(228)
(536)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جلسة الجمعة الشهرية الـ39، لحارتي الروضة والسعيد، في ساحة جامع الروضة بحارة الروضة- مدينة تريم، ليلة السبت 20 ذي الحجة 1444هـ ، بعنوان:
وجوب الحذر مِن فَسْح المجال أنْ تُزاحَم أُطروحات إبليس وجنده تعليمات الحق الخالق ورسوله في حركة الحياة
الحمد لله على ظهور أسبابِ الترابُط والتماسُك من أجل تنفيذ الأمر الإلهي الرباني السماوي، في تواصينا بالحق والصبر وفي تذاكرنا لمهماتنا في الحياة، التي توجَّه للمزاحمة والمشاركة، فيها مزاحمة أوامر الحقّ الذي خلق ورسوله الذي ائتمن من قِبَلِ هذا الخالق، مزاحمة إبليس وجنده -والتي كما سمعتم في كلام أحبابنا المُتحدّثين- تركّزت في جانب التربية وإهمالها في الأسرة، في المدارس، وانتقل ذلك إلى المساجد وإلى المعاهد، من باب أولى شأن الشوارع والملاعب، التي كان من أثر الاستجابة لنداء الله فيها أن سمعتم القولة الشهيرة "شوارع البلدة شيخ من لا شيخ له"، لِما يوجد فيها من التنبُّه والشعور القلبي والإحساس الباطني بِمُهِمّة حراسة الشرع المَصون والأدب النبوي، لِيَعُمّ صغار الناس وكبارهم وخواصّهم وعوامهم، كان ذلك بارزاً وبيّناً وأعاده الله سبحانه وتعالى وأعاد إلينا نهضة إيماننا ويقيننا، ومُقتضى ذلك من سلوكنا وتعاملنا فيما بيننا البين، وانتباهنا من هذه التربية للنفوس والنظر إلى شأن القلوب التي لا ينظُر ربّ السماوات والأرض ومَن إليه المرجع وله الحكم في القيامة إلا إليها، "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم" جزى الله أحبابنا فيما قالوا وجزى الله المتعاونين على أنواع من الخيرات بحمدِ الله تبارك وتعالى.
فإنّكم وما أنتُم فيه كان يتمنّى عدوّ الله ووصلت الأمنية إلى كثير من جنده انساً وجناً أن لا يأتي مثل هذا الوقت وشيءٌ باقٍ من التواصي بالحق والصبر وما إلى ذلك، وعرفتُم الحركات التي مَضَت في البلد وغيرها من بُلدان العالم، وكان يُظنّ أنه بعد عشرين سنة أن لا يبقى مسجد في البلدة الفلانية أو أن لا يبقى أثر تعليم القرآن مثلاً، كما كُنّا نسمع من قبل أربعين سنة أو خمسين سنة أن هناك خُطط موضوعة لأن تكون قارة أفريقيا في عام ألفين قارة مسيحية وما لها أثر للإسلام فيها، وهذه البلدة وغيرها وقارة أفريقيا كلّ الخطط التي وضعت لاستئصال مبادئ الخير فيها فشلت، وتضاعف عدد المسلمين وتضاعف عدد المساجد هنا وهناك! سواء في القارة الأفريقية أو غيرها، وذلك لعجائب قوة المكوّن الذي وعد المأمون أن يَنصُرَه {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح :3] وأن يُبقي هذا الخير في هذه الأمة، وإذا بكم ايضاً كما سمعتم في كلام أحبابنا تشاهدون الوافدين إلى البلد لأجل الرابطة بالرب، لِأجل الاتصال بنبيّها المُقرّب اتصالاً يقتضي الحشر معه في موقف القيامة، والاستظلال بِظلِّ لِوائه والورود على حوضه في أوائل أهل الورود.
وسمعنا في الحديث الصحيح أنّ مِن أوائل الواردين أرباب الإيمان واليقين والتقوى من أهل اليمن، حتى نصَّ على ذلك في قوله: "إني لَبِعقر حوضي أذودُ الناس عَن أهل اليمن" أي أستقبلهم أولاً للورود على الحوض المورود، وذلك يقتضي أن تبقى خيرِيّة في اليمن الميمون على مدى القرون وآثارها بحمد الله، والراية التي تحملها الوادي الميمون وادي حضرموت من حين ما وصل الإسلام إليه في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام، وحمل تلك الراية في أداء الدور حتى لما وصل إلى الوادي الصحابة في عهد الصدّيق لم يجدوا رِدَّة في هذه المدينة وكثير من المدن حواليهم، وأنحصر مواضع أثر الاهتزاز والتزازع في أماكن معينة ووجدوا النُّصرة مِمّن قام معهم من مثل أهل هذه البلدان، ثم بعد ذلك ما كان في عصر التابعين وتابعي التابعين إلى ما تم التحام الجهود لأهل البلد ومن تسلسل منهم، أو من حل في بلدانهم من الصحابة ومن تناسل منهم، إلى أن جاء المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى من أرض العراق وكان أبوه وجده بالبصرة وأبو جده في جانب المدينة المنورة لِمُقتضيات الهجرة في الظروف التي مرّت بالأمة، وتمّ ذلك الالتحام وتناسُق أهل السنة في منهج وسطي مُعتدل قَويم، بعيد عن البغضاء والشحناء وإثارة السوء للأحياء أو للأموات، وَوَعي لعظمة الخطاب الإلهي والنبوي وأداء الدور في حمله.
وتواترت القرون بعد ذلك فلا نكاد نجد قبيلة من القبائل في الوادي إلا ومرَّ في تاريخهم علماء أخيار صالحون وَرِعون أتقياء، مختلف القبائل ما يخْلون من وجود أعداد من مثل حاملين لهذه الأوصاف الشريفة لِقوّة أثر التربية وانتشارها، وهكذا حتى إلى المدة الأخيرة والأوقات المتأخرة فيما طرأ أيضاً على البلاد من أيام ظهور الشيوعية بِسَلطتها وقبلها ما كان مِن تسلُّط بريطانيا على المنطقة وبكثير من شؤونها وأحوالها إلى غير ذلك، نجد وراء كل ذلك أسرار {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] وأسرار: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]، كُلّ ذلك يقتضي أننا يجب أن نأخُذ بالصدق والإخلاص واجباتنا ومُهِمّاتنا في الوادي الميمون وفي البلدة المباركة، وأن نمضي قُدُماً في صِلَةً بالحي القيوم ربِّ العرش العظيم لنؤدي الأمانة، وندفع شأن هذه المزاحمة من قبل إبليس وجنده على الفكر وعلى النظر إلى الأمور وعلى المسلك وعلى أصل حق الألوهية في التحريم والتحليل، ليس الحق لمخلوق أن يفرض على مخلوقين ويُحَرِّم ويُحَلِّل.. الأصل لله سبحانه وتعالى، وما اجتهاد المجتهدين في الأمة مِن عصر الصحابة ومن بعدهم إلا بذل الوسعِ في استبيان معاني الخطاب الإلهي والبلاغ النبوي، لا لِيكون أحداً منهم مُشَرِّع ولا مُقَدِّم ولا مُؤَخّر في أمر ولا نهي أصلاً، وما بنوا نصائحهم ولا سلوكياتهم إلا على تبعيّة مُطلَقَة لِأمر الله وأمر رسوله، وتفاني أو فناء الهوى من النفس ووجود المُزاحمة للأمر الرباني والأمر النبوي {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] بذلك حَيَّتْ السنة في قلوبهم ومشاعرهم وأحاسيسهم وأفكارهم، فحَيَّتْ في البيوت فحَيّت في المساجد فحيت في الشوارع فحيَّتْ في الأسواق وفي المهن وفي الحِرَف، حيَّتْ السنة النبوية وكان منها ما كان.
وقبل أيضاً عشراتٍ من السنين لا تصل إلى القرن، بعض المُتعاملين يتعامل مع بعض الذين كان يبيعون هذا الصوف يقولون له عندنا بلهجتنا العُطُبْ، ويأخُذ الكمية المُعيَّنة صاحبها كُل مرّة إلى موضع في بيته مِن أجل أن يُزاوِل ندفهُ كما نُسمّيه ويقوم بإعداده لتحويله إلى ملابس وما إلى ذلك في ما كان قائمة عليه البلد من الاكتفاء الذاتي، أخطأ يوماً الوَزّان فَوَزن له ضِعف ما كان يَزِن له وحَمله، لمّا وضعه في مكانه في البيت وجد المساحة أكثر مِمّا يعتاد، قال الرجال غلط، ما هذا مِقدار الثَّمن الذي نُعطيه والذين نعتاد أخذه منه من القيمة، رجع حمل الصوف كله ورجع إلى عنده، قال له: غلطت، قال ما غلطت، قال غلطت، كم وزنت لي؟ قال له أرجع الميزان، فأرجع الميزان ووجده مضاعف نصف كامل! قال خلاص النصف حقك واعطنا النصف حقي ما أريد إلا هو.. أعطاه النصف، فقام أعيان البلد عرفوا بالقصة والقضية وأنه كان في وسع هذا الآخذ أن يسكت ويأخذ الصوف وتنتهي المسألة، فجاءوا إلى زيارته إلى بيته يقولون ما جئنا من مُجرّد كميّة من الصوف رددتها ولكن ضمير حي فيك يَنِم عن التربية التي نبني الأمور عليها في البلد فأنت تستحق الزيارة، فذهب أعيان البلد علمائها وكبارها إلى بيته زائرين له، يقول لِنُحيِّي الضمائر التي تُعظِّم أمر الله وتقوم بِحَقِّ الأمانة ولا تعدّ أنّ ما جاءها مِن غير وجههِ غنيمة لها ولكن غُرمٌ عليها وسؤالٌ يوم القيامة، وهل يمكن أن يقوم في عالم البشر والناس أصفى من هذه المعاملة وأحسن من هذا الخُلُق في مراقبة الخالق جل جلاله وتعالى في علاه!
فالشأن في أن يجد الإيمان مساغَهُ ومسارهُ وسط البواطن والمشاعر، حتى يتطبَّق الأمر المربوط به في القرآن والمقرون به {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الكهف:107] آمنوا ويعملون الصالحات، {آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [الكهف:88] ذا بذا، مربوط هذا بذا، انطلاق في السلوك الطيِّب في الحياة بِباعث الإيمان، بداعي الإيمان، بوازع الإيمان، بحقيقة الإيمان! وهذا أقوى ما تَتِمّ المراقبة عليه، أصحابه ما يحتاج أن تأخذهم كاميرا موضوعة في شارع ولا في بيت ولا عند فلان ولا عند فلتان، وهُم آمَن حتى كان ما كان، مِمّا استشهدنا به مرات قبل ستين سنة، رجع بعض أهل سيئون من منطقة في إندونيسيا عاش فيها سنوات تقرب إلى العشرين، فبكى أهل الحارة عليه من أبناء المنطقة على فراقهم لما أخبرهم أنه عازم يرجع يستقر في بلده حضرموت ويرجع إلى سيئون، ولفت نظر بعضهم بكى جار له غير مسلم وأصله صيني عايش في اندونيسيا، فجاء اليه قال له: أنت تبكي على الجار هذا؟ قال نعم، قال له: أنت على غير دينه هذا الانسان مسلم، التفت اليه قال: هذا المسلم له سنوات جالس جنب بيتي ما قد يوم شفت عينه امتدّت إلى البيت تشوف شيء وسط البيت، وأنّ افضاله علينا وهداياه لنا مستمرة على طول العوام، لا تجيء عنده مناسبة في دينه إلّا ويرسل إلينا الهدية، أنا مستأمن على مالي وأولادي عنده أحسن مما استأمن بهم على أقاربي وعلى ناس من ديانتي، في هذا المكان أنا مستأمن على هذا وعلى مجاورته لي، بهذه الصورة وبهذه التربية كان حقيقة النشر للاسلام والخدمة له والنصرة لله ولرسوله.
ولم يزلْ على مدى القرون الداخلون للإسلام عبر السلوك وعبر الأخلاق الحسنة أضعاف مُضاعفة من الذين يدخلون عبر الاقتناع بالأدِلّة وأنظمتها أو تنظيمها ووضعها للقناعة العقلية الحِسِّيَّة، وإلى وقتنا هذا لا يزال الدخول للإسلام بإبراز جمال مسلك النبي صلى الله عليه وسلم، وجمال خُلُقِه وجمال سيرته، هو المؤثِّر في هداية الخلق إلى الخلّاق، لأن الدّاعي الذي ائتمنه الله على دعوة الخلق إليه هو النبي المصطفى {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الاحزاب:46]، وبذلك قال لنا "بَلِّغوا عنّي ولو آية"، فأنتُم أمام مُهِمّات وواجبات تتعلّق بِحارتكم ببلدتكم وبواديكم، ثم أنتم جزء من هذا اليمن، جُزء من جزيرة العرب، جزء من العالم الاسلامي، جزء من الأرض التي بُعِث نبيّكم إلى أهل أقصاها إلى أقصاها وأدناها إلى أدناها، مِن شرقها إلى غربها وشمالها إلى جنوبها، إنسهم وجنّهم إلى أن تقوم الساعة، نبيّكم بُعِث إليهم وأُرسِل إليهم، ووضع الأمانة على رِقابكم من بعده لِتُبلِّغوهم وتنشروا الخير إليهم.
فالله يُعيننا على القيام بالأمر على ما يُحِب ويزيدنا تواصي بالحق والصبر، وانتباه مِن ناشئتنا وأبنائنا، لا تأخذهم هذه المزاحمة لإبليس وجنده لأوامر الله وأوامر رسوله ﷺ، ولنخرج إلى المُحيطات مِن حوالينا وإلى القرى من حوالينا ونؤدّي الواجب فيها، ولم يزال الوادي والبلدة الميمونة مصدر نشر للنور والهدى والخير، وسيتضاعف عدد الوافدين والواردين مِن هنا ومِن هناك، فعلى أهل البلدة أن يعرفوا واجبهم ودورهم، إنّ كثيراً من الوافدين لن يصلوا مُجرّد سيّاح ولا مُجرَّد تُجّار، ورُبّما مرّت الظروف وأقبلت على الناس ظروف يقصد اليمن ويقصد حضرموت كثير من أجل التجارة يمكن كما قصدت أماكن أخرى.. قد يكون ذلك، ولكن سَيَفِد إلى البلد مَن يكون دافع وصولهم إليها إرادة الوصول الى الله، وأن يكون دافِع وصولهم إليها إرادة المُرافقة لِمُحمّد بن عبدالله في البرزخ والقيامة ودار الكرامة، وهؤلاء إذا وفدوا فَهُم ضيوف ربّكم وضيوف رسوله وضيوف الشريعة والمنهج، وضيوف المسلك الذي سلكه أجدادكم مِن قبل في هذه البلد، فقوموا بِحَقّ هذه الضيافة لهؤلاء الوافدين لكم، وسيأتون مِن شرق الأرض ومن غربها بمختلف اللغات، ولن تبقى قارّة من قارات الأرض إلا ووفد إليها مَن وفد مِن رجال ونساء وصغار وكبار، فارعَوا حقّ الأمانة وارعوا ما طوَّقكُم الله به من هذه المكانة، والله يُعيننا على أداء الأمانة على خير وجوهها، ويجعلنا من خواص {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، وردَّ الله كيد الكُفّار والفُجّار والأشرار، ودفع شرَّهُم عنّا وعن جميع الخلائق، وثبّتنا في الاستقامة على أقوم الطرائق، إنّهُ أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين، وعفواً على طول الجلسة عليكم وامتدادها، وجمعنا الله على الخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
19 ذو الحِجّة 1444