(575)
(536)
(235)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بحارة عيديد، مدينة تريم، 25 جمادى الآخرة 1443هـ ، بعنوان: غنائم العمر ونوعية الاشتغال ومنزلة الاستغفار
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله ﴿جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ وأشهد أن لَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، جعل الأيام والليالي لعبادِه المؤمنين مغانمَ يغنمون فيها أجورا، ويُكَفِّرُ عنهم بأوبتِهم وصدقِ توبتِهم آثاماُ ووُزوا، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، أرسلَه بالهدى بشيراً ونذيرا، وداعيًا إليه تعالى بإذنه وسراجاً منيرا.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المصطفى سيِّدِنا محمد، سيِّدِ العابدين، سيِّدِ المستغفرين، سيِدِّ الصائمين، سيِّدِ الذاكرين لك كثيرا، وعلى آله وأهل بيتِه وصحابتِه ومَن تبعهم بإحسانٍ فأحسنَ إليك مسيرا فأحسنتَ له مصيرا، وعلى آبائه وإخوانِه من الأنبياء والمرسلين الذين جعلتَ لك عندهم قدراً كبيرا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله.. تقوى اللهِ التي لا يَقبَلُ غيرَها، ولا يَرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا عليها.
وإنَّما مظاهرُ التقوى فيما يَحِلُّ في القلب ويصدر من الجوارح من أعمال، وما تنطق به اللسان من أقوال؛ فهناك تُستَجلَى التقوى؛ فمصدَرُها ومنبعُها ومستودعُها القلب، ومجلاها في الأقوال والأفعال اللسان وبقيَّةِ الأعضاء والجوارح.
وإنَّ مراتبَ التقوى يرتقي فيها المُتَّقُون، وإنَّ الأتقَى في عبادِ الله أجمعين لنبيُّكمُ الأمينُ المأمون.
ولقد كان الأتقى يستغفرُ اللهَ كثيرا، ولقد كان يتوبُ إلى الله في اليوم والليلة سبعين مرة ومائة مرة.
ألا فمَن تمسَّك بحبلِ التقوى فليَقتدِ وليَهتدِ بهذا النبيِّ الهادي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، وليأخذ نصيبَه مِن حقيقةِ الاستغفارِ والتوبةِ إلى الكريمِ الغفَّار -جَلَّ جلاله-
وإنَّ الاستغفارَ الذي هو طلبُ المغفرةِ مُستحَقٌّ مشروعٌ مُرَغَّبٌ فيه المؤمنُ في جميعِ أحواله، حتى قال خاتمُ الرسالة: (طوبَى لمَن وجدَ في صحفيتِه استغفاراً كثيرا).
وإنَّ مِن الأوقات ما يتأكَّدُ فيها الاستغفار؛ كالأسحار، فوقت السَّحَرِ مجال استغفار لطاهرِي القلوب وللمقبلِين على علَّامِ الغيوب، بل وللمحسنِين كما جاء في نَصِّ الكتاب: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، ومنها خلفَ الصلوات وعَقِبَ الصلوات، ومنها غير ذلك من الأوقات، ومنها ما يُروَى عن شهرِ رجب والأمرِ فيه بكَثرةِ الاستغفار.
والاستغفارُ طلبُ المغفرةِ مِن الكريمِ الغفَّار، والطلبُ الذي يُعَبَّرُ عنه باللسان معدنُه الجَنان، وطالبُ الغفران مُنتَزِحٌ عن العصيان، وطالبُ الغفران يطلب الطُّهرَ للجَنَانِ والأركان.
مَن يطلبُ الغفران ينأى بنفسِه عن مجالسِ العاصين والغافلين والفاسقين، طالب الغفران يدأبُ في الطاعةِ للرحمن حتى يُكَفِّرَ سيئاتِه ويغفرَ خطيئاتِه، ويُبَدِّل سيئاتِه إلى حسنات، ذلكم التوَّابُ الكريم -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-
وإننا نودِّعُ شهرَ جمادى الآخرة مستقبلين لشهر رجب الذي قال عنه سيدُنا أنس رضي الله عنه: "سُمِّيَ رجبا لكثرة ما يترجَّبُ فيه مِن الخير الكثيرِ لشعبان ورمضان"، وهو الشهر الذي جاء عن نبيِّنا أنه إذا هَلَّ هلالُه قال: (اللهم بارِك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان).
اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان.
والبركة في شهر رجب: كثرُة استغفار، واستنارةٌ بخير الأنوار، واقتداءٌ بالنبيِّ المختار.
ولا يَصِحُّ شيءٌ مِن تخصيصِ أول ليلة أو أول جمعة من رجب بصلاةٍ تُسمَّى صلاةَ الرغائب، لا يَصِحٌّ شيء ورد فيها، ولا إشارة إليها. وإنما بسَطَت الشريعةُ المطهَّرة بساطَ الصلاةِ والإكثار منها في مختلف الليالي والأيام غير الساعات التي نُهِيَ عن صلاة التطوَّعِ والنَّفلِ فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاةُ خيرُ موضوع، فمَن شاء فليستَكثِر ومَن شاء فليستقلِل).
وأمامَنا ما شُرِعَ على الخصوص مِن الرواتب ومِن صلاةِ الوتر؛ وهذه تتعلَّقُ بالليل، ومِن عموم التهجُّد والتَّنَفُّلِ بالليل وقيامِ الليل الذي أُمِرنا به، وتوجَّه الأمرُ لإمامِنا وقُدوتِنا مِن رَبِّنا لنقتديَ به: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وليكن حظُّنا وافراً مِن هذه الصلوات، نعمرُ بها الأعمار والأوقات والمساجد، بل والبيوت والمنازل من قِبَلِ رجالنا ونسائنا، فليشتَغلوا بعد أداء الفرائض بنصيبٍ من هذه النَّوافل في الصلوات؛ فهذه مسالك السعادات الموجبة للحسنى وزيادات ، تشريعٌ من رَبِّ البريات على يد خير البريات خاتم النبوَّة والرِّسالات محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فما أجدرَ أن تمتلئ البيوت -فضلا عن المساجد- بمصلِّينَ ومصلِّيات، ويُصَلّون ويصلَّين فوق الفرائض هذه النوافل من رواتبَ ووترٍ وضحى، ثم ما تيسَّر لهم مِن التطوُّع بالنافلة المطلقة، فـ(الصلاة خير موضوع) كما قال سيدنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها المؤمنون بالله: إنَّ اغتنامَ الأوقات وعمارة الساعات بموجبِ السرور في يوم الميقات مِن أعظمِ ذخائرِ العمر وفوائدِه العظيمات، هذه مسالك الأخيار والصالحين.
لقد شُغِلنا بمظاهر وبأخبارِ سياسات وغيرها، وألعابٍ عمَّت صغارَنا وكبارَنا كانت تختصُّ عموم الألعاب على مدى القرون بالأطفال والصبيان.. وعمَّت الألعابُ اليوم صغاراً وكبارا! وكَثُرَ الشغلُ بها والشغل بالموضَات والمظاهر الفارغات! وبئس الشغلُ هذا!
ومَن الذي شغلَهم به؟ وما يقصدون بالاشتغالِ به؟ ثم ماذا يُنتِج لهم؟ وماذا يُثمِر لهم؟ وماذا يتحصَّلون عليه مِن وراء الاشتغالِ بهذه الأشغال؟!
إنَّ الشغلَ بالكتابِ العزيز، وبالنوافل، وبقراءةِ كلامِ المصطفى، وبالذِّكر للرحمن، وبالصلةِ للأرحام؛ شغلٌ رَبَّانِيٌّ؛ أمركَ الرحمنُ بالاشتغالِ به وأن تَقضِيَ فيه عمرك، ونتائجه ثوابٌ وأجورٌ، ورضا مِن العزيز الغفور، وقربٌ مِن النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين.
فانظر تختار لنفسك أيَّ الأشغال، وبما شغلَك به إلهُك ونبيُّك، أم بما شغلَك به أعداؤك؟ بما شغلَك به قُطَّاع الطريق، بما شغلك به الفُسَّاق؟!
يا حسرةً لعقولِ مسلمين ومسلمات! شُغلُهم بما شَغلَهم به الكافر! شُغلُهم بما شَغلَهم به الغادر! شُغلُهم بما شَغلَهم به القاطع عن دربِ الله جل جلاله! واستغرقُوا أعمارَهم في ذلك!
ألا: ففكِّر، وودِّع الأشهرَ واستقبِلها بهذا النصيب ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾.
فتذكَّر واشكر ما دُمتَ في فرصةِ التَّحصيل لهذا الخير الكبير، فإنه مِن عند الغرغرة فما بعدها لا نصيبَ لك في تحصيلِ شيءٍ من الصالحات ولا الاشتغال بالطاعات؛ وإنما الفرصةُ هذا العمر وهذه الساعات وهذه الأيام المعدودات..
فأكثرِ الاستغفار، واقتدِ بالنبيِّ المختار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ونَزِّه أوقاتَك عن نظراتٍ حرامٍ تعودُ إلى كحلِ عيونٍ بالنَّار، وتعود إلى ألمٍ وحُزنٍ وغَمٍّ وهمٍّ في يومِ الوقوف بين يديِ القويِّ العزيز جل جلاله وتعالى في علاه.
أيها المؤمن: اغنم الوقتَ فإنه خيرُ مطيَّة ترتقِي بها المراتبَ العَلِيَّة، وتحوزُ بها القُربَ مِن الرَّبِّ ومِن خيار البريَّة.
شغلَنا الله بما هو أحَبُّ إليه في ظواهرِنا وبواطنِنا، وفي ديارِنا ومنازلِنا، وشغلَ الصغارَ والكبارَ والرجالَ والنساء مِنَّا بما هو أحب، وأطيب، وأقرب، وأسعد، وأوجب للرضوان الرَّبَّانِيِّ، والفيض الامتنانِي.
اللهم لا تَشغَلنا بسواك، وأقبِل بوجهِك الكريم علينا، ووفِّقنا لطاعتِك ورضاك يا ربَّ العالمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: ﴿فَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
وقال تباركَ وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم﴾
أعوذ بالله من الشيطان الرحيم: ﴿ إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا * وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا * وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الحمد لله يرفعُ درجاتِ المُقبِلين عليه، وأشهد أن لَّا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، يُعِزُّ المتذلِّلين بين يديه، ويَقمَعُ المتكبِّرين المعرِضين عنه وعمَّا جاء به رسولُه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقرَّةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، أحَبُّ خلقِه إليه، وأكرمُ عبادِه عليه.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المُستَغفِرِ التوَّابِ المتذلِّل لعظمتِك، خيرِ مَن سلَكَ شريف المسالك ونجَّا أتباعَه مِن الزَّيغِ والمَهالك، وعلى آلِه وصحبِه ومَن سار في دربِه، وآبائه وإخوانِه مِن أنبيائك ورُسلِك، وآلهِم وصحبِهم، وملائكتِك المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله..
فاتَّقوا اللهَ في مرورِ الليالي والأيام، وتذكَّروا واشكروا، واصدُقوا مع مَن يعلَمُ ما تُظهِرون وما تُضمِرون، وما تُخفون وما تُعلِنون ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
أيها المؤمنون: إنما البركةُ في رجبٍ بقلوبٍ أنابَت إلى الرَّبِّ، ولم تُبقِ لأنظارِها سُروحاً في المحرَّمات، ولا لأسماعِها، ولا لفُروجِها، ولا لبُطونِها، ولا لأيديها، ولا لأرجُلِها، ولا لألسُنِها؛ قيَّدت الجميعَ بقَيدِ التقوى، وأكثرَتِ الاستغفارَ لعالمِ السِّرِّ والنجوى، وأخذَت نصيبَها مِن الصيام، وأخذَت نصيبَها مِن الصدقة.
وقد صَحَّ أنه سئلَ ابنُ عمر: أكانَ صلى الله عليه وسلم يصومُ رجب؟ قال: "نعم ، ويُشَرِّفُه". "ويُشَرِّفُه" يُشَرِّفُ الشهر الذي كان تشريفُه مشهوراً لآل مضر -آل المصطفى صلى الله عليه وسلم- حتى نُسِبَ إليهم وسمَّاه (رجب مُضَر) عليه الصلاة والسلام.
وقد جاءنا في صحيح مسلم أنَّ أسماءَ بنت أبي بكر رضي الله عنها بعثَت إلى عبدِالله بنِ عمر قالت: "بلغني عنك أنك تُحَرِّمُ صومَ رجب كله؟" فأرسل إليها عبدُالله بن عمر: "كيف بمَن يصوم الدهر؟! متى حرَّمتُ صومَ رجب كله أو غير رجب؟! إنما حرَّم اللهُ صيامَ يومِ العيدين وأيام التشريق، وعلى الاختلافِ في النِّصفِ الأخير مِن شعبان لمَن لم يصِله بما قبله ولم يكن عن قضاءٍ ولا عن نذر، وحرَّم الصيامَ على الحائض. وما عدا ذلك فلا معنى لتحريمِ الصيامِ على أحد، بل هو مِن القُرُبات التي قال فيها الواحدُ الأحد: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرِ أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، إلا الصوم فإنَّه لي وأنا أجزي به).
ألا: إنما يُبَارَكُ في رجب لمَن واصلَ رحمَه، ولمَن بَرَّ والديه، ولمن صدقَ مع الرحمن، ولمَن تحرَّى بصدَقَتِه أهلَ العفافِ مِن ذوي الحاجة، ومواطنِ النصرةِ للهدى والحق على الوجهِ القويم.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله: فرصةُ امتدادِ الأعمار ما غنيمتُها إلا إكثارُ ما به الفوزُ في داِر القرار، والنجاةُ يومَ وضعِ الميزان والوقوفِ بين يديِ الإله الغفَّار جل جلاله وتعالى في علاه. فانصرفوا من الجمعة بصدقِ إقبالٍ على الحيِّ القيوم، وتبعيَّةٍ مطلقةٍ لنبيِّه السيِّدِ المعصوم؛ يبلغ كلٌّ منكم ما يرُومُ وفوقَ ما يروم، واعمُروا الأعمار بما يوجبُ لكم كثرةَ الأنوار والدخولَ في دوائرِ المقرَّبين الأطهار، ويوجبُ رضوانَ الملكِ الغفَّار وعبدِه المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم.
وأكثرُوا الصلاةَ والسلامَ على المصطفى خيرِ البشر، صفوةِ الله مِن مُضر، فإنَّ أولاكم به يومَ الهولِ الأكبر أكثرُكم عليه صلاةً في هذا العمرِ الذي ما أسرعَه ما يمُر.
أيها المؤمنون بالله: مَن صلَّى على محمد صلاةً صلى الله عليه بها عشرَ صلوات، ولقد أمرَنا بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بالملائكةِ وأيَّه بالمؤمنين، فقال مُخبِرَاً وآمِرَاً لهم تكريما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلِّم على المبعوثِ بالرحمة، عبدِك المصطفى سيِّدِنا محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مؤازرِه في حالَيِ السَّعَةِ والضيق، خليفةِ رسولِ الله سيِّدِنا أبي بكر الصِّديق، وعلى النَّاطقِ بالصَّواب، حَليفِ المِحرَاب، نَاشِرِ العَدلِ في البريَّةِ، صاحِبِ الإنابَةِ في خوَاصِّ مَن أناب، المُنيبِ الأوَّاب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، ومُنفِقِ الأموالِ في رِضَا مولاه المَنَّان، مَنِ استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، أميرُ المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخي النَّبِيِّ المصطفى وابنِ عَمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمه، عظيمِ الشَّرَفِ والمناقبِ، لَيْثِ بني غالب، أمير المؤمنين سيِّدِنا عليِّ بنِ أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيدَي شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنة وريحانتَي نبيِّك بنَصِّ السنَّة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضا، وعلى الحمزَةَ والعبَّاس، وسائر أهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبة وأهل بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وسائرِ الصَّحبِ الأكرمين، وعلى جميعِ أنبيائك ورسلِك وآلهِم وصحبِهم وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أَذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أَعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دَمِّر أعداءَ الدين.
اللهم اجعل لنا البركةَ في الشهرِ المقبل رجب، واجعل مِن البركة فيه دفعَ البلايا والرَّزايا وكَشفَ الشدائدِ عن أمَّة خيرِ البرايا، في الظَّواهر والخفايا، ورفعَ الكروبِ والحروبِ والخطوبِ والآفات والعاهاتِ والفسادِ للقلوب، وجمعِ القلوبِ على الوجهة إليك يا علَّام الغيوب، اللهم فرِّج كروب المسلمين، وادفعِ البلاءَ عن المؤمنين، ولا تصرِفْنا مِن جُمعتِنا إلا مجموعةً قلوبُنا على الإنابةِ إليك والصدقِ معك والتذلُّل بين يديك، وأعزّنا بذلك أتمِّ العِزّ في الدارَين، يا ربَّ الدارَين، يا ملكَ الدارين، يا من بيده الأمر كله يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ يا أوَّلَ الأولين ويا آخرَ الآخرين، ويا ذا القوة المتين، ويا راحمَ المساكين، ويا أرحمَ الراحمين، حوِّل أحوالَنا والمسلمين إلى أحسنِ حال، وادفع عنَّا جميع البلايا والأهوال، وأعذنا من أحوال أهل الضلال وفعل الجُهَّال.
اللهم اغفر لنا وللآباء وللأمهات، والأجداد والجدَّات، وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أحيائهم والأموات ومَن يأتي إلى يومِ الميقات، يا خيرَ الغافرين، يا مكفِّر الزَّلَلِ وغافرِ الذنوب والخطيئات، يا مجيبَ الدعوات.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
﴿رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاثٍ، ونهى عن ثلاثٍ:
﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
26 جمادى الآخر 1443