خطبة الخسوف في دار المصطفى بتريم - ذي القعدة 1440

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الخسوف للحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ، في دار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، ليلة الأربعاء 14 ذي القعدة 1440هـ

لتحميل الخطبة مكتوبة pdf (اضغط هنا) 

في هذه الخطبة:

  • كيف يُذكّرنا الخسوف بحقيقة أنفسنا وضعفنا أمام قدرة الله الجبار؟
  • خسوف في الكواكب يقابله خسوف في القلوب والبيوت..
  • دعوة نبوية للرجوع إلى الله بالصلاة والصدقة والاستغفار عند حدوث الآيات الكونية
  • تحذير من خسف المعاني والأخلاق في حياة الناس
  • كيف ننجو من خسوف الإيمان ونتخلّص من آثار الغفلة والعجب والغرور؟
  • حال القلوب الصافية وأثرها في تأخير العذاب عن الأمة

 

نص الخطبة:

 

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله القويّ القادر المتين، الحيّ القيّوم الخالق المُبدع البارئ المُصوِّر النور المبين.

ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده التقدير والتدبير، والتقديم والتأخير، جعل الليل والنهار آيتين، فمحا آية الليل وجعل آية النهار مُبصرة، لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب، وكل شيء فصّلهُ تفصيلاً.

يُكوِّر النهار في الليل ويُكوِّر الليل في النهار، ويكتب ما قدّموا ويكتب الآثار، ويجمع الأوّلين والآخرين ليومٍ يُجمَع فيه الشمس والقمر، ويُخسَف فيه القمر، (يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ * لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) 

ونشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبد الله ورسوله، ونبيّه المُجتبى المُنيب إليه، الخاشع لعظمته، الخاضع لجلاله، وحبيبه وصفيّه وخليله، أعظم من ادّكر واعتبر، وبأمر الله ائتمر، وعن نهيه انزجر، كثير الخضوع والخشوع، عظيم الأوبة والإنابة والرجوع، سيد المرسلين وخاتم النبيين، أكمل الله به الدين، وبيَّن الحقّ والحقيقة للمُستبينين.

اللهم أدِم صلواتك على المُجتبى المُختار سيدنا محمد، مَن قال لنا: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد، فإذا رأيتم ذلك فاستغفروا الله".

صلِّ اللهم وسلِّم وبارك عليه وعلى آله المُطهّرين وأصحابه المُنتقين الغُرّ الميامين، وعلى من سار في منهاجهم مستقيماً إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آل كلٍّ منهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتك المُقرّبين، وعلى جميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم وإيّاي بتقوى الله، تقوى الله خالقكم وخالق الأرض وباسطها لكم، وخالق السماوات مِن فوقكم، وخالق ما بينهما من نجوم وكواكب وشمس وقمر، بيده الأمر كله فيما بطن وفيما ظهر.

ألا إنّ من اتّقاه فقد أدرك وفهم وعلم حقيقة عظمة الخالق الذي فطر، وتمسّك بعروة وثقى ينجو بها يوم يقول عامة الخلق: أين المفرّ؟

التذكير والعبرة بآيات الله

أيها المؤمنون بالله، عِبَرٌ يُبديها ربّ السماوات والأرض، يُذكّر بها المصير والمرجع والعرض، وليتنبّه مُتنبّهٌ من عصيان وإثم ومرض قلبه فيستشفي ويتعالج، ومن معاصي وذنوبه وجوارحه فيرجع إلى العليّ الأكبر ويستقيم على ما جاء عنه من المنهج.

أيها المؤمنون، مَن عقل فإنه يرتجّ مِن عظيم آيات الله وبديع تصوير الله وتكوينه وتسييره لما خلق تعالى في علاه، (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).

إلهنا، ولا بشيء من نعمك وآلائك وآياتك نُكذّب، فلك الحمد ولك الشكر، فاعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا وتُب علينا يا أرحم الراحمين.

أيها المؤمنون بالله، ما أقلّ عقول من يروا بدائع الآيات ثم يمشون على ظهر الأرض لا يتذكّرون ولا يعتبرون ولا يدَّكِّرون، ويُخالفون ويُعاندون ويستكبرون. (أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). 

(وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).

إنها تذكرة من الذي يُسيّر الكواكب، من الذي بيده حركة الأرض والسماوات وما بينهما. أيها المؤمنون بالله، إنها تذكرة: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).

خطاب للمتكبّر

أيها المُتكبّر بما انتهى إليه فكره، وما وصله علمه، كم طولك وكم عرضك وما وزنك؟ وما تساوي أمام الجبال؟ وما تساوي أمام ما فوقها من الكواكب؟ وما تساوي أمام السماوات السبع العُلا؟ مَن الذي فطرهنّ؟ ومَن الذي يُسيّرهنّ؟

يُذكّرك بمثل الخسوف والكسوف أن الأمر بيده، وأن الترتيب ترتيبه، وما مِن قوة تُشاركه في تقديم ولا تأخير، وما مِن قوة تُشاركه في تقدير ولا تدبير، تعالى العليّ الكبير.

إنها مُذكّرات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، مِمّن يعيش على ظهر الأرض ويعرف من مهّد له الأرض تمهيداً، ومن نصب له الجبال ووطّدها توطيداً، ومن الذي جعله على هذا النمط تحت سقف السماوات بهذا المسلك في الحياة والمعيشة. إنه الله الجبّار الأعلى، إنه الله القهّار الذي بيده الأمر طُرّاً سرّاً وجهراً، إنه ملك الدنيا والأخرى.

دعوة النبي ﷺ للاستغفار

أيها المؤمنون بالله، دعانا صاحب الرسالة أن نتذكّر بهذه العِبَر وآيات العليّ الأكبر، وأن نستغفر الله فيمن استغفر، وأن نتوب إليه.

فيا قائماً ويا مستقراً على ظهر الأرض، من فوقك ربّ السماوات والأرض، أراك عِبرة القمر هذه في تخفيف الضوء عنها في شيء من ليالي الخسوف، مُذكّراً لك أن الأمر بيده، ومُذكّراً لك أنّ على ظهر الأرض سيحصل خسوفٌ بكثير من الخلق وقد حصل، ويتحدّث الناس عن الزلازل هنا وهناك، ويكون قبل القيامة خسوفٌ بالمشرق وخسوفٌ بالمغرب، ثلاث خسوفات تحدّث عنها ختم الرسالات.

ألا وإنه بعد ذلك يأتي شأن الحركة الكبرى في موقف قيام الساعة: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا). (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ).

 عظمة الخالق

يُذكّرك الجبّار ويُخاطبك بآيات هذا الكون الذي كوَّن، ولسان الرسول الذي اختصَّ واختار وائتمن، وما جعل مِن آثاره على مدّ الزمن، فأنت الآن بين يدي هذا العالِم بما ظهر وما بطن، وهذا المُكوِّن للكواكب والمُحرّك للسماوات والأرضين وما فيهما، والمُسيّر لهما بتقديره وتدبيره.

(الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ) جلّ جلاله وتعالى في علاه.

أنت بين يديه تذكَّر، أنت بين يديه تبصَّر، أنت بين يديه تفكَّر. كم زجرك فلم تنزجر، وكم نهاك فلم تنتهِ، وكم أمرك فلم تأتمر. ألك قوة بعذابه؟ ألك طاقة على انتقامه؟ إنه يُسيّر الكواكب من حواليك، فماذا تساوي عندها جِرماً أو قدرة أو قوة؟

تذكير بحقيقة الإنسان

يا مُغترّاً بما انتهى إليه فكره وعمله، ما أغرب أحوال بني آدم، وما أكفرهم وأجرأهم على الذي خلق العالم! (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ * فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

تفكَّر، تذكَّر، تبصَّر، أحضِر القلب إن كان لك قلب، أحضِر العقل إن كنت تعقل! ما حالك بعد هذه الساعة؟ أترجع إلى إضاعة الطاعة أم ارتكاب الزجر والمعصية وما نهى عنه ربّ العالمين؟

مَن أنت؟ وماذا تساوي؟ إنك المخلوق على ظهر الأرض، لم يكن لك اختيار في تكوين جسمك، ولا في تعيين أبيك ولا أمّك، ولا في قدر طولك ولا عرضك.. فمن أنت؟ أنت الذي في قبضة القويّ الأعلى، أنت الذي تحت يدي ربّ العالمين جلّ وعلا.

كيف تغفل عنه؟ كيف تُخالف أمره؟ كيف ترتكب نهيه؟ مَن أنت يا هذا الإنسان؟ (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) الجزاء والحساب (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).

خسف القلوب والبيوت

ألا فكلُّ من على ظهر الأرض من المُكلّفين يمشي على منهاج الله فهو المستقيم الذي ينجو مِن كل خسف ومن كل كسوف ومن كل سوء في الدنيا والآخرة.

ألا وإن من خُسِف بأعمالهم فخالفوا شرع الله، وخُسِف بأفكارهم فخالفوا المنطق والعقل والبرهان والحُجّة، وما تفرضه عليهم الفطرة، وما آتاهم الله من أسماع وأبصار، هم الذين يتعرّضون - والعياذ بالله - للويل عندما يُخسَف القمر ويُجمع مع الشمس في يومٍ تُجزى فيه بما كسبت كل نفس.

أيها المؤمن بالله تبارك وتعالى، إنّ بيوتاً من المسلمين فيها خسف: الميل عن السُنّة الغرّاء، وأخذ سُنن وأعمال وأخلاق وقواعد وتراتيب وعادات فُسّاق وفُجّار وكُفّار، يهوون ما مضوا عليه أو ما اعتادوه من سوء في مناسبات وفي أزياء.

ألا خلِّص بيتك من الخسف قبل أن يُمسخ دينك، وقبل أن يحلّ الخسف بقلبك، وقبل أن تسير إلى مُرافقة من قال الله عنه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ).

نشكو إلى الرحمن بيوت مسلمين خُسِف بمعناها، وخُسف بحقائق ما يجري من أقوال أهلها وأفعالهم، أيقِظ اللهم قلوب الأمة، واكشف الغُمّة، وعامل بمحض الجود والرحمة.

والله يقول وقوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، وثبّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيهِ وعذابه الأليم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ونستغفره كثيراً، وله الحمد بُكرةً وأصيلاً.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تشهدُ ذواتنا والكائنات من حوالينا أنه خلق كل شيء فقدّرهُ تقديراً، وأنه سيّرهُ وصوّرهُ ودبّرهُ تدبيراً.

ونشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبد الله ورسوله، بعثهُ بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، وهدى الله به من الأمة بشراً كثيراً، فكان في ظُلمة الجهل للمُستبصرين سراجاً وقمراً منيراً.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُجتبى المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وآبائه وإخوانه من أنبيائك ورُسلك وآلهم وصحبهم، وملائكتك المُقرّبين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، وسلِّم تسليماً كثيراً.

أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه وارجوه واستغفروه، واستعدّوا للقاء الذي خلق الشمس والقمر، والذي جعل الليل والنهار آيتين، والذي سخَّر السحاب بين السماوات والأرض، والذي يُرسل الرياح بتصريفه وتقديره وأمره.

اتقوه واستغفروه، وارجوا لقاءه واستعدّوا للقائه، ذلك فوزكم، ذلك عزّكم وشرفكم. ألا (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).

سُنن النبي ﷺ عند الخسوف

ولقد دعاكم صاحب الرسالة إلى الاستغفار والتوبة والصلاة وإلى الصدقة، في إشارة إلى المسلك القويم الذي يقوم بين المسلمين خاصة، وبينهم وبين بني آدم والمخلوقات وخصوصاً من الحيوانات عامة: الإحسان والتفقّد وسدّ الجوعة والحاجة.

الصدقة التي فيها: شرع التواصل والتكافل والتكامل والتراحم والتعاطف والتآلف، منهج بعث الله به المصطفى محمد (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).

التحذير من الخسف في الأعمال

أيُخالَف هذا المنهج ويُخسف بتوجّه كثير من بني آدم؛ فيؤذون الحرث والنسل، ويؤذون الحيوانات، ويؤذي بعضهم بعضاً إلى أن يصلوا إلى حدّ التقاتل! بدل الصدقة، بدل الرأفة، بدل الرحمة، بدل التفقُّد، بدل الإحسان، يقتل بعضهم بعضاً بعد أن يسبّ بعضهم بعضاً، وبعد أن يؤذي بعضهم بعضاً.

إنه خسفٌ في الأعمال، إنه خسفٌ في الاتجاهات وفي الأحوال، يؤذِن بسوء المآل لمن جاءه الموت وهو على ذلكم المثال.

دعوة للتوبة والإقبال على الله

أيها المؤمنون اعقلوا، وأقبلوا على ربكم بالصدق وعليه توكّلوا، وتوبوا إليه من ذنوبكم واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.

يا صاحب الصغائر ويا صاحب الكبائر، ما لكم غير العزيز الغافر والإله الفاطر، ما لكم من ملجأ إلى سواه، ولا يُنقذكم من عذابه، ما لكم إلا الله، قلّت ذنوبكم أو كثرت، صغرت أو كبرت، فأفيقوا وارجعوا إليه وتذلَّلوا بين يديه.

يا صاحب الطاعات المشوبة، كم ذا تشوبها على مدى الزمن بالالتفات إلى الخلق، ورجاء المكانة عندهم؟ أما لك وقار وهيبة للخالق؟ تقصد وجهه وحده وتُخلص له في وجهتك ودينك!

يا صاحب الطاعات المُخلصة لله، ألا إن إخلاصك فضلٌ منه، إن أتمّه عليك سلبك عُجباً بنفسك وشهوداً لنفسك وشهوداً لفعلك، فخضعت وتمّ سجود قلبك.

يا أيها المُترقّون في مراقي القرب منه، زيدوا خضوعاً وإجلالاً لعظمته، وارحموا بما شرع لكم من عَداكم من خلقه الذين استرسلوا في الذنوب والمعاصي، وغفلوا عن يوم الأخذ بالنواصي.

ألا فليُقبِل الكلّ، ألا وليسأل الكلّ، ألا وليتضرّع الكلّ إلى مليك الكلّ وربّ الكلّ وخالق الكلّ، وجامع الكلّ ليومٍ يُقيم فيه الوزن: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ).

يا أهل الغرور بالأكوان وما يُكتشَف فيها، ألا تعرفون مُكوِّن هذه الأكوان؟ ما أسفه عقولكم انبهاراً بالكون وغفلة عن المُكوِّن! ما أقلّ وما أدنى أفهامكم وأذهانكم إذا انصرفت إلى انبهار بذرّات وجود ونسيت الموجِد المعبود جلّ جلاله!

أهل القلوب الصافية

(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

ألا إنّ أهل القلوب الصافيات المستقيمة على منهاج مُبدئ الكائنات، عالم الظواهر والخفيّات، بهم يُرحَم مَن عداهم مِن البريّة، ويُمهل الكافر إلى حين، ويُؤخّر العذاب عن كثير من العباد في كثير من البقاع، وكثير منهم تحت دائرة: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وصايا ختامية

ألا فأحسِنوا الرجوع إلى مولاكم والخشوع، وأدّوا الحقوق للقرابة والجيران والأرحام، وتعاطفوا فيما بينكم البين، وتراحموا يرحمكم الرحمن، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، وارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء، واصدقوا في الإقبال. 

وأكثروا الصلاة على من هداكم ودلّكم، وهو خير هادٍ ودال، إلى شريف الأخلاق والقيم وكريم الأقوال وحَسن الأفعال، إنه ذو النور المُتلال، خاتم الإنباء والإرسال، محمد الذي قال: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة".

فأكثروا الصلاة عليه وامتلئوا بحُبّه، واستقيموا على دربه، وتأمّلوا ما خاطبكم ربّه، مُبتدئاً بنفسه، مُثنياً بملائكته، مُؤيّهاً بالمؤمنين تعظيماً، قال مُخبراً وآمراً لهم تكريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المصطفى سيدنا محمد، صلاة تُبيِّض بها وجوهنا أجمعين في يوم العرض عليك، ولا تُخزنا عند الوقوف بين يديك، وتكتب لنا الفوز الأكبر والاستقرار في الجنة خير مُستقرّ.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك المصطفى الداعي إليك والدالّ عليك سيدنا محمد، صلاة تُنقذ بها أمّته في المشارق والمغارب، تدفع بها عنهم المتاعب والمصاعب والمصائب والنوائب، وتُحوّل بها أحوالهم إلى أحسن الأحوال، يا من بيده أمر الحاضر والعواقب.

اللهم صلِّ وسلِّم على النور المبين عبدك المصطفى الأمين سيدنا محمد.

وعلى الخليفة من بعده المُختار، وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازر رسولك في حالي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصدّيق.

وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، الذي نشر العدل في الآفاق فاشتهر، أمير المؤمنين سيدنا الإمام العادل الفاروق عمر.

وعلى الناصح لله في السرّ والإعلان، مُحيي الليالي بتلاوة القرآن، مَن استحيت منه ملائكة الرحمن، ذي النورين سيدنا عثمان بن عفّان.

وعلى أخي النبي المصطفى وابن عمّه ووليّه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.

وعلى الحَسن والحُسين سيّدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيّك بنصّ السُنّة، وعلى أمّهما الحُرّة فاطمة البتول الزهراء وأخواتها الكريمات.

وعلى أمّهات المؤمنين خديجة الكبرى وعائشة الرضا وجميع أمّهات المؤمنين.

وعلى عمّي نبيّك خير الناس سيدنا الحمزة وسيدنا العباس، وعلى سائر أهل بيت نبيّك الذين طهّرتهم من الدنس والأرجاس.

وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أُحُد وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر أصحاب نبيّك الكريم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

دعاء وتضرع إلى الله

آمنّا بك وأنك الإله الذي لا إله غيرك، وأنّ مرجعنا إليك. ومن نحن؟ ومن أجسامنا وما أرواحنا؟ وما الأرض وما السماء؟ وما العرش وما الكرسي؟ وما كل شيء خلقت؟ إنه لصغير في جنب قدرتك وعظمتك وإرادتك.

فيا مَن له القدرة، ويا من له الأمر، ويا حيّ يا قيّوم، يا ربّ الدنيا والآخرة، اجعلنا في أهل القلوب المُنوّرة الطاهرة، وأهل الأفئدة النظيفة الصادقة الشاكرة الصابرة.

اللهم فرِّج كروب المسلمين، وادفع البلاء عن المؤمنين، اللهم اكشف الخسف الذي حلَّ بمعتقداتهم وحلَّ بمقاصدهم ونيّاتهم وحلَّ بأقوالهم وأفعالهم، ورُدّهم إلى الاستقامة يا الله.

اللهم اجعلنا في أنفعهم لهم وأبركهم عليهم، وانفعنا بهم عامة وبخاصّتهم خاصة، يا من بيده الأمر يا الله.

شهدنا أنك المَلك الحقّ وأنك تُبدي لنا الآيات، مُخاطبات منك تفقهها القلوب عنك لمن وفّقت فيُنيب إليك، آمنّا بك وبآياتك وبنعمك وبرسولك وما جاء به عنك، وبجميع أنبيائك ورُسلك وكُتبك التي أنزلت، فازدنا إيماناً ويقيناً، وارفعنا يا مولانا ثباتاً وتمكيناً.

اللهم أنتَ من شرور الدارين تقينا، فاحفظنا وقِنا ظاهراً وباطناً، يا بارئنا ويا فاطرنا ويا هادينا، يا من بيدهِ أمر ظواهرنا وخوافينا.

نستغفرك لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمؤمنين والمؤمنات، فاغفر يا خير الغافرين، فاغفر يا خير الغافرين، فاغفر يا خير الغافرين.

لا تدع في صحيفة حاضر معنا ولا سامع خطبتنا هذه ذنباً صغيراً ولا كبيراً إلا محوته وبدّلته إلى حسنة يا ربّ العالمين، يا أقدر القادرين، يا أرحم الراحمين، يا أوّل الأوّلين، يا آخر الآخرين، يا ذا القوة المتين، يا راحم المساكين.

هربنا من ذنوبنا وعيوبنا إليك، ولُذنا بأعتابك، وقفنا على بابك نادمين ممّا كان منّا، ونعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فأعِذنا ومن شرّها في الدارين أجرنا، يا خير مُجير، ارحم المُستجير، يا عليّ يا كبير، يا سميع يا بصير، يا عليم يا قدير، يا لطيف يا خبير، يا حيّ يا قيّوم يا الله.

تدارَك أمة حبيبك محمد، أغِث أمة حبيبك محمد، أنقِذ أمة حبيبك محمد، اجمع شمل أمة حبيبك محمد، احقِن دماء أمة حبيبك محمد، صُن أعراض أمة حبيبك محمد، احفظ أموال أمة حبيبك محمد.

اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شرّ.

إلهنا، ينجلي القمر بعد خسوفه، وتنجلي قلوبنا من جميع آفاتها وظُلماتها وعيوبها وغفلاتها وإعراضها وإساءة أدبها، يا ربّ أصلح قلوبنا وطهِّرها ونوِّرها ووفِّقها وبصّرها واهدها سُبُل السلام، فإنك قلت: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).

آمنّا بك فاهدِ كل قلب منّا؛ بأعلى الهداية وأوسع الهداية أبداً سرمداً، يا حيّ يا قيّوم، يا رحمن يا رحيم يا الله.

نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيّك سيدنا محمد ﷺ، ونعوذ بك ممّا استعاذك منه عبدك ونبيّك سيدنا محمد ﷺ، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

عباد الله: إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نِعَمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

 

تاريخ النشر الهجري

14 ذو القِعدة 1440

تاريخ النشر الميلادي

17 يوليو 2019

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام