(536)
(228)
(574)
(311)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على الأنوار التي تضيء في ساحات القلوب لكل مَن أراد الاستبصار، وتُشرق في تلكم الساحات لمن طلب الادّكار والاعتبار، ويشتد ضياؤها إذا شفع ذلك بحُسن الاقتفاء للآثار، ثم يصادفه من عطاء رب السماوات والأرضين الكريم الغفار، ما لا خطورَ له على البال ولا دخول تحت واسع الخيال، وذلكم فضلُ الله تعالى وسنَّتُه التي بها تقوم المعاملة للمقبلين عليه والمتوجهين إليه، نسأله أن يرزقنا وإياكم صدقَ الإقبال في جميع الأحوال، وأن يُقبل بوجهه الكريم علينا.
فإن أمةَ مَن عرج فوق السماوات العُلى، وحيّرت خصائصُه من الرب الأعلى الملأ الأعلى، أمةٌ واسعةُ الرحمة من قبل الرحمن الرحيم، يتحول الواحدُ منهم ما بين لمحة طرف وبين غمضة عين إلى مقرَّبٍ بعد أن كان بعيدا، وبعد أن كان شقياً أن يكون سعيدا، ذلكم فضل الله وتلكم منَّةُ الله، وهذا أمرٌ توفر وتكاثر في أمة محمد بن عبدالله، وإن كان منه أمثلةٌ حصلت في تلك الأمم ففي هذه الأمة أعظم وأعمّ وأكرم وأفخم من رب الكرم، الذي كان بدايةُ وحيِه في الإرسال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ)، فانتشرت معاني الكرم من الأكرم، في أمة الحبيب الأعظم..
فشكراً لمن جعلنا وإياكم من أمته، ذاكم الإله، ذاكم الربّ، ذاكم مالك الملك، ذاكم رب العرش العظيم، ذاكم الذي ليس كمثله شيء، ذاكم الفتاح الفاطر، ذاكم العزيز الغافر، ذاكم الولي القاهر، ذاكم عالم الباطن والظاهر، ذاكم الأول الآخر الباطن الظاهر، هو الله..
رتبَ أن جعلك من هذه الأمة، وأن جعلك في هذه الحقبة من الزمن، وأن تحضر هذا المحضر، وأن تسمع ما يُقال فيه، وأن يُنشَر بين يديك ذكر الباري وذكر صفوته، وأن تُذكَّر بالإنعام والجود والإكرام، لتتطهّر عن الآثام حياءً من المكرِم المنعِم، حياءً من المتفضل المُلهم، حياء من الجواد الواسع الجود، واستعداداً للقائه، فهيّأ لك كل ذلك.. بماذا؟
لا والله لا بشيء سبقَ مني ولا منكم، ولا بشيء تقدم منا ولا من أحد منا، بفضله، بطوله، بكرمه، بإحسانه، بعنايته، برعايته، بتفضُّله، بامتنانه، بجوده، بإرادته الأزلية.. فمن بسط لكم هذا البساط ومدَّ لكم هذا السِّماط وفسح لكم هذا المجال، وابتدأكم بهذا النوال كيف تكونون له؟ هو نعم الرب فكيف لا تكونون من خيار العبيد؟ أرباب الرجاء والخوف، أرباب الاستقامة على ما يحب في السر والعلن، أرباب التنزُّه عما لا يرضى به منكم جل جلاله، إنه يستحق ذلك، ليس لأحد في الوجود منّةٌ عليكم إلا مِن منّته، وإلا بمنّته، وإن أعظم المِنن عليكم منه، منّته بصفوته، منّته بعين بكت من أجلكم كثيرا، وسألت لكم الربَّ الكبيرَ كثيرا، وتوجهت في شأنكم كثيرا، ودمعت في ذلك وأسبلت دمعاً غزيرا، هي عين المصطفى، عينٌ لا أكرمَ منها على الله، وإن كنا في بركة كبيرة من آثار بكاء الباكين من الصحابة والتابعين ولكن كلَّ بكائهم في المنزلة لا يساوي دمعةً خرجت من عينيه، وقطرَت من بين بصره صلى الله عليه وسلم.
فإن ذاكم البصر الذي رأى ما لم يرَه بصر، لا ممن تقدم ولا ممن تأخر، وبثَّ الله لنا سرَّ هذا التخصيص في ما قال عن سيدنا رفيع القدر، الكليم موسى (لَن تَرَانِي) ما دمت في الدنيا قبل الموعد، (لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) ، ثم قال عن سيدنا المصطفى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وامتدت آثارُ الإكرام من ذي الجلال والإكرام لكم أيتها الأمة، أنتم في مثل هذه الذكرى، يمكنكم أن تدخلوا مأمناً من الآفات المنتشرة شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً في الأرض كلها، فتكونون بين أهل الأرض في معنى من الصلة برب السماء والأرض، تُكرَمون بها في الحياة، بُعداً عن الهموم التي لا تنفع في الآخرة، ولا تورِث الفرح، ولا يكون عاقبتُها السرور، همومٌ بالدنايا، همومٌ بالشهوات، همومٌ بالتصارع والمسابقات على الدنيئات على ظهر الأرض، هذه همومٌ لا يعقبها السرور، ولا تؤدي إلى أُنس ولا فرحٍ ولا حبور، بل همومٌ توصل بين هموم الدنيا وهموم الوفاة، وهموم البرزخ وهموم وغموم يوم الموافاة، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
في هذا المعنى الذي جاءنا، انظر الأعرابية وقد سرى الإيمان إلى قلبها، فأدركت من هذا المعنى أثرَ همٍّ على وجه زوجها تقول "إن كان همك بالآخرة فزادك الله همَّاً إلى همك" لأن هذا الهمّ ينفعك، يرفعك، يورث لك الفرح، يؤديك إلى السرور الدائم، "وإن كان همك بالدنيا فقد فُرغ منها" لا تهتم بها، ما أحقرها وما أذلها، قد فُرغ منها ولا يزيد فيها ذرة ولا ينقص
الآدمي ما يقع له غير ما قد قضي له
لو تعب ما تعب ما زيَّدوا له فتيلة
كانت هذه ثقافة الأعرابية، ثقافة الإيمان، فإن كان مظهرها أعرابية فهي المؤمنة الزكيّة، وهي الواعية الرضيّة، وهي المهنّاة بالنعيم المعجَّل في الدنيا قبل الجنان الأخروية، وهي التي أخذت من الحياة الدنيا صفوَها وخيرَها ونورَها وبركتَها وصفاءها وهناءها وما فيها من خير، وليكن كدرُ الدنيا وهمّها وتعبِها لكثير من ملوك الأرض، وكثير من أثرياء الأرض، خرجت عن محيطهم التاعس هذه الأعرابية وليست وحدها، كل مَن سرت بشاشة الإيمان فخالطت قلبَه، كلهم خرجوا عن هذه الدائرة، دائرة الهموم التي لا تورث الفرح، ولا تورث السرور، ولكن كما قال شاعرهم
أشد الهمّ عندي في سرور** تيقّن صاحبه عنه انتقالا
قال هذا إذا كان يعقل اللحظات التي يفرح بها هي أشد الغمّ، لأنها تضمحل ويدوم الكدر، ويدوم الهمّ والحزن، ولكن قوم يقول الله عنهم: (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ)، (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) هم الذين أخذوا خير الدنيا، هم الذين أخذوا نعيم الدنيا، أخذوا صفاء الدنيا، أخذوا بهجةَ الدنيا، وتركوا كدرها وتركوا قذرها، لمن رام، لمن قنع به، لمن اغترَّ به، لمن أحبّه، فإذا أحبه كان فيه رأس الخطايا ولا يقوم الرأس إلا بالجسد، فجسد الخطايا مع رأسها عنده، يقول صلى الله عليه وسلم (حب الدنيا رأس كل خطيئة).
ولكن خير الهمّ، الهمُّ بأمرِ الله، الهمّ بطاعة الله، الهمّ بلقاء الله، وهذه هموم تورِث الفرحَ الدائم والسرورَ الخالد والانشراحَ الباقي والنعيمَ المقيم، فيا ما أحسنَ هذا الهمّ، يا ما أحسنَ هذا الهمّ، ثم إذا اعتلت الهمة بصاحبه من المؤمنين، جعل الطاعةَ تبعاً ولكن جعل همَّه المُطاع، وجعل همَّه المعبود، وجعل همَّه المقصود، ثم يقول وهو مترجمٌ عن المأمن الذي دخله، والسور الذي حلّ وسطه، "كانت عندي هموم كثيرة ثم جعلت الهمَّ هماً واحدا فكفاني كلَّ هم"، لما جعلت همِّي الله، ومرادي الله، وقصدي الله، كفاني كل هم في نفسي في ولدي في أهلي في دنياي في معاشي في آخرتي في حسي في معناي في قلبي في سرِّي في روحي في مالي في كل ما تعلق بي.. كفاني كل همّ..
ولما كان المفتاح لها صاحب الشرح الأعظم المخاطب بقول الأكرم (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، قال له كعب بن عجرة "إني أصلي عليك فأُكثِر عليك الصلاة، فكم أجعل لك من صلاتي؟" قال (ما شئت)، قال "فالربع"، قال (ما شئت فإن زدت فهو خير لك)، قال " فالثلث؟"، قال (ما شئت فإن زدت فهو خير لك)، قال "فالنصف؟"، قال (ما شئت فإن زدت فهو خير لك)، قال "فالثلثان يا رسول الله؟" قال (ما شئت فإن زدت فهو خير لك)، قال "إذا أجعل لك صلاتي كلها"، قال ادخل المأمنة تعال وسط السور (إذاً تكفى همَّك ويُغفر ذنبُك)، ومَن كُفي همُّه وغُفِر ذنبُه فخيرُ الدنيا عنده، وصفوُ الدنيا عنده، وشرفُ الدنيا عنده، وكرامةُ الدنيا عنده، ونورُ الدنيا عنده وما في الدنيا من أي شيءٍ حسنٍ عنده، وسيئُ الدنيا لغيره، وكدرُ الدنيا لغيره، وضرُّ الدنيا لغيره، وحجاب الدنيا لغيره، وظلمة الدنيا لغيره، وبلاء الدنيا لغيره، وبلاء الدنيا لغيره، والآخرة كذلك، يُغفر ذنبه خلاص، خير الآخرة له، نعيم الآخرة له، شرف الآخرة له، فانظر بالصلاة على سيد أهل الدنيا والآخرة تحوز خيرَ الدنيا والآخرة.
فلنلهج بالصلاة عليه، في ليلنا ونهارنا، أيامنا وليالينا، أوقاتنا كلها، ياربّ صل عليه أفضل الصلوات، ولتكن شعارنا في الحياة (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرُهم عليّ صلاة)، كان ابن مسعود يقول "إذا صليتم على نبيكم فأحسِنوا الصلاةَ عليه، إنكم لا تدرون لعل ذلك يُعرض عليه"، قال هات صلاة حسنة بمحبة بتعظيم بألفاظ مستحسنة، تصف الوصف الحسن لأن الأمر عُرض عليه، والعرض عليه ما معناه؟ إذا رضي رضيَ اللي فوق، إذا أحبّ أحب الذي فوق، إذا نظر الذي فوق، ما يمكن واحد ينظر إليه محمد ما ينظر إليه رب محمد، لا محمد ينظر إلى من لم ينظر إليهم الرب، ولا الرب ينظر إلى من لم ينظر إليهم محمد، صلوات ربي وسلامه عليه
ما يمكن يرضى عنه محمد ما يرضى عنه الرب، وهذا التلازم الذي ذكره مشيراً إليه مبطَّنا في دعائه لما قبرَ ذا البجادين عليه رضوان الله، عبدٌ دخل نور الإيمان في قلبه ونظر إلى العيش بين قومه، عنده مال وعندهم طعام وعنده أسباب معيشة، لكن ضاق به الحال، يريد عيشاً في المدينة لا لأجل ذات المدينة ولكن لصاحبها، لمشرِّفها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذي به تنوّرت وتزكَّت وتشرَّفت وتطهّرت وارتقت فصارت خير البلاد، أحبّ هذا، ورغب في هذا، خيالات، قياسات، حسن العيش بتوفير الأسباب المعاش قد تطهر منها، ما عنده إلا حبل ممتد من لا إله إلا الله، بالجناب الأرفع رفعه إلى المستوى الذي تطهّر به عن هذه الخيالات التي يلعب بها عدوّ الله على عباد الله.
فاختار أن يذهب إلى هناك، منعه قومه، عناد مشركين، قبيلته مشركين، لازالوا على غير الملّة والدّين، ممنوع، محلك عندنا، وهو يترقب فرصة يترقب فرصة حتى يخرج، فجاءت فرصة ليلة من الليالي حواليه، خرج.. فرح لما خرج من البلاد إلا واثنين من كبار القوم حقهم مقبلين عليه، لا حول ولا قوة إلا بالله، لقيهم في الطريق، قالا "أين تريد؟ فين تذهب؟ ارجع"، قال "أنتم ماذا تستفيدون مني" فكلمهم بميزانهم الذي قد ارتفع عنه، قال "مُقامي بين أيديكم ما تستفيدون منه شيء، وذهابي إلى عند محمد لا يضركم، خذوا ما عندي من مال ومن أرض واتركوني أذهب إلى محمد"، لما حرك ميزانهم، قالوا "تعطينا أرضك ومالك حتى الذي معك؟" قال "حتى الذي معي خلوا علي ثوب"، فتركوا له ثوبين، والثوبان خَلِقان، واحد إزار واحد رداء، وخرج بهذه الصورة، لكنه يقصد من؟ ويريد من؟ ويتوجه إلى من؟
رعاية أحاطت به، وذهب فرحان، إلى المدينة المنورة، وصافحت يده اليد، ونظرت عينه الوجه، سمعت أذنُه الكلام، اصطف خلفه يصلي، سمع قراءته للقرآن، وجلس بين يديه، رخيصة الأرض ورخيص المال ورخيص كل شيء والقبيلة والأسرة وما إلى ذلك.. هذه حقائق الإيمان، وبعد ذلك صار ملازماً لمجالس المصطفى، وإذا ذهب النبي لحاجته ودخل بيته، بقي معتكفا في المسجد، مشغول بالذكر، ويزداد عليه نهمُه في الذكر ويجهر حتى يُسمع من خارج المسجد
في أحد الأيام يمر صلى الله عليه وسلم ناحية المسجد يسمع صوته، يقول أحد الصحابة "أخشى أن يكون هذا مرائي يا رسول الله" قال (لا ولكنه أواه)، رجَّاع إلى الله تبارك وتعالى، (لا ولكنه أواه)، وحسبه هذه الشهادة، رجّاع إلى الله، هذا الرجل صار همُّه الله، مقصوده الله، بهذه الأنوار في هذا المأمن والحصن.
حتى جاء وقت غزوة خيبر وخرج مع النبي، وفي رجوعهم من الطريق نازلَه الموت، وأُخبر رسول الله ذو البجادين توفي، قال احفروا له القبر وهيؤوا له غسل وكفر، يحفروا والحفارين فيهم سيدنا أبوبكر سيدنا عمر سيدنا علي بن أبي طالب، من كبار الصحابة من كبار المهاجرين والأنصار يحفرون، حفروا إلى أرضية القبر خرج صلى الله عليه وسلم سوَّى التراب بيده، وهيأ المكان الذي سيضع فيه ذا البجادين، باليدين التي رقت فوق سدرة المنتهى ووصلت إلى العرش، سوى بها التراب، ماذا تتصور القبر هذا؟ وخرج من القبر صلى عليه، وخرج إلى القبر من أجل يلحده بنفسه، ناولني ياه، فناولوه إياه، فوضعه، لحده، رفع يديه، (اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض)، الرضى واحد قال أنا أمسيت راض، هل يوجد انفصال بين الرضى والرضى؟ (اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض)، وأدركها، وحصّلها، وظفر بها، وسعِد ثم سعِد ثم سعِد ثم سعد، سعِد القبر الذي هو فيه، بقعة فكيف بسعادته هو، سعدت البقعة التي قُبِر فيها، ولو أُذن لكم لسمعتم نداءها "والله سعدتُ"، سعدت تلك البقعة بخروج محمد فيها، وبوضعه هذا الذي أمسى في رضوان الباري جل جلاله وتعالى في علاه.
هذا الرضوان ماذا يقابله من الشهادات؟ ماذا يقابله من الرئاسات؟ ماذا يقابله من الوزارات؟ ماذا يقابله من الأحزاب؟ ما يقابله من المؤسسات؟ ما يقابله من الشركات؟ لا لا لا لا .. تذكر شيء من هذا والله ما يساوي الذرة من عشر العشر من كرامة هذا الأمر وعظمة هذا الأمر، (اللهم ارضَ عنه فإني أمسيتُ عنه راض)، ويا بشراه لو تحنَّنت الروح على أحد في المجلس وقالت ارض عنه فإني عنه راض..
وإذا كنت عاشقاً علويّاً ** فتحلَّ بحلية العشـــاق
بالتماس الرضى وترك المعاصي** وببذل اليدين بالإنفاق
واصحب الصالحين ما دمت حياً ** إنهم للمحبّ خيرُ رفاق
نظر الله إلينا وإليكم، يا ربي رجب سيُختم ويرحل عنا فاجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا، اجعله حجةً لنا لا حجةً علينا، وذكرى حبيبك افتح لنا بها بساط تقريبك، وأدخِلنا في مأمن القرب منك والوصل من حضرتك، فنكون في من (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، ياربنا، وما بقي من الأعمار فاجعل همَّنا فيه أنت وحدك، يا الله، يا الله، يا الله، هذه القلوب، قلوب من حضر ومن يسمع لا تلعب بها الأهواء، ولا تلعب بها الشياطين بعد اليوم، لا تُدخِل إليه سوء هم بسواك، اجعل همها أنت يا رب العرش يا ملك الملوك يا من بيده الأمر كله، يا ربنا يا إلهنا، يا حي يا قيوم يا الله، يا الله، أخرِج منها الهمَّ بسواك، والتعلَّق بمن عداك، وارحم من دعاك، وأمَّلك ورجاك، من أحبابك والمقربين، والملائكة والصالحين، وبهم جُد علينا أن تستجيب ما طلبناه، وتُحقق ما رجونا، وأنت تعطينا ما سألنا، طهِّر هذه القلوب في باقي الأعمار عن الهمِّ بغيرك يا غفار، يا جواد يا من غيثُه مدرار، يا عالم السر والإجهار.
قد خدعنا أنفسنا، وخدعَنا عدوك فاهتممنا بسواك ردحاً من اوقاتنا ومن أعمارنا، ونحن في ذلك في سفاهة لا تليق بنا اللهم فارفعنا من هذا الحضيض، واجعل الكل منا محظوظاً باوفر الحظ بعين عنايتك يُلاحظ، فتكون همه أنت وحدك يا الله، يا الله، ولو فتح لك باب الهمّ به أذاقك لذة القرب منه، والعطف والحنان، والجود والامتنان، الذي لا يدخل تحت حسبان، ولا يحيط به فكر ملَك ولا إنسان، عطاء الكريم المنان.
يا ربنا أذهب هذه الهموم بسواك عن جميع قلوبنا، واجعل باقي أعمارنا همُّنا فيها أنت وحدك لا إله إلا أنت ولا شريك لك، يا مالك الملك يا عزيز يا كريم يا أرحم الراحمين يا الله، وإن عظُم المطلب فأنت أعظم يارب، وإلى من نرغب؟ وإلى مَن المهرب؟ ليس لنا إلا أنت فها نحن والجمع أجمعين ومن يسمعنا ومن يوالي بين يديك والحال لا يخفى عليك، أنت الذي أقمتَنا مقام الاستناد إليك والذلة بين يديك والرغبة في ما عندك والرجاء فيك وبعد هذا حاشاك أن تُعرض عنا، أو تحرمنا ما سألناك، وما رجوناه منك يا حيِي كريم، يستحي إذا مدَّ العبد إليه يديه أن يردهما صفرا، سألناك وأملناك، وألحَحنا عليك يا من يحب الملحّين في الدّعاء، وأقسَمنا عليك بوجاهة الاوجه عندك، أن تهبنا من هذا المطلب، يارب يارب، ما تعمر به هذه القلوب وتطهِّرها عن الشوب، وعن ظلمات الذنوب، وأن تتوب علينا لنتوب وأن لا تجعل لنا هماً بسواك حتى نلقاك وإليك نؤوب، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أول الأولين، يا آخر الآخرين، يا ذا القوة المتين، يا راحم المساكين، يا أرحم الراحمين، هل نقص شيء من خزائنك؟ هل انقطع شيء من نوالك؟ هل عدِم الخلق من أمة حبيبك محمد ما واصلت به الأصفياء ممن مضى في من قبلنا من القرون؟ يا من يقول للشيء كن فيكون، هذه القلوب وأنت الرب، فهل يقلبها غيرك؟ وهل يتصرف فيها سواك؟ يا مقلب القلوب والأبصار اجعل همّ هذه القلوب أنت وحدك لا شريك لك، يا الله، يا الله، يا الله.
يا من كان مهاناً بالاهتمام بكسب الذنوب خذ لباس العزّ واهتم بربك مقلب القلوب، يا الله، يا من دخلت إلى المجمع وأنت مهانٌ بالهمّ في الحقير والدّنايا، خذ لباس العزّ واخرج وهمُّك ربك البرايا، عالم الظواهر والخفايا، يارب هذه الأكسية وفّر حظنا منها، اخلعها على أهل المجمع وعلى من يسمع، وعلى مَن والى يا الله، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله، ولو علم عبدُك معنى عبوديته وأنك ربه وعلم ذرةً من عظمة الربوبية لاستحيا أن يهتم بغيرك، وخجل أن يكن له همّ سواك، لكن الجهالة ياربي اوقعتنا، لكن الغفلة ياربي أردَتنا، لكن سوء أدبنا وجراءتنا عليك جعلت لنا امتداد الهموم بمن سواك في ماضي أعمارنا، فبِقدسك وصاحب المعراج إلى حضائر القدس المشرف الذي رقى ما لم يرقى غيره من أول ولا آخر، انظر يا ناظر إلى هذه القلوب، وإن كثُفت فيها ظلمات الذنوب، وإن وقر فيها من ذلك شدة ووقر فيها من ذلك قسوة ووقر فيها من ذلك كدر، فأنت يارب القلوب ويا مقلبها لهذه القلوب والسؤال لك متوجهٌ على التوسل بحبيبك أن ترحمنا بصاحب هذه الذكرى، وأن تهبنا البشرى، فعرِّفهم الهمّ بك، وأكرمهم بذلك، يا حي يا قيوم يا الله، يا الله، ومن بات الليلة وهمُّه الله بات مثبتاً في ديوان جنود الله.. وجنود الله مع المرسلين، في دوائر التجلي من رب العالمين، بالسابقة (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)
لكن يدَّعي مَن يدعي الجهاد ويقابل الكفار وعنده من الهموم بغير الله شيء كبير، قد غلب على قلبه فسُلِّط عليهم أعداء الله ولعبوا بهم لعباً، فيارب فرج على المسلمين، وأنقذ قلوب المسلمين، وأصلِح قلوب المسلمين واجعل همَّها أنت وحدك، يارب الدنيا والآخرة، يارب كل شيء، يا من بيده ملكوتُ كل شيء، اغفر لنا كل شيء، أصلِح لنا كل شي، ولا تسألنا عن شيء، ولا تعذبنا على شيء ولا تجعل همّنا بشيءٍ غيرك، كن همّنا أنت، وكن مقصودَنا أنت، وكن مرادَنا أنت، يا الله، يا الله أكرمنا بذلك يا الله، ومن قبِلتهم منا في هذا الطلب فأكرِم مجمعَهم عند خير العجم والعرب، تحت اللواء وعلى الحوض، وفي دار الكرامة يارب العالمين، يا أكرم الأكرمين
إذا أقبل أهل الجنة بعضهم على بعض يتساءلون، فاجعل من هذا التساؤل ذكراً لهذه الساعة في ذاك الموطن، تُذكر بعطائك فيها، ونوالك على أهليها، ولا تحرم منا صاحب القلبِ القاسي الذي ندعوك وظلمتُه منعته عن أن يستشعر العظمة، في هذه الوجهة والدعاء، فإن تركته يارب فمن يصلحه؟ ليس في بيته أحد، وليس في الشارع أحد، ولا في بلده ولا في الأرض أحد يصلحه غيرك، فلا تتركهم لزلاتهم، لا تتركهم لخطيئاتهم، لا تتركهم لعثراتهم، يارب اجتمعنا نسترحمك، فارحمنا يا أرحم الراحمين، والمسيء أدخِله في بركة المحسن، والغافل أدخِله في بركة الذاكر، يا الله، يا الله، نظرة لهذه القلوب يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ومن بات وهمّه الله سرى له سرٌّ من معراج رسول الله، ياربي أكرِمنا بذلك، هبنا من نوالك، وأجزِل حظنا من إفضالك، يا متفضل يا كريم، يا منان يا رحيم، أيدي عبيدك اللهم فقراؤك بفنائك، مساكينك بفنائك، سؤّالك بفنائك، عبيدك بفنائك، سؤالك بفنائك، فقراؤك بفنائك، عبيدك بفنائك، مساكينك بفنائك، فارحم أيدي المساكين، يا راحم المساكين يا أرحم الراحمين، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله، تحت لواء صاحب المعراج عرِّف الوجوه على بعضها البعض يا الله، عرف الوجوه على بعضها البعض يا الله، عرف الوجوه على بعضها البعض تحت لواء الحمد يا الله، يا الله، يا الله، وألِح وقل يا الله، المطلب عالي غالي كبير عظيم شريف، ولولا ما علَّمنا ربنا من رحمته على لسان نبينا لا قدرت أطلبه لي ولا لكم ولا أسأله لأحد في الوجود لكنه سبحانه بما عرَّفنا على لسان هذا الكريم نستكرمه ونسترحمه، يارب، وإن كان السائل عاصي، وإن كان كثر ممن حضر المعاصي، ففينا من الملائكة وفينا من الأطهار، وفينا من الأخيار، وفينا من الصالحين، فارحمنا بهم يا أرحم الراحمين، ارحمنا بهم يا أرحم الراحمين، لولا ما علَّمتنا من فضلك ما قدرنا أن نسألك ولا أن نطلبك ولا أن نرفعَ الكف إليك، لكنها كفوف عبيدك، والعبيد ما لهم غير سيدهم، وما لهم غير إلههم، وما لهم غير مولاهم، فيا من ليس لنا غيره، لا تكلنا إلى غيرك، لا ترمِ بنا إلى غيرك، لا تجعل في قلوبنا ركون إلى غيرك ولا اعتماد على غيرك، ولا التفات إلى غيرك، يا الله، يا الله، يا الله، يا الله، تشرّف باسمه، تشرف بدعائه، تشرف بندائه، قل يا الله، قل يا الله، يا الله، مِن داخل قلبك، من باطنك، من سريرتك، بكليّتك، قل يا الله،، قل يا الله ، يسمعك، ويراك ويطلع عليك، ويتجلى ويتفضّل، ويتطوّل، ويكرم، لا أكرم منه، لا أرحم منه، لا أسخى منه، لا أجود منه، لا أحسن منه، لا أفضل منه، لا أزين منه، لا أرأف منه، لا أعظم عطاءً منه، لا أعظم جوداً منه، الله الله يا أخي، الله الله يا سامعي، من إنس وملَك وجن، ويا جميع الكائنات نادينا رب الكائنات لا أكرم من الله، لا أسخى من الله، لا أجود من الله، لا أفضل من الله، لا أرحم من الله، لا أرأف من الله، لا أعظم عطاءً من الله، الله الله، الله الله، وقل بفرح: الله، وقل بشوق: الله، قل بتعظيم: الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، الله، أقرب إليك من كل شيء، أقرب إليك من نفسك، أقرب إليك من حبل الوريد، أقرب إليك من رأسك، أقرب إليك من يدك، أقرب إليك من عينك، أقرب إليك من ثوبك، أقرب إليك من الأرض التي أنت عليها، أقرب إليك من السماء التي فوقك، أقرب إليك من كل شيء، الله قريب، الله قريب، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)..قريب...قريب.. قريب.. قريب.. إذا شرّفك بتقريبك إليه فبشرى لك، تخرج من المجمع وأنت في حالٍ أرفع، يظهر شأنه يوم المجمع.
وانظر أيضاً إلى من سبق في الماضي عنوان الحرمان عليهم فأعرضوا عن هذه المجالس وتولّوا، وقد جعلتها محطة للرحمة فحوّل قلوبهم، ردّها إليك حتى لا يحرموا منها، يا الله، هم أمة حبيبك، وإن تولوا وإن أعرضوا، إلهي، اقبل في من تقبل، كن لنا بما أنت اهله يا أفضل، يا من عليه المعوّل، يا الله، وقلوباً كافرةً اسقِها اليوم من زلال المتنزل فتسلم، وتؤمن، وتذوق حلاوة الإيمان، وتتساءل معنا في ذاك اليوم عمّا كان، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، وأناس قد سبقوا إلى القبور، انظر إليهم، ارفع لهم الدرجات، من بقي عندهم شيئاً من أنواع العذاب فارفع العذاب عنهم في قبورهم، في ألحادهم، فإنه لا يرفعه عنهم إلا أنت، يا الله، وأهل النعيم زِدهم نوالاً، زدهم قربا، زدهم عطايا زِدهم رحمة يا أرحم الراحمين، يا الله، واختم وقل يا الله، أحلى اسم نطقت به، أو فكرت فيه، أو خطر على بالك، أو مرَّ بقلبك، أعظم اسم، ارفع اسم، أشرف اسم، اكرم اسم، أعزّ اسم، الله، الله، الله، تعالى في علاه، وله الحمد عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير، والحمدلله رب العالمين.
23 رَجب 1435