(536)
(575)
(235)
خطبة جمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان، بعيديد، مدينة تريم، 16 جمادى الآخرة 1442هـ، بعنوان: ارتباط الإيمان بميزان الاستحسان وأثره في السلوك.
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، الحمد لله مُكرمنا بالشَّرعِ المصُون ودين الحقِّ المَيمون، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحدهَ لا شريكَ له، العالِمُ بما كان وما يكون وما لا يكون، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقُرَّة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه الأمينُ المأمون.
اللهم صَلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، مُشَتِّتِ سُحبَ الضلالات والخيالات والوهوم والظنون بشموسِ الحقِّ واليقينِ والوحيِ المباركِ المَصُون، وعلى آلِه وصحبه مَن يهدُون بالحقِّ وبه يَعدِلُون، وعلى مَن تَبِعهم بإحسانٍ في الظُّهُورِ والبُطُونِ على ممرِّ السِّنين والقرون، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين ساداتِ مَن يؤمنون ومَن يعرفون، وعلى آلِهم وصحبِهم وأتباعهم والملائكةِ المُقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعدُ.. عِباد الله: فإني أوصيكم وإيّايَ بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
وإنَّ من أعظمِ التّقوى في السِّرِّ والنَّجوى أن نراقبَ قلوبَنا ونفوسَنا فيما تستحسنُه وتميلُ إليه وترغبُ فيه، بميزانٍ أنزلهُ اللهُ مع نبيِّه خاتمِ الأنبياء ورسولِه سيدِ الأصفياء صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولا تأخذ بنا الأهواءُ لأن نَستحسِنَ خِلافَ الأَولى، فضلاً عن المكروه فضلاً عن الشُّبهَة، فضلاً عن الحرام؛ فإنَّ: (مَن اِتَّقَى الشُّبهاتِ فقدِ استبرأ لدينِه وعِرضِهِ، ومَن وقعَ في الشُبُهات وقَع في الحرام). ولن يتَّقيَ الشُبهاتِ مَن لم يحذر مِن المكروهات، ولن يحذر مِن المكروهات مَن لم يتجنَّب قدرَ استطاعتهِ خِلافَ الأولى في الشَّرع المُبارك المُطهَّر.
أيها المؤمنون بالله: تَسرِي إلى النُّفوس مَعَاصٍ قلبيَّةٌ باستحسانِ ما ليس بِحسَنٍ في ميزانِ الحقِّ ورسولهِ خيرِ البريَّة، فتنطلق بعد ذلك الأعضاءُ للعمل والتنفيذ والتطبيق، ويُتَدَرَّجُ من غير المُستحسن خِلاف الأَولى إلى غير الحَسَنِ، من المكروه إلى الشُبهات إلى الحرام -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وتوالي الوقوع في المُحرَّمات مؤذنٌ بانتزاعِ الإيمان ورفعِ نورِه من القلوب؛ فإنَّ المعاصي بَرِيدُ الكفر -أي رسوله-، قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ} وما هي السُّوأى إلى أين وصلوا؟ {أَنْ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}،
فالاسترسالُ في المعاصي سببٌ لانتزاعِ نورِ الإيمان مِن القلب، والوقوعِ في الكفرِ والتكذيب.
فاحرِص أيها المؤمنُ على تقوى ربِّك في قلبِك، فلا تستحسِنْ بطبعِكَ -فضلاً عن طبعِ وهوى وشهوةِ غيرِك مِن الخلق ما ليس بِحَسَنٍ عندَ الله- في الأقوال، والأفعال، والملابس، والمعاملات، والأخذ والردِّ والهيئات، والحركات والسكنات، فأنتَ أمامَ نعمةٍ عظيمةٍ مِن منهاجٍ ربَّانيٍّ تفضَّلَ اللهُ به عليك يَحْكُمُ نظراتِك ومسموعاتِكَ، وحركاتِكَ وسكناتِك، ونياتِك ومقاصدَك؛ لتكونَ على هُدًى مِن ربِّك فتُفلِحَ مع المفلحين الذين أُنزلَ الكتابُ هُدىً لهم، وقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالْأَخَرَةِ هُمْ يُوقِنُونْ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} اللهم اجعلنا على هدًى منك يا ربَّنا وألحِقنا بالمفلحين {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}.
أيها المؤمنون بالله: تقوى القلبِ في إقامةِ الميزانِ للاستحسانِ خيرٌ كبيرٌ يُؤذِنُ باستقامةِ الإنسان، وليس بعد الإيمان أعظم كرامةً مِن الاستقامة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّاتَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.
وسُئِلَ نبيُّكم المصطفى محمد وقال له صاحبه: قل لي في الإسلامِ قَولاً لا أسألُ عنه أحداً بعدَك؟ قال: (قل آمنتُ بالله ثم استَقِم).
وتُكسَبُ الاستقامةُ بـإقامةِ الميزانِ في الاستحسان، فلا تَمشِ مع هواك، وانظر ما قال الحقُّ وحكم به في المصيرِ الأكبرِ لجميعِ الخلق، قال جلَّ جلاله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} استحساناً لها، ومِن استحسانِهم للحياة الدنيا تباغضوا مِن أجلها وتعادَوا وتقاتَلوا من أجلها، وقامت بين البشرية حروبٌ وآفاتٌ كثيرةٌ من محبةِ هذه الدنيا {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} اللهم اجعلنا مِن أهلِ جنَّتك.
أيها المؤمنون بالله: يجب أن لا يجريَ على أجسادِنا ولا في ديارِنا ولا بين أُسَرِنا إلا ما هو حَسَنٌ بميزانِ عالمِ السِّرِّ والعَلَن، وميزانِ المصطفى المؤتمَن صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، من المقولاتِ، والمنظوراتِ والمسموعاتِ، وجميع الحركات والسكنات.
ولقد داهمَ المسلمين استحساناتٌ لسيئات، ولخبائثَ ولمكروهات، بل ولشُبهاتٍ بل ولمُحرَّمات! ينطلقون فيها غير عابئين بنتائجها وسوءِ مآلِها وعاقبتِها ومصيرها -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، و: "مُعظمُ النار من مُستَصغرِ الشَّرَرِ"، ومعظم الحريق يأتي من استصغارِ الشَّرَر؛ فبالاستصغارِ بالشَّرَرِ توقدُ النيران وتندلع فتحرق المكنونات وتحرق الجواهر وتحرق النفائس!
كل الحوادث مبداها من النظرِ ** ومُعظمُ النار مِن مستصغرِ الشَّرَرِ
مَن يتساهلُ بالنظر إلى الصورِ الخبيثة أَطَاحَ بالميزان الرَّبَّاني، والحقُّ يقول له في ميزانه: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤمِنِاتِ يِغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ولَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، ويقول جلَّ جلاله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}، ويقول جلَّ جلاله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، ويقول نبيُّ الله في ميزانه: (النَّظرة سهمٌ مسموم من سهامِ إبليس، قال الله مَن تركَها مِن مخافتي أبدلتُه إيماناً يجدُ حلاوتَه في قلبِه).
فَمُستحسِن النَّظر المكروه والمُحَرَّم واقعٌ في شبهاتِ الهُويِّ وراءَ الأدناسِ والأرجاسِ والمخالفات الشَّرعية والعياذ بالله تبارك وتعالى. فَمُستَحسِن الاستماعِ إلى الآلات المحرمة أو الأغاني الماجنة الخبيثة القبيحة "وإنَّ الشِعر كلامٌ حَسنهُ حَسَن وقَبيحهُ قبيح"، كذلك قال زين الوجود وقال الأئِمَّةُ مِن بعده.
فكل ما كان يَحمِلُ على التفكيرِ في السوءِ والشر، أو الضر، أو الاستِسهالِ بالذنوبِ والمعاصي، أو استصغارِ الطاعات؛ يحرمُ استماعُه، ويحرم فسحُ المجال للأهلِ أن يستَمعوه، ويحرم فسحُ المجالِ للأبناء والبنات أن يستمعوا إليه، وكذلك ما كان محرماً النَّظرُ إليه.
أيها المؤمنونَ باللهِ: وقد ابتُلِيَ المؤمنون ابتلاءً في دينهم -وبليَّة الدِّين أشدُّ البليّة-؛ بأن يستحسنوا ما يأتي لهم به بعضِ الكفار مِن الألبسةِ الضيِّقة والمُزخرفةِ والمُخالفةِ للسُّنة بل للفِطرةِ بل للحَياء والحِشمة لرجالٍ أو لنساءٍ! وأكثر ما يخصُّون بذلك النساء! كما يغشُّون كثيراً مِن الشبابِ والرجال في مشابهةٍ مُحرَّمةٍ في الشرع، إما للفُسَّاقِ والكفار، وإما تشبُّه رجالٍ بنساء أو نساءٍ برجال، وميزان الشرع يقول لهم: (لعنَ اللهُ المتشبِّهاتِ مِن النساءِ بالرجال والمتشبِّهين مِن الرجالِ بالنساء)! فيه لَعْنٌ كيف يكون حَسَناً؟ كيف يكون طيِّباً؟! كيف يكون كما يُعبِّر بعضُ الجُهَّال الغافلين: ما فيه شيء.
أمر ورد فيه لعن! فيقول بعضهم: ما فيه شيء!؟ ما هذا الانعدامُ للميزان! ما هذا البُعدُ عن الذَّوقِ الصحيح في شرعِ الله ودينِه! وتابَعوا على المسلمين ذلك وأنزَلوا أهلَ القِيَمِ مِن قِيَمِهم، وأهلِ الكرامةِ مِن كرامتِهم.
وإنَّ مِمَّا يؤلم قلبَك مهما كنتَ مؤمناً؛ أن ترى وتنظرَ في كثيرٍ مِن أقطارِ المسلمين إلى لباسِ الجدَّات، ثم لباس الأمهات، ثم لباس البنات.. فتجد الانحدارَ والانحطاطَ مِن طبقةٍ إلى طبقة! ولكن الجدَّات هؤلاء ما انحدَرنَ عما كان مِن أمهاتِهم، ولا مِن جدَّاتِهم، ولا مِن أمهاتِ جدَّاتِهم، ولا مِن جدَّاتِ جدَّاتِهم، ولا مِن أمهاتِ جداتِ جدَّاتِهم.. لم يَنحدِرنَ، لم يتأثَّرنَ، ما كُنَّ للبَيعِ لحضارةٍ غربيةٍ ولا شرقيَّة، ما كُنَّ للبيع للذين يتَّبعون الشهوات على ظهرِ الأرض ويريدون إفسادَ الناس، كُنَّ مصوناتٍ بصيانةِ الشرع، بصيانةِ القرآن، بصيانةِ الإنتماءِ إلى وحيِ السماء، ولكن بِيِعَ برخيصٍ في قَرنِنا هذا، وفي وقتِنا هذا. بل في السنواتِ القليلة مِن عند البنات هؤلاء تظهر أزياءُ غير الأولى.. فَبِنتُ الثلاثين أو العشرين اختلف زيُّها عن مَن جاء بعدها مِن بنات الخمسة عشر وبنات الثالثة عشر! إلى ارتفاعٍ أو انحطاط؟ الى إنحطاط! إلى أسقط! إلى أبشع في ميزان الشرع!
كيف يُستحسَن؟! بأي ميزان؟! وعند أي عاقل؟!
بل وتنظر بين لباس هؤلاء ولباس بنات الستِّ السنين والخمس السنين مسكينات! أماناتٌ في أعناق الآباء والأمهات غشُّوهنَّ وضرُّوهنَّ! وألبسوهنَّ لباساً مُزرياً من أخسِّ لباسِ الكاسِياتِ العارِيات في الأرض! ولبَّسوا بناتِهم مثلَ هذا.. وإذا به بدون كُمٍّ! وإذا الكَتِفُ مكشوف! وإذا الصَّدر مكشوف! وإذا الظهر مكشوف! وإذا الساق مكشوف! وإذا الركبة مكشوفة! وإلى أين؟ وهذا مُحجَّم! وهذا مُزَرْزَرْ، وهذا قصير، وهذا طويل! لَعِبٌ غاية اللعب بأبنائنا وبناتنا نسمِّيه مُوضة ونستحسنه ونبذلُ فيه الفلوس! يُنزَع مِنَّا دينُنا ونبذل الفلوس! تُنزعُ مِنَّا قيمُنا ونَبذلُ الفلوس! ونَبذل دراهمَنا مِن أجلِ ذلك!
شؤونٌ نازلتِ الأمةَ، كشفَ الله عنهم الغمَّة، ودفعَ عنهم الظُّلمَة، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين.
والله يقول وقوله الحقّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه منَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا من خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُعِزِّ المؤمنين، وأشهد أن لَّا إله إلا الله وحده لا شريك له مُذِلُّ ومخزي الكافرين والمنافقين، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وصفيُّه الأمين. اللهم صَلِّ وسلِّم على عبدِك سيدِنا محمدٍ خاتمِ النبيين وسيدِ المرسلين، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغُرِّ الميامين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد، عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتَّقوا اللهَ، ولا تَستحسِنوا ما ليس بِحَسَنٍ عند ربِّكم، فلن تنفعَكم أنفسُكُم، ولن تغنيَ عنكم الحضاراتُ ولا الدولُ ولا الشعوب، ولا مَن سمُّوا نفسَهم بالمتقدِّمين ولا بالمتطوِّرين، إذا خانوا الأمانةَ وغشُّوكم فلن ينفعوكم ولن يُنجوكم مِن عذابِ ربِّكم ولن يحضروا حينَ غرغرةِ أرواحِكم، ولن يدخلوا قبورَكم ولن يشفعوا لكم يومَ الحساب.
أَعِدُّوا العُدَّة، واعلموا نعمةَ الإيمان واعطُوها حقَّها، عِزَّة تحرِّركم مِن التبعيَّة لكلِّ متعرفج، ولكل باطرٍ، ولكلِّ سكرانٍ، ولكل غافلٍ، ولكل لَاهٍ على ظهر الأرض، ولكل مفسدٍ، ولكل شيطانٍ، من الإنسِ والجن؛ تتحرَّرون عن تبعيتهم بميزان الرحمن، وأن لا تستحسنوا إلا ما هو حسنٌ في عاداتِكم ومناسباتِكم، وأحوالِكم مع أهاليكم وأسرِكم، وصغارِكم وكبارِكم، وأن لا تبيعوا الغالي بالرخيص، ولا تبيعوا أنفسَكم ولا أذواقَكم لِشِرارِ خلقِ اللهِ على ظهرِ الأرض، واستعِدُّوا ليومِ العرض.. (فمن تشبَّه بقومٍ فهو منهم).
إنَّ الدعاةَ إلى الانحدارِ والفسادِ كُثْرٌ على ظهرِ الأرض تحتَ قولِ الجبار: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمَا}، يُحِبُّون الإختلاط بين النساء والرجال، ربَّما وصل إلى جامعاتِكم وسط البلدان الطاهرة، وربَّما وربَّما وربَّما.. تحت تأثير مَن؟ وتحت نزعِ فتيلِ ميزانِ الاستحسان مِن قلوب الناس.. بأيدي مَن؟ وببرامج مَن؟ وبدعواتِ مَن؟ ومَن باعوا أنفسَهم لغير الله فلن يلقَوا إلا الهَوْنَ والذلَّةَ في الدنيا ثم في الآخرة -والعياذ بالله تعالى- {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}.
أيها المؤمنون بالله: الحَسَنُ ما كان عند الله وفي ميزانه حَسَن، الحَسَن سَتْرٌ وحياءٌ وحِشمةٌ وأدب، الحَسَنُ أن لا تخطوَ خطوةً إلا والإمامُ فيها حبيبُ الله جدُّ الحَسَن {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
ومِن مُستحسنٍ السبَّ والشَّتم، ومِن مستحسنٍ غيبةَ المسلمين، ومِن مستحسنٍ إيصالَ السَّمَّاعات إلى بيتِه لتُغنّيَ النساءُ في مناسبةِ زواج أو غيره ليُسمَعَ مِن الشارع، وليقالَ ذا صوت فلانة وذا صوت فلتانه.. إلى غير ذلك، استحسانٌ بأيِّ ميزان!؟ استحسانٌ للغناءِ الفاحش أو الساذج! بل الماجن، بل الداعي إلى المعصية! بدلَ الغناءِ الطيِّبِ الحسنِ بالقولِ الحسَنِ والألفاظِ الموزونةِ المباركةِ الجالبةِ للسرور مع الطمأنينةِ مع الرِّضا مِنَ الرَّبِّ جلَّ جلاله وتعالى في علاه.
استحساناتٌ غريبةٌ تظهرُ بين الناس يُجاهرون فيها الجبَّارَ الأعلى بتقديمِ وإيثارِ ما يُخالف سُنَّةَ نبيِّه ويخالفُ شريعتَه على ما وافقَ شريعةَ اللهِ وسنَّةَ المصطفى.
ألا إنَّ خالقَ السماواتِ والأرض لجامعٌ الكلَّ ليومِ العَرض، وهو الحاكمُ بينهم، فأقيموا أمرَ الله في الاستحسان، فلا تستحسنوا إلا بميزانِ الرحمن والقرآن، وسُنَّةِ سيِّدِ الأكوان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ وبذلك تثبتُون على الاستقامة، وإنَّها لأعظمُ كرامة.
اللهم ارزقنا الإستقامة على ما تُحِب، واجعلنا فيمَن تحب، وأعِذنا مِن كل حركةٍ وسكونٍ تعقبُها حسرةٌ وندامة، في الدنيا ويومَ القيامة يا ربَّ العالمين ويا أكرمَ الأكرمين.
أكثِرُوا الصلاةَ والسلامَ على النبيِّ محمد، فذلكم حَسَنٌ في غايةِ الحُسنِ بميزانِ الرحمن، وبميزانِ رسولِه القائل: (إنَّ أولى الناس بي يومَ القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاة) و: (مَن صلى عليَّ واحدةً صلى اللهُ عليه بها عشراً).
وفي ميزان الحق يقول تنبيهاً وتعظيماً بعد أن بدأ بنفسه وثنّى بالملائكة وأيَّهَ بالمؤمنين تعميماً: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيَّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُواْ تَسْلِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم على المبعوث بالحقِّ والهدى، عبدك المصطفى محمد مَن هدانا سبيلاً رَشَدَاً، وعلى الخليفة مِن بعدِه المختار وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازرِ رسولِ الله في حالَييِ السَّعَةِ والضيق؛ خليفةِ رسول الله سيدِنا أبي بكر الصِّدِّيق.
وعلى شهيدِ المحراب، الناطقِ بالصواب، ناشر العدلِ؛ أميرِ المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب.
وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَن استحيَت منه ملائكةُ الرَّحمن؛ أميرِ المؤمنين ذي النورين سيدِنا عثمان بن عفان.
وعلى أخِ النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغاربِ؛ أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَن والحُسين سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بنصِّ السُّنَّة، وعلى أُمِّهما الحَوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وأخواتها، وعلى أمهات المؤمنين، وعلى الحمزةَ والعباس، وأهلِ بيتِك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَس والأرجاس، وعلى أهلِ بَيعةِ العقبةِ، وأهلِ بدرٍ وأهلِ أُحُدٍ وأهل بيعةِ الرضوان، وعلى سائرِ الصحبِ الأكرمين ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أحيِي قلوبَ المسلمين، ونَوِّر قلوبَ المسلمين، وطَهِّر قلوبَ المسلمين، وأيقِظ عقولَ المسلمين، وحرِّرهُم مِن تبعيَّة الفاسقين والظالمين والمُجرمين، ومَن يلعب عليهم ويفتنهم عن دينهم ويفتن بينهم البين. اللهم ارزقهم تبعيَّةَ الكتابِ والسنة، واجعل لهم يقظةً مِن كل سِنَة، اللهم وثبِّتنا وإياهم على ما هو عندك في الأمور المستحسنة، اللهم ونَقِّنَا عن تبعيَّة الأهواء والأدواء وكل بلوَى يا حيُّ يا قيوم.
اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، أعِزَّنا بالإيمانِ والطاعة، واخذُل أعداءَك أعداء الدين ولا تُبلِّغهم مُراداً فينا ولا في أحدٍ من المسلمين.
يا حيُّ يا قيوم: بارِك في أعمارِنا، وتولَّنا في سرِّنا وإجهارِنا، واختِم لنا بأكملِ الحُسنى وأنت راضٍ عنا، واغفر لوالدينا ومشائِخِنا وذوي الحقوقِ علينا، والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، اللهم فرِّج كروبَهم وارفع خطوبَهم، وأصلِح قلوبَهم، وادفعِ الشدائدَ عنهم، يا حيُّ يا قيوم، يا رحمن يا رحيم، يا منَّان يا كريم، يا عليُّ يا عظيم، يا الله.
اللهم.. فَرجَك القريب وغياثَكَ العاجل، ولطفَك الشامل وجودَك الواسع، تدفعُ به عنا البلايا والمصائب وجميعَ الشرور والعاهات والمثالب.
اللهم حَوِّل أحوالنا والمسلمين إلى أحسنِ حال يا مُحوِّل الأحوال، وعافِنا مِن أحوالِ أهلِ الضلال وفِعل الجُهَّال، واصرِفنا مِن جمعتِنا هذه بقلوبٍ عليكَ مجموعة، ودعواتٍ عندكَ مسموعة، وأعمالٍ صالحةٍ مقبولة مرفوعة، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم إنَّا نسألك لنا وللأمة مِن خيرِ ما سألك منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مما استعاذًك منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنت المستعانُ وعليك البلاغ، ولا حولَ ولا قوَّةً إلا بالله العلي العظيم.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذَكرُ الله أكبر..
16 جمادى الآخر 1442