دقائق التقوى في المقاصد والأعمال والتهيؤ للقبول عند ذي الجلال

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الهدار، بمدينة سيئون، 18 ذي القعدة 1443هـ، بعنوان:

دقائق التقوى في المقاصد والأعمال والتهيؤ للقبول عند ذي الجلال

 

نص الخطبة:

 

الخطبة الأولى:

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحَمْدُ لله. القويِّ المتين الوليِّ المُعين. وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وَحْدهُ لا شريكَ له، جامعُ الخلائقِ ليَومِ الدين. فحاكِمٌ بينهم وهو أحكم الحاكمين. فبُشرى لِمَن قَبِلَه وارتضاه. وويلٌ لمَن غضبَ عليه مِن كلِّ مَنْ خالفَه وعصاه.

وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقُرّةَ أعيُنِنا ونُورَ قُلُوبِنا محمداً عَبْدُهُ ورسولُه، ونبيُّه وحبيبُه وخليلُه ومصطفاه. أطهرُ الخلائقِ قلبا. وأنقاهم جَيبا. وأرفَعُهُم لدى الرحمن قَدرا، وأعظمُهم لديه منزلةً وفخرا. اللهم أَدِمْ صلواتِك على خيرِ الورى، مَنْ جاءنا بالحنيفية السَّمحاء، وتركَنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالك، وعلى آله وأصحابه السالكين في خيرِ وأشرفِ المسالك، وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ مِن كلِّ صادقٍ مخلصٍ مُنيبٍ ناسك، وعلى آبائه وإخوانه مِنَ الأنبياءِ والمرسلين، وآلِهم وصحبِهم وتابعيهم والملائكةِ المقرَّبين، وجميعِ عبادِكَ الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.

 

أما بعدُ عبادَ الله: فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله.

فاتقوا اللهَ عبادَ الله، فإنَّها الركنُ الركينُ الذي يقومُ عليه القبولُ عند القويِّ المتين. وهو القائل جلَّ جلاله على لسان ابنِ ادم: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. وهم الذين أشرقت نورُ تقوى الحقِّ في قلوبِهم فخافوه ورَجَوه. وأخلصوا القصدَ لوجهِه وصدَقُوا معه وأقاموا على ذاكم الأساسِ أعمالَهم. وأصدرُوا على ذاك الأساسِ أقوالَهم. وبنَوا على ذاك الأساسِ أحوالَهم. وما بُني على التقوى فلن يهيج، ولن يهلكَ ولن يهدمَ ولن يتزلزلَ ولن يتزعزع. وما أُقيم على غيرِ تقوى مِن الله ينهارُ بصاحبِه ويذهبُ به إلى سوءٍ في حاضرِه ومآبِه.

 

أيها المؤمنون بالله: يجب أن نستدركَ ونستفهمَ ونستشعرَ معاني التقوى وحقائقَها. لتقومَ أمورُنا على أساسِها. قال الله تبارك وتعالى في مسجدِ المصطفى محمدٍ الذي بناهُ بالمدينةِ المنورة. والذي بناهُ في طريقِه إلى المدينة المنورة في قباء: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. يعلِّمُنا الحقُّ تقواهُ في ربطِ الأمورِ بطلبِ الرضوانِ مِن عندِه. وأن لَّا يكون لنا قصدٌ خسيسٌ تحملُه النفوس، ينتابُها مِن غفلةٍ عن الملكِ القدوسِ بإرادةِ ضُرٍّ أو سوءٍ أو مُضارَّة أو أذى، بقراءةٍ أو صلاةٍ أو علمٍ أو دعوةٍ أو أيِّ مظهرٍ مِن مظاهرِ الخير. فإنَّ الحقَّ جل جلالُه وتعالى في عُلاه ينظرُ مِن العبادِ إلى قلوبِهم. و﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. وإذا قامت ركيزةُ التقوى، أُمِنَ جَانِبُ المتَّقي مِن أن ينويَ السوء، أو يريدُ السوء أو يفعلُ السوء أو يأذن لنفسِه أن يتحاملَ على أخيه ويُكِنُّ له بغضاءَ أو عداوةً أو شحناءً أو إرادةً سوء. حاشا للمتَّقِي أن يرضَى بذلك في محلِّ نظرِ عالِمِ السرِّ وأخفى. وإنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى صورِكم ولا إلى أجسادِكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم. فشأنُ المصلِّي في قَبولِه عندَ الله أو نيلِه النصيبَ مِن الثواب أو ارتقائه الدرجات على حسبِ ما في قلبِه. وشأنُ الصائم كذلك، وشأنُ القائمِ كذلك وشأن المتصدِّق أو المُزَكِّي كذلك. قال الله في الشعائر التي تُهدى إلى بيتِه الحرام وتُنْحَرُ في مِنى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾. وبذلك يجبُ أن نتعلمَ هذا الأساسَ النبويَّ القرآني، والذي مضى عليه ساداتُنا الصحابة وآلُ البيت الطاهر، وقامت بحمدِ الله عليه مدرسةُ حضرموتَ في ماضي قرونِها، لا تقبلُ إضمارَ السوء ولا تقبلُ إيغارَ الصدر على مسلم ولو آذَى، على مسلم ولو عاندَ أو ضادَّ، وعلى مسيرةِ ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، وعلى أساسِ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾. والمدرسةُ المتفرِّعة مِن حقائقِ الإسلام كَحالِ الإسلام، تطرأ عليها الطوارئ مِن هنا وهناك، فيتخالفُ الناسُ ويَخْرُجُون عن سواءِ السبيلِ الذي شُرع لهم على يدِ محمدِ بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بدافعِ الأهواء. ولقد حذرَ اللهُ مِن الهوى عبدَهُ ونبيَّهُ سيدَنا داود على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام. وأوحى إليه ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾. ولو ذَكَرُوا يوم الحساب لَطَهَّروا الباطنَ الذي اليه نظرُ ربِّ الأرباب، ولمَا اتَّبعوا الأهواء، ولَقهرُوا نفوسَهم على الاستقامةِ على السَّوَاء. كذلك يجبُ أن نتربَّى، وكذلك يجبُ أن نعيشَ على ظهرِ الأرضِ في مدَّةِ العمرِ القصير، في نقاءٍ للضمير، وإرادةٍ صالحة لا نُباعُ بها للتَّعادي ولا للبغضاءِ ولا للشحناءِ التي هي الداء، الداء الموصوف على لسانِ ويدِ نبيِّ الهدى. والذي جعله داءَ الأمم الذي أهلكَهم. الداء الذي أهلكَ الأمم، هو الداءُ الذي أشار اليه صلى الله عليه وسلم: "دبَّ إليكم داءُ الأممِ قبلكم." وفي تعبيره "دَبَّ إليكم" ما أُطْلِعَ عليه مِن أحوالِ جماعاتٍ مِن أمَّتِه يصلُ إلى قلوبِهم هذا الداء. "دَبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء هي الحالقة. أما إني لا أقول تحلقُ الشَّعرَ، ولكن تحلق الدين." والعياذ بالله. فمَن رضيَ لدينِه أن يُحْلَقَ منه فليرضَ أن يحسدَ وأن يبغض، وليَرضَ أن يتحاملَ وأن يتطاول. ومَن قصدَ وجهَ ربِّه، حمَى نفسَه وحمَى قلبَه عن مثلِ هذا الداءِ والمرضِ الذي يُخزَى أصحابُه يومَ اللقاء. وفي دعوةِ الخليل إبراهيم قال للإلهِ العظيم: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. وبالقلوبِ السليمةِ توجَّهْ في عباداتك، وفي تربيةِ أهلِكَ وأولادك، وفي إقامةِ الصلاة وفي إيتاءِ الزكاة، وفي صومِ رَمَضَان، وفي الحجِّ لبيتِ الله إن حججَت، ويسَّرَ اللهُ لكَ الحجَّ أو اعتمرت، أقِمِ الأمرَ على التقوى ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾. أي لا يصلُ إلى عندِ الله وقبولِه ورضاه مجرَّدَ اللحمِ والدمِ الذي تذبحونه ﴿وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ﴾. تقوى قلوبِكم هو الذي يرضيه، وهو الذي يقرِّبكم إليه. يقول جل جلاله وتعالى في علاه: ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ ﴾. والمؤمن الذي لا يشفِي غيظَه ولا يتصرَّف بهواه ويصبرُ على أذى مَن آذاه، يتولَّى الدفاعَ عنه مولاه. ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ ). فالمعنى: فاسكنُوا واطمئنُّوا إلى حُسْنِ تدبيرِي وكريمِ تسييرِي ولا تستعجلوا لأنفسِكم وإن ظُلِمْتُم وإن أوذيتم وإن تُطُوْوِل عليكم. وعلى هذا المسلكِ كان نبيُّنا المصطفى والصحبُ الأكرمون عليهم رضوان الله تبارك وتعالى ومَنْ مشى بذلك السَّير. اللهم ارزق قلوبَنا التقوى واغمُرنا في جُمعتِنا هذه بأنوارٍ تستضيءُ بها قلوبُنا نستقيمُ بها على قصدِ وجهِك وإرادةِ نفعِ عبادِك وأن لا نتعاملَ مع أحدٍ إلا بما هو أحبُّ إليك وأَرْضَى لنا عندك، وأرضى لك يا أرحمَ الراحمين، وعامِلنا بإفضالِك، وبارِك لنا في جمعتِنا هذه وفي افتتاحِ هذا الخيرِ وزِدْ المنطقةَ وأهلَها مِن الخيرات وادفع عنا وعنهم وعن الأمةِ المَضَرَّات والآفات والعاهات.

 

ألا إنَّ مَنْ كَفَر يتحاربون في هذا العالم على الأهويةِ والإراداتِ الدنيَّات، ويحاولون مع إبليس ومَن شايَعه مِن شياطينِ الإنسِ والجنِّ أن يخلقوا ذلك بين المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: "ألا فلا ترجِعُوا بعدي كفاراً، يضربُ بعضُكم رقابَ بعض." "وإنَّ الشيطانَ قد أيِسَ أن يعبدَه المصلُّون في جزيرةِ العرب. فإن يطمع في شيءٍ ففي التحريشِ بينهم." اللهم ادفع عنا شرَّ الشيطان وكيدَه، وارزقنا إقامةَ الأمورِ على ما هو أحبُّ إليكَ وأرضَى لك ولرسولك المصطفى. وأنت القائل ﴿وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾.

 

والله يقول وقولُهُ الحقُّ المُبِيْن ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾

وقال تبارك وتعالى ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.

 

قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.

باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم، وجعلنا مِن أهلِ الفوزِ العظيم، ونفعَنا بما في القرآنِ والآياتِ والذكرِ الحكيم، وأجارَنا مِنْ خِزْيِهِ وعذابِه الأليم.

أقولُ قَولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدِينا ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الناظرِ إلى القلوب، ونَشْهَدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وَحْده لا شريكَ له علَّام الغيوب، ونشهدُ أنَّ سيدَّنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عَبدُهُ ورسولُه. أنقَى المطهَّرين عن الأدناس والعيُوب. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم عليه وعلى آله وصحبِه ومَن إليه منسُوب، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين، وآلهم وصَحْبِهم والتابعين وملائكتِكَ المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

 

أما بعدُ عباد الله: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله.

وقد سمِعنا أخباراً عن مناحِي في التقوى وما يُقامُ على أساسِها في السرِّ والنجوى، وأنَّ اللهَ إنما يتقبلُ مِن المتَّقين. جعلنا الله وإياكم منهم. إنه أكرمُ الأكرمين. فخُذ مِن جمعتِك المباركة التي أُقيمَت إن شاءَ الله تبارك وتعالى لطلبِ رضاه، ولِقَصْدِ وجهه، ولنُصرةِ دينه، ولجمعِ القلوب ولِجَمْع الوجهةِ وانتزاعِ فتيلِ الشَّحناء والبَغضاء والتَّحامُل الذي لم يدعُنا ولا يدعونا إليه إلا إبليسُ وجندُه. ودعوةُ الأنبياءِ والمرسلين تجمعُ القلوب وتصفِّيها. وذكَّرَنا الله بدعوةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم. قال ﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾.

ولقد مضى أربابُ الإدراكِ والمعارفِ مِن أئمَّة ورجالِ مدرسةِ حضرموت، على الغَوصِ على هذه المعاني، لا يحملون لِمَنْ وَالَى ومَن عادَى ومَن أحبَّ ومَن أبغضَ إلا إرادةَ خيرٍ وإنقاذٍ وهداية، يقصدون وجهَ الرحمن جَلَّ جَلالُه. صدق عليهم وصف القائل:

 

فهُم القوم الذين هُدُوا *** وبفضلِ الله قد سَعِدُوا

ولغيرِ لله ما قصدوا *** ومع القرآنِ في قَرَنِ

 

فلنَحتفِظ بدقائقِ هذه الوِجهات التي تتعرضُ للقبولِ عند ربِّ الأرضين والسماوات، ولنحذر أن نغترَّ بِصُوَرِ الأعمالِ والعبادات، على غيرِ أدبٍ مع الرب. على غيرِ إخلاصٍ لوجهِه، على غيرِ نقاءٍ في الضمير. فإنَّ اللهَ لا يقبلُ صلاةَ المتشاحنَين، ولا صدقةَ المتشاحنَين، ولا صومَ المتشاحنَين، ولا يغفر لهم حتى في ليالي رَمَضَان، حتى في آخرِ ليلة منه والعياذُ بالله تبارك وتعالى. بل في كل اثنين وخميس يغفرُ لكلِّ مَن لا يشركُ بالله شيئاً إلا لرجلٍ كانت بينَه وبين أخيه شحناء. فيقال أَنظِرُوا هذَين حتى يَصطَلحا. فاخرُج مِن جُمعتِك بقلبٍ مجموعٍ على الله، منزوعِ الشحناءِ عن أيِّ أحدٍ من أهلِ لا إله إلا الله، ومع ذلك ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾. ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾. فان زدتم كان الحق عليكم وصرتم أنتم الظالمين بعد المظلومين. ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ والمُنادي في القيامة ينادي: لِيَقُمْ مَن كان أجرهُ على الله، فيقوم قليلٌ مِن الناسِ وهم العافُون عن الناس. وجاء في بعضِ الأحاديثِ عن نبيِّنا أنَّ اللهَ يقول: عفوتُم عن عبادي مِن أجلي وصبرتُم ابتغاءَ وجهِي فأجرُكم اليومَ عَلَيّ، اُطلبوا ما شئتم واشفعوا فيمن شئتم. وعلَّمَنا صلى الله عليه وسلم أن نتغلبَ على أنفسِنا عند ثورانِها. وقال "مَنْ كظم غيظاً وهو يقدرُ على إنفاذِه دعاهُ اللهُ على رؤوسِ الأشهادِ يومَ القيامةِ حتى يُخيِّره مِن أي حُللِ الجنةِ شاء."

اللهمَّ حَلِّنَا بأحسنِ الأخلاق، وارضَ عنا يا خلَّاق، وارزقنا متابعةَ نبيِّك مع أهلِ الصدقِ والسباق، وتولَّنا بما توليتَ به عبادَك الصالحين وحزبَك المفلحين.

 

ألا أكثِروا الصلاةَ والسلامَ على خيرِ الأنام واعمُروا موسمَ الحجِّ المبارك وأشهرَ الحج والأشهرَ الحرمِ بنقاءِ القلوبِ وصفائها واسترضاءِ الربِّ بطُهرِها والإقبالِ الكليِّ على الله واحمدُوه على ما أنعم وجاد وتكرَّم. أتمِم علينا النعمةَ يا أكرَمَ مَن أنعم، وما مِن نعمةٍ إلا وهي منك. فأكثِروا الصلاةَ والسلامَ على خيرِ الأنام صلى الله عليه وسلم ليلاً ونهاراً سراً وإجهارا. فإنَّ أولى الناسِ به يومَ القيامةِ أكثرُهم عليه صلاة، ومَن صلى عليهِ واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرا. ولقد قال ربُّنا مُعَظِّماً لشأنِ نبيِّه تكريماً وتفخيما: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.

 

اللهم صلّ وسلِّم على النورِ المبين، الحبيبِ الأمين، الهادي إلى أقومِ الطريقة، سيدِ أهلِ الشريعة والحقيقة، وعلى آلِه وأصحابِه خيارِ الخليقة، وخُصَّ منهم مؤانِسَهُ في الغار، أهلِ الخلافةِ ومستَحقِّها بالتحقيق، خليفةَ رسولِ الله سيدَنا أبا بكر الصديق، والناطقَ بالصواب حليفَ المحراب أميرَ المؤمنين سيدَنا عمر بن الخطاب، ومُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، أمير المؤمنين سيدَنا عثمانَ بن عفان. وأخَا النبيِّ المصطفى وابنَ عمِّه ووليَّه وبابَ مدينةِ علمه، إمامَ أهلِ المشارقِ والمغارب، أميرَ المؤمنين سيدَنا عليَّ بن أبي طالب. وعلى الحسنِ والحسينَ سيدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السنَّة وأمِّهما البتولِ الزهراءِ سيدةِ نساءِ أهلِ الجنة وسيدةِ نساءِ الوَرى، وعلى أمهاتِ المؤمنين والحمزة والعباس وآلِ بيتِ نبيِّك الطاهرِين وأهلِ بيعةِ العقبةِ وأهلِ بدرِ وأهلِ أحدِ وأهل بيعةِ الرضوان وسائرِ الصحبِ الأكرمين ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين. اللهم ابسُط لنا بساطَ غفرانِك الواسع، واصرِفنا مِن جمعتِنا مغفورةً ذنوبُ كلٍّ منا مستورةً عيوبُه صالحاً قلبُه مُقبلاً بالكلية عليك. وبارِك لنا ولأهل هذه المنطقة وللمسلمين في إقامةِ هذه الجمعة واجعَلها على قَصدِ وجهِك، والإخلاصِ لك وعلى نفعِ عبادِك في نقاءٍ وصفاءٍ تحبُّه وترضاه. وفي واسعٍ مِن الفضل يغمرُ القاصي والداني يا حيُّ يا قيومُ يا رحمن يا مُنزلَ المثاني على عبدِك المصطفى صاحبِ الشرفِ العدناني. اللهمَّ أنِلنا به غاياتِ الأماني وادفع عنا به وعن وادينا وأهلِنا والأمةَ البلاءَ والشرورَ والآفات والكربات والأوبئة والعاهات والبليَّات الظواهر والخفيَّات. اللهم اغفِر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أحيائهم والأموات إلى يومِ الميقات. يا مجيبَ الدعوات. اللهم املأ قلوبَنا في جمعتِنا هذه بنورِ التوفيق. وألحِقنا بخيرِ فريق واسقِنا مِن أحلى رحيق. اللهم لا تصرف منا أحداً إلا وقَبِلْتَه. ولا تصرِف منا أحدًا إلا ونظرتَ إليه. ولا تصرف منا أحدًا إلا وتُبت عليه. ولا تصرف منا أحدًا إلا وجُدْت بما أنت أهلُه عليه ظاهرًا وباطنا. اللهم واكشِف كروبَ الأمة واكشفِ الغمَّة وأزِلِ الظلمَة وادفعِ النِّقمة وعامِل بمحضِ الجودِ والرحمة يا حيُّ يا قيوم. ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.

 

عبادَ الله:

إنَّ الله أَمَرَ بِثَلاث وَنَهَى عَنْ ثَلاث:

﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

فاذكُرُوا اللهَ العظيمَ يَذْكُرْكُم، واشْكُرُوه على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبر.

تاريخ النشر الهجري

18 ذو القِعدة 1443

تاريخ النشر الميلادي

17 يونيو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام