(536)
(204)
(568)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة، حارة الروضة، بعيديد، مدينة تريم، 29 شوال 1444هـ بعنوان:
وجه الإنسان الحسي والمعنوي وما يترتب عليهما من شؤون في الدارين.
(يمكنكم الاطلاع على الصور في أسفل الصفحة)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، مُكوِّن الأكوان وجامع الأولين والآخرين للفصل يوم الدين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، يُوَجِّهُ وجههُ إليه من سبقت لهم السعادة، ومن هُيِّئوا لِنيل الحسنى وزيادة، ويُعْرِض عنه ويتولّى عن ذكره، ويُخالِفُ أمْرَهُ أهل الشَّقاوات، ومن أراد الله لهم الخِزْيَ والنَّدامات، والحلول في دار العذابِ والإهانات.
وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا وقُرَّةَ أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، ونبيهُ وصَفِيُّهُ وخليله، أَوْجَهُ وَجهٍ تَوَجَّهَ إلى فاطر الأرَضِينَ والسموات، وأَوْجَه وَجِيهٍ لدى ربّ الكائنات، أكرم الأولين والآخرين على الله، وأعظمهم منزلةً وجاه، اللهم أدِمْ صلواتك على العبد المُجتبى سيدنا مُحمد، من جعلتَ وجههُ أحسن الوجوه، وجعلتهُ الشفيع الأعظم في يوم تعنو لك فيه الوجوه، وصلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم عليه، وعلى آله وأصحابه وجهاء الدين والمِلة، وعلى من والاهم واتَّبَعهم بإحسانٍ من أهل القِبلة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، البدور الساطعات والأهِلَّة، وعلى من صَحِبَهُم ومن كان من آلهم وأتباعهم، وملائكتك المُقرّبين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ عباد الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله، وهي صِحّةُ توجُّه القلب إلى المولى تعالى في عُلاه، وبها إستِنَارة الوجوه في يوم لقاه، يا أيُّها المؤمنون بالله: وأنتم تُوَّدِعُونَ الشهر الأولَ من أشهر الحج، وتستقبلون شهراً حراماً؛ وهو الشهر الثاني من أشهُر الحج شهر ذو القعدة الحرام، لقد براكمُ الحق البارئ الخلاق الحكيم، وجعل لكم وجوهاً حسية ظاهرة في التركيب الجسماني، وجعل لكم وجوهاً معنوية؛ هي مجموع مقاصدكم وإراداتكم ونياتكم وسعيِكُم في هذه الحياة، وجعل ارتباطاً قوياً وثيقاً بين هذا الوجه الصُّورِيِّ الحسِّي وبين الوجه المعنوي القلبي؛ الذي تترتّبُ عليه الشؤون والأحوال في يوم المآل؛ (يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞ) [ال عمران:106] ولا اعتبارَ في عالم الدنيا بإبْـيِـضَاضِ وجه ولا بإسْوِدَادِه من حيث الصورة والخِلْقَة، فليس لهذا على هذا فضل ولا لهذا على هذا فضل؛ ولكن من حيث التوجُّه القلبي، ومن حيث الوجه الباطن المعنوي؛ الذي تترتب عليه المقابلة يوم المُساءلة، ويكون عليه الحكمُ في يوم جمع الأولين والآخرين، والفصل بينهم من قِبَلِ ربّ العالمين.
أيُّها المؤمنون: وهذه الوجوه الحسيَّة قد خلقها الله للإنسانِ في أحسن تقويم، وليس عليه مسؤوليّةٌ في تسويتها ولا في صورتها؛ (هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ) [ال عمران:6]، ولكن المسؤولية والتكليف والأمانة مربوطٌ بتقويم وِجهتهِ المعنوية، وتجميلِ وإصلاحِ وتزيينِ وجهه الباطن؛ لِيتوجهَ إلى عالم الظاهر والباطن، مُكوِّن كل كائن، مُقتديًا بأَوْجَهِ الوجوه لدى الحي القيوم، وَجْهِ الذي أُوحِيَ إليه؛ قل: (إِنِّي وَجَّهۡتُ وَجۡهِي لِلَّذِي فَطَرَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَاَلۡأَرۡضَ حَنِيفٗا وَمَآ أَنَا۠ مِنَ اَ۬لۡمُشۡرِكِينَ)، وذَكَرَ وَجْهَ هذا التَوَجه فقال: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ اِ۬لۡعَٰلَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أول اُ۬لۡمُسۡلِمِينَ).
أيُّها المؤمنون: الوجوه الظاهرة تتوجّه في عِبَادة الله الصلواتِ شطر المسجد الحرام، وتُواجه الكعبة المشرفة أول بيت وضع للناس؛ لتستقيم الوجهة المعنوية على تعظيم ما عظم الله، وأنْ لا تَنْظُرَ إلى البقاعِ وإلى الأماكنِ وإلى المباني على ظهر الأرض إلا من حيث يقينها ومعرفتها بما هو عند الله عظيم، وبما هو لدى الله فضيل، وبما له المنزله عند الملك الجليل -جلّ جلاله-؛ فتبطلُ وِجهات تعظيم المباني المزخرفات، والمُشَيَّدَات الفانيات الزائلات، (إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ) [ال عمران:96]، ونُصِّبَ ونُسِبَ تشريفا وتعظيما إلى الله الحق الملك المبين -جلّ جلاله-، وشرَّفَ وجوهنا بالتوجه إلى تلك الكعبة المشرفة المباركة في كل صلاة نُصليها، قال جلّ جلاله لحبيبه المصطفى محمد؛ وقد قَلَّب وجهه نحو السماء يرتقبُ فصلاً من الله وحُكمًا في أن تكون القبلة بدلَ بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة؛ فقال له الرحمن: (قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَا فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ..) [البقرة:144]
ثمَّ جعلَ الشرف الأفخر لهذا الوجه الحِسي أن يَخرَّ متواضعاً متذللًا ساجدًا للإله العلي القوي جلّ جلاله وتعالى في عُلاه، فيسجد للرحمن؛ "وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، أيُّها المؤمن: شَرِّفْ وَجْهَكَ بكَثْرَةِ السجود؛ ولقد قال زين الوجود لمن طلب منه المطلب العالي الرفيع الغالي -ونِعْمَ المطالب العالية لأهل القلوب الصافية والعقول السليمة الراجحة- :" أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ له: أَوْ غَيْرَها، قال: هُوَ ذَاكَ يا رسول الله، قَالَ له: أَوْ غَيْرَها، قال: هُوَ ذَاكَ يا رسول الله؛ قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ."؛ وَضْعُ الجِبَاهِ على موضع الأقدام من الأرض تذللاً للملك العلَّام، مظهر القرب منه، ومجلى الجود على صاحبه، وشاهد العبودية ممن قام بحق هذا السجود.
أيُّها المؤمنون بالله جل جلاله: وشَرَّفَ الله هذه الوجوه بالوضوء والغسل، مفروضًا ومسنونَا؛ مفروضًا لكل حدث من الأحداث التي توجب الوضوء؛ لإرادة الدخول في الصلاةِ أو الطوافِ أو مس المصحفِ أو حمله، والغُسل مفروضاً لكل ذي جنابةٍ وكل حائض ونُفسَاء طَهُرَت؛ لأجل إقام الصلاة، وقد يكون مسنوناً كتجديد الوضوء، وكالغسل يوم الجمعة، وأنواع الأغسال المسنونة للعيدينِ أو لأغسال الحجِ وغيرها مما ندب الرحمن الغسل له.
أيُّها المؤمنون: ويجب أن يبلغ الماء مَبْلَغَه من هذا الوجه؛ حتى لا يتعرض لِلَفْحِ النار، فإن النار تلفح الأعضاء التي أخَلَّت بعبادة ربها، ولما رأى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أعقاب بعض المتوضئين من الصحابة لم يمسها الماء؛ نادى -بأعلى صوته-: "ويلٌ للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار."، فيجبُ إيصال الماء في كل وضوء إلى جميع أجزاء الوجهِ، من مبتدأ تسطيح الجبهةِ ومنابت الشعر إلى آخر الذقنِ في طوله، ومن الأذن إلى الأذن في عرْضه، ويجب أن يوصل الماء إلى جميع تلك الأجزاء شعراً وبشراً؛ الشعر ومنابت الشعر إلا ما استثني من اللحية الكثيفة، والعارضين الكثيفين؛ إذا لم يصل الماء بالغسل المعتاد إلى باطنهما فيكتفى بالغسل بظاهرهما، ومع ذلك فيُسن تخليلهما، أيُّها المؤمنون: ويتفقد المُتوضِّئُ مُوقِيهِ، ويتفقد المؤمن لِحَاظَيهِ؛ وهُمَا طَرَفَا العين -ما يلي الأنف يقال له الموق أو الماق أو الماقين، وما يلي الأذن يقال له اللِحاظ-، فيتفقد هذين الموضعين؛ لأنه يغفل الماء عنهما، وقد يطرأ عليهما أثرٌ من الرمصِ عند النوم وغيره، يمنع وصول الماء إلى البشرة فليتفقدهما وقت الوضوء، ويأتي بإصبعه السبابة فيأتي بطرفها إلى الماقين، ويأتي بطرفها الآخر إلى اللحاظين، فيتأكد من طرفي العينين أن لم يبقى فيهما شيء يمنع وصول الماء إلى البشرة.
أيها المؤمنون بالله: وتخرج معاصي العين، وما كان من المعاصي عندما يغسل المؤمن وجهه مع قطرات الماء في ذلك الوضوء، أيها المومنون بالله: ولا ينبغي أن يتوجه بهذا الوجه إلا لمجالس الخير، ولِمَا يُتقرب به إلى ربه الذي صور وجهه، وخلقه، وشق سمعه، وبصره -جل جلاله وتعالى في علاه-، أيُّها المؤمن: فحافظ على هذا الوجه؛ فإن الاستقامة فيه دليل على صلاح وجهك الباطن؛ الذي تبرز به في يوم القيامة، وتُقابل الرب والأولين والآخرين.
أيها المؤمنون بالله: لا يحلق المؤمن الرجل لِحيته، ولا يُسبِل شَارِبَهُ ويُكَثِّرهُ ويُرَبيه؛ فتِلكُم عادات أعداء من أعداء الله كرهها رسول الله، وكرهها لأمته، وقال لمن جاءه من رُسُلِ فارس؛ قد حَلَقَ اللحيتين وكثّرا ووفّرا الشاربين، كره النظر إليهما وقال: "من أمركما بهذا؟، قالا: ربنا.." -يعنون ملكهم- ".. قال: ولكن ربي أمرني أنْ أُحفي الشارب وأن أُعفي اللحية" -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، كما أنه لا يجوزُ أن تُنَمِّصَ المرأة حاجبيها -بأن تُخرج بالمِنماص منه شعرات لشيء من التزيين والتسوية-؛ فإن الزينة التي أباحها الله لنا مُقَيَّدةً بقيودها مُحدَّدةً بحدودها لا تجاوز فيها، كما لا يجوز لرجلٌ ولامرأة أن يُكسِّر الأسنان لأجل مساواتها، وهذا التفلُّج لأجل الحُسن حرَّمه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أيها المؤمنون بالله -جل جلاله-: ويتعلقُ بالوجه المضمضة والاستنشاق، وقد أوجبهما بعض العلماء، وقال أكثر الفقهاء: هما سنة من السنن لأجل الوضوء ولأجل الغسل، وقال قائلون: بوجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء وفي الغسل، فيحرص عليهما المؤمن، ويُطهّر بهما فمه وأنفه، استعدادًا للدخول للصلوات.
أيها المؤمنون بالله: ويترتّب على مُراعاة شؤون الشرع فيما يتعلق بهذا الوجه، وإحضارهِ في منازل الخير ومجالس الخير؛ تكوين وتقويم ذَلِكم الوجه الباطن للإنسان الذي به تكون حالتهُ وهيئتهُ في يوم وضع الميزان؛ (يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞ) [ال عمران:106]؛ اللهم بَيِّضْ وجوهنا بأنوارِ قُربكَ ومحبتك يومَ تَبْيَضُّ وجوه أوليائك، ولا تُسَوِّدْ وجوهنا بمعاصيك ومخالفتك يوم تَسْوَدُّ وجوه أعدائك، واجعلنا في أهل الوجوه النَّاضرة التي هي إلى ربها ناظِرة يا رب العالمين، والله يقول -وقوله الحق المبين-:
(وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ) [الاعراف:204]؛ وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ) [النحل:98]، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (كَلَّا بَلۡ يُحِبُّونَ اَ۬لۡعَاجِلَةَ * وَيَذَرُونَ اَ۬لۡأٓخِرَةَ * وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ * وَوُجُوهٞ يَوۡمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ * تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞ * كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ اِ۬لتَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَن رَّاقٖ * وَظَنَّ أَنَّهُ اُ۬لۡفِرَاقُ * وَاَلۡتَفَّتِ اِ۬لسَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ اِ۬لۡمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلّۭيٰ * وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلّۭيٰ * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطّۭيٰٓ * أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلۭيٰ * ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلۭيٰٓ * أَيَحۡسِبُ اُ۬لۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى * أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ تُمۡنۭيٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوّۭيٰ * فَجَعَلَ مِنۡهُ اُ۬لزَّوۡجَيۡنِ اِ۬لذَّكَرَ وَاَلۡأُنثۭيٰٓ * أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ اَ۬لۡمَوۡتۭيٰ) [القيامة:20-40] بلى إنه على كل شيء قدير، اللهم بَيِّض وجوهنا بنورك يوم تَبْيَضُّ وجوه أوليائك، ولا تُسوِّد وجوهنا بِالظلمات يوم تَسْوَدُّ وجوه أعدائك، واجعل وجهتنا في جميع الحالات إليك، برحمتك يا أرحم الراحمين وجودك يا أجود الأجودين، نفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وجَعَلَهُ شاهداً لنا، وحُجةً لنا يوم لقائه؛ إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
الحمد لله رافع السموات والأرض، وجامع الأولين والآخرين ليوم العرض، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقبلُ المُتَوجِّهين إليه والمُقبلين عليه، ويرفع شأن المتذللين بين يديه، ويعِزّهم بعزِّه الأكبر في الدنيا ويوم العرض عليه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، وجهه الباطن أَوْجَه الوجوه لدى باريه، ووجهه الظاهر كأن الشمس تجري فيه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على أَحسَنِ خلقك وعبادك خَلْقًا وخُلُقًا، وأهْدَاهِم إلى الحق طُرقاً؛ عبدك الأمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وأهل مودَّته وقُربه وحُبه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك؛ سادات الخلائق وهُداتهم إلى الحق، وعلى آلهم وصحبهم ومن تبعهم على الطريق الأقوم الأصدق، وعلى جميع ملائكتك المُقرّبين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرحمين.
أما بعد عباد الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله، فاتقوا الله تبارك وتعالى، وراعوا ما في الوجوه من أسماعٍ وأبصار، فإنها عظيمة الآثار، خطيرة المآلات؛ إما في الخير وإما في الشر، إما في النور وإما في الظُّلمة، إما في الجنة وإما في النار، (إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا) [الإسراء:36]؛ فاتقوا الله في أسماعكم وأبصاركم، ووَجِّهوا وجوهكم حيث يرضى خالقها؛ الذي صوَّرها لكم، وشقَّ سمعها وبصرها بقدرته -جل جلاله-.
أيها المؤمنون بالله: كَوِّنُوا وجوهكم الباطنة بما ائتمنكُم الله عليه من شريف الوحي، وعظيم التنزيل، وجليل البلاغ من الرسول الهادي الدليل -صلى الله عليه وسلم-، ولا تجعلوا لكم قُدوةً سواه ولا أُسوةً عداه؛ (لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا) [الأحزاب:21]، أيها المؤمنون بالله: (فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]، أيها الظالمون لأنفسهم باتِّخَاذ القُدوات في فكرٍ أو قولٍ أو فعلٍ أو زَيٍ أو منظرٍ، أو حلاقةٍ أو ملبسٍ أو أي تعامُلٍ في الحياة؛ مُتّخذينَ القُدوات مَن خالف الله ورسوله: ارجعوا عن ظلمكم لأنفسكم، واقتدوا بمن ارتضاه الله قدوة لكم، ووعدكم على اتباعه أن يحبكم هو جل جلاله؛ (قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ) [ال عمران:31]، أَحْسِنْ وِجْهَتَكَ إلى الرحمن في جُمْعَـتِك، واسْجُد بهذا الوجه الظاهر؛ لِتصدق بالأدب مع الله في وِجْهَتَكَ الباطنة، وتنصرف من الجمعة وعليك كُسْوَةُ: "أَنْ غُفِر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام"؛ ومن أشرقت عليه أنوار المغفرة..! كره قلبهُ الذنوب، وتباعد عن السيئات، وتنقّى عن العيوب، وراقب علام الغيوب حيثما كان وأين ما كان، اللهم وَجِّه قلوبنا إليك، وارزقنا صدق الإقبال عليك، ولا تصرفنا من الجُمُعَة إلا بإقبال كلي، وصدقٍ معك فيما نعتقد ونفعل وننوي، واستقامة على المنهج القويم السوي، يا حي يا قيوم يا قوي، يا أرحم الراحمين ادفع عنا شر كل غَوي.
وأكْثِروا الصلاة والسلام على صاحب الوجه المنير الأزهر، الشفيع الأعظم في يوم المحشر؛ سيدنا محمد خير البشر، فإن ربكم إبتدأ بنفسه وثنى بالملائكة وأيَّهَ بالمؤمنين فقال مخبراً وآمراً لهم تكريماً: (إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المُهداة، والنعمة المسداة؛ عبدك المصطفى سيدنا محمد نور الأنوار، والسر الأسرار.
وعلى الخليفة من بعده المختار، وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حالَي السعة والضيق؛ خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب؛ أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى الناصح لله في السر والإعلان، من استحيت منه ملائكة الرحمن، مُحيي الليالي بتلاوة القرآن؛ أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخي النبي المصطفى وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب؛ أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب، وعلى الحسن والحسين؛ سيِّدَيْ شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانَتَيْ نبيك بِنَص السنة، وعلى أُمِهِمَا الحوراء؛ فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى، وعائشة الرضا، وعلى أمهات المؤمنين، وعلى الحمزة والعباس؛ عَمَّيْ نبيك، وعلى أهل بيته المطهرين من الدنس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة، وأهل بدر، وأهل أُحد، وأهل بيعة الرضوان، وسائر الصحب الأكرمين، وأهل البيت الطاهرين، وعلى من والاهم واتَّبَعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أيقظ قلوب المسلمين، وارزقهم صدق الوجهة إليك في كل شأن وحال وحين، وخَلِّصْهُم من تبعية الظالمين والفاسقين والكافرين، واجعل أهويتنا وأهويتهم أجمعين تبعاً لما جاء به عبدك الأمين وخاتم النبيين وسيد المرسلين، اللهم ثبِّتنا على دربه واجعلنا من السالكين في سبيله، مُقتدين به، مُهتدين بهديه في جميع شؤوننا، في ظهورنا وبطوننا، اللهم إنه نِعْمَ القدوة؛ فاجْعل لنا به كريم الأسوة، وتولّنا به في كل خلوة وجلوة، وحيث ما كُنَّا وأين ما كنَّا، طهِّرنا به من الأدناس، واكفِنا شر الجِنَةِ والناس، واجعلنا يا مولانا مُهَيَّئين لروضة الجنان في الأرماس، ولِمُراقاته ومُرافقته يوم تَبْعَث الأولين والآخرين، اللهم وارزقنا مرافقته في الفردوس الأعلى برحمتك يا أرحم الراحمين، واكتب كذلك لوالدينا وأولادنا وأهلينا وذوينا وطلابنا وأحبابنا وأصحابنا ومن والانا فيك، يا معطي العطايا ويا كاشف الرزايا، ويا من يجود ولا يبالي يا مولى الموالي، يا حي يا قيوم يا والي يا أرحم الراحمين، فرج كروب الأمة، واكشف الغمة، وعامل بمحض الجود والرحمة، وارزقنا صدق الإقبال عليك، مع كمال القبول لديك برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ) [البقرة:201]، (رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ) [ال عمران:147]، (رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا) [الكهف:10]، (رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا وَلِإِخۡوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَا تَجۡعَلۡ فِي قُلُوبِنَا غِلّٗا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٞ رَّحِيمٌ ) [الحشر:10]، نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله: إن الله أمر بثلاث، ونهى عن ثلاث: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]؛ فاذكروا الله العظيم؛ يذكركم واشكروه على نعمه يزِدكُم، ولذكر الله أكبر.
29 شوّال 1444