خطبة الخسوف في دار المصطفى بتريم - ربيع الأول 1447

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الخسوف للحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ، في دار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، ليلة الإثنين 16 ربيع الأول 1447هـ

لتحميل خطبة الكسوف pdf

نص خطبة الخسوف:

نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. 

نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله. 

 نستغفر الله العظيم، نستغفر الله العظيم، نستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم، ونتوب إليه.

الحمد لله، جاعل الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسباناً، ذلك تقدير العزيز العليم. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال فيما ذَكَّرنا وأنزل على قلب عبده المصطفى محمد: (وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

فسُبحان ذي القدرة والمُلك العظيم، وصاحب المملكة والتقدير والتأخير والتقديم. ونشهدُ أن سيدنا ونبينا ونور قلوبنا وقُرّة أعيننا محمداً عبده ورسوله، أعرف خلقه به، وأعظمهم عبوديّة لله، وأجلّهم حياءً منه، وأكثرهم محبةً منه وله، وأجزلهم منه رضواناً وعنه.

اللهم فأدِم صلواتك على عبدك المُتحقِّق بحقائق العبودية، البارز في خِلعة الكمال، والقائم بحَقِّ الربوبية في مواطن الخدمة لله، وهو الذين أقبل عليك غاية الإقبال. وصلِّ اللهم على آله خير آل، وعلى أصحابه الذين حظوا بجزيل النّوال، وعلى مَن والاهم فيك واتّبعهم في النيّات والقصد والأقوال والأفعال إلى يوم المآل، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مَجْلَى الكرم والجود والكمال، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم وإيّايَ بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يُثيب إلا عليها، (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)، فاتّقوا الله وأحسنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).

آية الشمس والقمر

أما بعد عباد الله، فإنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، قال نبينا ﷺ: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة"، وجاء عنه الأمر بالتوبة والاستغفار والصدقة إذا رأينا آية من آيات الله.

وما أعظم آيات الله! (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ).

التذكير بآيات الله

أيها المؤمنون بالله، إنّما بهذا التغيُّر فيما يرى الناس من الآيات العظيمة تذكية! تذكرة بحقيقة الآيات، إننا نمشي على الأرض وهي آية، وترابها آية، وحجارها آيات، ومعادنها آيات، والماء فيها آيات، والنبت فيها آيات، والهواء آيات، والأكسجين وما في الفضاء آيات، والنجوم آيات، والكواكب آيات، والسماوات آيات، وأسماعنا آيات، وأبصارنا آيات، وأجهزتنا وأنسجتنا وخلايانا وعروقنا وعظامنا ولحومنا ودماؤنا آيات.

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ * تدلّ على أنه الواحدُ

وقد يضعف الاعتبار والادِّكار بالمألوفات من هذه الآيات، فيمضون الناس وكأن لم تكن آيات، فتلحق بهم ظلمات الغفلات، ويَقصرون عن الإنابة والإخبات، ويسرحون في ميادين الإعراض واللهو والانصراف عن الاعتبارات، فيخسرون بذلكم كثيراً! كثيراً من المثوبات والدرجات والحسنات.

وهو أشدّ شيء يخسرهُ الإنسان في الحياة، ما يخسر من الحسنات الباقيات، الدائمة أجورها ونورها ونعيمها ولذّتها، لا تخسر شيئاً أكبر من هذه الحسنات التي رأسها معرفة الله والإيمان واليقين، وفّر الله حظّنا من هذه المعرفة والإيمان واليقين، ووفّر الله حظّنا من الحسنات، وأعاذنا من الحسرات في يوم الحسرات.

طريق اكتساب الحسنات

وإنما يكتسب الإنسان الحسنات بواسطة الإيمان واليقين وصدق الإنابة والإخبات، إقبالاً على عالِم الظواهر والخفيّات، وبارئ الأرضين والسماوات، وتتنمّى المعرفة بالتفكّر في الآيات، وتزداد ويكون لها انبساطات، ولصاحبها ارتقاءات.

وهذه من أسبابها أن يتغيّر نظام القمر في مرأى العيون، ليعلم الناس أن القمر ليست إلا كوكباً مُسخّراً بيد من يقول للشيء كُن فيكون، يُقدّم ويُؤخّر، ويُقدّر ويُدبّر، ويُسيّر الأمور على مقتضى إرادته ومشيئته.

إن الآيات محيطة بك من كل جانب ولك غفلات، والقرآن مُذكّر، والعلم مُذكّر، والصلوات مُذكّرة، وربما مع إلف الجميع غفلتَ أو وقفتَ على حدٍّ كان يجب أن تطلُعَ فوقه، فجعل الله التقلّبات في شؤون هذه الأرض وما فيها مُذكّرات أُخريات.

وجعل الشمس والقمر آيتين، جعل الليل والنهار آيتين، فمحى آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، وقدّر السنين والحساب، وقدّر الأقدار لتعلموا عدد السنين والحساب، قال جلّ جلاله: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا).

التأمل في عظمة الآيات

ولو تأمّلتَ عظمة هذه الآيات بين عينيك، لأدركتَ حقيقة وصدق وقُرب ووقوع ما أُنبئتَ عنه من الجزاء والحساب، وأحوال المآب، والنعيم والعذاب، والجنة والنار، والغضب والسَّخط والرضا، والقُرب والبُعد.

إن ما أمامك يُذكّرك بحقائق أنت عنها غافل، ولاهٍ بمُشتهيات ومألوفات تألفها، ألا أيها الإنسان، إنك لشأنٌ لو عقلت! 

قد رشّحوك لأمرٍ لو فطنتَ له * فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

تذكَّر وتبصَّر، وتصفَّى وتطهَّر ،وتعرّف وتنوَّر، وقل: الله أكبر! متوجّهاً إليه، متذلّلاً بين يديه، مُسبِّحاً بحمده، حامداً له مُهلّلاً، موقناً أن لا إله إلا الله.

الذي يُسيِّر القمر هو الذي يُسيّر قلبك وفؤادك، وهو الذي يُسيِّر أمعاءك، وهو الذي يُسيّر دورة الدم في بدنك، وهو الذي بسط لك الأرض من تحتك ومهَّدها لك مِهاداً، و (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، لعلّكم تتّقون.

الحضور مع الله وعبوديته

أيها المؤمنون، احضروا مع الله في ساعة شعوركم بتكوين الكون من مُكوّنٍ حكيمٍ قادرٍ، حكيمٍ عزيزٍ،فاطرٍ بيده ملكوت كل شيء، أيُعجزه الكفرة؟ أم أسلحتهم؟ أم حضاراتهم؟ أم ما عندهم؟ أم أجهزتهم؟ لا يُعجزه شيء! 

وإنّ لهذه الشمس وللقمر كسوفاً لا انجلاء بعده: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ)، (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ).

ويُقال لمن كان يعبد الشمس: تعالوا وراء الشمس. ويُقال لمن كان يعبد القمر: تعالوا وراء القمر. فيُؤخذ بهما وبأتباعهما وعَبَدتهما إلى النار حيث غضب الجبّار.

ويلٌ لمن عبد غير الله! ويلٌ لمن اعتقد الألوهية في غير الله! ويلٌ لمن اتّخذ الربوبية لغير الحقّ الواحد الأحد جلّ جلاله وتعالى في علاه!

وما أكثر عَبَدة أصنام الأهواء في زماننا، وعَبَدة أصنام الشهوات في زماننا، وعَبَدة أصنام التُّرّهات في زماننا، وعَبَدة أنظمة الفساد والغيّ في زماننا! ويا فوز عَبَدة الرحمن مِن الذين شُرّفوا وطُهِّروا أن يعبدوا غير الله في كل شأن!

تذكر التغيير الكبير

أيها المؤمنون، آياتٌ بِيَد مُدبّرٍ، عليمٍ قويٍّ مُقدّرٍ ،مُقدّمٍ مُؤخّرٍ، بيده ملكوت كل شيء. وإن هذا الكون يُذكِّرنا بالتغييرات القريبة، إقدامه وإقباله على تغييرٍ كبيرٍ عظيمٍ، يقول عنه الجبّار:

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا).

(إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ).

فانظر كيف كدحُك وكيف يكون حالك عند اللقاء!

ساعة استشعارٍ لعظمة الإله مُسيِّر الأقمار والشموس والكواكب والأراضي والبرار والبحار، الله! أنتم بين يديه، لبّيتم نداء رسوله بالفزع إلى الصلاة، يا ربّ اقبل منّا صلاتنا، واجعلها صلةً بيننا وبينك، يقوى بها إيماننا ويزداد إلى أن نلقاك، ولا يلقاك أحدٌ منّا إلا على كمال الإيمان واليقين والمحبة منك ولك، يُحِبّ لقاءك وأنت تُحِبّ لقاءه، يا أرحم الراحمين.

آيات من القرآن الكريم

والله يقول وقوله الحقّ المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا * وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وفي جميع الآيات، ورزقنا الاعتبارات والادِّكارات، ورفعنا عليّ الدرجات، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله فاطر السماوات والأرض، وجامع الأوّلين والآخرين ليوم العرض، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع لنا السُّنة والفرض، وشرع لنا أن نُقرضه فنُحسِن القرض.

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، ظهرت عليه علامات الإنابة والخشية والفزع والخوف من الله، كلّما انكسف شمسٌ أو انخسف قمر، بل كلّما ثار سحابٌ لم يقرّ له قرار حتى تنزل المطر أو ينكشف، ولا أخوف لله منه، ولا أعرف بالله منه، ولا أعبد لله منه. صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله، ووفّر حظّنا من إرثه الكريم.

أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتّقوه أن يحدُث مثل هذه الآيات ثم لا تتذكّرون، ثم لا تُبصرون، ثم لا تتبصّرون، ثم لا تُنيبون، ثم لا تخشعون، ثم لا تصدقون في الالتجاء إليه، ثم لا تستشعرون العرض عليه.

(إِذَا كُوِّرَتِ الشَّمْسُ)، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)، و (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).

قدِّموا لحياتكم! أتمشون فوق أرضٍ مهَّدها لكم وتغفلون عنه وتخالفون أمره؟!

دعوة للتوبة

يا أهل المعاصي والذنوب، يا أهل المخالفات لعلّام الغيوب، سارعوا إلى مغفرةٍ من ربّكم ورضوان، وتوبوا إلى الرحمن! إنكم وأعمالكم أسباب البلايا على الأمّة، فارفعوا أنفسكم وارحموا أنفسكم وأهل زمنكم.

لا تعصوا عالم الغيب والشهادة، لا تخالفوا أمره، لا تقعوا فيما حرّم عليكم، في أنظاركم أو أسماعكم أو كلامكم أو فروجكم أو أيديكم أو أرجلكم، أو أسماعكم أو معاملاتكم، فهو أحقُّ أن يُطاع وأن يُطبَّق أمره على ظهر الأرض؛ استعداداً للقائه والوقوف بين يديه والعرض.

أيها المؤمنون بالله، ما أسوأ أحوال الكافرين والغافلين على ظهر هذه الأرض! وكلّ شيء يُذكّرهم بالإله الحقّ وهم عنه مُعرضون. (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَهُمْ يَعْمَهُونَ)، (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ).

دعوة للذكر والاستغفار

أيها المؤمنون بالله، ليلةُ تذكُّرٍ وذِكرى، وإنابةٍ إلى الحقِّ سرًّا وجهرًا، فاغنَموا نصيبَكم من استغفار سيِّد المُرسَلين، وما شرعَ لكم من التوبة إلى ربِّ العالمين، وما شرعَ لكم من التصدُّق، وما شرعَ لكم من الذِّكر، وما شرعَ لكم من الفِكر.

التضرع والدعاء

ربّنا، وقَد أَعْلَمَنا نبيُّكَ فيما نتصدَّق وأن نُعْتِقَ ما مَلكتْ أيدينا، إلَهنا، وليس معنا ما نُعْتقُ به من الرِّقابِ، ولكنا نَذْكُرُ رِقابنا بين يديك ونسأَلُكَ العِتْقَ فَأَعْتِقْنا. 

يا سيدنا ومولانا، وفِّقنا للصدقة بما يسَّرتَ لنا، ونحن فقراؤك ومساكينك فتصدَّق علينا، تصدَّق علينا بعفوك، تصدَّق علينا بمغفرتك، تصدَّق علينا برحمتك، تصدَّق علينا بقُربك، تصدَّق علينا برضاك عنا، تصدَّق علينا برضاك عنا، فلا نام مِنا أحدٌ ليلته إلا وأنت عنه راضٍ، وقد نقَّيتهُ وشفيته من العِلل والأمراض، وسلَّمتهُ من الإعراض والاعتراض، وهيَّأته لأن يلقاك وأنت عنه راضٍ.

يا الله، يا الله، يا ربَّ الشمس والقمر، برحمتك لم نسجد لشمسٍ ولا لقمرٍ، وسجدنا لك يا من خلقتَ الشمس والقمر، فاقبلنا في الساجدين، مُتحقّقين بحقائق السجود لك، واجعل قلوبنا ساجدةً لا تقوم عن السجود أبدًا، وألحِقنا بالمقبولين من أهل السجدات في الأرض والسماوات، وبسيِّدهم سيِّد الساجدين، الذي قلتَ له في كتابك المبين: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ).

الدعاء للمسلمين

يا ربنا، عليك توكَّلنا وإليك أنبنا، فتدارَك المسلمين، وتُب على العاصين والمذنبين، يا خير التوابين، يا من يحب التوابين ويحب المُتطهرين.

إلهنا، ومَن تعرَّضوا بذنوبنا للآفات والعاهات، وتسلُّط أعدائك الظَّلَمة الفَجَرة المجرمين عليهم، تداركهم وأغِثهم يا ربنا، وانزع البلاء عنهم، وارفع الشدائد والمِحَن عنهم، ورُدَّ كيد أعدائك المجرمين في نحورهم، وادفع شرورهم عن أهل لا إله إلا الله.

تدارك أهل غزة والضفة وأكناف بيت المقدس، وتدارك أهل اليمن والشام وأهل العراق، وأهل الشرق وأهل الغرب، وأهل السودان وأهل ليبيا وأهل الصومال، وأهل أفريقيا وأهل آسيا، والمسلمين في المشارق والمغارب.

تدارك يا مُدرِك، أغِث يا مُغيث بالغياث الحثيث، أغِث يا مُغيث بالغياث الحثيث، أغِث يا مُغيث بالغياث الحثيث، وادفع عنا شرَّ كل خبيث. 

يا سريع الغوث غوثاً منك يُدركنا سريعًا * يهزم العُسر ويأتي بالذي نرجو جميعًا

الدعاء لأمة محمد ﷺ

اللهم أغِث أمة نبيك محمد، اللهم أصلِح أمة نبيك محمد، اللهم اغفر لأمة نبيك محمد، اللهم تجاوز عن أمة نبيك محمد، واجعلنا في خيار أمة نبيك محمد، وفي أنفع أمة نبيك محمد لأمة نبيك محمد، وفي أبرَك أمة نبيك محمد على أمة نبيك محمد، بجاه محمدٍ عندك ومنزلته لديك يا أكرم الأكرمين وبآله الأطهار، اسقنا الغيث والرحمة مِدرارًا في عافية ولُطف، ولا تجعلنا من القانطين ولا من المحرومين، وادفع البلاء عنا وعن المؤمنين، واشفِ مرضانا وعافِ مُبتلانا، واجمع شمل الأمة بعد الشتات، وقِنا وإياهم جميع البلايا والآفات، يا مجيب الدعوات.

أغِثنا والأمة واكشف كل غُمَّة، وأجلِ كل ظُلمة، وعامِلنا بمحض الجود والرحمة يا أكرم الأكرمين.

الصلاة على النبي ﷺ

أكثِروا الصلاة على معلِّمكم وهاديكم ومُرشدكم وقائدكم وإمامكم ورسولكم ونبيِّكم وشفيعكم محمد، فإنّ من صلَّى عليه واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، وإن أولى الناس به يوم القيامة أكثرُهم عليه صلاةً.

وتأمَّلوا قول إلهه مُبتدئًا بنفسه، مُثنِّيًا بالملائكة، ومُؤيِّها بالمؤمنين، قائلاً تعظيمًا وتفخيمًا وتكريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المختار، نور الأنوار وسرِّ الأسرار، وعلى صاحبه وأنيسه في الغار، مؤازره في حالي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكرٍ الصدِّيق.

وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.

وعلى مُحيي الليالي بتلاوة القرآن، من استحيَت منه الملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورَين سيدنا عثمان بن عفان.

وعلى أخي النبي المصطفى وابن عمِّه، ووليِّه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.

وعلى الحسن والحسين سيِّدَي شباب أهل الجنة، وريحانتَي نبيك بنصِّ السُّنَّة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرِّضا وأمهات المؤمنين، وبنات سيد المرسلين، ومريم وآسية.

وعلى الحمزة والعباس وسائر آل البيت الذين طهَّرتهم من الدَّنَس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أُحُد وأهل بيعة الرضوان وسائر الصحابة الأكرمين، وآل البيت الطاهرين.

وعلى أنبيائك ورُسُلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتك المقرَّبين، وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم تدارَكنا بغياثك العاجل، وأسرِع اللهم بإنقاذك للأمة في جميع المواطن والمحافل، يا حيُّ يا قيُّوم تدارَكنا وبلِّغنا المآمل وفوق المآمل، ورُدَّ عنا كيد إبليس وجُنده من كل طاغٍ وباغٍ ومُفتَرٍ وكاذبٍ ومُبتدعٍ وضالٍّ وظالمٍ ومُجرم، يا حيُّ يا قيُّوم برحمتك نستغيث ومن عذابك نستجير.

اللهم اكتب لنا في حادثة هذا الخسوف ادِّكاراً واعتبارًا واستنارةً وإنابةً وتبصُّرًا، وخشيةً وتوفيقًا وسعادةً وسلامةً، من شرور الدهور والآفات وكل محذور، واستعدادًا للقبور ويوم البعث والنشور.

اللهم استر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، واكشف كروبنا، وطهِّر قلوبنا، وأنِلنا مطلوبنا وفوق ما طلبنا، يا ذا العطايا الجزيلة والمِنَن الجليلة، يا الله. 

نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شرِّ ما استعاذك منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).

عباد الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نِعَمِه يزِدكم، ولذِكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

تاريخ النشر الهجري

17 ربيع الأول 1447

تاريخ النشر الميلادي

08 سبتمبر 2025

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام