فوائد من: تفسير سورة مريم (11) مراتب العهد مع الله ومآل المتقين
العلامة الحبيب عمر بن حفيظ:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) تَحمِلَهُم عليها حَملاً، وتُنهِضهُم إنهاضاً، وتُهَيِّجهُم تَهييجاً، لِمواصلة المُنكرات والأسواء والشُرور بأصنافِها، فيما يَتَعَلّق بِذواتِهم وأفكارِهم، وفيما يَتَعَلَّق بِأُسَرهم ومُجتَمعاتِهم، وفيما يَتَعَلق بِمَن عَداهُم ممن يَضُرون ويؤذون أو يَنتَهِكون من الحُرُمات.
- الكُلُّ يَؤولونَ إلى حسابِ حكيمٍ قويٍّ قديرٍ متينٍ، لا يَفلُتُ عليه أحدٌ من خَلقِه، ولا يستطيع أن يَهرُبَ منه شيءٌ من كائناته؛ بل مَرجعُ الكُل إليه وحسابُ الكُل عليه: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم).
- وعِزَة الله الذي خَلَقَنا، ما أهانَ أحدٌ من المُكَلَفينَ في الأوَلين والآخِرين نَفسه بِمِثل مَعصِيَة الله؛ والله إنها الهون، والله إنها الهَلاك، والله إنها الظُّلمة؛ مَعصِيَة جَبّار السماوات والأرض من قِبَل مَخلوقٍ من نُطفة، جُعِلَت عَلَقة ثم مُضغَة ثم حُوِّلت عِظامًا ثم كُسِيَت لَحمًا، ما باله يَعصي الجَبار الأعلى؟!
قال تعالى: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)) وسَيأتي الأمر العَظيم والمُستَقبَل الكَبير الذي جاءنا الأنبياء لِنَنتَبِهَ له، ولِنُعِدَّ العُدَّةَ له، لِنَسعَدَ فيه سعادةَ الأبد، المُستَقبَلُ الكَبير، المُستَقبَلُ الخَطير، مُستَقبَل القِيامة، مُستَقبَل الحَشر، مُستَقبل الجَمع في ساحة حُكمِ من لا مُعَقِّب لِحُكمِه، هذا هو المُستَقبَل الكَبير.
- (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا (85)) يا فَوزَهُم! ياسَعادَتَهُم! يا ما أَجمَل أحوالَهُم! يا ما أَحسن مُستَقبَلهُم! (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ) انظر الى جَمال الكَلِمَات! قال: (إِلَى الرَّحْمَٰنِ)؛ لأنهم في كَرامَتِه وفي ضِيافَتِهِ وفي رِضوانه وإحسانه، فلم يقُل إلى الجَّنة، بالنسبة للآخرين قال: (إِلَىٰ جَهَنَّمَ) لكن هؤلاء قال: (إِلَى الرَّحْمَٰنِ) ما هذا الجَمال! ما هذا الشَّرف! ما هذه العِزَة!
(إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا)
- - وأول العهدِ: الإيمانُ به واليقين، والتَبَرِّي مِنَ الحول والقوة إلى حوْلهِ وقوَّته.
- - هذا العَهد له مراتِب فأوَّله: شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
- - من ليس عنده هذا الإيمان فلا عَهدَ له، بل من لم يُحافِظ على الصَّلوات الخَمسِ لَم يَكُن لَهُ عَهد.
- - وراء ذلك عُهودهُ تعالى لأهلِ الشهادةِ في سَبيله، مِن كُل من قَدَّمَ روحَه ونَفسَه؛ وفاءً بعهدِ الله ونُصرَةً لله ولِتَكونَ كَلِمَة الله هي العُليا، فلهُم عند الله عَهد.
- - وفوقَ ذلك عَهدُ الله تعالى للِصِّدِّيقين والعُلماء العامِلين، لا عُلماء اللِسان ولا عُلماء السُّلطان ولا عُلماء الدينار والدرهم؛ ولكن عُلماء الخَشية من الله، عُلماء الصدق مع الله، علماء الإرث للنبوة.
- - فوق كل ذلك عهدُ أكمل الخلق إيماناً ﷺ، صاحب عهد (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)، صاحب عهد (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ).
- - هذا عهد الله الأكبر تلقّاهُ هذا العبد الأطهر ﷺ، فجميع ما يأذن الله فيه من الشفاعة دون شفاعته، بالمقام المحمود ﷺ، وبذلك يُعلَم المكانة لهذا المصطفى ثم للأنبياء والمرسلين وأتباعهم على قدر اتّبَاعهم.
جاء في بعض الأخبار عن قراءة: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فيقول: "وأنا أشهد بما شهد الله به، وأُشهد الله على ذلك، وأستودِع الله هذه الشهادة، وأسأله حفظها حتى يتوفاني عليها"، فإنها تُحفظ له عهداً يُسلَّم له يوم القيامة.
يا منزل القرآن، صلِّ على من أنزلت عليه القرآن، وافتح علينا في القرآن، واجعلنا عندك من أهل القرآن، واحفظنا بما حفِظت به القرآن، وانصرنا بنصرك العزيز المؤزَّر، وعجّل بتفريج كروب أمة نبيك محمد في الشرق والغرب، واكشف عنا وعنهم كل كرب، وحوِّل الأحوال إلى أحسنها، ورُدّ كيد الفجار الكفار في نحورهم، ولا تُبلِّغهم مراداً فينا ولا في أحد من المسلمين.
____
تفسير سورة مريم -11- من قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} الآية 83 إلى 93
ضمن دروس التفسير للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في جلسة الإثنين الأسبوعية، 23 جمادى الأولى 1446هـ
للاستماع والحفظ، أو قراءة الدرس مكتوباً :
للمشاهدة:
https://www.youtube.com/live/SdzvPkAhHjs?t=1997
09 جمادى الآخر 1446