علائق القلوب والتفاتاتها ورغباتها وترتيب شئون الحياتين عليها

للاستماع إلى الخطبة

خطبة جمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة، بحارة الروضة ، عيديد، بمدينة تريم، 27 ربيع الأول 1447هـ بعنوان: 

علائق القلوب والتفاتاتها ورغباتها وترتيب شئون الحياتين عليها

خطبة عن علائق القلوب والتفاتاتها، يُبيّن فيها الحبيب عمر بن حفيظ أن مقام العبد عند الله يتحدد بما يمتلئ به قلبه من رغبات وتعلقات، داعيًا إلى تطهير القلب من الالتفات إلى الخلق أو الدنيا، والصدق في الاتجاه إلى الله وحده، وبيّن أن ميزان الإيمان يقوم على إيثار الآخرة على الدنيا، وتحقيق شهادة "لا إله إلا الله".

الصورة

لتحميل الخطبة (نسخة PDF)

نص الخطبة:

 

الخطبة الأولى:

   الحمد لله، الحمد لله مُقلّب القلوب والناظر إليها وما فيها، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استوى في علمه ظواهر الأمور وخوافيها. 

   وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، أكرم عباده عليه في أقاصيها وأدانيها.

  اللهم أدِم صلواتك على عبدك المصطفى المُصفّى الكامل المنتخب المختار سيدنا محمد، وعلى آله المطهرين وأصحابه الغُرّ الميامين، ومن والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

   أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتَّقوا الله عباد الله، وأحسِنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ). 

واعلموا أنَّ من اتقى الله عاش قوياً وسار في بلاد الله آمناً. 

ومن ضيَّع التقوى وأهمل أمرها 

تغشتهُ في العقبى فنون الـــندامةِ

علائق القلب وأثر لا إله إلا الله:

   أيها المؤمنون بالله، ينظر إلهكم إلى قلوبكم وما فيها، وإن ما في القلوب لا يُترجِم عنه إلا متعلَّقاتُها ورغباتُها، والتفاتاتها واهتماماتها، وبذلك تتم الترجمة عما في ذلك القلب وما حواه، وما استقر في باطنه وما استوى فيه. 

   أيها المؤمنون بالله، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إذا صحّت وصفَت وسار قائلها إلى التحقق بها، أحدثت في علائق القلب أحوالاً وشؤوناً تُخلّصه من كل التعلُّق بغير الله عز وجل، وتوقِفُه على علمِ أن أولى من يتعلق به القلب من أجل الله ولطلب رضوان الله؛ رسوله ومصطفاه محمد، فلا يكون في ذلك القلب أحبَّ إليه من الله ورسوله، وبالتلقائية والترتيب المحتّم يكون له محبة الجهاد في سبيل الله عز وجل.

أثر التعلق بالشهوات والأهواء:

   أيها المؤمنون، وفي تلكم العلائق تأتي موازين الالتفات إلى ما يقول الناس، والمبالاةُ بكلامهم في قصد رب الناس جلَّ جلاله، وكذلك في الاختيارات في الأمور، وكذلك في القصد في الطاعات والعبادات. 

وإن مَن تعلَّق قلبه بالشهوات أو الأهواء أو الملذّات الفانية، أو شؤون هذا الحُطام الزائل؛ فهو الأقربُ أن لا يستقر في قلبه حقيقة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن لا يصل إلى شرف التحقق بها وما فيها ومعناها. 

وحينئذٍ يكون مستَعبَداً بعلاقة ذلك القلب؛ لجاهٍ أو مالٍ أو سلطةٍ أو قطيفةٍ أو خميصةٍ أو دينارٍ أو درهمٍ إلى غير ذلك من أنواع الاستِعبادات التي تحصل للناس، فتُخرجهم عن التحقق بالعبودية لله وشرفِها إلى العبودية لما سواه وذُلّها ومهانتها.

حالنا في توديع ربيع الأول:

   أيها المؤمنون بالله ﷻ ، وعند توديع المؤمنين لشهر ذكرى ميلاد نبيهم ﷺ ، فإنه يبدو ويصدُر ويظهَر من هذه القلوب ويبرُز شؤون علائقها ومتعلقاتها بأي شيء يكون. 

وكل مؤمن على قدر التحقق بشهادة؛ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله يعلم في هذه الذكريات شؤوناً وشجوناً وعلائق قلبيات من أجل الله ﷻ، يخاطب بها نفسه ليستقيم على المنهج القويم. 

ولن يجد له إماماً على الإطلاق إلا محمداً ذو الخلق العظيم ﷺ ، وهو بطبيعة حاله في إيمانه ويقينه يتذكر كل ما يُقرّبه إلى الله ويتعلق بإيمانه به؛ من أنبيائه ورسله وملائكته وأحداثهم وأحوالهم وما ورد فيها، وهذا من أسرار قول الله في كتابه: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ). 

تأثر القلوب بأحوال أهل الكمال:

   إنها علائق بالأحوال التي جرت لأهل الكمال، من خواص خلق الله وما تعاملوا به مع الأحداث والمُجريات في الكون، وما قابلهم من الشؤون في هذا الواقع وهذه الحياة، وكيف كانوا فيها في تحقيق عبوديتهم لله وإيثارهم لما عند الله تبارك وتعالى، بل إيثارهم لله على جميع ما سواه، بعد أن آمنوا بالله وعرفوا الله ﷻ، أي وصلوا إلى المراتب الرفيعة التي يأذن الله تعالى للخلق بارتقائها في معرفته، وإن الإحاطة بمعرفته مستحيلة في الدنيا وفي الآخرة، ولكنها مراتب في المعرفة بعظمة الله وذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، هم فيها على درجات تُترجمها تعلُّقات قلوبهم. 

انظر أين التفات قلبك! :

   فانظر أيها الحاضر في الجمعة أين متعلقات قلبك وفؤادك، وأين التفاتاته، وما هي رغباته، وإن ذلك محل نظر ربِّ السماوات والأرض؛ ليعزك أو يهينك، وليرفعك أو يخفضك، وليحبك أو يبغضك، وليقربك أو يبعدك، وليسعدك أو يشقيك، على حسب ما تعلق به قلبك والتفت إليه بالك وضميرك، وتولَّعت به من باطنك وداخلك. 

علامة كمال الإيمان:

أيها المؤمن بالله ﷻ، وفي المعنى يأتي لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فيما روى ابن عساكر والأصبهاني في الترغيب والترهيب وغيرهما، أنه ﷺ قال: "ثلاثٌ من كُنّ فيه يُستكمل إيمانه: أن لا يخاف في الله لومة لائم، وأن لا يرائي بشيء من عمله، ومن إذا عرض عليه أمران، أمرٌ للدنيا وأمرٌ للآخرة، آثر أمر الآخرة على الدنيا".

لا يخاف لومة لائم:

يُستكمل الإيمان بهذه العلائق الرافعة الصافية، ويُستجلى ما فيه من الإيمان بالخالق، والارتقاء في درجاته العالية؛ "مَن لا يخاف في الله لومة لائم"، فلَوم الناس وعتابهم وسبهم وشتمهم لا يؤثر في وجهته ونيته وإرادته، وَجه ربه ﷻ. 

إذ لم يُصبح لقلبهِ علاقة في طلب المنزلة لديهم ولا المكانة عندهم اشتغالاً بطلب المنزلة عند الإله الحق القوي الذي نواصيهم بيده وأمرهم إليه، ولا يستطيعون بأجمعهم وبكليتهم  -فضلاً عن أفرادهم وآحادهم- أن يؤخروا ما قدَّم ولا أن يُقدِّموا ما أخر، وليس باستطاعتهم أن يرفعوا ما خفض ولا أن يَخفضوا ما رفع، ليس باستطاعتهم أن يُسعدوا ما أشقى ولا أن يُشقوا ما أسعد، (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ)، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ). 

وكم عملتْ تعلّقات القلب في حسابات المَنزِلة عند الناس وما يقول الناس، وخوف لوم اللائم منهم من قُطعان قُطِعَ بها صاحب ذلك القلب عن صدق طلب الرضوان من الرحمن، وعن القيام بما يرضاه به وما يرضى به ويرضاه منه، ويحبه منه في السر والإعلان.

وصف أهل المحبة:

   أيها المؤمنون، ولقد وصف الله أهل المحبة بذلك الوصف، بل وجعلهم أهلُ التّفادي لمصائب الأمة ومشاكلِها، وحل مُعضلاتها إلى أكبرها، وهي الردة عن دين الله، فقال ﷻ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، جلَّ جلاله وتعالى في علاه. 

إذ قد سقطت عندهم اعتبارات الخلق وموازينهم من حيث التفات قلوبهم إلى ربهم ﷻ وقصد رضاه. 

فلا تجد قوماً كما قال الله تبارك في قرآنه: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ). 

    أيها المؤمنون بالله، نصوص واضحة، وأمور جَليّة في شأن العبد ومعاملته للرب، "إِنَّ اللهَ لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ ولا إلى أجسادكم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِكم". 

حرِّر اللهم قلوبنا من قصد غيرك، ومن إرادة سواك، ومن تعظيم ما ليس بعظيماً عندك، ومن تحقير ما هو عظيم عندك، ومن كل التفات يمنعنا عن صدق الوجهة إليك وإيثارك على كل شيء عداك، لا إله إلا أنت.

آيات من سورة المائدة :

والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

وقال تبارك وتعالى: (مفَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ۚ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم. 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية :

   الحمد لله الحق الحي القيوم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما كان لعبدٍ من عباده أن يؤثر عليه شيئاً ولا أن يقدّم عليه شيئاً في مستيقنٍ ولا مظنونٍ ولا موهوم. 

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه الصادق المعصوم.

اللهم أدم صلواتك على عبدك المجتبى المختار سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

تقوى الله في علائق القلوب:

   أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله في علائق قلوبكم والتفاتاتها ورغباتها ومراداتها، وأقيموا الوزن على لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله لكل ما تتعلقون به وتلتفتون إليه، وارتقوا في مراقي التحقُّق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ مرقًى يخلّص بواطنكم من كل التفاتٍ إلى ما سوى الله وكل تعلُّق بما عداه

فأشد تلكم التعلقات: هوى الإنسان وشهواته، وظنه أن أحداً غير الله يقدم أو يؤخر، أو ينفع أو يضر، أو يعطي أو يمنع، أو يحيي أو يميت، أو يُشقي أو يُسعد من دون إذن الله ومن دون أمر الله ﷻ.

من كل من تعلقت قلوبهم بآلهة غير الله، ومن تعلقت ثقتهم بشيء من الكائنات والأسباب فظنوها أنها الفعالة مستقلة، وليس لشيء استقلال من العالم الأعلى إلى العالم الأدنى، من صغير ولا كبير، ولا فرد ولا جماعة، ولا إنس ولا جن، ولا ملائكة ولا شجر ولا حجر، ولا جماد ولا حيوان ولا نبات ولا هواء، ولا شيء من الكائنات له استقلال لا في خلقه وإيجاده، ولا في استقراره وفي تسيير أموره، والكل تحت قدرة قادر وقهر قهّار، هو الذي يُسيركم في البر والبحر، وهو الذي يُقدم ويؤخر، وينفع ويضر، ويهدي ويضل، ويرفع ويخفض، ويعطي ويمنع، جلَّ جلاله وتعالى في علاه (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).

من أسباب هلاك العبد:

ألا فاطلبوا المنزلة عنده ولا تخافوا لومة لائم، مما يعرض لكم في الحياة يعرض لهذا:

 لِمَ لم تبلغ المنزلة الفلانية الاجتماعية؟ 

ولِمَ لم تُحصِّل الحدَّ الفلاني من المال والثروة؟ 

إلى غير ذلك.. ويُعيّر به، فإذا التفت إليهم أوردوه موارد الهلكة. 

وفي الخبر: "يكون هلاك المؤمن في آخر الزمان على يد أقرب الناس إليه: زوجته، أمه وأبيه، ولده". قالوا: كيف ذاك؟ قال: "يُعيّرونه بالفقر حتى يوردوه الموارد فيهلك".

رسوخ قلب الأمين المأمون:

    أيها المؤمنون، لا عبرة للوم لائم، لا يقوم لومه على أساس حقٍّ وحقيقة من الشّرع المصون وهدي الأمين المأمون صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، الذي كان في طبيعته ورسوخ قلبه لا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، يُنصف من نفسه دون أن ينتصف لها، يعفو عن الذنب إذا كان في حقه وسببه، فإذا أُضيع حق الله لم يقم أحد لغضبه، صلوات ربي وسلامه عليه. 

لم تعجبه الدنيا ولا شيء فيها، ولم يعجبه أحد من الناس إلا أن يكون ذا تُقى، لا يوَقِّر ولا يهاب ملوك الأرض ولا ما عليها، يخاف الله، وهو قائد الدعاة إلى الحق، قال ﷻ: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا).

تربية الرحمن بأمهات المؤمنين:

   أيها المؤمنون، وبهذه التربية سار الرحمن بأمهات المؤمنين لالتصاقهنّ واتصالهنّ بسيدنا الأمين، وقال له تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا). 

وكلما تُليتْ الآية على واحدة من أمهات المؤمنين التسع، وقال لها: "لا تعجلي واستأمري أهلك"، قالت: "أفيك أستأمر أبوي أو من دونهما؟ لا والله، أريد الله ورسوله والدار الآخرة"، رضي الله تعالى عنهن.

هكذا علائق القلوب وهكذا مراداتها ورغباتها، حينما تنوَّرت بنور الإيمان واليقين، وتربت بتربية خاتم النبيين، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. 

صفات أهل كمال الإيمان :

    أيها المؤمنون، من لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يُرائي بشيء من عمله، ولا يقصد الخلق بعبادة يعبد الله بها، ولا المنزلة عندهم، ولا المكانة لديهم: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا). 

(فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). 

ومن إذا عُرض عليه أمران؛ أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، قدَّم أمر الآخرة وآثره على أمر الدنيا، هذه التي يُستكمل بها الإيمان يا أيها المؤمنون.

وهو مُتفق مع ما جاء في الصحيحين: "ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوَةَ الإيمانِ: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه مِمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ المرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا للهِ"، أي يستقيم ميزان العلائق بالخلق، فلا يحب إلا مَن حبُّه يقرِّبه للخالق، "وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ بعدَ إذْ أنقذَهُ اللهُ مِنْهُ؛ كَما يَكرَهُ أنْ يُلْقى في النارِ". 

ميزان المحبة عند المؤمن:

    أيها المؤمنون بالله جلَّ جلاله وتعالى في علاه، لا يُحب المؤمن إلا من يحب الله وإلا ما يُحب الله، ولا يبغض إلا من يبغض الله، وما يبغض الله تعالى من الأشخاص والأقوال والأعمال والمقاصد والنيات والأحوال. 

يحب ما أحب الله، ويرضى ما رضي الله، ويكره ما كره الله، جلَّ جلاله وتعالى في علاه. 

فأقِم الميزان، وتطهَّر عن الأدران، وودِّع شهر ذكرى هاديك إلى سواء السبيل بإقامة هذا الميزان.

محبة النبي وكثرة الصلاة عليه:

وأكثِر الصلاة والسلام عليه، فإنّ علامة صدقك مع الله أن يمتلئ قلبك محبة لرسوله وتلهج بكثرة الصلاة والسلام عليه، وهو القائل: "إنَّ أَولَى النَّاسِ بي يومَ القيامَةِ أكثَرُهم علَيَّ صلاةً".

والذي أوحى الله إليه مُبتدئاً بنفسه ومُثنيِّاً بالملائكة ومؤيِّها بالمؤمنين، فقال مخبراً وآمراً، تكريماً وتعظيماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المهداة والنعمة المسداة، خير خلقك سيدنا محمد المنيب الأواه، 

وعلى الخليفة من بعده وصاحبه في الغار، مؤازرهِ في حاليِ السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق. 

وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب. 

وعلى من استحيتْ منه ملائكة الرحمن، محيي الليالي بتلاوة القرآن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان. 

وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.

وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضا، وعلى أمهات المؤمنين وعلى بنات المصطفى الأمين. 

وعلى مريم وآسية، وعلى الحمزة والعباس وأهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الرجس والأدناس. 

وعلى أهل بيعة العقبة والبدر وأُحد وبيعة الرضوان وسائر الصحب الأكرمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

الدعاء :

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم ألِّف بين ذات المؤمنين، اللهم أقِم قلوب المؤمنين على توحيدك والإيمان بك والصدق معك وإيثارك على ما سواك، اجعلنا يا ربنا ممن لا يخاف فيك لومة لائم، ومن لا يرائي بشيء من أعماله في جميع أحواله، ومن يؤثر الآخرة على الدنيا طلباً لما عندك وأدباً معك وإيثاراً لك. 

اللهم ثبتنا على الحق فيما نقول، وثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد.

اللهم اعصمنا من الشرك واغفر لنا ما دون ذلك يا غافر الخطيئات، ليس لخطيئاتنا أحد سواك، وليس لسيئاتنا إلا عفوك ورحمتك ومغفرتك، فَتُب علينا توبة نصوحا، واغفر لنا مغفرةً شاملة تشمل جميع ذنوبنا وسيئاتنا، لا تغادر ذنباً ولا حوباً، لا صغيرة ولا كبيرة، يا خير غفّار، يا ذا العطايا الكبار، يا ذا الغيث المدرار، يا حي يا قيوم، يا واحد يا أحد يا قهار، يا من يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، اغفر لنا ما كان منا واحفظنا فيما بقي من أعمارنا، وارزقنا إيثارك على ما سواك، ونزِّه قلوبنا عن التعلق بمن دونك، واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك. 

اخلع علينا في جمعتنا هذه خلعة الصدق معك وإيثارك على كل ما سواك، يا حي يا قيوم افتح لنا من أبواب المعرفة بك ما نرقى به أعلى مراقيها، وتدخلنا في خواص أهليها، يا رب يا حي يا قيوم. 

وأذِقنا مذاق وصلك، وامنن علينا بواسع فضلك، وجُد علينا بكريم طَولك، وكن لنا بما أنت أهله، وارزقنا البراءة من حولنا وقوتنا إلى قوتك وحولك، يا من لا حول ولا قوة إلا به. 

تولنا في جميع الشؤون، وأثبتنا فيمن يهدون بالحق وبه يعدلون. 

واغفر لنا وآباءنا وأمهاتنا وذوي الحقوق علينا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، أحياهم والأموات، ومن يأتي إلى يوم الميقات، يا غافر الذنوب والخطيئات، يا رب العالمين.

عباد الله، إن الله يأمر بثلاث وينهى عن ثلاث: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). 

فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

تاريخ النشر الهجري

30 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

21 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام