الإذنُ الأكبرُ المطلقُ لرسولِ اللهِ ﷺ ترتَّبَ عليهِ تنبئةُ الأنبياءِ وإرسالُ الرسلِ، فقاموا نيابةً عنهُ كما يقومُ خلفاؤُهُ في أمَّتِهِ نيابةً عنهُ، فقامَ خلفاؤُهُ قبلَ بروزِ هيكلِهِ إلى الدنيا نيابةً عنهُ، فآدمُ دعا أولادَهُ نيابةً عن رسولِ اللهِ ﷺ، وشيث بنُ آدمَ دعا قومَهُ نيابةً عن رسولِ اللهِ محمد، وإدريسُ كذلكَ ونوحٌ كذلكَ وهودٌ كذلكَ.
ومظهرُ هذهِ النيابةِ أنَّ اسمَهُ مكتوبٌ على قوائمِ العرشِ معَ اسمِ اللهِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، أينَ باقي الرسل؟ هذا الرأسُ، الباقينَ كلُّهُم معهُ، وآدمُ رسولُ اللهِ، وشيثُ رسولُ اللهِ، وإدريسُ رسولُ اللهِ، ونوحٌ رسولُ اللهِ، نعم، ليسَ محمدًا فقط، وبعد ذلك؟ هذا الرأس، كلُّهُم فيهِ ﷺ.
ثمَّ يأخذُ عليهِم العهودَ والميثاقَ كلُّ نبيٍّ، إنْ بُعِثَ محمد في زمانِكَ اتَّبِعْهُ وانصُرْهُ وقُمْ معه، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ}، - والحق يؤكد - {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي} عهدي وميثاقي، قالوا نعم يا رب، إذن هو نبيهم ﷺ، وهو الأصل وهم نائبون عنه، {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}.
عجائب الجندية للرحمن
ما أعظمَ مكانتَهُ عندَ الربِّ! هذا الذي تتشرَّفونَ أنتُمُ الآنَ بحملِ سنَّتِهِ وهديه في أنفسِكُم وفي أولادِكُم، تخرجونَ مِن زيارة نبي الله هود وأحدُكُم جنديٌّ معَ الرحمنِ في صفِّ سيدِ الأكوانِ ﷺ؛ هذهِ النعمةُ الكبيرةُ! اللهُ يحقِّقُنا بها وينعمُ علينا بها، يا رب، يا أكرمَ الأكرمينَ وأرحمَ الراحمينَ.
وهؤلاءِ الجندُ للرحمنِ، إذا صدقوا فهُمُ المرتبطونَ بالمرسلينَ، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، وتحملون في هذهِ الجنديةِ عجائبَ تختلف عن هذهِ الطباعِ البشريةِ التي لم تُهذَّب، فعندَهُم أغراضٌ، وعندَهُم مقاصدُ، وعندَهُم عصَبياتٌ، وعندَهُم نفسياتٌ، ولكنَّ المؤمن سبحان الله!
يقول صحابي لرسولِ اللهِ: يا رسولَ اللهِ، لو أنَّ كافرًا مشركًا قاتلَني وقطعَ يديَّ، ثمَّ لاذَ بشجرة وقالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، أأقتلُهُ؟ قالَ: لا، قالَ: قطعَ يديَّ يا رسولَ اللهِ، قالَ: لا تقتلْهُ، قالَ: قطعَ يديَّ، قالَ: لا تقتلْهُ! فإنَّكَ إنْ قتلتَهُ كنتَ بمثابتِهِ قبلَ أن يقولَ كلمتَهُ، وصارَ بمثابتِكَ قبلَ أن تقتلَه، يرجع هو مثلَكَ في الفضلِ والمكان قبلَ ما تقتلَهُ، وأنتَ تصيرُ بمثابتِهِ قبلَ أن يقولَ لا إلهَ إلَّا الله، إذن عجيب هذا! هذا الدين وهذا الإسلام وهذهِ النبوةُ والرسالة! واحدٌ قطعَ يدَكَ وبعدَها قالَ لا إلهَ إلَّا الله.. كُف عنه وقُلْ لهُ أنتَ أخي، (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) سبحانَ اللهِ.
ويقول: "اللهمَّ اهدِ قومي فإنَّهُم لا يعلمونَ"، حتَّى في غزوةِ أُحُدٍ نفسِها، تلقَّى بعضَ الدمِ الخارجِ مِن وجهِهِ بيديه، وقالَ: أخافُ إنْ وقعَتْ منهُ قطرةٌ إلى أرض يعمّهُمُ اللهُ بعذاب! يستعجلُ عليهِمُ العذابَ ويُهلَكونَ، فكانَ يُمسِكُ الدمَ لا يقعُ للأرضِ، يا ربِّ صلِّ عليهِ.
واغتنم الفرصة بعض الصحابةِ قال الآن عمَّهُ حمزةَ مُثِّلَ بهِ وسبعين مِن أصحابه قُتِلوا والبقيةُ جَرْحَى: يا رسولَ اللهِ أترَى ما فعلَتْ قريشٌ ادعُ اللهَ عليهِم. قالَ: "اللهمَّ اهدِ قومي فإنَّهُم لا يعلمونَ" ، جاءَ بعضُ الصحابةِ سبَّ قريشًا عندَهُ، قالَ لا تسبّهُم فإنَّهُ سيكونُ منهُم، للهِ تعالَى أولياءُ وأنصارٌ للدينِ، قالَ إنَّما قلتُ ذلكَ لِما رأيتُ ما فعلوا، قال وإن كان، يا ربِّ صلِّ عليهِ.
ما أحسن معاملة الإسلام!
وهكذا الأنبياءُ مِن قبلِهِ، عُبّاد للهِ ومُتخلِّصين مِن آفاتِ النفوسِ، وهذا الذي ينادي بهِ الصادقونَ مِنَ المؤمنينَ اليومَ على ظهرِ الأرضِ، وكلُّ ما بغضوا بهِ أعداءَ اللهِ، أو كانوا ذوي غِلظة عليهِم ففي أن لا يقبلوا المساومةَ على دينِ الله ولا يرضخوا للظلمِ ولا للطغيانِ، أمَّا المعاملة فما أحسنَ معاملةَ الإسلامِ.
حتَّى في وقتِ الحرب - أمَّا في غيرِ وقتِ الحربِ (أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) - لكنْ وسطَ الحرب يقولُ القائد: لا تُمثِّلوا بهِم، لا تقتلوا امرأةً، لا تقتلوا طِفلًا، لا تقتلوا مُدبَرًا، واحدٌ قد هرب وشرد اتركه يذهب، ما هذهِ الرحمةِ وسطَ الحربِ!
وسطَ الحربِ، قتل السبعين مِنَ المشركينَ في بدرٍ، قبلَ ما يهذب يترك جُثَثَهُم للسباعِ قالَ ادفنوهُم! مَن يتولَّى؟ أصحابُهُم قد هربوا، سيبقون؟ ستتعفَّن أجسامُهُم وتأكلُها السباع.. ما رضيَ بذلكَ، ومَن الذي يدفنُهُم؟ البدريونَ هُمُ الذينَ يقومونَ بدفنِ هؤلاءِ، يعني خيارُ الصحابةِ، قاموا بخدمةِ أجسادِ هؤلاءِ، نَتِنة، ولكنْ ولمَّا جمعوا الكثير منهُم في القليبِ جاءَ ووقفَ فوقَ القليبِ: "فلانُ فلانُ فلانُ، هل وجدتُم ما وعدَ ربُّكُم حقًّا؟ فقد وجدتُ ما وعدَني ربِّي حقًّا"، يقول سيدُنا عمرُ: يا رسولَ اللهِ، ما تخاطبُ مِن أجسادٍ قد جِيفَت، مِن أجسادٍ لا أرواحُ فيها، قالَ: لستُ بأسمعَ لِمَا أقولُ منهُم، أنتَ لستَ أحسنَ سماعًا منهُم، هُم يسمعونَ كما تسمعُنا أنتَ، لستَ بأسمعَ لِمَا أقولُ إلَّا أنَّهُم لا يؤذَنُ لهُم في الجوابِ، ما يؤذَنُ لهُم يظهرونَ الجوابَ لنا، هُم جاوبوا ومِن تحتها ووعد الله حق.
وهكذا كما ينادي أهلُ الجنةِ أهلَ النارِ: هل وجدتُم ما وعدَ ربُّكُم حقًّا؟ فقد وجدنا ما وعدَنا ربُّنا حقًّا، {قَالُوا نَعَمْ وَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمينَ}.
الاجتماع على ذكر الله
كلُّ هذهِ المِنَن سيقَتْ إليكم، ووُضِعَتْ وبُسِطَت لكُم هذهِ البُسُط، أنتُم في اجتماعِكُم على ذكرِ اللهِ تباركَ وتعالَى، تتَّصلونَ بتذكُّرِ عظمتِهِ وآياتِهِ وميثاقِهِ وعهدِهِ، وإرادةِ الوفاءِ بهذا العهدِ، فهذا ذِكرٌ شريفٌ، ذِكرٌ عميقٌ، هذا الذكرُ بهذهِ الصورة أقرب إلى اللهِ تعالَى مِن بقيةِ الأعمالِ، "ما عملَ آدميٌّ عملًا أَنْجَى لهُ مِن عذابِ اللهِ مِن ذكرِ اللهِ".
"ألا أدلُّكُم بأفضلِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مليكِكُم، وأرفعها في درجاتِكُم، وخيرٍ لكُم مِن إنفاقِ الذهبِ والورِق، وخير لكُم مِن أن تلقَوا عدوَّكُم فتضربوا أعناقَهُم ويضربوا أعناقَكُم؟ بلَى يا رسولَ اللهِ، قال: ذكر الله".
ثمَّ يقولُ: "لا يقعدُ قومٌ يذكرونَ اللهَ تعالَى لا يريدونَ بذلكَ إلَّا وجهَهُ، إلَّا ناداهُم منادٍ مِنَ السماءِ: أن قوموا مغفورًا لكُم، قد بُدِّلَتْ سيئاتُكُم حسناتٍ".
القيام بحق التركة النبوية
يا مُكرِم يا مُنعِم ألحِقْنا بهؤلاءِ القومِ، وكل إرادةٍ لغيرِ وجهِك في قلب أحدٍ منَّا زحزِحْها عن قلبِهِ واسلُبْها مِن قلبِهِ، حتَّى لا يريد منَّا صغيرُنا ولا كبيرُنا إلَّا وجهَكَ يا ربَّ العالمين، واقبلْنا في ذكرِنا لك، وفي تذاكرنا لشريعتِكَ، وتواصينا بأن نقومَ بالعهدِ الذي عاهدَتنا عليهِ في هذهِ التركةِ التي خلَّفَها فينا محمدٌ ﷺ، فقامَ بخدمتِها الأكابر مِنَ الرجالِ الذينَ قامَتْ على أيديهِم تأسيسُ هذهِ المجامعِ والزياراتِ، مِن عندِ سيدِنا الفقيهِ المقدَّمِ إلى مَن أدركنا مِن شيوخِنا، فارضَ عنهُم واجزِهِم خيرَ الجزاءِ، وبارِكْ لنا في أخذِ هذهِ التركة النبوية والقيامِ بحقِّها في البلدانِ والأماكنِ والوديانِ، والعرب والعجم والبدو والحضر، أداءً لحقِّ الأمانةِ في تركةِ الذي أرسلتَهُ رحمةً للعالمينَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ وجودِكَ يا أجودَ الأجودينَ.
حقائق تصفية القلوب
فاصحبوا نصيبَكُم مِن تلاوةِ القرآنِ ومِنَ الذكرِ، ما تتصفَّى بها القلوبُ، وترجموا تصفيةَ هذهِ القلوبِ: بحُسنِ المعاملة وبلينِ الكلامِ وببشاشةِ الوجهِ، وبالإيثار للآخرينَ، فذلكَ الأساسُ الذي قامَتْ بهِ حقائقُ النصرة للدينِ في عهدِ المصطفَى الأمينِ ﷺ، وكذلكَ تقومُ في مختلفِ القرونِ ومختلفِ البلدانِ، أساسُها إيمانٌ وذكرٌ للرحمنِ، يُؤدِي صفاءً إلى صفاءٍ في الجَنانِ، يتترجَمُ هذا الصفاء في وفاءٍ وفي كرمٍ وفي سخاءٍ، وفي حُسنِ معاملةٍ وفي حسنِ مقابلةٍ، وفي إيثارٍ وفي مكارمِ أخلاقٍ، إذن كانتْ هكذا لا بِمُجرَّدِ تصنُّعٍ، ولا بمجرَّدِ أيضًا طبع لم يُنوَّرْ بنورِ الوحيِ، فأثرُها قويٌّ إذا كانتْ منبثقةً عن إيمانٍ وذكرِ الرحمنِ وصفاءٍ للجنانِ، فتصيرُ هذهِ الأعمالُ مُفعَّلةً، والتيارُ ممتدٌّ إليها، التيارُ ممتدٌّ إليها، بنورِها فيها وأثرِها فيها.
الانقطاع عن صدق التبعية
فَتَقوموا أيضاً في تبعيةٍ لمحمدٍ ﷺ، شؤون الانقطاعات عن صدقِ التبعيةِ للنبيِّ والسابقينَ الأولينَ من المهاجرينَ والأنصارِ حذَّرَ منها الحقُّ في عددٍ مِنَ الآياتِ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.. }، {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}، ويقول: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، {إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}، {إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}.
ومعاني هذهِ الآياتِ كلُّها: احذروا أن تُسَيِّبوا تَبَعِيّتكُم لنبيِّنا والسابقينَ الأولينَ بأيِّ أطروحةٍ تُطرَحُ عليكُم مِن شرق أو غرب أو كبير أو صغير، وهكذا جاءتِ الآياتُ تربِّينا وتزكِّينا، فالحمدُ للهِ على هذهِ النِّعَمِ، أحيَا اللهُ فينا حقائقَ الإسلامِ.
الدعاء بهداية الأمة
الحمدُ للهِ اجتمعنا الاجتماعاتِ لشؤونِ هذهِ الدعوةِ في هذهِ الليالي، وهذا أواخر اجتماعاتِنا الليليةِ، يصحبُها ما بقيَ معنا مِنَ الزياراتِ في الغدِ، واللهُ يكتبُ القبولَ وواسعَ المدَدِ، ويعمُّ بهِ مَن حضرَ ومَن في ديارهم ومَن في منازلهم، ومَن يتابعُ ذلكَ ومَن يشاهدُ ذلكَ ومَن يسمعُ لما هنالِكَ، والأمةَ في المشارقِ والمغاربِ، اللهمَّ عُمَّها بالخيرِ واجعلْهُ عائدًا بعوائدِ الفضلِ والإحسانِ على كلِّ راكعٍ وساجدٍ، وعلى كلِّ مؤمنٍ، بل وعائدًا بالفضلِ منكَ على هداية أقوامٍ لم يؤمنوا بعدُ فيؤمنوا، ولم يسلموا بعدُ فيسلموا.
واجعلْ منهُم أبوَي يوسفَ هذا الأمريكيِّ، الذي طلبَ منكُمُ الدعاءَ لأبوَيْهِ وأهلَهُ أن يهديَهُمُ اللهُ للإسلام، فادعوا اللهَ أن يهديَهُمُ للإسلام، اللهمَّ اهدِهِم لدينِكَ، اقذِفْ في قلوبِهِم نورَ لا إلهَ إلَّا اللهُ محمدٌ رسولُ اللهِ، وثبِّتْهُم عليهِ، وتوفَّهُم عليه، اللهمَّ لا تميتُهُم إلَّا مسلمينَ، وانشُرِ الإسلامَ في بلادِهِ وفي جميعِ أقطارِ الأرضِ، ووعدَكَ لنبيِّكَ أن يدخلَ الدينُ كلَّ بيتٍ أرِنا إيَّاهُ يا حيُّ يا قيومُ، وأنجِزْ لنا ما وعدتَنا على رسلِكَ، ولا تُخزِنا يومَ القيامةِ، إنَّكَ لا تخلفُ الميعادَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
سبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ.
11 شَعبان 1446