تكوين وبناء أسر المؤمنين وبيوتهم بنور الوحي والسنة وأثر ذلك في المجتمع والدار الآخرة
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان ، بتريم، 21 ربيع الأول 1445هـ بعنوان:
تكوين وبناء أسر المؤمنين وبيوتهم بنور الوحي والسنة وأثر ذلك في المجتمع والدار الآخرة
نص الخطبة:
الحمدُ للهِ العليمِ الحكيم، الهادي مَن يشاءُ إلى صراطهِ المستقيم، وقد اشْتملَ صِراطُهُ المستقيم على جميعِ شُؤونِ الْمُكلَّفِ مِن قولٍ وفعلٍ، ونيةٍ ومقصدٍ، وإرادةٍ وتعامُلٍ، ونظرةٍ وتَصوُُّّرٍ، وأخْذٍ وعَطاء، ومحبَّةٍ وبُغْضٍ، ورضاً وكراهِيَة؛ فَقوَّمَ كُلَّ ذلك بنورهِ، وهدى مَن شاءَ إلى سُلوكِ ذلك السَّبيلِ العجيبِ البديعِ في تَقْويمِهِ وتقديرهِ.
وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبينا وقُرَّةَ أعْيُنِنا ونورَََ قلوبِنا محمًّداً عبدهُ ورسولهُ، ونبيِّهُ وصَفيَّهُ وحبيبهُ وخَليلهُ؛ مَجْلى الكمالِ الإنسانيِّ في جميعِ مظاهرِ الشُّؤونِ، في الظُّهورِ وفي البُطونِ، لِلْفَرْدِ، وللقولِ، ولِلْفِعل، وللأُسْرَةِ وللمُجتمعِ، ولِلْأخْذِ ولِلْعَطاءِ؛ لا يَغضبُ لنفْسِهِ، ولا يَغضبُ إلَّا للهِ ويرضى لِرِضاهُ، عبدٌ نُقِّيَ وصُفِّيَ واصْطُفِيَ؛ فكان مَجْلى الكمالِ في كلِّ ما يأتي وفي كلِّ ما يَدَع، يترتَّبُ على مُتابعتِه محبَّةُ ذي العرشِ العظيم.
اللهم أدِم صَلواتِكَ على السِّراجِ المنيرِ الهادي البشيرِ سيِّدنا محمد، خيْرِ مَن شَهِدَ شهادةَ الحقِّ: أنْ لا إلهَ إلا أنتَ وحدكَ لا شريكَ لكَ، وأنهُ عبدُكَ ورسولُك، وعلى آله وصحبهِ ومَن سارَ في دَرْبهِ، وآبائِه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلينَ الذين بَشَّروا بهِ، وعلى آلهِم وصَحْبهِم وتابعيهم، وعلى ملائِكتِكَ المُقرَّبين، وجميعِ عبادِكَ الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الرَّاحمين.
أما بعدُ عبادَ الله: فإني أوصيكم ونَفْسِيَ بتقوى الله؛ تقوى الله التي لا يَقْبَلُ غيرَها، ولا يَرْحَمُ إلا أهْلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها.
ألَا يا عبادَ الله: والأمَّةُ في ذِكرى ميلادِ المصطفى محمدٍ بن عبدالله، نبيِّهم وهاديهم ومُرْشِدهم ودالِّهم على الرحمن، والمُوضِّحِ لهم سُبُلَ الرَّشادِ بأحْسَنِ بيانٍ في السرِّ والإعلان، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ وكرَّمَ عليهِ وعلى آلهِ، وهو الأتقى للهِ، فاتقوا اللهَ في هذهِ الذِّكرى، وما تُحْدِثُه فيكم وما تَحمِلُكم عليهِ، وما تستفيدونَ مِن حقائقِها ومعانيها.
وإنَّ مِن أجَلِّ وأجْملِ ما يُسْتفادُ مِنَ الاحتفالِ بِذِكْرى زينِ الْوجودِ وَوِلادَتِه: النظرُ في شأنِ الأُسرةِ وتَقْويمِها، وكيف تكونُ أُسرَةُ المؤمنِ مُحصَّنةً مُؤمَّنةً، مُوجَّهةً بتوجيهِ الرحمنِ، قائمةً على أساسٍ قَوِيم، وصِراطٍ مُستقيم فيما يدورُ في تلك الأُسرةِ، وما يُزاوِلونَهُ مِن أعمالٍ في البيتِ وخارِجََ البيتِ؛ فاسْتِقامَةُ تِلك الأُسَرِ يُقيمُ في المجتمعِ أعضاءَ صالحين؛ بل مُصلحينَ مَيَامِين، يَنْتَظِمُ بهم بِناءُ المجتمع على حالٍ أجملَ وأنْفَع وأشْرَفَ وأرْفَع.
أيُّها المؤمنونَ: أُسَرُنا حُصونٌ يجبُ أنْ لا نُسْلِمَها لِرَمْياتِ العدو، ولا نُهمِلَها لِتَخْرُجَ عن السبيلِ الذي ارْتَضاهُ الذي له الوجوهُ تعلُو: إلهكُمُ الغفورُ العَفُو؛ الذي أرْسلَ الرُّسُلَ وأَنْزلَ الكتب، وما مِن كتابٍ أنزلَهُ ولا مِن رسولٍ أرْسَلَهُ، إلا وفي ذلك الكتابِ وفي بلاغِ ذلك الرسولِ شؤونًا تتعلَّق بالأُسرةِ وبيوت المسلمين وكيف تكون، وكيف تُبْنَى، وما الذي يدورُ فيها، وما الأُسُسُ التي تُبنَى عليها: أقوالُها وأفعالُها وطريقةُ تفكيرها وتعاملاتُها فيما بينهم البَيْن، وفيمن يفِدُ عليهم إلى البيتِ، وفيما يَخرجونَ به مِن البيتِ إلى خارجِ المنازلِ والدِّيار.
أيها المؤمنون: ولقد أوْحى اللهُ تباركَ وتعالى إلى سيِّدنا موسى وهارون: (وأوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) انْتَحُوا نَاحِيَةً؛ أي مهما استطعتم أنْ تجعلوا بيوتَكم في مواطِنَ لا يَفْشُوا فيها هَيْمَنَةُ الكُفر أو الزَّيغ أو سُوءِ الخُلُق والضَّلال، ولَتْكُونوا بِمَواطِن ومنازِل أقرَبَ إلى الصفاءِ، وأقْربَ إلى حُسْنِ تطبيقِ منهجِ عالِم السِّر وأخْفى.
(تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) افْصُلوها عن البيوتِ التي لا تُبالِي أنْ يكون فيها الْخَنَا، أو أنْ يكونَ فيها الظُّلْمُ والفِسقُ والاعتداء، أو يكونُ فيها مخالفةُ أمْرِ ربِِّّ الأرضِ والسَّماء، وانظروا لكم بيئةً مُسْتَقِلَّة ومكانًا مباركًا؛ لتكونوا جيرانًا صالحين، أعوانًا على الخيرِ والصلاحِ والفلاحِ (أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا).
(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) يَؤُمُّهَا الفقيرُ والمحتاجُ ويَجدُ فيها ما يَجْبرُ كَسْرَهُ وما يُصلِحُ أمرَهُ، ويَؤُمُّهَا السائلُ المُسْتَرْشِدُ فيجدُ فيها ما يهدي ويَدلُّ ويُرشِد، يَؤُمُّهَا المُتَحَيِّر لِيَجِدَ فيها الدَّلالة.
(قِبْلَةً): مُوجَّهةً في بِنائِها إلى القِبْلَةِ التي أُمِرْتُم باسْتِقبالها في الصلاة؛ إظهارًا لشعارِ التَّبعيَّةِ للرَّحمنِ جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه، وبذلك رأينا أخيارَ المسلمينَ حين يَبْنُونَ البيوتَ لا يَغفلونَ عن النيَّاتِ الصَّالحاتِ، والْوِجهات الصَّادقات، وعن تَبعيَّةِ السُّنَّةِ، ومهما تَسَنَّى لهم أنْ تكونَ مُتَّجِهةً اتِّجاهاً سَمْحاً إلى الكعبةِ، وَجَّهُوها كذلك، فإذا اتخذوا فيها أماكِنَ لقضاءِ الحاجةِ الإنسانيةِ أبْعَدوا بِكَرَاسِيَّها عنِ استقبالِ القِبْلَةِ أو اسْتِدْبارِها، مِن شؤونِ هندسَةِ البِناءِ على نُورانِيَّةِ الشَّرعِ، على نورانيَّةِ الهدْيِ النَّبَوِي، وبعدَ ذلكَ يجعلونَ لكبارهِم وما وُجِدَ بين الأسرةِ مِن شائبٍ أو عجوزٍ كبيرة، المكان اللائِقَ في تخصيصِ غُرَفٍ لهم مُزوَّدة بما يَحْتاجونَ ويُساعِدون.
هذا فيما يتعلَّقُ بالْبِناءِ ونِيَّاتِه وهَنْدَسَتِه وكيْفِيَّتهِ، ثم لا يَرْضوا أنْ يكونَ فيها شعار فُسَّاقٍ ولا مُجرمين، ولا صُوَرُ كافرينَ وفاسقين، ولا يَظهرُ فيها إلا شعارُ الهُدى والحقِّ والدِّين.
أيها المؤمنون: و(لا تدخلُ الملائكةُ)؛ أيْ: ملائكةُ الرَّحمةِ، (بيتًا)؛ أيْ: غُرْفَة، (فيه صورةٌ ولا كَلْب)؛ الصُّورَةُ الْـمُجَسَّمَةِ لأيِّ حَيوانٍ كان، الْـمَنْحُوتَةِ، أو الصورةِ للفاسقِ والفاجرِ ولو كانت رَقْماً في ثوبٍ لكنها لفاسقٍ أو فاجرٍ تُرفَعُ فوقَ الرُّؤوسِ، فَيَمْتَنِعُ ملائكةُ الرَّحمةِ مِن دخولِ تِلْكَ الغُرْفةِ وذلك البيتِ.
أيها المؤمنون: لنا شَرْعٌ يُعلِّمُنا كيف نَبْنِي بيوتَنا وماذا نَرفَعُ فيها، وماذا نُخْرِجُ وماذا نُدْخِلُ، وغَفِلَ مَن غَفِلَ وجَهِلَ بلاغَ خاتِمِ الرُّسُل.
يا أيها الْـمُتَذَكِّرونَ لميلادهِ: انْغَمِسُوا في بحارِ إرْشادِه؛ فقد جاءكم بالهُدى عنِ الحقِّ جَلَّ وعَلا، عالِمُ ما خَفِيَ وما بَدا.
أيها المؤمنون: لا يُعَظَّمُ الحقيرُ عندَ اللهِ في بِيُوتِ المؤمنين، لا يُعَظَّمُ مُجرَّدُ اللَّعِب، ولا يُعَظَّمُ أرْبابُ التَّمثيلِ، ولا أربابُ المُصارعاتِ ولا أربابُ الغِناءُ الْماجِن، لا تجدُ مكاناً لهم في قلوبِ الأسرةِ ولا في غُرَفِ الأسرةِ، ولا في الأجهزةِ التي تَسْتَعْمِلُها الأسْرَةُ.
بيوتُ المسلمينَ كقلوبِ المسلمينَ؛ لا يُعَظَّمُ فيها إلَّا اللهُ وشعائِرُه (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، فإنْ عَشِقُوا صورةً؛ فصورةَ كعبةٍ أوْ المسجِد النَّبويِّ أوْ بيتَ المقْدِسِ، أوْ صورةَ مسجدٍ أوْ صورةَ أثَرٍ مِن آثارِ أنبياءَ أوْ صُلحاءَ أوْ أخيارٍ، وما إلى ذلك.
أيُّها المؤمنون: يجبُ أنْ تُبْنى البيوتُ على نُورانِيَّةِ الْوَحْيِ والتَّنْزيل، وبلاغ الرَّسولِ نِعْمَ الدَّليل، يجبُ أنْ يَقومَ في البيوتِ مُلاطَفةُ الأُبوَّةِ والأُمومَةِ ِوالأُخوَّةِ، وتماسُكُ الأُسْرَةِ بِحبالِ المودَّةِ في اللهِ والمحبَّةِ في اللهِ، ما أبْعَدَ عقولَ كثيرٍ مِن المؤمنينَ عن تَصُّوُّر أنَّ المحبةَ في اللهِ والبُغْضَ في اللهِ لا يكونُ إلا لمن هوَ خارِجَ البيتِ وخارِجَ الأُسرة!؛ لا.. أيها المؤمن: مِن أوْثَقِ عُرَى الإيمانِ: الحبُّ في اللهِ والبُغْضُ في الله، مِن أعْظَمِ مراكِزِهِ وأهَمِّ مَواطِنهِ: دارُكَ وبيتُكَ وأُسْرَتُك؛ فَلْيَكونوا مُتحابِّينَ في الله، مُتَوَادِّينَ في الله، مُتَعاوِنينَ على طاعةِ الله، يَعْلوهُمُ الرِّفقُ ببعضِهُمُ الْبعضِ، وأخْذُ الخاطِرِ.
سُنِّيَّة الْبَسْمَلَةِ عند الدُّخولِ، وإذا بَسْمَلْتَ ودَعوْتَ فأوَّل سُنَّةٍ تُواجِهُكَ: أنْ تُلْقِيَ السَّلامَ على أهلِ البيتِ؛ فإنَّ اللهَ جاعِلٌ في سلامهِ لهم خيرًا، كما جاء في الحديث، وكما كانَ فِعْلُهُ ﷺ، وكانَ إذا دخلَ سمَّى الله واسْتَاكَ ﷺ، ودعا الله، وسلَّمَ على مَن في البيتِ بوجهِه الطَّليقِ وخُلُقِهِ الْأَنِيقِ، صلَواتُ ربِّي وسلامُه عليه.
وكذلك يجبُ أنْ تكونَ أُسَرُ المسلمينَ، وأنْ تكونَ بيوتُ المسلمينَ، وهو القائلُ: " إذا أرادَ اللهُ بأهلِ بيتٍ خيرًا أدْخلَ عليهِمُ الرِّفقُ"، أدْخلَ عليهِمُ الرِّفقُ وقامَ الرِّفْقُ الذي يَقْوَى بِإفْشاءِ السَّلام، وبِلينِ الكلام، وبمُساعدةِ بعضهِم البعضٍ على الْمهامِ؛ مِن تنظيفٍ ومِن طبخٍ ومِن إحضارِ أدواتٍ أو مِن فَرْشِ فُرُشٍ، وما إلى ذلك.
ولقد جاءَ عن صاحبِ المولدِ، زَيْنِ الوجودِ، أنَّه يكونُ في أهلِه وَوسطَ بيتِه خادِماً لأهلِه؛ يَرْفَعُ هذا ويَحُطُّ هذا، ويَكْنِسُ البيتَ بيدهِ الكريمة، ويَخْصِفُ النَّعْلَ، ويَرْقَعُ الثوبَ، ويَقْطَعُ اللحْمَ، ويكونُ في خدمةِ أهلهِ، يُحدِّثهُم ويُحدِّثونَه، ويَبْتَسِمُ لهم ويضحكونَ لهُ، ويأمرُهم بالأوامِرِ ويَنْهاهُم، ويَتَغاضى عما يَصِحُّ التَّغاضي عنهُ، ولا يَتساهلُ في بَيانِ الحُكْمِ الشَّرعِي، ولا في تعظيمِ الشَّعائر.
تقولُ أمُّ المؤمنين: (يكونُ بْيَنَنا، يَتحدَّثُ معنا ونَتحدَّثُ معهُ، ويَضحكُ إلينا ونَضحكُ إليهِ، فإذا نُودِيَ للصلاةِ خرجََِ كأنهُ لا يَعرِفُنا ولا نَعْرِفُه)، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
وَسَطَ البيتِ لاعَبَ الأطفالَ، وحمَلَهُم على كَتِفهِ الكريم وظَهْرهِ الشَّريفِ ويَدِهِ المنوَّرَة، وأطعمَهُم، وغسَّلَهُم وأمَاطَ الأذى عنهم صلى الله عليه وآله وصحبِه وسلم؛ حتى كان أيامَ أسامةُ في صِبَاهُ، يقومُ إليهِ ويُحسِنُ تَنظيفَهُ، ولما احتاجَ إلى تنظيفِ أنْفِهِ وَوَجْهِه أشارَ إلى السَّيدةِ عائشةَ، فكأنها اسْتَثْقَلَتِ الأمْرَ وقامَتْ فَلَمْ تُتْقِن، فرَآهُ فقالَ: "ما هكذا يا عائشة!"، وقامَ بِنَفْسِه فأحْسَنَ تنظيفَهُ وأتَمَّ تطهيرَهُ، صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّم.
بيوتُ المؤمنينَ فيها خُلُقُ مُصْطَفاهُم وهادِيهم إلى مَوْلاهم، بيوتُ المسلمينَ فيها القرآنُ يُتلَى، وفيها السُّنَّةُ تُذْكَر؛ لقد خاطبَ الربُّ الأكبرُ أُمَّهاتِنا أُمَّهاتِ المؤمنينَ، وقالَ: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ) وما الذي يُتلَى في بُيوتِهنَّ؟!؛ وهو الذي يجبُ أنْ يُتلَى في بيوتِنا، فهل اخْتَرْْنََ مُضَادًّا ومُخالِفًا لما يُتلَى في بيوتِ المصطفى وأُمَّهاتِ المؤمنينَ لِيُتْلَى في بِيُوتِنا؟!، (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) مِنَ القرآنِ والسُّنَّةِ، هذا الذي يجبُ أنْ يدورَ في بيوتِ المؤمنين.
كُنَّا نَعْهَدُ البيوتَ تَذْكرُ كبارُها لِصغارِها: أخبارَ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ، والدَّارَ الآخِرَةِ، وحِكاياتُ الصَّالحينَ، وما كُنَّا نسمعُ قِصَّةً لِفَاسِقٍ ولا لِمَاردٍ، ولا لشيءٍ يُجرِّئُ على الذنوبِ والمعاصي، ولا يُهْبِطُ ويُسْقِطُ هَيْبَةَ الدِّينِ والأوَامِرِ والْقِيَمِ، كذلك يجبُ أنْ تُصَفَّى بيوتُ المسلمين.
"البيتُ الذي يُقْرَأُ فيه القرآنُ يتراءى لأهلِ السماءِ كما تَتَراءَى النجومُ لأهْلِ الأرضِ"، يجبُ أنْ يُتلَى القرآن، وما فائدةُ أنَّ البنتَ مُتعلِّمَة والإبنَ مُتعَلِّم والزَّوجُةُ مُتعلِّمَة إذا كانَ كلامُ اللهِ وكتابُه مهجوراً وسطَ غُرَفهِم؟!، مهجوراً وسطَ بيوتهِم!، ما حقيقةُ إيمانُ هؤلاء؟!، ما حقيقةُ علاقتهِم بصاحبِ المولدِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم؟.
(و قَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) أَتْحِبُّ أنْ تَدْخُل في مُشْتَكى منهم؟؛ اشتكى منهم زينُ الوجودِ إلى ربِّ الوجودِ، بِهَجْرِهم لكتابِ الله، فلا تَهْجُرَنَّهُ ولا يَهْجُرَنَّهُ أَحَدٌ مِن أُسْرَتِكَ صغارًا وكبارًا، وَلْيَتَّصِلوا بِحَلقاتِ القرآنِ، وَلْيَكُنْ للبيوتِ نصيبٌ مِنَ القرآنِ ومِن صلاةِ النَّافِلَةِ.
اللهم بمحمدٍ انْظُر إلى بيوتِنا وأصْلِحْها، واجعل أُسَرنا مُستقيمةً على ما بِه فلاحُها، وارْزُقنا الفوزَ الأكبرَ في الدنيا والآخرةِ، وتَولَّنا بما أنتَ أهلُهُ في شُؤونِنا الباطنةِ والظاهرةِ يا ربَّ العالمين.
والله يقول وقول الحق المبين:( وإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا) (إن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (وسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ)
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعنا بما فيهِ مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثَبَّتنا على الصِّراطِ المستقيم، وأجَارَنا مِن خِزْيِه وعذابِه الأليم ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدينا ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ إنه الغفورُ الرَّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ جَاعِلِ الشَّبَهَ قويًّا بينَ القلوبِ والبيوتِ في الدُّنيا والقبورِ في البرزخِ والمنازِلِ في الْجِنانِ أو النِّيران.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، يَرْقُبُ وينظرُ كلَّ قَلْبٍ وجَنان، ويَطَّلِعُ على كلِّ سِرٍٍّّ وإعلان، ويُجازي كلًّا بما نوى وقَصَد،َ وقال باللسان وفَعَلَ بالأركان.
وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيِّنا وقُرَّةَ أعْيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمدًا عبدُه ورسولُه، بُيوتُهُ خيرُ البيوت، ونُعوتُهُ أحْلى النُّعوت، خيرُ داعٍ إلى الرحمنِ بالبصيرةِ، والإذْنِ الْمُطْلقِ مِن الربِّ جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه على بصيرةٍ مُنيرة.
اللهم أَدِم صَلواتِكَ على المصطفى الهادي إليكَ سيِّدنا محمَّد، وعلى آلهِ وصحبِه، ومَن سارَ في دَرْبِه، وآبائِه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين، وآلهِم وصحبهِم وتابعيهِم، وعلى ملائِكَتِكَ المُقرَّبين، وجميعِ عبادِكَ الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم، برحمتِكَ يا أرحمَ الرَّاحمين.
أما بعدُ عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله، فاتقوا اللهَ في هذهِ الذِّكرى، واجْرُوا في مَجْرى الاتِّباعِ لحبيبِ اللهِ خيرِ مَجْرى، ونَوِّرُوا البيوتَ والأُسَرَ بما يُنْبِئُ عن نُورانِيَّةِ القلوبِ وما في بَواطِنِكم اسْتَقرَّ؛ فإنَّ بَيْنَ القلوبِ والبيوتِ مُشابهات، ومَهْما صَفَى القلبُ وتَنوََّّر، فالبيتُ وأهلُ البيتِ في صَفاءٍ وتَنَوُّر.
أيها المؤمنون: هذهِ بعضُ مسائلَ، وبعضُ إشاراتٍ إلى ما يجبُ أنْ يكونَ عليهِ بيتُ المؤمن وأُسْرَةُ المؤمن؛ في توقيرٍ للكبيرِ ورحمةٍ بالصغيرِ، و(مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ).
ومُلاطفاتٍ ومُؤَانَساتٍ، وأخْذٌ بالْخَواطِر، وبَشاشَةُ في الوَجهِ، ولِينُ قولٍ مع إقامةِ أساسٍ في الزَّجْرِ عن المنكراتِ والسِّيئاتِ وقَبيحِ الأفعال، (عَلِّقوا السَّوْطَ حيثُ يراهُ أهلَ البيتِ)؛ أيْ اجعلوا وسطَ الملاطفةِ والمؤانسةِ رَادِعاً يَرْدَعُ النُّفوسَ عن غَيِّها وعنِ اسْتِخْفافِهَا؛ فلا مجالَ لِلْعُنفِ ولا لِلْقَسْوَةِ ولا لِلشِّدَّة، ولا مجالَ للاسْتِهانَةِ ولا للتَّساهُلِ وعدَمِ المُبالاةِ؛ ولكنها مَوازين قامَت في بيوتِ المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أيها المؤمنون: انْتَهِضُوا بِعَزائِمِكُم وهِمَمِكُم لِإقامَةِ الأُسَرِِ والبيوتِ على حميدِ الصِّفاتِ وجميلِ النُّعوت، مُقتدينَ بحبيبِ الحيِّ الذي لا يموت؛ محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه ومَن اهتدى بِهُداهُ.
ثبَّتَ اللُه قُلوبَنا وإيَّاكم على الاستقامَةِ، وأتْحفَنا في الدارينِ بِأَسْنى الكرامةِ، وكان لنا بما هو أهْلُه، ولِأَهْلِينَا ولأولادِنا، وجعلَهُم قُرَّةَ عينٍ في الدُّنيا والبَرْزخِ ويومَ القيامةِ، وجمَعنا وإيَّاهم في خيرِ مُسْتَقَر؛ دارِ الْـمُقَامَةِ مع أحبابِ الرَّحمن والمُقرَّبينَ إليه.
ألَا وَاعْمُرُوا الْقُلُوبَ وَالْأَلْسُنَ وَالْبِيُوتَ وَالْأُسَرَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَحَبِيبِه مُحَمَّدٍ، فإنه شعارُ إيمانٍ، وحقيقةُ تَقرُّبٍ إلى الرَّحمن، واسْتِمْطارٌ لفائِضِ الامْتِنان؛ كيف وقد قالَ مَن أُنْزِلَ عليهِ القرآن:" مَنْ صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى اللهُ عليهِ بها عشرًا"، وهو القائلُ: "إنَّ أوْلى النَّاسِ بي يوم القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاة".
فأكْثِروا مِن الصَّلوَاتِ والتَّسليماتِ على سيِّدِ أهلِ الأرضِ والسماواتِ، واعْمُروا بها البيوتَ والمنازِلَ؛ بل والمساجدَ والطُّرُقَ والشَّوارِعَ والأسواق؛ فهي مُرْضِيَةٌ للإلهِ الخلَّاق؛ تنزِلُ بها الرَّحماتُ مِن حضرَتِه الْعَليَّةِ.
وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ بَدَأ فيه بِنَفْسِهِ، وَثَنَّى بِالْمَلَائِكَةِ وَأَيَّهَ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ فقال مُخْبِرًا وآمِرًا لهم تكريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صلِّ وسلِّم على عبْدِكَ المُختارِ، الرَّحمةِ المُهدَاةِ، والنِّعمةِ الْـمُسْدَاة، خيرُ قُدْوَةٍ وأكْرَمِ أُسْوَةٍ في كلِّ ظاهرٍ وباطنٍ وقولٍ وفعلٍ ونيَّةٍ ومَقْصِدٍ، وعلى الخليفةِ مِن بعده وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازِرِهِ في حالَيِ السَّعَةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيدنا أبي بكرٍ الصدِّيق. وعلى الناطقِ بالصوابِ، حَليفِ المحراب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطَّاب. وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَن اسْتَحْيَت منه ملائكةُ الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان. وعلى أخي النبي المصطفى وابن عمِّه، وَوَليِّه وبابِ مدينةِ عِلْمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب، وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سَيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنةِ في الجنة، ورَيْحانَتَي نبيِّكَ بِنَصِِّّ السُّنَّة، وعلى أُمِّهم الحَوْراءُ فاطمةُ البَتولِ الزَّهراء، وإخْوانِها وأخَواتِها. وعلى أُمِّها خديجةَ الكبرى، وعائشةَ الرِّضا، وأُمَّهاتِ المؤمنينَ، وعلى أهلِ بيعةِ العَقَبَةِ، وأهلِ بَدْْرٍ، وأهلِ أُحُدٍ، وأهلِ بيعةِ الرِّضوانِ، والحمزةَ والعباس عَمَّي نبيِّكَ خيرِ الناس، وعلى جميعِ السابقينَ الأولين مِن المهاجرينَ والأنصارِ وأهلِ البيتِ الأطْهارِ، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
اللَّهُمَّ اجعلْ لنا في ذكرى ميلادِ نبيِّنا أنواراً تَتلأْلَأُ في قلوبِنا نستقيمُ بها على مِنْهاجِه، ونَرْقى بها بِمِعْراجِه، ويَسْلَمُ الكلُّ مِنَّا مِن زَيْغِهِ ومَيْلِهِ وَاعْوِجَاجِه، اللهمَّ ثَبِّتنا على الاستقامةِ، وأتْحِفنا بالكرامةِ، اللهم وفَرِّج كروبَ أُمَّةِ حبيبِكَ أجمعين، وأبْعِد عنهم سُلْطَةَ أعدائِكَ الذين تسلَّطوا على قلوبهِم وبيوتهِم فتسلَّطوا على ثَرواتِهم وعلى أموالهِم وعلى حُكَّامهِم.
اللهم فادْفَعِ البلاءَ عنِ الأُمَّةِ رُعاةً ورَعِيَّة، وأصْلِح لنا ولِلْأُمَّةِ كلَّ ظاهِرَةٍ وخَفِيَّة، وحُوِّل الأحْوالَ إلى أحْسَنِها، واجعل تبَعِيَّتنا لخيرِ البريَّةِ في جميعِ أحْوَالِنا وشُؤونِنا الأُسَرِيَّةِ والاجتماعيَّةِ، والظَّاهرةِ والخفيَّة، ثَبِّتنا على الحقِّ فيما نقولُ، وثَبِّتْنا على الحقِّ فيما نَفْعَل، وثَبِّتْنا على الحقِّ فيما نَعْتَقِد.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، (رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
نسألُك لنا وللأمةِ مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد، ونعوذُ بك مِن شرِّ ما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد، وأنتَ المُستَعان وعليك البلاغُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّم.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمَر بثلاثٍ ونهى عن ثلاثٍ؛ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى، وينهَى عن الفحشاءِ والمنكر والبغي؛ يعظُكم لعلَّكم تذَّكَّرون.
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يَزدْكم ولذكرُ اللهِ أكبر.
22 ربيع الأول 1445