للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في جامع آل البيت، في مدينة صلالة، سلطنة عمان، ليلة الثلاثاء 10 ربيع الأول 1447هـ بعنوان:

ثقافة ميزان النعم

لتحميل المحاضرة مكتوبة pdf: (اضغط هنا) 

تضمنت المحاضرة:

  • - بيان أصل الإنسان من العدم، وحقيقة الوجود والمصير
  • - استعراض أطوار الخلق والنشأة، دلالة على حتمية الرجوع إلى الله
  • - تمييز النعم الزائلة عن النعم الباقية وأعظمها الإسلام
  • - ذكر مصائر الطغاة كفرعون والنمرود وقارون وهامان
  • - تأكيد أن الإيمان يتم بالاتباع للنبي ﷺ
  • - التذكير بأن بعثة النبي ﷺ هي أعظم منّة على الأمة، وبها شرفها وخيريتها على سائر الأمم
  • - الدعوة إلى الفرح بذكر النبي ﷺ والاحتفال بمولده وهديه..

نص المحاضرة مكتوب:

الحمد لله الملك الحيّ القيوم، الإله الكريم، الحمد لله الخالق البارئ الفاطر المُبدئ المنشئ البديع السميع البصير، له الملك وله الحمد، بيده الخير  وهو على كلّ شيء قدير، نشهد أنّه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خلق كل شيء فوصْف كلّ شيء خُلِقَ  العدَمُ الذي لم يكن به شيء.

ومِن رؤوس الأشياء الموجودة على ظهر الأرض هذا الإنسان، ولأجل أن يُدرك حقيقةً لا يتعدّى بها حدوده، ولا يخرج بها عن دائرة ما يتّصِل و يتوافق مع ما أُوتي من عقلٍ وسمعٍ وبصر وقوى وإدراك، قال الإله الملك الخلّاق: بسم الله الرحمن الرحيم: (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُوراً).

بعقولهم وما نتج عن العقول، وبأفكارهم وأنظمتهم واجتهاداتهم وحركتهم في الحياة، لم يكونوا شيئاً أصلاً ، الأصل العدم، ( لَمْ يَكُن شَيْئًا مَذْكُوراً ) ومن كان أصله كذلك فعليه أن يعرف قدر نفسه ويعلمُ  بعد العدم الذي وُجِد، فماذا بعد هذا الوجود ؟ وهل حكم مُوجِدهُ بإبقاءٍ له أو بعدمٍ له؟

حقيقة الحياة والمصير

أو جعل الخالق الذي خلق حُكمه على إخراج الأرواح من الأجساد كما أدخلها، وعلى فناء عامّة الأجساد إلاّ ما استثناها، وعلى إبقاء الروح إلى الأبد، وحَكَم كما أوجد الحياة الأولى أنه يُوجد الحياة الأخرى، اتّسمت الأولى بالفناء، فجعل لوصف الأخرى البقاء، اتّسمت الأولى بالزوال والانتهاء، وجعل وصف الآخرة الدوام وعدم الانقضاء، حين ينادي المنادي بأمره: "يا أهل الجنة خلوداً فلا موت، يا أهل النار خلوداً فلا موت"، هذه الساعة آتية لا ريب فيها، والمنادي سوف يُسمِع كلّ مُكلّف، سواءً كان في دار الجنة أو في دار النار، يسمعه الجميع، طوائف من آمن وأطاع الإله المهيمن، وطوائف من كفر وعصى، الكل ستأتيه هذه الساعة وسيسمعها شاؤوا أم أبوا،

كما خُلقوا بغير مشيئتهم، ويموتون بغير مشيئتهم، والسماء مرفوعة فوقهم لا بمشيئة أفراد منهم ولا هيئات ولا جماعات ولا شعوب ولا دول، والسماء مبسوطة، والأرض مبسوطة من تحت أرجلهم، لا بفكر أحد منهم ولا بعمل أحد ولا بمشيئة ولا باختيار أفراد ولا هيئات ولا شعوب ولا دول.

وسيُحشرون بلا اختيار أحد منهم، بلا مشاورة أحد منهم، لا فرق بين من صدّق ومن لم يُصدّق في وقوع الأمر، الأمر واقع وسيرجع الكل إليه: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).

أطوار الخلق والنشأة

ثم بعد ذلكم حَكَم بالدوام والأبد والخلود، بعد إعادة الأجسام وتركيب الأرواح فيها مرة أخرى، ولكن على نشأة لائقةٍ بالجنة ودوامها أو النار ودوامها والعياذ بالله تعالى.

كما أنَّ نشأتنا الأولى كانت كذلك، من نُطفة إلى عَلقة إلى مُضغة إلى عظام، إلى عظام مكسوّة باللحم، هذه أطوار مختلف بعضها عن بعض، فرق بين النطفة والعلقة، فرق بين العلقة والمضغة، متفاوتة لكنّه رتّبها هكذا فكانت متتابعة، ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) بنفخ الروح، ثم خرج إلى عالم غير عالم البطن، أمر غريب !  وهو في طور طفولته في حال مختلف كثير الاختلاف عن طور الشباب، ويأتي إلى طور الكهولة والشيخوخة، بلا مشاورة أحد، بلا رضاء أحد، بِحُكم الواحد الأحد، فكلهم يمرّون بهذه المراحل إن أبقى أحداً منهم في الدنيا: (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) والمصير واحد الرجوع إليه جلّ جلاله.

هذه الحقائق الإيمانية، ابتدأنا الكلام بها لنُرَتِّب عليها شؤوننا في خلال هذه الحياة القاصرة، من حيث المعرفة، من حيث الإدراك، من حيث الثقافة، من حيث العلم.

النعم الحقيقية في الحياة

ماذا نُعِدّ من نِعم الله تعالى علينا في خلال هذه الحياة ؟ وما الذي نكسبه ؟ وما الذي نتحصّل عليه ونستفيده ونتزوّد به وندّخره ويعظُم شأنه وقدره؟ ما ثقافتنا عن النّعم؟ وما حقائق النعم التي لم يخلُ عنها بحكم الكرم من الموجد صغير ولا كبير، مؤمن ولا كافر ؟ ولكنّ النّعم متفاوتة ومتباينة في قدرها وحجمها وأثرها وفي بقائها وفي استمرارها وفي نتائجها، خصوصاً بعد مرور العمر هذا، المدّة التي أُوتيتْ للفرد أن يبقى على ظهر الأرض بعد انقضائها، ما يبقى من النعم؟ ماذا يكون زاداً وكسباً وشرفاً ورفعةً ونعمةً من بعد الغرغرة؟ ما هي النعم التي تدوم؟ ما هي النعم التي تبقى؟

أمرٌ غائب عن أذهان أكثر الناس غفلة منهم، وإن كانوا يردّدون أحيانًا على الألسن ويمرّ على الأسماع: نعمة الإسلام أعلى نعمة حلّت بساحة، الحمد لله على نعمة الإسلام وما كفى بها من نعمة.

 

نعمة الإسلام والإيمان

فهل وَعَيْتَ هذا القول وأدركت دلالاته؟ وهل ذُقت معناه؟ وهل امتلأت شعوراً بحقيقته؟ أنت المخلوق، الشرف والنعمة الكبرى عليك هي نفس الشرف والنعمة الكبرى لحملة العرش، هو نفس الشرف والنعمة الكبرى لمن حول العرش، هو نفس النعمة الكبرى والشرف لأهل سدرة المنتهى ولأهل البيت المعمور.

والله ما لهم من شرف ولا كرامة، غير معرفتهم بهذا الإله، وإيمانهم به، وقربهم من حضرته، وقوة اتصالهم به جلّ جلاله. (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ).

وهو الشرف للأنبياء، وهو الشرف للصدّيقين، وهو الشرف لكل شريف، وهو الذي إذا فُقِد فكل ما يُسمّى بشرف، كل ما يُسمّى بكرامة، كل ما يُسمّى بالنعمة تتحوّل من حقيقة إلى مجاز (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ). (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).

 

مصير فرعون والنمرود

ما مقدار ما حصّل من شرف أو كرامة فرعون الذي قال: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)، وقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)، وقال بعد ذلك: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي)؟

ماذا كسب؟ ماذا حصّل من حقيقة سعادة أو شرف أو كرامة؟ من ساعة ان غرق إلى الآن، وهو يُعرض على النار كل صباح ومساء، والعرض الأكبر أمامه، ودخول السعير أمامه أي شيء حصّل؟ وصاحبه قارون وصاحبه هامان، ماذا حصّلوا ؟ ماذا كسبوا ؟

ومن قبلهم النمرود الذي قال في تصوّرات الإنسان إذا لم تقم على ميزان صحيح من الوعي والعرفان: ( أنا أُحيي وأُميت)، وأوقفه بعقله وما بقي عنده من إمكانية إدراك الخليل إبراهيم، فقال له عن آية ظاهرة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) وانقطعت حُجّته، ومع ذلك في طغيانه وأراد ما أراد، وأراد تحريق إبراهيم وأشعل النار الموقدة وجمّع لها موادّ الإشعال القويّة، حتى رُمي فيها من بعيد، لم يستطيعوا الدنوّ بأنفسهم من شِدّة لهبها وكهرها، فمن بعيد رموه بواسطة المنجنيق، كلما قربوا وقشبهم اللهب، خافوا أنّ رميتهم له لا توصله إلى داخلها، فجاء الشيطان بفكرة المنجنيق ووضعوه فيه وقذفوا به إلى وسط النار.

وأراد الله أن يُهلك هذا الخبيث، أما النار والكيد الكبير ذهب هباء: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ).

 وأما هلاكه، لا نار ولا حطب ولا مواد مشتعلة، حشرة صغيرة مثل هذه، تدخل أنفه ولعاد تخرج، وتأكل في الداخل ومخّه، ويرمي بنفسه يمنة ويسرة ويقوم ويقعد إلى أن مات، ماذا كسب؟ ماذا حصّل؟

(وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا).

موقعنا من التاريخ

ما نكون نحن وشعوب العالم ودولها أمام هذا التاريخ الكبير؟ من نحن؟ ذرّات صغيرة تنقضي حياتها القصيرة والمصير هو المصير، والحكم للعليّ الكبير، ماذا نكسب من الحياة؟ أيّ النعم أعظم علينا؟ أيّ المنن أكبر لدينا؟ ما الذي نستطيع أن نرقى به في مراقي السعادة الحقيقية الكبرى؟

ثقافة إدراك النعم ووزنها غاب عن الأمة، كان أوائلها تمتلئ قلوبهم إذا ذكروا الله، تمتلئ قلوبهم إذا ذكروا محمد بن عبد الله، يهتزّون إذا ذكروا الآخرة، لأن إدراكهم لنعمة الإيمان والإسلام ما كانت مجرّد حركة لسان ولا مرور على الآذان، كانت وجداناً وذوقاً وإحساساً عميقاً في بواطنهم، كانت صِلَتهم بالله قوية، وصلتهم بمحمد  متينة، لذا يهزّهم ذكر الله وذكر رسوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا).

قصة هرقل والصحابة

ولما كان هرقل معه في خزانته ما توارثه عمّن قبل، من صور الأنبياء صلوات الله عليهم، كما جاء ذلك في عدد من روايات أهل السيرة والحديث، والإمام ابن كثير وغيره وجاء بسند حَسَن، أن جماعة من الصحابة لما قابلوا هرقل وسألهم عن محمد  وما جاء به وعن دعوتهم إيّاه إلى الله، وجاء بصندوقه الكبير وأخرج الخزانة وأظهر لهم صورة.

قال: "تعرفون هذا؟" قالوا: "لا". قال لهم: "هذه صورة نوح". وجاء بالثانية: "تعرفون هذه؟" قالوا: "لا". قال: "صورة إبراهيم، وهذه صورة إسماعيل". وأخرج لهم صورة بعد صورة، ثم أخرج صورة، فلما بدت على عيونهم ضجّوا.

وقال: "ما لكم؟" قالوا: "هذه صورة نبيّنا!" ما ملك الصحابة عندما وقعت أعينهم عندما وقعت عيونهم على هذا الرسم والتمثال للمصطفى ﷺ إلا أن ضجّوا واهتزّوا وبكوا.

قال: "أمَا إن هذه صورة محمد عندنا، ولم يكن هو إلا آخر الأدراج لأنه خاتم النبيين، لكن قدّمته لأرى ما عندكم". ردّه إلى مكانه وعلم أن ما جاء به هو الحق، وكان ما كان من إيثاره الفانية وعدم دخوله واستسلامه لهذا الدين ولهذا الإسلام.

كان يذكره أبو بكر على المنبر فينتحب، ويقف في الخطبة الواحدة ثلاث مرات، كانت ثقافتهم لإدراك نعمة الإسلام كبيرة، حقيقية ذوقية وجدانية عميقة.

الاحتفال بالنبي ﷺ

هذه النعم التي نحن في الإمساك بحبل منها من خلال هذه الاحتفالات، من خلال هذه اللقاءات، من خلال هذه التذكيرات، هذه مُتّصلة بسرّ الإيمان والإيقان بوجود الرحمن، واليقين على المصير إليه والرجوع إليه من غير شكٍ ولا ريب (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).

فوجب أن يمتلئ المؤمنون، وأن يُوحوا إلى غيرهم بأن أعلى النِعَمِ في هذه الحياة أن نُدرك عظمة إلهنا، ونُدرك أن لنا خالقاً، ونستشعر عظمته فيمتلئ بها، فنؤمن به الإيمان القويّ، مترقّين إلى عِلمِ اليقين وعين اليقين إلى حقّ اليقين لمن سبقت له سابقة السعادة.

أيها العباد، في الاحتفال بذكرى السراج المنير، والبشير النذير، إنما هو بين المنن والمواهب والنّعم، الدُرّة المخصوصة، والجوهرة الغالية، إنما هو الحبْل المتين والعروة الوثقى في الاتصال بهذا الإله والإيمان به، وفي حمل أمانة البلاغ عنه وهداية الخلق إليه.

 

حقيقة الإيمان بالاتباع

عبّر عن ذلك ما سمعتم في كلام أحبابنا، وقال في حديثه في بيان حقيقة أن الإيمان والإسلام لا تتحقّق حقائقه إلا بوجدان وذوق وتبعيّة، وأن هذه التبعيّة من حين بعثته قامت به واجتمعت فيه، فقال لسيدنا عمر وقد أخذ لوحًا من التوراة - والتوراة قد تعرّضت للتبديل، ونحن في إيماننا بالله نؤمن بجميع التوراة من أول حرف نزل على سيدنا موسى إلى آخر حرف، لا نشكّ أن حرفاً واحداً حقّ وصدق من الله، حُرِّفت وبُدّلت وتُصُرِّف فيها - فلما رآه وأمسك من بعض اليهود هذه الورقة قال له: "يا عمر، ألم آتكم بالقرآن فيه كفايتكم؟ لو كان موسى بن عمران حيّاً ما وسِعَهُ إلا اتّباعي". قال الذي أُنزلت عليه التوراة: "لو كان موجوداً في الحياة ما يجد طريقاً إلى الله إلا من خلال سُنّتي، إلا من خلال الاقتداء بي، إلا من خلال هديي، فما هناك بابٌ يُمكن الوصول به إلى رضوان الله ولا محبّته ولا قربه من غير محمد". يا ربّ صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه.

 

 نعمة الإسلام وارتباطها بالمحبة

علينا أن نُقيم ميزان النعم ونستشعر ما أعظم النعم لدينا، والنعمة العظمى التي هي نعمة الإسلام والإيمان مرتبطة ارتباطاً كليّاً قويّاً تامّاً عميقاً بالصِّلَة بالله وبرسوله، وتعظيم الله ورسوله، ومحبة الله ورسوله، والثناء على الله ورسوله، والإقبال على الله ورسوله. إن قويَ الإيمان قويت ، وإن ضعف ضعفت، بلا استثناء، بلا استثناء! ضروريّاً، لا يقوى إيمان إلا قَوِيَتْ الرابطة بالله وبالرسول محمد،  لا يقوى إيمان إلا قَوِيَتْ المحبة للإله وللرسول محمد ، حتى يكون في تحقُّق استكمال الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبّ إلى قلب المؤمن ممّا سواهما.

وهل عرفت ما سواهما؟ كل شيء: نفسك وأهلك وولدك ودنياك وآخرتك، كل شيء. هم أحبّ، أحبّ من كل شيء، ومن الجنة وفردوسها، ومن كل شيء، الله ورسوله أحبّ، هذا مقتضى الإيمان.

وهل الفردوس إلا لأهل المحبة؟ وهل الفردوس وما فيه إلا لهؤلاء الأحبّة؟ وعلى قدر محبّتهم يرتقون في مراقي الفردوس، لأن المحبة ميزان الإسلام والإيمان والإحسان، بل وميزان العرفان الخاصّ. المحبة لله ولرسوله، هذه النعمة القويمة القوية التي لا يعوّض عنها شيء، لا وجاهات ولا أموال ولا سلطات ولا ثروات ولا حضارات، ولا شيء في الدنيا ولا في الآخرة يعوّض عنها.

وإذا وُجدت فلكل شيء سواها عِوَضْ، بل ترجع الحقيقة إلى أن في الله عن كل شيء عوض، لا يعيضُ عنه شيء، وهو عِوَضٌ عن كلّ شيء، لا يكفي منه شيء، وهو يكفي عن كل شيء، جلّ جلاله وتعالى في علاه.

 

المنّة الكبرى ببعثة النبي ﷺ

وبذلك نُدرك حقائق المنّة علينا بهذه البعثة، وسمعتم في تذكير أحبابنا ما ذكّرنا الله: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

وكانت هذه المنّة الكبرى:

لَهُ المّنةُ العُظمى عَلينا ببعثهِ ** إلينا و َمِنّا عاليَ الذّكر وَ الكَعبِ

نَبيٌ عَظيمٌ خُلْقُهُ الخُلقُ الَّذي ** لهُ عَظّمَ الرَحمَنُ في سَيّدِ الكُتبِ

صلى الله وسلّم  وبارك عليه وعلى آله وصحبه.

والمنّة بالإيمان قد مُنّ بها على جميع المؤمنين في الأمم، ولكن إيمان المؤمنين في هذه الأمة درجته راقية وأعلى، هم خير الأمم، والأمم السابقون بمكانتهم واجتهادهم وجهادهم وأعمالهم وببلوغهم المراتب العُلا يُحبسون في القيامة، فلا يُحاسب أحد ولا يُوزن لأحد ولا يمرّ على الصراط أحد حتى يمرّ آخر ناجٍ من هذه الأمة.

المؤمنون من هذه الأمة تميّزوا ، إيمان كلّهم آمنوا، لكن هؤلاء تميّزوا ،  آمنوا في تبعيّة القطب، آمنوا في تبعيّة الرأس، آمنوا في تبعيّة الأصل، آمنوا في تبعيّة الخاتم، آمنوا في تبعيّة سيّد المرسلين، فكانوا خير الأمم: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

شكر النعمة والازدياد منها

فما أعظم هذه المنّة والنعمة! كيف إدراكنا لمقدارها ، وحرصنا عليها وقيامنا بواجب شكرها لنزداد منها؟ فوالله ما نكسب في الحياة أعظم من ذلك، ولا أجلّ من ذلك ظاهراً وباطناً، دنيا وآخرة.

وإنَّ أقلّ وأخفّ طعام يتناوله راقي الإيمان في هذه الدنيا يذوق فيه مذاقاً لا يذوقه أهل الموائد الكبيرة في موائدهم من الغافلين عن الله، والمنقطعة قلوبهم عن الله، هذا ونحن في الدنيا، وهذا الكسرة في يده لها ذوق وطعم حتى في الحسّ، أو في المعنى ، لأنه في تبعيّة ما يقول الخليل إبراهيم: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ).

في هذا المعنى أوحى الله إلى داؤود: "يا داؤود، لو سُقت إليك حبّة مسوّسة - حبّة من الطعام عادها مسوسة ، ما هي كاملة، فيها السوس - فاعلم أني ذكرتك بها فاشكرني". ما تنظر للحبّة، انظر من ساقها ؟ وكيف أرسلها لك ؟

النعيم الحقيقي في الدنيا والآخرة

فهم في الدنيا يتنعّمون قبل الآخرة، إن أكل أحدهم أو شرب، وإن أتى أهله، وإن جلس مع أهله، وإن سافر و قام، أمّا إن دخل الصلاة، أمّا أن قرأ القرآن، فماذا عند غيره ؟ ماذا عند غيره ؟ ماعندهم  إلا ما يُضحَك عليه ويُستهزأ به لمن عقل وأدرك هذه الحقائق.

وقالوا بلسان صدقهم : "لو يعلمُ الملوك ما نحن فيه بالليل لجالدونا عليه بالسيوف" ، "وإن كان أهل الجنة على مثل ما نحن فيه بالليل إنهم لفي عيشٍ طيِّب".

هكذا ولقد قال في وصف هذه المعاني: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". ونحن في الدنيا، وأين رياض الجنة منّا؟ "حلق الذكر"، لأنها المرتبطة بنعمة الإسلام والإيمان والمقوّية له، لأنها المذكّرة.

الفرح بذكر رسول الله ﷺ

وإذا علمنا ذلك، ما يمكن لمؤمن على ظهر الأرض أن يتأخّر في إحساسه ومشاعره عن الفرح إذا ذُكر رسول الله ﷺ في أي وقت، وإذا جاءت أي مناسبة من المناسبات احتفلتَ بمولده أو ببعثته أو بهجرته أو بغزواته أو بنزول الوحي عليه، فأنت في أي واحد منها احتفلتَ بذاته وصفاته، وما تفرّع عن ذاته وصفاته، وإذاً احتفلتَ بكلّ فضل، واحتفلتَ بكلّ نعمة، واحتفلتَ بكلّ إحسان، لأنه مصدره وأساسها، صلوات ربي وسلامه عليه.

الدعاء

فالحمد لله على هذه النعم، والله يوقظ قلوب الأمة وعقولها، لتدرك شأوا وشرف هذه النعمة، ولا تٌتَخطّف في طريقها بأطروحات الغافلين والماكرين والفاجرين على ظهر الأرض، فيضيّعو الغالي الكبير بما لا يساوي.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).

فالله يبارك في مجمعنا، يبارك في مجلسنا، ينظر إلى قلوبنا ويملأها بخالص الإيمان واليقين والمحبة، ويرزقنا معرفة النّعم من خلال معرفة المُنعِم، وأنّ المُنعِم لم يُنعِم على أحدٍ من خلقهِ بمثل الإيمان به والمعرفة به، والقرب منه جلّ جلاله، ولا شيء في خزائنه أغلى من ذلك ولا أعلى من ذلك جلّ جلاله.

فنسأله يوفّر حظّنا من الإسلام، يوفّر حظّنا من الإيمان، يوفّر حظّنا من اليقين، حتى ننطلق في الدنيا على بصيرة، ونُوحي إلى من فقدوا هذه النِّعم إلى أنّه خيرٌ لهم لو طلبوها، و ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، ولكنّها رحمة تنتاب قلوب المؤمنين لدعوة عباد الله إلى الله (وَيَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ).

يا رب بارك في جمعنا، يا رب بارك في وجهتنا، يا رب نعمتك الكبرى احفظها علينا، وكما جعلتها منوطة بحبيبك محمد  فعرِّفنا قدر حبيبك محمد، واجعل لنا الآثار التي ينالها من اتّصل بك وبرسولك وأحبّك وأحبّ رسولك، من محبةٍ لقرآنٍ أو صلاةٍ أو عبادةٍ، أومحبةٍ لعموم المؤمنين.

"أن يكون الله ورسوله أحبّ إليّ ممّا سواهما، وأن يُحبّ المرء لا يُحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار".

في ذكرى ميلاد نبيّك أصلِح قلوب أمة نبيّك، اجمع شمل أمة نبيّك، تولّى أمر أمة نبيّك، اغفر لأمة نبيّك، أصلح شأن أمة نبيّك، اجعلنا في خيار أمة نبيّك لأمة نبيّك، وفي أبرك أمة نبيّك على أمة نبيّك، وانفعنا بأمة نبيّك عامّة وبخاصّتهم خاصّة، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.

واجزِ السيّد يوسف خير الجزاء، وزده من التوفيق لمرضاتك ولما يحوز به السعادات الكبرى دنيا وأخرى، اللهم وخذ بيد سلطان هذه البلاد وكل من يعاونه على خير إلى ما تحبّه وإلى ما ترضاه ولِمَا تُصلح به الشأن، ولِمَا فيه الصلاح والفلاح والنجاح والسعادة في الدنيا والآخرة، والغيب والشهادة، يا رب العالمين.

رعاة المسلمين ورعاياهم أصلح شأنهم، وادفع البلاء عنهم، واجمع شملهم، وحوّل الأحوال إلى أحسنها، واجعل هذا الشهر من أبرك الشهور على صغيرهم وكبيرهم، وذكورهم وإناثهم، ظاهراً وباطناً.

وادفع البلاء عن أمة محمد  يا أرحم الراحمين، وارفع الشدّة والآفات عن المظلومين في غزّة والضفّة وفي أكناف بيت المقدس وفي جميع أقطار الأرض، طولها والعرض، يا مفرّج الكروب، يا دافع الخطوب، يا مُصلح القلوب، إليك نستغفر وإليك نتوب، فاكشف عنّا جميع الكروب، وعاملنا بما أنت أهله يا أرحم الراحمين.  

ونعمتك الكبيرة زدنا منها، اللهم كما أنعمت علينا بالإسلام فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالإيمان فزدنا منه، وكما أنعمت علينا بالعافية فزدنا منها، وكما أنعمت علينا بالعمر فبارك لنا فيه يا الله، وأصلح الشأن كلّه، وادفع عنّا السوء وأهله برحمتك، والحمد لله رب العالمين.

 

تاريخ النشر الهجري

18 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

10 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية