حقائق الإيمان والتوحيد في مسالك المؤمنين ومجالس الذكر والعلم

للاستماع إلى المحاضرة

مذاكرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في كثيب الشيخ أبي بكر بن سالم في منطقة عينات، ليلة الإثنين 23 ربيع الأول 1447هـ بعنوان: 

حقائق الإيمان والتوحيد في مسالك المؤمنين ومجالس الذكر والعلم

نص المحاضرة:

الحمد لله على إمداده بالتوفيق، وتثبيت أقدام من سبقت لهم السوابق على أقوَم طريق، وإلحاق من شاء من العباد بخير فريق. لا إله إلا هو وحده لا شريك له، مُفرِّج كل همّ وضيق. أرسل إلينا عبده المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله بالهدى ودين الحق، وبالنُّصح والتحقيق.

اللهم أدم صلواتك على عبدك المجتبى محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار في دربه من كل مؤمن ووليّ وصِدِّيق، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك سادات أهل محبتك على التحقيق، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 واسلك بنا في سبيلهم وصراطهم، صراط نبيك وصراطك المستقيم، في كل أقوالنا وفي كل أفعالنا وفي كل نيّاتنا وفي كل مقاصدنا، يا رؤوف يا رحيم، يا عليّ يا عظيم، يا منّان يا كريم، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

بركة الأماكن المباركة

فبالفضل والإحسان وواسع الامتنان جمعتنا في هذه الساحة الكريمة والبقعة المباركة، والكثيب الذي عَظُمت بركته وخيراته ببركات من انتمى إليه ومن حلّوا فيه ومن مرّوا فيه. وإن الطريق إذا مرّ بها المؤمن وهو يذكر الله افتخرت، وقالت للطريق الأخرى - كما جاء في الحديث-: "هل مرّ بكِ اليوم رجل يذكر الله؟" أو "أحد يذكر الله؟ فقد مرّ بي رجل يذكر الله"، فتفتخر الطريق بمرور الذاكر فيها.

ولقد كان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يذكر عن المدينة المنورة، وكانت قبل هجرته إليها محلّ وباء ومحلّ وَخَم، مَن جاءها أصابه شيء من الحمّى والمرض، فلما حلّ فيها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تحوّل الحال، وقال في دعائه ﷺ: "اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ، وانقل حمّاها إلى الجُحفة". فانتقلت الحمّى، وصارت بعد ذلك غبار المدينة شفاءً من الجذام.

وصحّ في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه كان يرقي من به مرض وألم وجرح، ويضع ريقه الشريف في إصبعه السبّابة ويضعها على التربة ويرفعها، ويمسح به محلّ الألم والجرح ويقول: "بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفى سقيمنا، بإذن ربنا".

حقيقة الأسباب الظاهرة والباطنة

ليست إلا مجرد أسباب، والذي صدّق أن هناك سبباً في جلب العافية من الله تعالى في إجراء العمليات وتناول الحبوب عند الطبيب، وما عرف سبباً لـ"تربة أرضنا بريقة بعضنا" فهو غافل وجاهل ما أدرك! هذا سبب أعظم؛ لأنه باطني. السبب الباطني أقوى من السبب الظاهر، ولكن المغرور بالماديات والحسّيات ما يعرف المعنويات، ولا يعرف الروحانيات، ولا يعرف الأسباب الباطنات الكبيرات عند الله سبحانه وتعالى.

التي قال عنها خير البريّات عليه الصلاة والسلام: "إنما تُنصَرون وتُرزقون بضعفائكم". فأين السبب الظاهر في هذه؟ نصرة وقت الحرب، ورزق من الله بالضعفاء؟! ماذا سيعملون هولاء الضعفاء ؟ ما يقدرون يزرعون ولا يقدرون يصنعون ولا يقدرون يقاتلون، وكيف نُنصر بهم؟ كيف نُرزق بهم؟ قال: "بدعائهم واستغفارهم، لمكانتهم عند الله تبارك وتعالى".

فهذا السبب المعنوي، يقول ﷺ - وقد جاء إليه بعض الصحابة يقول: إني مُحترف وأجِدّ، وأخي هذا معلّق بالعبادة وجالس أكثر وقته يحضر مجالسك ومعك، وأنا الذي أسعى وأقوم وآتي بالرزق، فالتفت إليه ﷺ وقال: "لعلّك به تُرزق"، الرزق يتيسّر لك بسببه هذا وببركته. عليهم رضوان الله سبحانه وتعالى.

التوحيد الخالص وكيفية التعامل مع الأسباب

وقد أقام لنا الأسباب الظاهرة ووضعها في محلّها، وأقام لنا الأسباب الباطنة ووضعها في محلّها، بعضها أشرف من بعض، ثم نفى عنّا الاعتماد على شيء منها أو الركون إلى شيء منها، وحرّم علينا أن نعتقد استقلالاً في شيء منّا أو منها، وأن الاستقلال بالإيجاد والخلق والرفع والخفض والنفع والضرّ والتقديم والتأخير لواحد هو الله، هو الله وحده جلّ جلاله وتعالى في علاه.

فلا إشكال في أخذ الأسباب الظاهرة، ولا إشكال في أخذ الأسباب الباطنة، والإشكال في أن يعتقد الإنسان استقلال نفسه أو السبب الذي يقوم به دون الله بتقديم أو تأخير أو إحياء أو إماتة أو نفع أو ضرّ، "بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم" جلّ جلاله.

هذا الاستقلال - والعياذ بالله - عقيدة المشركين والكفّار، من يقول لا إله إلا الله ما يعتقد -لا هو ولا غيره- أنه يستطيع أن يستقلّ بنفع أو ضرّ، مهما أقام السبب الظاهر ما يعتقد فيه استقلال، ومهما أقام السبب الباطن ما يعتقد فيه استقلال، ومهما توسَّل إلى الله بوسيلة - سواء كانت الوسيلة صلاة أو صوماً أو صدقة أو ذات وليّ أو كعبة مشرّفة أو مسجداً يأتي يصلّي فيه - مهما كانت الوسيلة، ليس فيها شيء يستقلّ بنفع ولا ضرّ ولا تقديم ولا تأخير ولا رفع ولا خفض ولا إحياء ولا إماتة، ولكن هي وسائل أقامها الله وأسباب أقامها الله تبارك وتعالى.

تعظيم شعائر الله

ولمّا أقام وسيلة الكعبة المشرّفة وقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ ما معنى مباركا؟ معنى مباركاً لا تعظّمه؟ معناه مباركاً ما تحبّه! ما معنى مباركاً؟ ليس سبباً للخير؟!  أعوذ بالله!

ما معنى مباركاً، معناه: معظّم مشرّف، سبب للخيرات والمغفرات والبركات والعتق من النار، بواسطة استقباله، وبواسطة حجّه والاعتمار والطواف به، وبواسطة الصلاة إليه، وبواسطة تقبيل الحجر الأسود، وبواسطة استلام الركن اليماني.

والحجر الأسود حجر، والركن اليماني حجر، ولكنه حجر مشرّف ومعظّم، لا يستقلّ بنفع ولا ضرّ، ولكن من اعتقد إهانته أو حقارته خذله الله وغضب عليه، بل لا تكون تقوى لله في القلب إلا بتعظيم هذه الشعائر. ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.

وشعيرة الكعبة من أعظم شعائر الله، الصفا والمروة من الشعائر، الصفا والمروة ماهي ؟ حتى ما هي مَلَك ولا إنسان، جماد! جبل!، ولكن لمّا جُعلت علامة على الدين صارت من الشعائر. وما معنى من الشعائر؟ تحتقرها؟! تهينها؟! إن احتقرتها وأهنتها أهانك الله وخرجت من عينه وتعرّضت لغضبه.. إذا المعنى تعظّمها: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ﴾، ﴿وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.

حقيقة التوحيد عند الصحابة

وهكذا جاءت كل هذه المعاني الشريفة فيما أنزل الله من كتب، وفيما بلّغ المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم، وعلى حقائق الإيمان وعلى حقائق التوحيد، لا ريب ولا شكّ في توحيد أهل القبلة من الذين شعارهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يكرّرونها بعد الصلوات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له إلهاً واحداً وربّاً شاهداً ونحن له مسلمون". يكرّرونها في أذكارهم، في رواتبهم، في حضراتهم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير" جلّ جلاله، إلى غير ذلك…

ما قدر الشيطان أن يُدخِل إلى قلوبهم اعتقاد أن شيئاً من الكائنات من العرش إلى الفرش يستقلّ بنفع ولا ضرّ ولا تقريب ولا إبعاد ولا إشقاء ولا إسعاد ولا رفع ولا خفض ولا إحياء ولا إماتة، ماشيء منها يستقلّ بهذا.

ولكن لا والله! ليس ما أحبّ الله كما لا يحِبّ، وليس ما عظّم الله كما حقّر، أبداً! وليس مَن والى الله كمن عاداه، ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

وبذلك رأينا الصحابة مُلتفّين حول السيّد، أهل التوحيد وسيّد أهل حقيقة التوحيد، يتبرّكون حتى بنخامته الشريفة، ولو وقعت في يد أحدهم - صحّ عندنا في الأحاديث - دلك بها وجهه وما استطاع من جسده، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه. فهل يحتاجون أحدًا يعلّمهم التوحيد والنبيّ بين أيديهم؟! إذا لم يكن هو معلّمهم التوحيد، من سيعلّمنا التوحيد؟ من سيعلّمنا التوحيد؟ من سيعلّمنا الإيمان؟

كادوا أن يقتتلوا على وَضوئه -الماء الذي خرج من أعضائه الشريفة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- لماذا تتسابقون إليه؟! حتى روى لنا الإمام البخاري يقول عن بعض الصحابة: "فرأيتُ من لم يُصِب منهم شيئاً - أي من ماء وَضوئه- أخذ من بَلَل  صاحبه فتمسّح به".

أهؤلاء ليسوا موحّدين؟! أستغفر الله العظيم!، لا موحّد إذا كان هؤلاء ليسوا موحّدين! أهل حقيقة التوحيد هم، وسادة أهل التوحيد هم رضي الله عنهم، لكن الغشّ والغلّ والخبط في المسائل، واللعب على المسلمين لضرب  بعضهم البعض بأفكار هابطة، وبجراءة على قلب المعاني وإخراجها عن وجهها.

التوسّل والاستسقاء

وعلى ذلك مضى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وأممهم، وما كانوا يستسقون به من أنبيائهم ومن أوليائهم، بل وما كان حتى من سَببيّة في رحمة الله بالاستسقاء لواحد من غير المعروفين بينهم، وأحياناً لحيوان من الحيوانات.

قصة النملة مع سيدنا سليمان

جاء عن سيدنا سليمان أنه خرج للاستسقاء بقومه -وقد كانوا محتاجين إلى المطر وعندهم قحط- وشاهد نملة استلقت على ظهرها ورفعت قوائمها نحو السماء، وسمعها تقول: "يا ربّ، إنّا عبيد من عبيدك، خَلْق من خلقك، لا تُهلكنا بذنوب بني آدم، أنزل علينا الغيث".

 سمعها وسمع كلامها وعرف أن الله تقبّل منها، وقف أمام القوم وقال: "ارجعوا، سُقيتم بغيركم". وليس  باستسقائنا نحن، النملة هذه سقانا الله بها! وسقاهم الله بدعاء النملة.

قصة بَرخ مع سيدنا موسى

وجاء عن سيدنا موسى عليه السلام أنه استسقى بقومه أول مرة ولم يُسقوا، وثاني مرة ولم يُسقوا. قال: يا ربّ، استسقيناك أولاً وثانياً، فقال: "لا أسقيكم هذه المرة حتى يدعوني "بَرخ". مَن "بَرخ"؟ قال: "واحد من أمّتك، من جماعتك -غير مشهور فيهم- قل له يدعوني وأنا أستجيب لكم وأسقيكم".

وجاء سيدنا موسى ليقول لجماعته: أتعرفون بَرخ؟ -ما يعرفه إلا القليل-، قال: ابحثوا عنه وائتوني به، واستمع الخبر سيدنا بَرخ، وجاء إلى سيدنا موسى، قال: "كليم الله، أأنتَ تبحث عن بَرخ؟ قال: "نعم". قال: أنا بَرخ. قال: أنت بَرخ؟ قال: نعم، لماذا تريدني؟ قال: إنّا استسقينا ربّنا وأبطأ الغيث علينا، فسألت ربّي، قال: لا أسقيكم هذه المرة حتى يدعوكم "بَرخ". قال: هو قال لك هذا؟ قال: نعم. 

 رفع رأسه نحو السماء و قال: ربّي، تريد أن ترينا قوّتك نعرف أنك قوي، تريد أن ترينا قُدرتك نعرف أنك قادر، لماذا تأخّر الغيث على عبادك، وهم محتاجون؟

سيدنا موسى رأى هذا الكلام، وأراد أن يغضب عليه؛ فأوحى الله إليه:  "إنه محبوب لديّ، وإنه يُضحك الملائكة كل يوم مرّتين". وسقاهم الله الغيث، سبب من الأسباب والساقي هو الله.

حقائق النصر من الله 

قال الله لزين الوجود في قتاله وقيامه بالحرب ومعه صحابته الكرام الصادقون المخلصون، قال بالنسبة له وهو المقدّم والأصل: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ﴾ وقال عن أصحابه: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾  هذا شأن أصحابه، وأما هو فعلى يده تمّ النصر. قُتل كثير بواسطة الصحابة ومعهم الملائكة، ولكن كمال النصر كان على يده ﷺ. ولهذا لم يثبت الله لهم فعلاً، ولكنه اكتفى بنفي فعلهم بقوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾  ولمّا جاء عند حبيبه أثبت: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾، أي في حال رميك ذاك لم تكن مستقلاً، وكنت تحت عنايتنا ورعايتنا، فنحن الذين رمينا بواسطة يدك عيون الكفّار هؤلاء، حتى أوصلنا الحصباء من كفّك إلى عين كل واحد منهم.

تسعمائة وخمسون، يصل إلى أعينهم، كيف يصل هذا؟! حتى لو جاء أرباب التقدم بأجهزتهم هذه توزّعها على العيون، صعب توزّعها! فتوزّعت على العيون، وجعل كل واحد منهم يحكّ عينيه، وهُزموا في تلك الساعة.﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبلِيَ المُؤمِنينَ مِنهُ بَلاءً حَسَنًا﴾. في هذه الوسائل.

مقاصد المجالس والاجتماعات

إذا علمنا ذلك، فإن مقاصد اجتماعاتنا هذه وزياراتنا هذه أن يقوى إيماننا ويقوى توحيدنا ويقوى صدقنا مع ربّنا، وتتطهّر قلوبنا وننصرف بفوائد المجالس.

ما فوائدها؟ فوائدها: قوّة الصلة بالربّ، والاستقامة على ما أحبّ، لا تصرف عينك فيما لا يحبّ، ولا أذنك فيما لا يحبّ، ولا فرجك ولا بطنك ولا يدك ولا لسانك ولا رجلك، مخلوقات له، لا تعصِه بها، ولا تخالف منهج نبيّه ﷺ.

وهذا سِرّ قوله في مجالس الذكر: "قوموا مغفوراً لكم، قد بُدّلت سيّئاتكم حسنات". هكذا أخبرنا ﷺ عن فضل مجالس الذكر هذه، فإذا تمّ ذلك؛ فالذي بُدّلت سيّئاته حسنات يكره السيّئات ويعشق الحسنات. 

ويبقى مشمئزّاً من كل سيّئة: يشمئزّ من قطيعة الرحم، يشمئزّ من عقوق الوالدين، يشمئزّ من قول الحرام، من سبّ أو غيبة أو نميمة أو كذب أو خيانة، يشمئزّ من إيذاء الجار، يشمئزّ من الخيانة لمسلم، من الغشّ لصغير أوكبير، ويبتعد عن المعاصي والذنوب، هذه فوائد المجالس المباركة ونيل المغفرة منها.

ارتباط المجالس بالنور المحمدي 

فهي مجالس قامت على اتّباع للنور  والشعاع، النور المبين الآتي مِن ربّ العالمين، الذي قال عنه الحقّ في كتابه المبين: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾، فكان النور : محمد، والكتاب المبين: القرآن الكريم.

وهذا نور محمد والقرآن الذي نزل عليه، كان مستودعهما قلوب السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، والذين ورثوا زين الوجود، وخلفاء زين الوجود نوره فيهم ونور القرآن فيهم، وهم الذين يهدون بأمر الله تبارك وتعالى إلى الصراط المستقيم ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ 

وقال في الآية الأخرى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾، عليهم صلوات الله والرضوان.

الشيخ أبو بكر بن سالم  من خواص أهل الوراثة 

وأنتم في حضرة بدر من بدورهم الكبيرة، ورِث الحضرة النبوية بالمعاني الواسعة الكبيرة في العلوم والمعارف والفهوم والأذواق والأخلاق والوجهات والصدق والإنابة والورع والخشية والحضور مع الله، والسوابق من الله الخالق جلّ جلاله، أبرزت فخر العوالم الشيخ أبابكر بن سالم، فرد من ذرّيته، من خواصّ أهل خلافته، من خواصّ أهل وراثته ﷺ، من خواصّ أهل الجمعيّة عليه والاجتماع به على الربّ جلّ جلاله وتعالى في علاه.

ولذا، مِن أيام شبابه يحلف في كتابه الذي تقرؤونه "مفتاح السرائر وكنز الذخائر"، يقول: والله - يمين بالله - : ما نظرت عيني شيئاً إلا شهدتُ الله قبله أو معه أو بعده. ما تقع عيني على أرض ولا سماء ولا إنسان ولا صغير ولا كبير  إلا وأشهد ربّي معاه.

ليس  في  العبادة فقط، بل دائم وقته! "أن تعبد الله كأنك تراه"، هذا الإحسان. هولاء إحسانهم دائم في صلاة وفي غير صلاة، كأنّهم يرونه جلّ جلاله ويشهدونه في الكائنات. 

وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الواحدُ .

يقول ﷺ: "أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل". وخرجوا من الباطل للحقّ، فكانوا مع الله جلّ جلاله.

عدم استواء أهل القرب والبعد من الله

فالحمد لله جمعنا وإيّاكم في خواتيم هذا الشهر، شهر ميلاد نبيّنا، ونبيّنا أكرم الخلق على إلهنا وأحبّهم إليه، والشفاعة من عنده سبحانه وتعالى ما تكون إلا بإذنه، لكن ما تكون للعاصين، ما تكون للكافرين، ما تكون للغافلين، ما تكون إلا للنبيّين وللصدّيقين وللعلماء العاملين، وللشهداء في سبيل الله المخلصين لوجه الله؛ هؤلاء الذين يشفعون عند الله.

فما هم مثل غيرهم، الكلّ لا يملك من دون الله شيئاً، نعم، ولكن ليس هذا مثل هذا. ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ﴾

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾

﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾

لا والله! لا هؤلاء يساوون هؤلاء، ولا يشبهون هؤلاء، ولا يقربون من هؤلاء، قال سبحانه وتعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾

وإذا كان أردنا قرباً من الله تبارك وتعالى، فليس بخدمة الكفّار ولا بتصديقهم ولا الفاسدين، نبحث عن الأنبياء، نبحث عن الأولياء، نبحث عن الصالحين، نبحث عن المؤمنين الأتقياء؛ فبولائهم يرضى الله، وبمحبّتهم يحبّنا الله. يقول: "ما تحابّ اثنان في الله إلا كان أحبّهما إلى الله أشدّهما حبّاً لصاحبه"، وبذلك تحابّوا في الله تبارك وتعالى.

وقامت حقيقة الولاء كما شرعها القرآن: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ ما يتساوون مع العصاة، ما يتساوون مع الكفّار.

حقائق في التوكّل على الله

اغترّوا بالأسباب الظاهرة واعتمدوا الآن حتى في قوّاتهم وحتى في سياساتهم وحتى في شؤون اقتصادهم على الكفّار، وما هي إلا أسباب ظاهرة يختبر الله بها، ولو رجعوا إلى الأسباب الباطنة لوجدوا أنها أعظم وأجلّ، قال جلّ جلاله: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾

قصة الرجل الصالح والإمام

ولمّا جاء بعض الصالحين إلى بعض المدن، وصار يُصلّي في المسجد ويلازم الاعتكاف في المسجد ويقوم بأعمال الخير، قال له مرّة إمام المسجد بعد مدّة: "أنت جالس هنا ما نرى لك عملا تعمله ولا شيء، من أين تأكل؟ وكيف تنفق على نفسك؟" قال له: قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾

قال : كلام صحيح، لكن لا بدّ من سبب، لا بدّ من عمل!

قال: هناك رجل يهودي -عنده محلٌّ قريب من عندك- أتعرفه ؟ قال: نعم. فقال: تكفّل لي بإعطائي رغيفين من الخبز كل يوم".

قال : إذا اتضح الأمر الآن.

قال: "يا عدوّ نفسه! قلت لك ربّي قال: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ فلم ترضَ الكلام ولا اطمأنّيت له! ، وذكرتُ لك كفالة اليهودي فاطمأنيت! هذا اليهودي يمكن أن يغيّر رأيه الآن، يمكن أن يموت الآن يمكن أن يمرض الآن! ربّي لن  يموت ولن يمرض ولن يغيّر رأيه!

إذا الآن سأذهب لأقضي الصلوات التي صلّيتها خلفك! أنت كفالة اليهودي عندك أعظم من كفالة الله؟! وكيف تصلي بنا؟! تؤمّنا في المحراب وتتقدّم وقلبك هكذا؟! ذكرت لك كفالة الله ما اطمأنّيت! ، قلت لك: يهودي اطمأنّيت!

اليهودي! تلك الساعة يمكن أن يمرض، تلك الساعة يمكن أن يموت، تلك الساعة يمكن أن يغيّر  رأيه ولا يعطينا شيء!

لكن ربّي قال لي: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾

والله قادر، لا يعجز ولا يمرض ولا يموت، ولا يتغيّر شيء في ملكه إلا بأمره جلّ جلاله وتعالى في علاه.

توجيه التعامل مع الأسباب الظاهرة 

فما أعظم الثقة بالله! وما أعظم الاعتماد على الله! والأسباب الباطنة أقوى من الأسباب الظاهرة، والأسباب الباطنة والظاهرة ليس فيها شيء يستقلّ بذاته من دون الله ومن دون أمر الله ولكن بسبب. 

حتى إلى الأسباب الظاهرة، علّم الله بعض الأنبياء - وهم أنبياء في قمّة اليقين والتوحيد - ومع ذلك مرض بعض الأنبياء، فوصفوا له دواءً معروفًا  لهذا المرض، فتركه، فأوحى الله إليه: "لا أشفيك حتى تستعمل هذا، أنا الذي خلقت هذا وجعلت فيه العلاج، لماذا تنفر منه؟! استعمله! وأنا الذي أشفي، لا العلاج يشفيك ولا غيره، لكن أنا جعلته سبباً" سبحانه وتعالى.

رسول الله السبب الأعظم لقضاء الحوائح

ولذا وجدنا الصحابة يمرضون يأتون إلى النبي، يصيبهم كرب يأتون إلى النبي، يقعون في شدّة يأتون إليه، بل الربّ أرشدهم، قال: "حتى إذا عصيتم وأذنبتم وأردتم مغفرتي؛ اذهبوا إلى هذا النبي: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ 

يأتي الغافل والجاهل الذي لا يعرف نصوص الكتاب والسنّة ويقول: "الله ما يحتاج إلى واسطة من أحد"، نقول: صحيح، ولا يحتاج إلى عبادة، فهل ستترك العبادة ؟!  ولا يحتاج إلى إيمان، هل ستكفر؟!  -هو لا يحتاج لإيمانك!- !

أنا المحتاج يا أبله! أنا، أنا، أنا محتاج! أنا محتاج إلى الله، ومحتاج وسيلة إلى الله، ومحتاج أتقرّب إليه بما يحبّ، وأتوسّل إليه بما يحبّ، أنا المحتاج، أحد قال لك ربّي يحتاج؟!

ولماذا قال له:  جاؤوك؟ إذ لو لم تكن حاجة لك فليستغفروا الله فحسب!  وفوق ذلك حتى إذا جاؤوك واستغفروا الله، أنت استغفر لهم! أنت كلامك ليس مثل كلامهم، أنت مكانك ليس مثل مكانهم ﴿فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ 

ولذا وجدنا الإمام ابن كثير في تفسيره، والإمام النووي في كتاب المناسك، وكثير من المفسّرين من قبلهم ومن بعدهم، يذكرون عند الآية هذه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ﴾  قصّة العُتبي - أحد الصالحين - وكان يزور النبي ﷺ كثيراً ويعتكف في الروضة ويجلس عند الحجرة الشريفة.

قال: بينما أنا جالس يوماً إذ جاء أعرابي، ودخل - تركت ناقته جانب المسجد - ثم صلّى وجاء عند قبر النبي، ووقف عند القبر، ثم سلّم على النبي وصاحبيه وآله، ثم قال: اللهم إنك قلت:﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ 

 يا رسول الله، سمعت قول الله فجئتك، وأنا أستغفر، فاستغفر لي يا رسول الله. ومشى.

قال: فأخذتني سِنَة، فرأيت الحبيب ﷺ مقبلا عليَّ، قال: 'قم يا عُتبي، فالحق الأعرابي فبشّره أن الله غفر له، قم فالحقه، فبشِّره أن الله غفر له".

يذكرون هذه القصّة لأنهم يعلمون  أن محمداً وسيلة كبيرة، وسيلة عظيمة، ليس في الدنيا فحسب، دنيا وبرزخ وآخرة عند الهول الأكبر الشديد، الذي لا يستطيع أن يتوسّل فيه إلى الله مَلَك ولا نبيّ، يقول: "أنا لها". محمد عظيم الوجاهة عند الربّ، صلى الله وسلم وبارك عليه وآله وصحبه.

الخاتمة والدعاء

رزقنا الله محبّته والإيمان به والاستقامة على منهاجه، إنه أكرم الأكرمين، ويجعلها من أبرك الليالي علينا وعليكم إن شاء الله.

خاتمة الشهر تكون حسنة لصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وأحيائنا وموتانا، وعناية تشمل أولادنا كلّهم، وأهلينا كلّهم، وذرارينا كلّهم، لا يغفل منهم غافل، ولا يسقط في المعصية عاصٍ، ويستقيمون على منهج الله، ويرتبطون بأهل الله والصالحين من عباد الله، يوالون الله ورسوله والذين آمنوا ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾

اللهم نظرة في مجمعنا هذا، تشمل من في المجمع ومن يسمع ومن تعلّق، وآهاليهم وأهل ديارهم، تصلح بها الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والقلب والقالب، والروح والجسد، وثبِّتنا على قدم النبي محمد.

مؤمنين يزداد إيماننا، موقنين يزداد يقيننا، صادقين يزداد صدقنا، معك في كل نَفَس، محبّين تزداد محبّتنا لك ولرسولك في كل لمحة ونَفَس. مبارك لنا في أعمارنا، مبارك لنا في أحوالنا.

وأمتعنا بمشايخنا وشِيباننا وعلمائنا ورجالنا، وأمدّهم بواسع المدد، وزدهم من فضلك، واشمل بالخير صغيرنا وكبيرنا برحمتك يا رحيم.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

23 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

15 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية