مدارسة واستخلاص درس العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ - حفظه الله تعالى -
في كتاب (ميزان العمل) للإمام حجة الإسلام/ محمد بن محمد بن محمد الغزالي – رحمه الله تعالى -
الخلاصة المستفادة من الدرس السادس والثلاثين/ (الوظيفة التاسعة)
وظائف المتعلم في تحصيل العلم:
- العلوم كلها ترجع إما إلى ما يتعلق باللفظ من حيث يدل على المعنى، أو متعلق بالمعنى الذي يدل اللفظ عليه، أو متعلق بالمعنى المجرد في العلوم، فعلوم اللغات متعلقة باللفظ، و علوم المعنى الذي يدل اللفظ عليه هي علوم المناظرات والمجادلات والفلسفات وما إلى ذلك، والذي يتعلق بالمعنى مجرداً إما علمي أو عملي، فإن كان المراد بنفس العلم فقط لا يتعلق بالعمل فهو علمي، كالعلم بما يجب الإيمان به بالله تعالى وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والجنة والنار وما إلى ذلك، وإما أن يكون عملي وهو المتعلق بالعمل وهي المعاملات والعبادات، وكذلك معرفة سياسة النفس مع الأخلاق وكيف تغير الأخلاق من سيئة إلى حسنة وكيف يُعالج الخلق القبيح وكيف يُكتسب الخلق الطيب المليح.
- تكمل النفس بطهارتها عن الأخلاق السيئة وتحليها بالأخلاق الفاضلة وقطع الرذائل عنها وحصول الثمرة من انكشاف حقائق الإيمان لها، والسعادة مرتبطة بتنقية وتطهير القلب من الصفات التي يكرهها الله تعالى، وأصحابها يعيشون في خيبة في الدنيا وفي عذاب في الآخرة، وهكذا كل من اتخذ إلهه هواه، وصار نظره مقصورا على متاع الحياة الدنيا.
- لا يتأتى الوصول إلى حقائق السعادة التي نُبّئنا عنها من قبل الخلاق على ألسن الرسل وأنه خلقنا لنسعد سعادة الأبد بجواره وقربه ورضاه ورؤيته، ونتخذ الوسائل لنا في الحياة الدنيا للوصول إلى ذلك من امتثال أمره واجتناب نواهيه إلا بالتطهير للضمير والتنقية له وتحليته بما ينفع وبما يحب الله من الصفات من الصبر، والتواضع، والخشية والخوف، والرجاء، والشكر، والإنابة والحضور مع الله، وما إلى ذلك من الرحمة والرأفة والصفات المحبوبة لله تعالى.
- تحلية الضمير بالصفات المحبوبة تُهيؤهُ لأن يصفو فكره، وإذا صفا الفكر، برزت معاني المعارف واللطائف وإدراك الحقائق، يقول الإمام الحداد:
وصفِّ من الأكدار سرك إنه
إذا ما صفا أولاك معنى من الفكر
تطوف به غيب العوالم كلها
وتسري به في ظلمة الليل إذ يسري
- وفي هذا جاء أن من أفضل عبادة الأمة الفكر، والذين يعرفون العبادة بالفكر خواص أهل السعادة من العقلاء والعلماء والأتقياء يعبدون الله بالتفكر في حقائق الأمور، أكثر المسلمين يغفلون عن عبادة الفكر، وللفكر مجاري يستفاد منها الأخلاق الفاضلة وتقويمها، والفكر في حقارة الدنيا وما تفعل بأربابها ونهايتها وعواقبها، والفكر في الآخرة ونعيمها ودوامه وبقائه يورث الزهد ، والفكر في إنعام الحق وتفضله علينا بما لا يمكن إحصاؤه وما أسبغ من النعم الظاهرة والباطنة يورث المحبة، والفكر في أحوال الأنبياء وما قاموا به وما كانت نهاياتهم يورث اليقين، والفكر في التقصير والذنوب والسيئات يورث انكسار القلب، فعامة الأوصاف الفاضلة لا تكتسب إلا بالفكر الصافي، والمعرفة لا تكتسب إلا بصفاء الفكر، وقلّ العابدون لله بهذا الفكر فقلّ بيننا أهل المعرفة بالله، فبكثرة الذكر يحصل الأنس بالله، وبصفاء الفكر تزداد المعرفة بالله، وعلى قدر المعرفة تكون المحبة، والمحبة هي الغاية التي يُنتهى إليها ويندرج فيها أنواع النعيم والتكريم.
- من حكمة الله لما أراد عمارة الدنيا بهذه الصورة جعل الحجب ساترة لإدراك الحقائق عن جميع الخلق إلا القليل، ولو انكشفت الحجب للجميع لن يتقاتلوا على رئاسة ولا أحد سيرضى أن يصرف عمره في صناعة ولا في زراعة وسيعكفون على بابه، ولابد لهم من مزارع وصانع، فجعل الله الغَبن في الدنيا يظهر في الآخرة، ولهذا سمي يوم التغابن، أي يغبن المؤمنون فيه الكافرين، يُخدع الكافرون بالدنيا وما يؤمنون إلا بها وتنتظم حياة المسلمين، والمؤمنون يكسبون بها سعادة الأبد.
- وبهذا نعلم أن الذي مر عمره منا على ظهر هذه الأرض، إِن سلم من الاغترار بما يعرض له في الحياة من كل هذه العوارض والعلوم والاغترار الذي يوقعه في الشك في الدين فهذا على أي حال خير ممن يموت على الكفر، ولكن إن كان ذلك مع سلامته من الاغترار المؤدي للكفر سلم من الاغترار المؤدي إلى الإهمال والغفلة استخدم هذه العلوم من طب أو هندسة أو كيمياء أو أحياء أو طيران أو غيره ولم تقطعه عن أداء الفرائض واجتناب المحرمات وكان محافظا على الأوصاف المحمودة عند الرب جل جلاله ومؤديا للفرائض تاركا للمحارم فهذا أشرف من الأول، فإن كان أحسن استخدامها وجعلها مجرد وسيلة كانت درجته قريبة من الذين عكفوا على باب الله سبحانه وتعالى وتجردوا لأخذٍ لعلوم الحق والرسول وما جاء به وتعليم الناس لها ووفوا بعهد الله جل جلاله، والأوفياء بعهد الله على درجات من علماء عاملين لا مرائين ولا قاصدين بالعلم غير وجه الله جل جلاله ولا لهم غرض رئاسة ولا سياسة ولا خساسة وهؤلاء هم درجات عند الله في مراتبهم في الإرث للنبوة وارتقاؤهم في مراتب الصديقية من مرتبة إلى مرتبة إلى الذروة عند الصديقية الكبرى، الفوارق بينهم كثيرة وكبيرة جداً وعلى هذا يكون الأحوال في البرازخ وفي يوم القيامة، والداخلون الجنة أكثر أهل الجنة البله وعليون لأولي الألباب من النبيين والصديقين عليهم صلوات الله وتسليماته.
- إدراك النصيب من علم الشريعة والواجبات والذي هو من مسارات الطريق ومراحل الطريق إلى الله تبارك وتعالى يختلف فيه الناس بعد ذلك العثور على إدراك هذه الحقائق مفرقة بين الناس بعضهم في مظهر العلم ومظهر الدعوة وبعضهم في مظهر مهنة وحرفة من الحرف وبعضهم في مظهر وظيفة وبعضهم في مظهر جندية وعسكرية ولكنه صاحب قلب قد عرف الواجبات وتخلى عن الرذائل بكلها وعكف على باب الله وغاص على معاني في الحقائق وفي ظاهره واحد من الجنود فهؤلاء أصفياء الله تعالى مبثوثون في الأمة وهم على هذه الدرجات، قال الإمام الحداد:
فمنهم مقيم في الأنام وإنه
لمستور عنهم تحت أستار غيرة
يراه الورى إلا القليل كغيره
من الغافلين التاركين استقامة
ومنهم رجال يؤثرون سياحة
وسكنى مغارات الجبال وقفرة
ومنهم رجال ظاهرون بأمره
لإرشاد هذا الخلق نهج الطريقة
فهم حجة للمؤمنين بربهم
وفيهم لمرتاد الهدى خير بغية
لمشاهدة الدرس كاملاً