(536)
(229)
(574)
(311)
محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 17 صفر الخير 1440هـ، بعنوان: شرف وقوف القلوب على باب رب الأرباب.
الحمد لله ربِّ الدنيا والآخرة، المُحيطِ بجميعِ الأحوال والشئونِ الباطنة والظاهرة، وهل مِن حال أو شأنٍ أو ذاتٍ أو وَصْفٍ من غير خلقِه؟!، الكلُّ خلقُه، والكلُّ مُلكُه، والكُلُّ فِعلُه، والكلُّ تحت قُدرتِه، والكلُّ تحت عظمتِه، والكلُّ تحتَ سلطانِه، والكلُّ تحتَ قهرِه، سبحان الواحدِ القهَّار، يُضلُّ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء، يُسعِد مَن يشاء، ويُشقِي مَن يشاء، يُقرِّبُ مَن يشاء، ويُبعِد مَن يشاء، يرفعُ مَن يشاءُ ويخفضُ مَن يشاء، وما شاء اللهُ كانَ، وما لم يشأ لم يكُن، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
وأشَدُّ من تَعَرَّضَ للْخِزي وللندامة وللبُعدِ عن الحقيقة: المكلَّفون مِن الإنسِ والجنِّ الذين بلَغتهُم الدعوة فلم يستجيبُوا، وجاءهم النورُ فردُّوه وارتضَوا بالظُّلمَة، وجاءهم الهدى فابتغَوا الضَّلالةَ بدلَ الهدى، هؤلاء أشقَى المخلوقات، أشقى الكائنات، أبعدُهم عن الرَّحمة، أشدُّهم حسرةً في يوم القيامة، جِنٌّ وإنسٌ وقُودُ جهنم، وحَطَبُ نارٍ موقدَةٍ تطَّلعُ على الأفئدَة، وإن كان صاحبَ شُهْرة في الدنيا، وإن كان صاحبَ رئاسة في الدنيا، هو واحدٌ مِن وَقودِ جهنَّم، هو واحد من وَقود النار التي تطَّلِع على الأفئدة، التي فُضِّلت على نارِ الدنيا وضُوعفَت بسبعين جزءاً والعياذ بالله تبارك وتعالى، اللهم أجِرْنا مِن النار.
وبَقِيَّة الكائنات مُسَبِّحَةٌ بحمدِ ربِّها، ومِن أقربِ ما يكونُ مِن الإنسِ والجنِّ أصنافُ الحيوانات، وهي مسبِّحةٌ بحمدِ ربِّها، ولا تتعرَّضُ في المآلِ والمستقبلِ العظيم إلا لمقاصَّةٍ بينها البين، ومُقَاصَّة بينها وبين الإنسِ والجِن، فإذا أخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه حتى رُدَّت القرونُ مِن القَرناء إلى الجمَّاء فنطحَتها بقَدرِ ما نطحَتها في الدنيا، وانتهتِ الحقوقُ البهائم وبينهم وبين الإنسِ والجن قال لها الله: كوني تراباً، فيأتي هذا الذي اغترَّ بالشَّهوة أو اغترَّ بالمال أو اغترَّ بالتكنولوجيا، أو اغترَّ بمسمَّى الحضارةِ أو بمسمَّى التَّقَدُّمِ ولم يؤمنْ بالله ورسولِه وقد بلغَته الدعوةُ يتمنى أنه مكان واحد مِن هذه الحيوانات؛ أنه كان بقرةً، أو أنه كان ذئباً، أو أنه كان كلباً من الكلاب: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } ، واحد من الحيوانات هذه أرجعُ إلى التراب، ولن يصيرَ ترابا، ولكنه يدخلُ الجنةَ ويُعذَّبُ فيها مدى الأبد، كلامُ حقٍّ لا ريبَ فيه، لا شكَّ فيه أبداً قط، هذا هو المصير، اللهم اجعل مآلَنا الجنة.. اللهم اجعل مآلَنا الجنة.
{ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }، يا ربَّ العالمين ويا أكرمَ الأكرمين، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ .. }، لا الأرض مخلوقة باطل، ولا السماء مخلوقة باطل، ولا ما بينهما، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ }ص27، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }آل عمران191 .
وما خَلَقْتَ الجِنَّ باطلاً، ولا خلقتَ الإنسَ باطلاً، ولا أرسلتَ محمداً باطلاً، ولا أوحيتَ القرآنَ باطلاً، ولا أبقيتَ في الأمة سِرَّ هذه الدعوة باطلاً، ولا أسمعتَنا ترديدَ كلامِ الحقِّ يأتينا مِن أهلِ الشرق وأهل الغربِ ليُقال لنا بلسانِ الإنس وبكلامهم على ظهرِ هذه الأرض: الحقُّ فيما جاء به محمد، والسعادة معه، وكلُّ ما خالفَه شقاء، وكلُّ ما خالفَه ضلال، وكلُّ ما خالفَه حِرمان، وكلُّ ما خالفَه سوء، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }النور63.
وكم أظهرَ الشيطانُ كلمتَه أنَّ الخيرَ في مظاهرِ الدنيا أو عند الكفارِ في الشرقِ أو في الغرب، كلمة باطل، ولكن كلمة الله هي العُليا {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ } ألحِقنا بهِم يا رب.. ونحن بين يديك نعترفُ أننا قد أسأنا وقد عصَت أعيُنُنا، وقد عَصَت آذانُنا وقلوبُنا وأيدينا وجوارحُنا يا حيُّ يا قيوم، لكنا نحبُّ المتَّقين، ونوقِنُ أنهم الأصفياءُ الأوفياءُ الكرماءُ أهل السعادة الكبرى، فألحِقنا بهم يا رب، واحشُرنا في زُمرتِهم يا رب.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّه..}، نُزُلٌ مِن عند الذي خلقَهم وأعطاهم الإيمانَ به، لك الحمد.. أعطيتَنا وجميعَ الحاضرين والسامعينَ الإيمانَ فثبِّتنا عليه، وقوِّه فينا، وأمِتنا عليه، أحيِنا عليه وأمِتنا عليه، وابعَثنا مع خواصِّ المؤمنين..
رب احيِنا شاكرين وتوفَّنا مسلمين
نُبعَث من الآمنين في زُمرةِ السابقين
بجاهِ طه الرسول جُدْ ربَّنا بالقبول
وهب لنا كلَّ سول ربِّ استجب لي آمين
ربِّ ما جمعتَ هذا الجمعَ باطلاً، فبحقِّ جُودِك وإرادتِك التي جَمَعَتْنا على ذكرِك لا تُخَلِّف أحداً مِن أهلِ الجَمعِ ولا ممَّن يسمعُنا عن ركبِ الحبيبِ يومَ القيامة، بحقِّك عليك، بأسمائك، بصفاتِك لا تخلِّفنا عن ذاك الرَّكب، ولا تُخرِجنا عن تلكَ الدائرة، ولا تُبعِدنا عن تلك الزُّمرة؛ في زمرةِ محمد، في زمرةِ أحمد، في زمرةِ الممجَّد، في زمرةِ طه، زمرةِ يس، زمرةِ البشيرِ النذيرِ السراجِ المنيرِ، عبدِك المصطفى، الذي خاطبتَه في كتابِك الذي جعلتَه مهيمِناً على كتاب، فقلتَ في شريفِ الخطاب، لسيِّدِ الأحباب في ذكرِ يومِ المآب: {يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، فاجعلنا معه، يا ربِّ معه، { وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، بحقِّ ما آتيتَه مِن حملِ لواءِ الحمد رَافِقنا به، بحقِّ ما شرَّفه وآتيتَه به مِن الحوضِ المورودِ رافِقنا به، وأوردِنا على حوضِه المورود، واسقِنا منه شراباً لا نظمأ بعده أبداً، يا ربِّ بحقِّ المقامِ المحمود الذي آتيتَه إياه رافِقنا به، اجعَلنا مِن رفقاءِ هذا الحبيب، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ}، فمَنِ الذي يُخزَى؟؛ من عاداه، مَن خالفُه بمختلفِ أصنافِهم، بمختلفِ فئاتِهم، بمختلفِ أفكارِهم، يُخزَون.. يُخزَون.. يُخزَون.. يخزون يوم القيامة، {يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}، من يُقال له هذا؟؛ يُقال هذا لكثيرٍ مِن الذين قلوبُ بعضِ المسلمين ترى أنهم عظماء؛ واللهِ ما هم عظماء، واللهِ العظيمِ ما هم عظماء، مِن أحقرِ خلقِ الله، ويُقال لهم في القيامة {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ }الأحقاف20، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }.
ارزُقنا الإيمانَ بالآيات، والإقبالَ عليك بالكُلِّيات يا بارئ الأرضين والسماوات، بِيدِك الأمرُ لا بِيَد غيرِك فلا تكِلنا إلى غيرِك، ولا تُسَلِّط علينا غيرَك، ولا تجعَلنا يا مولانا إلا في تَبَعِيَّةِ مَن تُحب، مع من تُحب، ظاهراً وباطناً.. يا الله.. يا الله.
قَضَتْ حكمتُك وإرادتُك ومشيئتُك أن يكونَ أكثرُ المكلَّفين على ظهر الأرض ضَالِّين عن السبيل، ولهم الخِزيُ الوَبيل، وأنعمتَ علينا بالإسلامِ والإيمانِ فزِدنا مِن الإسلامِ، وزِدنا مِن الإيمان، وزِدنا مِن العافيةِ، وبارِك لنا في العُمرِ.. يا الله.. يا الله.
يا مَن دعاك الرحمنُ فأوقفَكَ على بابِه، وأنزلكَ في فسيحِ رحابِه، وربَطكَ بأحبابِه وسيدِ أحبابِه، ما أكرمَ عِزَّكَ بالوقوفِ على بابِه، واللِّيِاذِ بأعتابِه، مَن أنت حتى تُدْرِكَ هذا الفخارَ الأمجد، ولكنَّكم في دَرَكِه على مراتبَ عظيمةٍ مُتفاوتةٍ مُتباعدة، ولا يخيبُ مَن أحسنَ الوقوفَ على بابِ ربِّ العالمين جل جلاله، وأكرمِ الأكرمين، وهمُ القومُ لا يشقَى بهم جليسُهم.
ولكن وراءَ مداركِ الوُقوفِ على هذه الباب معاني فسيحة رحاب، وسلالم يُرْتَقى بها إلى حضرات الاقتراب، ومعاني عجائب مِن وَهْبِ الوهاب، وَجُود مَن يُعطِي بغيرِ حساب جل جلاله، فعسى تُدركُ منها نصيبَك، عسى تدرك منها حظَّك؛ فرَبُّ العالمين ما أوجد فينا هذه المحاضرَ وهذه المواطنَ وهذه المظاهرَ إلا ليَرْحَمَ بها، إلا ليُقرِّبَ بها؛ لأنها أبوابُه التي فتحَها لعبادِه، وإذا أراد أمراً هَيَّأ أسبابَه، وهذه أسبابُ القرب، وهذه أسبابُ الوصول، وهذه أسبابُ كَشْفِ الحجاب، وهذه أسبابُ الرابطةِ بمحمد، وهذه أسبابُ وَعْيِ الخطابِ الإلهي الربَّاني، وهذه أسبابُ الانتقالِ مِن الشقاوةِ إلى السعادة، ومِن البُعد إلى القُرْبِ، ومن الغفلةِ إلى الذِّكر.. لله الحمد.
يا مَن فتَحْتَ الأبوابَ وأقمتَ الأسبابَ لا تَقطَعنا يا وهَّاب، وشرِّفنا بكشفِ الحجابِ عن سميرِ حضرةِ قابِ في مقامِ الاقتراب، يا كريمُ وهاب، يا ربَّ الأرباب، يا الله، أحسِن وقوفَ قلوبِ مَن حضر ومَن يسمع على بابِك، وأحسِن لهم اللِّياذَ بأعتابِك، وأنت مُقلِّبُ القلوب، وهل وقفَ على بابِك ملكٌ أو نبيٌّ أو صديقٌ إلا بإفضالك، وإلا بجُودِك ونوالِك، فنسألكَ يا مولى الإفضالِ والجودِ والنَّوال أن ترحمَ هذه القلوبَ وتُحسِنَ وقوفَها على بابِك، يا مُتفضِّل، يا مُتطوِّل، يا مُنعِم، يا مُكرِم، يا مُحسِن، يا مُجَمِّل، يا كريم.
ولئن نظرَ إلى قلبِك فرحمَك وأوقفَك على بابِه لأراكَ العُجابَ مِن عطائه، وأوصلكَ إلى ذوقِ حلاوةِ رضائه، ولا شيءَ أعظم فَيُحَصَّلُ في الدارين مِن رضوانِ ربِّ الدارين، وغداً ينادي أهلَ جنَّته: ((ألا أعطيكم أفضلَ مِن ذلك)) يقولون: ربَّنا وما أفضلُ مِن ذلك؟!، يقول: ((أُحِلُّ عليكم رضواني))، معهم يا رب نسمعُ منك هذا الخطاب..
يا ربَّ الأربابِ على بابِك وقفنا أن تجعلَنا في أولئك القومِ نسمعُ معهم نداءك هذا: ((أحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخطُ عليكم بعده أبداً))، فما أسعدَهم، وما أجلَّهم مِن سُعداء، سَعِدُوا بك يا مُسِعد السُّعداء، فبِأسعدِهم حبيبِك محمدٍ ألحِقنا بهم يا الله، وعَجِّل لنا أن نبيتَ ليلتنَا وأنت راضٍ عنا، فينقضي بقيةُ شهرِ صفر في رضوانِك، ويزداد لنا رضوانُك إذا دخل شهرُ ذكرى ميلادِ سيِّدِ أهلِ الرضوان، وإمام أهلِ الإحسان، مَن أنزلتَ عليه القرآن، صفوةِ الأكوان، حبيبِ الرحمن، عظيم القدر والجاه والشان، محمد المصطفى مِن عدنان، مَن جاء بالتِّبْيَان، وبيَّن لنا أحسنَ البيان، وعِشنا ببركتِه هذا العَيش الهاني.
لولا بكاءُ عينَيه ودموعُه التي خرَجَت ما شممتُم شمَّاً مِن هذا البرق، ولا حضرتم محْضَراً مثل ذا المحْضَر، ما الذي يَتنزَّلُ فيه، كيف ينظرُ الباري إلى عبادِه فيه؟ ما الذي يقضي بسببِه في مشارقِ الأرض ومغاربِها، ما الذي يَكتبُ به مِن سعاداتٍ في قلوبٍ كثيرة، ما الذي يَرفعُ به مِن درجات، ما الذي يَكشف به من كُربات..
بين يدَي مَن أنتم، ببكاءِ حبيبِ اللهِ الرحمنِ وصلتُم إلى هذا المكان، بَعَصْبِه الحَجَر على بطنِه، بهجرتِه، بمُكابدتِه، بصبرِه، بكثرةِ دعائه، بِشَجِّ جبينِه، بشجِّ شَفَتِه، بكَسرِ رباعيته، نِلْتُم هذا وأدركتُم هذا، فلولا هذا ما جعل الله هذا، فلك الحمد، واجزِ عنا محمداً ما هو أهلُه، واجزِ عنا محمداً ما أنت أهلُه، يا أرحمَ الراحمين، ويا أكرمَ الأكرمين.
{وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا }، {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}، فارزقنا حسن سماعها، {وَيُزَكِّيهِمْ } فوفِّر حظِّنا مِن تزكيتِه يا الله، واجعل كلَّ نفسٍ حاضرةٍ أو سامعةٍ مُزَّكاة، تدخلُ في نورِ تلك الزكاة، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ارزقنا وافراً مِن هذا العِلم الشريِف، الذي تَقْضِي لأهلِه بالتكريمِ والتمجيدِ والتَّشريف، وتجعل لهم عندك القدرَ العالي المُنيف، يا بَرُّ يا كريمُ يا لطيف، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }، نحن مِن دون محمدٍ في ضلالٍ مُبين، ونحن بمحمدٍ في نورٍ مبين، لك الحمدُ يا رب، أتمِم النعمةَ علينا وعلى الحاضرين والسامعين، فنجتمع غداً جميعاً في زمرتِه يا أكرمَ الأكرمين.
يا ربَّنا وأحْسِن وقوفَ قلوبٍ كثيرةٍ مِن حاضرينا وسامعِينا عليك، وعجِّل بكثيرٍ من ذلك مِن ليلَتِنا، وارزُقها حُسْنَ الوقوفِ أبداً، ترتقي مراقي الهدى، وتسعَد مع السُّعداء؛ فإنَّ مَن حَسُنَ وقوفُه على بابِ الله لم يزل بالبابِ واقف، وقال:
لم أزَل بالبابِ واقِف فارحمَن ربي وقوفي
وبوادِي الفضلِ عاكِف فأدِم ربي عُكوفي
ولحسنِ الظن ألازِم فهو خِلِّي وحليفي
ما تظنُّ بربِّك يا حاضرُ ويا سامع؟ ها هو ناظرٌ إليكَ ويقضِي ما شاء، ماذا تظنُّ بربِّك، ما ظنُّك بربِّك، ما رجاؤك مِن ربِّك، أنت بين يدي بابِ أكرمِ الأكرمين، أرحمِ الراحمين، ربِّ العالمين، القائل: ((يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم قامُوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كلَّ واحد منكم مسألتَه ما نقصَ ذلك مما عندي إلا كما ينقصُ المخيطُ إذا أُدخلَ البحر))، كم يَنقصُ مِن البحر إذا أدخَلنا المخيطَ فيه؟!، إبرة دخلتها البحر وخرَّجتها كم يَنقص مِن البحر؟! لا ينقص شيء، ما تظنُّ بربِّك، وأنت بين يدَي ربِك، ما تظنُّ بربِّك.
ولكن.. ولكن مهما حَسُن ظنُّك فصدقَ في الحُسن فمِن الليلةِ يَحْسُن حالُك، يحسُن عملُك، يَحُسن أقوالك، يَحْسن وجهتك، تُحسِن ظاهرَك وباطنَك، وهكذا عملُه سبحانه وسنته وجوده لمن حَسُن به ظن.
ولحُسن الظنِّ ألازم فهو خلِّي وحليفي
وأنيسي وجليسي طول ليلي ونهاري
والمواهب جميعاً والمنن ** تحت حسن الرجاء فاحطط هنا
وحسِّن الظن بالمولى ترى البشرى ** فالرب عند ظنون العبد فلتدرى
جاء الحديث بذا فاصغِ إلى الذكرِ ** والبَس مِن الصبرِ سِربالاً مِن الضَّجَرِ
واسأل مِن الله كَشفَ البؤسِ والضَّررِ
عِش بالرجاء والأمل يا صاح وحَسِّن الظنَّ بالمعبود
وزَجِّ وقتَك بالأفراح ولا تأسَّفْ على مفقود
وارقَ إلى عالمِ الأرواح فإنه الأصلُ والمقصود
ولا تُعَوِّل على الجُثمان فإنما هو إلى التُربِ
وقال الحبيب علي الحبشي:
يا ربِّ لي ظنٌّ جميلٌ وافرٌ ** قدَّمتُه أمشِي به يسعَى معي
كل الذي يرجونَ فضلكَ أمْطِروا ** حاشاك أن يبقَى هشيماً مَربعي
كلُّ الذين يرجونَ فضلَك من الذين قامُوا بين يدَيك فسألوك لأهلِ أزمنتِهم ولأهلِ أمكنتِهم فأمطرُوا وأعطيتُهم ما سألوا وفوق ما سألوا، وأيدينا بين يديك يا مُعطِيهم يا مُكرِمهم، يا مُنْعِم عليهم، لزمنِنا وأهلِ زمننا، وأمكنتِنا وأهلِ أمكنتنِا، ولأهلِ الرابطةِ بك وفيك ولكَ ومِن أجلِك، يا مَن أعطيتَهم، يا مَن لم تخيِّبهم، يا مَن وهبتهُم، أعطِنا وأكرِمنا.
كلُّ الذي يرجونَ فضلِك أُمطِروا حاشاك أن يبقَى هشيماً مربعي
أتُرَدُّ أيدي مَن في الزمن امتدَّت إليك؟، حاشاكَ يا ربَّ الأزمان، حاشاك يا كريمُ يا منَّان، مدَدنا أيديَنا إليك، والحالُ لا يخفَى عليك، فرِّج الكُربة، اكشفِ الغُمَّة، اجلِ الظلمة، ادفعِ النِّقْمَة، ابسطِ الرحمة، اجعلنا والحاضرين والسَّامعين مِن المقبولين لديك، وخُذْ بقُلوبِنا وارزقها حُسنَ الوقوفِ على بابِك، واللِّياذِ بأعتابِك يا الله، ولا ننصرف عن بابِك أبداً، ولا نُدْبِر عن الإقبالِ عليك سرمداً، { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }.
بجاهِ الذي قلتَ عنه: {يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ }، اجعلنا مع ذلك النَّبي، في زمرةِ ذلك النبي، في دائرة ذلك النبي، في مَعِيَّة ذلك النَّبي، معه.. معه.. معه يا الله، معه.. معه.. معه يا الله، وأهلينا، ووالدينا، وأهل ديارنا، وجيراننا وأصحابنا يا الله.
والقلوب المغترَّة بالسراب، وبالفاني الحقير، وبالمبعودين عن حضرتِك وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسولُ الله داوِ قلوبَهم، داوِ قلوبَهم أن يموتوا فيهانوا، قبل أن يموتُوا فيحزنُوا، قبل أن يموتُوا فيندمُوا، داوِ قلوبهم.. يا مُداوي القلوب.
ألا يا الله بنظرة من العين الرحيمة تداوي كل ما بي من أمراضٍ سقيمة
وذه دنيا دنية حوادثها كثيرة وعيشتها حقيرة ومدتها قصيرة
ولا يحرص عليها سوى أعمى البصيرة عديم العقل لو كان يقعل كان فكر
تفكّر في فناها.. وفي كثرة عناها.. وفي قِلة غِناها
فطوبى ثم طوبى لمن منها تحذَّر وطلَّقها وفي طاعةِ الرحمن شمَّر
للاستماع إلى المحاضرة
http://www.alhabibomar.com/Lecture.aspx?SectionID=8&RefID=16589
16 صفَر 1440