(536)
(236)
(575)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ، في مسجد أبو الحاج التلاوي، في عمّان، الأردن، 3 ربيع الأول 1446هـ
الخطبة الأولى :
الحمد لله، الحمد لله الواحد الأحد، الحي القيوم، الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضّل الأمم بعضها على بعض بتفضيل المرسلين بعضهم على بعض، وهو القائل فيما أنزل على عبده المصطفى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدًا عبده ورسوله، ونبيه وحبيبه وصفيه وخليله، أكرم الأولين والآخرين عليه، وأحبّ المحبوبين لديه، وأرفع الخلائق منزلة عنده.
اللهم صلّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك الذي عظمته وشرفته، ورفعتَ قدره وشرحت صدره، وأعلَيت ذكره، وجعلته أكرم عبادك عليك، فجعلت بذلك أمته خير الأمم عندك، اللهم أدم صلواتك على هذا العبد المصطفى حبيبك المنتقى، ونبيك المجتبى، وشفيعك المبتغى، وحبيبك المنتقى، سيد أهل الأرض وسيد أهل السماء، وعلى آله الأطهار معادن الأنوار، وعلى صحبه الأخيار أهل الصدق في السر والإجهار، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يديك يا عزيز يا غفار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، من أعليت لهم المنزلة والمقدار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله وأحسنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، وهو القائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
منَّة الله على أمة حبيب الله:
أيها المؤمنون بالله، مِنّةٌ من حضرة رب العرش العظيم، إلهكم الواحد الأحد الكريم، سيقت إليكم أن جُعلتم في خير أمة، لا دخل لسعي أحد منكم في ذلك ولا لكسبه، ولا لتقديمه شيئًا ليكون من خير الأمم، بل جودٌ من فضل الله الأكرم، جعلكم في خير أمة، الذي نبيها خير الأنبياء صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فامتازت الأمة بميزات، واختُصّت من قِبل رب الأرض والسماوات بخصوصيات.
فيا أيها الفرد الذي جُعلتَ في خير أمة، بم تُقابل هذا الكرم؟ وبم تتعامل مع هذه النعمة؟ مُكوِّن الأكوان جعلك في أمة مَن أُنزل عليها القرآن، وهداك للإسلام والإيمان.
فضل صلاة الجمعة:
وها أنت في جمعة من جُمع الوجهة إليه، والامتثال لأمره، والتلبية لندائه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
أيها المؤمن بالله، تتعرض في الجمعة لغفر ذنبك، ونيل رضا ربك، ومن توضأ يوم الجمعة أو اغتسل، ومسّ ما معه من طيب، ثم مشى إلى الجمعة ولم يركب، ولم يُفرّق بين اثنين، واستمع إلى الخطبة، كان له بكل خطوة يخطوها عبادة سنة؛ صيامها وقيامها.
في حديث: "من غسَّل يومَ الجمعةِ واغتسل وبكَّرَ وابتكرَ ومشى ولم يَركبْ". وفي الحديث الآخر: "مَن تَوَضَّأَ فأحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ أتَى الجُمُعَةَ، فاسْتَمع وأَنْصَتَ، غُفِرَ له ما بيْنَهُ وبيْنَ الجُمُعَةِ، وزِيادَةُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ".
استشعار نعمة الله علينا :
أيها المؤمنون بالله، وأمام نعمةِ أنك في الأمة الخصائص، المُختصة من قِبل الخالق بالمدد العظيم الخالص، انظر كيف تتعامل مع هذا الإله الذي خلقك وجعلك في هذه الأمة التي انتُخبت، هل تستشعر هذا المعنى؟
ولقد أوتوا الكتاب من قبْلنا، وهُدينا إلى اليوم المفضّل في الأسبوع ولم يُهدوا إليه، ولم يأذن الله لأنبيائهم أن يُبينوه لهم، وأذن لنبينا أن يُبينه، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد، وخُصِّصنا بيوم الجمعة وما فيه من خصائص.
أمة الرسالة العالمية :
أيها المؤمنون بالله -جل جلاله وتعالى في علاه- اختُصّت الأمة بأنها حاملة الرسالة العالمية التي لا تجد شعوب ولا دول في الشرق والغرب أحسن لهم مما في شريعتها مما أوحى الله إليه، ليس بوليد فكرٍ ولا تجربة ولا تأمل مخلوق وبشر.
(قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) لكنّه منهاج الذي خلق (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِير)، تحمل هذه الأمة عظمة هذا المنهاج لتضيء الخلق بنور ذاك السراج، السراج المنير الذي أبرزه الله إلى هذا العالم في مثل هذا الشهر المبارك، شهر ربيع الأول، فأشرق نوره في الوجود.
منّة الله بولادة النبي المصطفى ﷺ :
ولقد قال فيما صح من حديثه: "أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ وبِشارةُ عيسى ورؤيا أمِّي الَّتي رأَتْ حينَ وضَعَتْني أنَّه خرَج منها نورٌ أضاءَتْ لها منه قصورُ الشَّامِ " صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، حتى رأت آمنة أعناق الإبل ببصرى وهي في بيتها في مكة المكرمة، أيُّ نورٍ هذا أشرق!
وجاءت الخصائص لنا :
بُشرى لنا معشر الإسلام إن لنا
من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته
بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
ألا من أهمل هذا الفضل، ولم يبعث مشاعره لتأمُل هذا المنِّ والوصل، من حضرة ذي الفضل والطول ﷻ، فقد جحد النعمة واستهان بالأمر الكبير.
أيها الفرد من أمة محمد، أنت صاحب وظيفة في هذه الحياة، وميزة بعد الوفاة، عن بقية الأمم.
أمة النبي ﷺ آخر الأمم:
وقد كانوا الأكثر، أرأيتم من الأعوام ما يفوق الستين إلى أربعين وأربعمائة وألف من حين بعثة المصطفى محمد ﷺ إلى الآن؟ ومن مر في هذه الأمم من ملايين في الشرق والغرب، إلى آخر الزمان؟
هذه الأمة عددها قليل بالنسبة للأمم التي قد سبقت على ظهر الأرض، فما أكثر من مضى من بني آدم على ظهر الأرض (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا)
فيا عجباً لمن لا يعتبر بمن مضى من القرون قبله! يا عجباً لمن يغترُّ بقوته، لمن يغترُّ بجيشه، لمن يغترُّ بصناعته، لمن يغترّ بحضارته، فيفسد ويتجاوز الحد ويسفك الدماء ويأخذ حق الغير.
ما أتفهه!
وما أسفهه!
وما أقل عقله!
وما أضعف نظره!
والله لو أحسن التأمل فلقد مضى من هو أقوى منه، ومن هو أكثر منه مالاً وجمعاً وأشد قوة، لا عشرة ولا عشرون ولا مئة ولا ألف ولا ألفان ولا مليون، قد مضوا أقوى منه وصاروا عبرة للمعتبرين، منهم من ذاق ألم العذاب من لحظة الغرغرة عند الموت إلى الساعة، وروحه تتألم وتتعذب.
أفأغناه شيئاً ماله؟
أفأغناه شيئاً سلطانه؟
أفأغناه شيئاً ثرواته؟
أفأغناه شيئاً ثقافته؟
فأغناه شيئاً كبرياءه وغروره؟ الله أكبر!
قلَّ المعتبرون، وجلّ أمر المُدَّكرين (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) .
الاعتبار والادكار :
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)
الاغترار بالمألوفات، والاغترار بالشهوات، والاغترار بميول النفس، والاغترار بالاعتيادات، (فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) .
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) اغترارا بالقوة والبطش والانتقام (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ).
وهل هذا للرسل وحدهم؟
لا، كل من اتبع الرسل وصدق مع الله، فمن تعداه وتحداه من أي قوة على ظهر الأرض، فله مثل ذلك المصير، (ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) .
العبرة بالأمم والأحداث السابقة :
أيها المؤمنون، وفي هذه الأمة؛ كم مرَّت من طوائف، وكم مرَّت من دول، وكم مرّت من ثقافات، وكم مرّت من اتجاهات، وكم مرّت من أحزاب، وكم مرّت من هيئات، عدد كُثر من عهد النبوة إلى أيامكم هذه.
وكل من مضى صار عبرة للموجودين في عصرنا وزماننا، وقلّ المعتبرون والمُدكرون فيهم، وذلك أن عقلية هذا الإنسان إن لم تتنوَّر بنور معرفة الحقيقة؛ وهي أنه عبدٌ مخلوقٌ من قِبل خالقٍ برأ السماوات من فوقه، والأرض سطحها له ومهدها، من غابت عنه هذه الحقيقة، فلم يدرِ من خلقه، ولا لماذا خُلِق، ولا من أين جاء، وإلى أين يصير؟ انحرَف بعقليته وفكره إلى اتباع الشهوات والأهواء والمتاع الفاني والسلطة الزائلة وما إلى ذلك، وخرج عن سواء السبيل، تجبّر واستكبر، (إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ * إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ) لوعقلت، فلا داعي للغرور ولا للكبر، ولن يوصلك إلى مكان.
نورانية لا إله إلا الله :
أيها المؤمنون بالله ﷻ، مرت الطوائف والأفكار والاتجاهات، ومع ذلك فإننا نجد من عهد آدم إلى عهد النبي محمد ﷺ، ثم من عهد النبي محمد إلى أيامنا،
أن نورانية لا إله إلا الله وحقيقتها محفوظةٌ في قلوب اُصطفيت من قِبل رب الأرض والسماء:
وفت بالعهد
وقامت بمقتضى الشهادة
وخالفت أهواءها
وزهدت في الفاني الحقير
وتزوّدت لليوم العسير
وللعمر الدائم الأبدي السرمدي.
طوائف تخلّفت واختلفت :
وفي هذه الأمة كذلك، مع الطوائف والأفكار التي بدأت من عهد الصحابة، وفيهم من اتخذ من هواه إلى القرآن تحريفات وسوء أدب مع مُنزل القرآن، وحمل آيات أهل الكفر والشرك على صفوة الأمة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وبأفهامهم الساقطة الهابطة المظلمة المنقطعة عن السند إلى من أُنزل عليه القرآن، قاتلوا وحاربوا السابقين الأولين وكفّروهم وقالوا عنهم ما قالوا.
ولكن والله الذي بقي من الحق والخير في الأمة هو ما عليه أولئك الذين قوتِلوا وحورِبوا وكُفِّروا من صحب نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم -، ولم يزل في الأمة طائفةٌ ظاهرةٌ على الحق، لا يضرهم من ناوأهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون، وذلك من خصائص الأمة حاملة الرسالة العالمية الكبيرة.
خصائص أمة النبي محمد ﷺ :
أيها المؤمنون باللهِ جلَّ جلالُه، خصائصُنا مُبيَّنةٌ في قولهِ جلَّ جلالُه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..)
لا يتسرب تزيينُ المنكرِ إلى قلوبِكم
لا يتسرّب الانحرافُ في الذوقِ إلى بواطنِ الصادقينَ منكم
فيستحسنون القبائحَ بل والجرائم، كما ترونَها ظاهرةً أمامَ مُدَّعي الحضاراتِ في زمانِكم، المُتبجِّحينَ بالتقدمِ والتطورِ والمُدَّعينَ حقوقَ الإنسانيةِ، في وقتٍ لم يُحتقرِ الإنسانُ ويُستَهان بدمِه مثلَ وقتِهم، وأمامَ مرئى من الصغيرِ والكبيرِ تُزهقُ الأرواحُ والنفوسُ، وتُسالُ الدماءُ للصغارِ والكبارِ والرجالِ والنساءِ، وما الذي يدورُ بينهم أمامَ ذلك، ما أقبحَ هذه النظراتِ والعقولِ! وويلٌ لِكُلِّ من قدرَ على أمرٍ يُنصفُ فيهِ المظلوم فلم يَقُم بحقِّ اللهِ تبارك وتعالى.
خيرة الأمة بالأمر بالمعروف :
أيها المؤمنون باللهِ، تأمرونَ بالمعروفِ وتنهونَ عنِ المنكرِ في دائرةِ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً).
سَلَكَ اللهُ بنا مسلكَ الراشدينَ، (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم) ولو آمنَ المشركونَ لكان خيرًا لهم، ولو آمنَ الملحدونَ لكان خيرًا لهم، ولكن مَنْ أضلَّ اللهُ، مَنْ يهديهِ؟ مَنْ أضلَّ اللهُ فمَنْ يهديهِ؟
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).
الخاسر من الأمة :
اللهمَّ اهدِنا فيمن هديتَ، وعافِنا فيمن عافيتَ، وارزقنا الوفاءَ بعهدِكَ الذي عاهدتنا عليه، وارزقنا الاستقامةَ على ما تُحِبُّهُ منا وترضى بهِ عنا، واجعلنا في خيارِ هذه الأمةِ، فإنَّه كم من إنسانٍ يُحسَبُ من الأمةِ ويموتُ على غيرِ الملةِ، فلا يُحشرُ في أمةِ محمدٍ المكرمينَ، ولا يرى وجهَه، ولا يَرِدُ على حوضِه، ولا يدخلُ الجنةَ معَ أولئِكَ الذينَ خسروا أنفُسَهم وأهليهم يومَ القيامةِ، ﴿أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.
واللهُ يقولُ، وقولُه الحقُّ المبينُ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾،
وقال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾،
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ، (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ).
قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ﴾.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله، منه المُبتدأ وإليه المرجع والمآب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرباب، جامع الناس ليوم الحساب، فلا ينجو إلا من آمن وأناب.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المخصوص بأعلى خطاب، سيد الأحباب، رفيع الجناب، الساري إلى قوس قاب، من كانت منزلته (أو أدنى) في ذلكم المقام الأسنى.
اللهم أدِم صلواتك على عبدك الطاهر المطهر، وحبيبك المصطفى الأنوَر، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن سار في دربه، وآبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقربين، وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
أفضلية أمة النبي محمد ﷺ على الأمم :
عباد الله، فإن الأمم في القيامة تُحبس جميعًا:
فلا يُقضى بين أمة قبل أن يُقضى بين أمة محمد
وإنهم لا تُوزن لأمة أعمالها حتى تُوزن أعمالُ أمة محمد
ولن يمر على الصراط أحد من الأمم السابقة -وفيهم الأكابر من الأنبياء والصديقين والشهداء- حتى تمر أمة محمد
ولن يدخل الجنة أحد من الأمم حتى تدخل أمة النبي محمد ﷺ.
وهو القائل: "إن الله حرَّم الجنة على الأمم حتى تدخلها أمتي، وحرمها على الأنبياء حتى أدخلها أنا" .
وهو القائل: "ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فادخلها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر".
القيام بحق خيرية هذه الأمة :
أيها المؤمنون، ما أعظم ما هُيّئتم له إذا قبلتم نعمة الله أن جُعِلتم في خير أمة! فكيف يصدقُ مع الله في معرفة هذه النعمة من أهمل نفسه وأولاده في الليالي والأيام، يُضَيّعون الصلاة، أو يرتكبون المحرمات، ويتفرجون على المناظر القبيحة، أو يغتابون، ويخالفون أمر الدين، ولا يعلم أنه في خير أمة جاءت لهداية الناس، وإرشاد الناس، ووصْل الناس برب الناس، وإنقاذ الناس من النار إلى الجنة؟!
"اللَّهُ ابْتَعَثَنَا" ، يقول سيدنا ربعي بن عامر -عليه رحمة الله-: "اللَّهُ ابْتَعَثَنَا لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة".
تلكم رسالة أتباع النبي محمد القائل: "بلِّغوا عنِّي ولو آيةً"
الصدق في الوفاء بالعهد:
ألا فاصدقوا مع الله، واقبلوا نعمة الله في الخير الذي أعطاكم، وفوا بعهد الله يُوفِ بعهدكم، واصدقوا معه فإنه لا ينفع في القيامة إلا الصدق.
قال الله تعالى: ﴿هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾، اللهم اجمع قلوبنا على الصدق معك في جمعتنا هذه، ولا تصرف منا أحدًا إلا في الصادقين المخلصين الموفين بالعهد، يا أرحم الراحمين.
أكثروا الالتجاء إليه، فمن قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، كفاه الله ما أهمه، وأُيّد بنصر وتسديد، ومن قال: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" أربعين مرة، حماه الله وحرسه، وإن كان في مرض توفي فيه، عُدَّ من الشهداء عند الله.
عظمة شأن أمة النبي محمد ﷺ :
أيها المؤمنون بالله -جل جلاله وتعالى في علاه- ما أعظم شأن هذه الأمة، وما أعظم شأن من فقِه عن الله تفضيلاً وتكريماً، وقُبل من الله إحسانُه وقام بحق ذلك، فما أسعده في الدارين.
عباد الله، إن الله أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بالملائكة وأيَّه بالمؤمنين، فقال مخبرًا وآمرًا لهم تكريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهم صلِّ وسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، السراج المنير، البشير النذير، عبدك الطُهر الطاهر، سيدنا محمد
وعلى الخليفة من بعده، صاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حاليي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق.
وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى مُحيي الليالي بتلاوة القرآن، من استحيت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان.
وعلى أخ النبي المصطفى، وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، ليث بني غالب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن والحسين، سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بِنَصِّ السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وبنات سيد المرسلين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين.
وعلى أهل بيعة العقبة، وأهل بدر، وأهل أحد، وأهل بيعة الرضوان، وسائر أصحاب نبيك، وأهل بيته الطاهرين.
وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وتابعهم بإحسان، وعلينا معهم وفيهم.
الدعاء :
اللهم أعِز الإسلام وانصر المسلمين، وأذِل الشرك والمشركين، وبارك في شهر ذكرى ميلاد نبيك محمد لأمة نبيك محمد، واجعلنا في خيار أمة نبيك محمد، واحشرنا في أهل الخصوصية من أمة نبيك محمد، برحمتك يا أرحم الراحمين، وجودك يا أجود الأجودين.
اللهمّ ثبتنا على قدم الاستقامة، وأتحِفنا بالمنة والكرامة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، لا تُعرض وجوهنا للإسوداد، ولا تُعرض عوراتنا للإفتضاح، ولا تُعرضنا للذل والخزي يوم القيامة، وأظِلنا بظل عرشك، وأدخلنا جنتك بغير حساب.
اللهمّ اغفر لنا ولوالدينا، ولمؤسس المسجد والمتقدمين فيه والقائمين عليه، وتولنا في جميع أحوالنا.
اللهمّ وخذ بيد ملك هذه البلاد الملك عبد الله، لكل ما فيه رضاك والخير له وللأمة أجمعين، وخذ بيده وجميع من معه من ولي عهده، ومن يساعدهم على الخير، وادفع عنا وعنهم وعن أهل هذه البلدة وعن الأمة كل شرّ وضير.
وعجّل بتفريج كروب الأمة في مشارق الأرض ومغاربها، وأغث اللهمّ أهل الضفة الغربية، وأهل غزة، وأهل أكناف بيت المقدس خاصةّ، وأهل السودان وأهل الصومال، وأهل العراق وأهل الشام وأهل اليمن، والمسلمين في المشارق والمغارب عامة، بغياث عاجل، يا مغيث المستغيث، أغثنا بغياثك الحثيث، وادفع عنا شرّ كلّ لئيمٍ خبيث، يا حيّ يا قيّوم.
لا تصرفنا من جمعتنا إلاّ والقلوب عليك مجموعة، والدعوات عندك مسموعة، والأعمال الصالحة مقبولة مرفوعة، ثبِّتْنا على الحقّ فيما نقول، وثبّتنا على الحقّ فيما نفعل، وثبّتنا على الحقّ فيما نعتقد، يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ برحمتك يا أرحم الراحمين.
ويكون بعد الصلاة إن شاء الله الصلاة على الشهداء الذين قُتلوا ظلمًا بغير حق خاصةً ومن صحّت عليه الصلاة من أموات المسلمين، جعلنا الله وإياكم ممن وفى بعهده، ودخل في أهل محبته وودّه.
عبادَ الله، إنّ الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
24 ربيع الأول 1446