(228)
(536)
(574)
(311)
خطبة جمعة مكتوبة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في جامع الشيخ حسين مولى خيلة، بمدينة تريم، وادي حضرموت، 9 رمضان 1439هـ بعنوان: مدرسة رمضان وتحرير وتقويم القوى الإنسانية.
الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله الملكِ الحقِّ الحَيِّ القَيُّومِ القديرِ العزيزِ العليم، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له ( جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) وجعلَ في السماءِ مِن العلاماتِ على عظمتِه كواكبَ ونجوماً وبدوراً وشمساً وقمراً منيرا، نشهدُ أنه الإلهُ الحقُّ الذي لا إلهَ سواه، يجمعُ الخلائقَ أوَّلَهم وآخرَهم للعَرضِ عليه والوقوفِ بين يديه فيحكمُ بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ونشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه، ونبيُّه وصفيُّه وحبيبُه وخليلُه، النموذجُ الأعلى في العبوديةِ للحقِّ جل وعلا، الهادي بإذنِ ربِّه إلى الصراطِ المستقيمِ مَن سبَقَت له السعادةُ مِن الملأ، كان يجتهدُ في رمضانَ ما لا يجتهدُ في غيرِه، ويجتهدُ في العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ ما لا يجتهدُ في غيرِها مِن رمضان.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المختارِ سيدِنا محمد، الهادي إليك والدالِّ عليك، أكرمِ الخلق منزلةً لديك وأوجَهِهم وأعظَمِهم شأناً عندك. اللهم أدِم صلواتِك عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وأهلِ حُسْنِ مُتابعتِه وآبائه وإخوانِه مِن أنبيائك ورُسلِك وآلِهم وصحبِهم، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد.. عباد الله: فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله؛ تقوى الله التي لا يقبلُ غيرها، ولا يرحمُ إلا أهلها، ولا يثيبُ إلا علَيها.
أيها المؤمنون بالله تعالى في علاه: المَمنُوحون هذه العطية والمزية، في الإيمان بربِّ البرية، وإدراكِ هذا الخلقِ والوجودِ لِمَ خُلِق (رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وإدراكِ المهمةِ في الحياة، كلُّ ذلك قائمٌ على الإيمان بالحق جل جلاله. أيُّ إنسانٍ على ظهرِ الأرضِ علِمَ ما عَلِم، أو عمِلَ ما عَمِل، أو حقَّقَ ما حقَّقَ مِن أي المُراداتِ التي تُنَازِلُ النفوسَ البشريةَ، إذا لم يؤمِن بالله فكلُّ ما فيه هباءٌ منثورٌ، وعاقبِتُه غاياتُ الخُسرانِ والشرور، ومآلُهُ إلى الناِرِ الموقدةِ التي تطَّلع على الأفئدة، فماذا يفيدُه ما غرَّهُ مِن الحياةِ الدنيا وما غرَّه باللهِ الغرور!؟
أيها المؤمنون: يجبُ أن ندركَ هذه المنَّةَ العظيمةَ في نعمةِ الإسلامِ والإيمان؛ أعلى المُعطَيات للإنسانِ من قِبَلِ الرحمن جل جلاله. ولقد كانَت تلكم أعظمَ المِنَن في السرِّ والعلن على جميعِ الآدميِّين مِن عهدِ آدمَ إلى أن تقومَ الساعة؛ ولكن خُصِّصت أمةُ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأنها خيرُ الأمم، وتلَقَّت عن اللهِ بواسطة النبيِّ الأكرم، والحبيبِ الأعظم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم.
أيها المؤمن: أَنْزِل هذه المزايا مَنزلتَها مِن عقلِكَ وقلبِك؛ فإنَّ الأصواتَ النَّاعِقَةَ في الحياةِ والتياراتِ القائمةِ مِن بين يدَيك ومِن خلفِك وعن يمينِك وعن شِمالك التي قد عبَّرَ عن أصلِها وأساسِها إبليسُ حين أظهرَ المعاداةَ لك، وأظهرَ المُناكرةَ لجِنسِكَ خاطبَ الجبارَ جل جلاله فقال لربِّك في بني جنسِكَ: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ) أعاذنا اللهُ مِن سوءِ المصير.
أيها المؤمنون بالله: تأمل قوله تعالى (لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ) مِن خلال ما يأتيه مِن بين يديه ومِن خلفِه وعن يمينِه وشِمالِه مِن أفكار ودعوات، وتحسِيناتٍ للقبائح، وتهوينٍ لشأنِ الدين، وتخفيفٍ لعظمةِ الصِّلةِ بالربِّ ونبيِّه الأمين؛ معروضةً في منظوراتٍ ومسموعاتٍ وبرامجَ مبثُوثاتٍ على الناس، تأتيهم مِن بين أيديهم ومِن خلفِهم وعن أيمانِهم وعن شمائلِهم، بوسائلَ كثيرةٍ وأجهزةٍ متعدِّدةٍ خطيرة؛ فيؤخذُ مَن يؤخذُ مِن أمامِه أو مِن خلفِه أو عن يمينِه أو عن شمالِه؛ في فكرةٍ أو سوءِ نظرة، أو اختلالِ خلُق، أو خروجٍ عن الأدب، أو تشكيكٍ في عظمةِ الإله، أو تحقيرٍ للحياةِ الأخرى والمصيرِ إلى عالمِ البقاءِ وعالمِ الخلودِ وعالمِ الدوامِ والاستقرار، إما في الجنةِ وإما في النار. أمورٌ عظيمة كلُّ مَن استصغَرها فهو الصغير، وكلُّ من حقَّرها فهو الحقير، وكلُّ مَن استعدَّ لها فذلك الذي أدركَ سرَّ الحياة وتهيأَ لحُسنِ المصير.
أيها المؤمنون بالله: إذا أدركتُم مِنَّةَ اللهِ عليكم في الإسلامِ والإيمانِ فإنكم تعيشونَ في الحياةِ محرَّرينَ مِن التبعيةِ والرِّقِّ للأنفسِ والأهواءِ ولشياطينِ الإنسِ والجن؛ لتكونُوا عبيداً لواحدٍ هو الواحد، الملكُ الجليل الذي بيدِه الأمرُ كلُّه، وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّه. وفي هذا التحرُّر الصافي الطيِّب العليِّ السامي للإنسان شَرفُ الإنسان وكرامةُ الإنسان وعزِّةُ الإنسان.
تبّاً لِما يأتي مِن بينِ اليدين أو مِن الخلفِ أو عنِ اليمينِ أو عنِ الشمالِ يُوهِمُ -كاذبا مُخادِعا- أنَّ عزةَ وشرفَ الإنسانِ توفيرُ أموال، أو وجودُ مظاهرَ مِن الزخارفِ له في نفسِه أو مسكنِه أو مَنظرِه أو ملبسِه وما إلى ذلك. وتلكم متعٌ في هذه الحياة يدخلُها المؤمنُ في اكتمالِ قُوَاهُ منوَّرةً مطهَّرةً محكومَةً بحُكمِ الإله؛ يدخلُ فيها بعقلٍ ورويَّةٍ، وصفاءِ طويَّةٍ، واستقامةِ قدمٍ على أخذِ الحلالِ واجتِنابِ الحرام؛ فتتحولُ له إلى مظاهرَ مِن مظاهر الجهاد والاجتهاد والخيرِ الذي يؤدِّي إلى خيرٍ ما لَه مِن نفاد، في دار المَعَاد؛ وخير الدنيا والآخرة لأهلِ الإيمان.
وأما المتعةُ بهذه المظاهرِ منقطعةً عن مداركِ اليومِ الآخر، وعن عظمةِ العزيزِ القادر، وعن المقصود مِن خَلْقِ الإنسانِ على ظهرِ هذه الأرض.. فهي متعةُ شياطينِ بنِي الإنس والجن على ظهرِ الأرض، وهي متعةُ الفجَرة والكفَرة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)
(أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) ما أغنى عنهم؟ ما أفادهم؟ ماذا كسبُوا مِن ورائه؟ وقد انتهى وانتهى أثرُه وقُطِعوا عنه وقٌطِعَ عنهم فماذا أفادهم مِن كلِّ ذلك؟
أيها المؤمنون: يُوحَى إلى العقولِ مِن قِبَلِ إبليسَ وجُندِه أنَّ العظمةَ في اتباع الشهوات على ظهرِ الأرض وقضاءِ الآرابِ والأغراض -ولو انحطَّت ولو خرجَت عن مقتضَى الإنسانية- وكذبَ والله مَن يقولُ ذلك، وغوى مَن يُصَدِّق ذلك..
ألا فإنَّ مدرسةَ رمضان ترفَعُ شأنَ المؤمن في التطهُّر عن الأدران؛ أدرانِ الفكرِ وأدرانِ الإدراكِ، وأدرانِ الوعي، وأدران الفَهْمِ، وأدرانِ الوِجْهَةِ عن كلِّ الأدرانِ التي تُصِيبُ الإنسانَ في عقلِه وفكرِه ووجهتِه.
مدرسةُ رمضانَ مُصَفِّيَةٌ للعقل، مُطَهِّرَةٌ للقلب، مدرسةُ رمضانَ مُثَبِّتَةٌ للقدَم، على السلوكِ الأقوَم، مدرسةُ رمضانَ مُذَكِّرَةٌ بالعبودية، مُذَكِّرَةٌ بعظمةِ الألوهية، مدرسةُ رمضان مُنْقِذِةٌ مِن الرَّانِ والأدرانِ ومِن تبعيَّة الشيطان، مدرسةُ رمضانَ حِصْنٌ بها يُتحَصَّنُ مِن الغضبِ والسَّخطِ والمَقت أشدُّ ما يصيبُ الإنسان؛ أعظمُ المصائب التي تنالَ بني آدم: غضبُ الله، والبُعدُ عن الله، والتعرُّضُ لعذابِ الله.
إنما الصومُ حصنٌ حصينٌ، وجُنَّةٌ مِن النار كجُنَّةِ أحدِكم مِن القتال؛ إنها مُذَكِّرَة بمن خلَقَ الأطعمةَ والأشربة، وخلقَ المُتعَ في هذه الحياةِ الدنيا، ومُرَبِّيَةٌ لهذا الإنسانِ أن يكونَ على بصيرةٍ في تناوُلِه لهذه المُتَعِ التي أباحَها الله له في دينِه على أيّ نيةٍ وبأيّ كيفيَّةٍ مِن الحلالِ الخالِص يأكلُ ويشربُ ويلبسُ ويتغذَّى؛ وحينئذٍ يكونُ مُسَمِّياً باسم الله في كُلِّ أكلةٍ له وشَربة، بل في كلِّ لَبسة له يلبسُها، وفي كُلِّ دخولٍ وخروجٍ، مِن بيتِه وإلى بيتِه، ومن المسجد وإلى المسجد.. إلى غير ذلك مِن حركتِه في هذه الحياة.
أيها المؤمن بالله جل جلاله: إنَّ مدرسةَ رمضان مدرسةٌ متكاملةٌ في إصلاحِ قُواك وحُسْنِ توجيهِها إلى ما يوجبُ عزَّك وعُلاكَ ورفعتك وعُلوَّ مكانتِكَ وتحقيقَ السعادةِ لكَ في الغيبِ والشهادة في الدنيا والآخرة؛ بعيدا عن هوجاءِ الانطلاقاتِ على غيرِ بصيرة التي يؤخذُ بها كثيرٌ مِن العبادِ على ظهرِ هذه الأرض.
أيها المؤمن بالله جل جلاله: امتناعُك عن الطعامِ وعن الشرابِ والمفطِّرات للصومِ في نهارِ رمضان مُذَكِّرَاتُ ومُرَبِّيَات؛ مُذَكِّرِاتٌ بعظمةِ الخالقِ الذي خلَقَك وأوجدَ لكَ هذه الأشياء، قال جل جلاله (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) وقال جل جلاله (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ)، وقال جل جلاله (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ)، ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).
أيها المُؤْمِنُ الداخلُ إلى هذه المدرسةِ النُّورانِيَّةِ الرَّبَانِيَّةِ الرحمانيةِ.. تَصَفَّ وتَذَكَّر؛ إنها تُذَكِّرُكَ بعظمةِ الذي خلَق وما سخَّرَ لك، وتُذَكِّرُكَ بحاجتِكَ وفقرِكَ مهما كنت مُعْتَدَّا بعَقلِك أو بعِلمِك أو بمُلْكِكَ أو بما عندك. أنت محتاجٌ لا تستطيعُ أن تعيشَ على ظهر الأرض مِن دون هذا الطعامِ والشراب، وهذا الرِّزقِ الجاري لك مِن ربِّ الأرباب ومُسَبِّبِ الأسباب جل جلاله ؛ مُذَكِّرَةٌ لك بضَعفك، وبعجزك، وبحاجتك؛ مُخْرِجَةً لكَ مُنَقِّيَةً مِن الكِبرِ ومِن العُجُبِ ومِن الغرور. فإذا قامَ الصومُ على وجهِهِ الصحيح، ووجهُه الصحيحُ إرادةُ وجهِ الخالِقِ المبدىء والاحتسابِ لوجهه؛ لذا وجدت المصطفى يربطُ القيامَ ويربطُ الصيامَ بمعنيَي الإيمانِ والاحتساب { مَن صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً } أي صامَ صوماً صحيحاً قائماً على أساسٍ متينٍ صحيحٍ قويٍّ، عبَّرَ الحقُّ تعالى عن ذلك في الحديث في الحديث القدسي بقوله: { يدعُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه مِن أجلِي } وفي رواية: { ابتغاءَ مَرضاتِي } هذه أسسُ الصوم.
إنَّك تعملُ على كسبِ المَكسَبِ الأعلى، إنك تعملُ على كسبِ أعظمِ ما تُحَقِّقُهُ على الإطلاق، إنك تعملُ على حيازةِ رضوانِ إلهِك الخلَّاق، الذي رضوانُه أعلى مِن نعيم الجِنَانِ الدائمةِ الباقيةِ أبدَ الآباد (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
أيها الداخل في هذه المدرسة: قَوِّم الأساس، وانظر.. ثلثُ الشهر مضى عليك، ولم يبقَ إلا الثلثان.. فإلى أي درجةٍ وصلتَ؟ هل خُدِعْتَ مع مَن خُدِع؟ أقبَلَ أوَّلَ الايام ثم بدأ يحُسُّ بالتكاسل عن الوقوفِ بين يدي ربِّه في صلاة القيام في رمضان، صلاة التراويح في الجماعة، والوتر في جماعة وهي خصوصية رمضان؛ الفرائض الخمسة جماعتُها طول العام، أما التراويحُ والوترُ فجماعتُها مسنونةٌ في شهر رمضان المبارك المُعَيَّن، متكاسلا عن تلاوةِ القرآن .. لا تُخْدَع. وأحسِن دخولَ المدرسة، واستفِد مِن دروسِها، وارتَقِ في مراتبِ درجاتِها وما يعطي اللهُ تعالى أهلَها.
أيها المؤمن بالله تعالى في علاه: خُذ مِن المدرسةِ تلك المفاهيمَ وتلك المعاني العظيمةَ المثبِّتةَ للقدمِ على الصراطِ المستقيم.
اللهم اجعلنا ممَّن استفاد، وزِدتَه مِن أشرفِ الزاد، ورفعتَه إلى مراتبِ الوعيِ عنك في وحيِك الذي أوحيتَه إلى خيرِ العباد. اللهم وفِّر حظَّنا مِن الصومِ وسِرِّه، والقيامِ وسرِّه، واجعل صومَنا إيماناً واحتسابا، واجعل قيامَنا إيماناً واحتساباً، مِن أجلِك وابتغاءَ مرضاتِك برحمتِك يا أرحم الراحمين.
والله يقول وقولُه الحقُّ المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(.. فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيِه وعذابِه الأليم.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفرُوه إنه هو الغَفورُ الرَّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله جعلَ المواسمَ في حياةِ الإنسانِ ليَرتقي، وفتحَ له أبوابَ الاهتداءِ ليَعتليَ ويتَّقِي، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، شهادةً يُحْرَمُهَا كُلُّ مَن شَقِي، شهادةً يمتلىءُ بها القلبُ إيماناً ويقيناً، ويترقَّى في مراتبِ الوعيِ عن الله والفَهْمِ فيما أوحاهُ إلى نبيِّه قُرْآناً وفُرْقَاناً ونوراً مُبينا. وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، تركَنا على المَحجَّةِ البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالك. فويلٌ لعُقولٍ وقلوبٍ استبدلَت بالقائدِ الذي ارتضاه الله والقدوةِ الذي اصطفاه الله قدواتٍ وقاداتٍ ممن ضلَّ وممن زَلَّ وممن غفَل وممن جهِل وممَّن لا خلاقَ له في الآخرة.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك الهادي إليك الداعي المرشدِ الدالِّ سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وأهلِ حضرةِ اقترابِه مِن أحبابِه، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبِهم أجمعين، وملائكتِك المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعد.. عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله
فاتقوا اللهَ فيما آتاكم مِن قُوَى، مِن عقولٍ وفكرٍ، وأسماعٍ وأبصار، وأعضاءَ وقلوبٍ ووجهاتٍ ونياتٍ، ومُتَعٍ وأموالٍ، وحركةٍ على ظهرِ هذه الأرض، ويقَظةٍ ومنامٍ، ولِباسٍ وطَعامٍ وشَرابٍ ونَظرٍ إلى الأشياء، ومعاملاتٍ مع الأنفسِ ومع الأهلِ والأولادِ، ومع الأصدقاءِ ومع الأصحابِ ومع الجيران..
ألا إنَّ أحداً منكم لم يَخلُق نفسَه، ألا وإنَّكم وآباءكم وأمهاتِكم ومَن على ظهرِ الأرض خَلْقٌ وإِنْشَاءٌ وإيجادٌ لواحدٍ أحدٍ فردٍ صمدٍ جل جلاله وتعالى في علاه (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ)
يا مخلوقين لإلهٍ حَقٍّ واحد: كيف تستعبدُكم الأنفسُ والأهواء؟ كيف تستعبدُكم أفكارُ المَلاحِدة؟ أفكارُ الفجار؟ أفكارُ الكفار؟ وما ينشُرونَه وما يُذِيعونَه، وما يبثُّونه كيف تُستَعبدُون لها؟ لم يخلقُوكم ولم يرزقُوكم، وليس الأمرُ إليهم ولا مرجعُكم إليهم.
ألا إنَّ مدرسةَ رمضان تُريكَ عظمةَ الإنسانية لِمَن كان إنساناً حقّاً؛ لمَن كان عبداً للرحمن رِقًّا، لمَن كان يدركُ شرفَ التخلُّصِ مِن العبوديةِ لغيرِ الله، بالخضوعِ إلى الحقِّ تعالى في علاه؛ وبذلك تَتَقوَّمُ قوى العقلِ والفكر، فلا يرضى التبعيةَ لأهلِ المكرِ والغَدر. وهم الذين يبثُّون سُمومَ التشكيك، ويبثُّون سمومَ التزيينِ للقبائحِ والشهوات؛ حتى كأنَّ الإنسانَ لا كبهيمةٍ مِن البهائم، ولكن فوقَ البهيمية شَيْطَنَةٌ تجعلُه عبداً للشهواتِ، عاملاً الفكرَ والعقلَ الذي يكسبُ به إدراكَ مهمةِ الحياة الكبرى، وإدراكَ عظمةِ الإلهِ الذي خلق؛ فيتحولُ هذا العقلُ والفكرُ إلى كسبِ المحرمات والشهوات التي إذا انطلق فيها الإنسانُ انسلخَ عن حقيقةِ كرامتِه وإنسانيتِه؛ فصارَ كالأنعامِ بل أضلُّ مِن الأنعامِ، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
أيها المؤمنون بالله: ما أغلى أوقاتِ هذا الشهرِ ولياليه وأيامِه التي توالَت حتى استقبلتُم الليلةَ العاشرةَ مِن ليالي الشهرِ الكريمِ المبارك، ما أسرعَ مرورَها مِن بيننا لو عقَلنا! ألا إنَّ مِن مرضِ القلوبِ ومِن فقدِ حقيقةِ الإيمانِ أن يميلَ الخاطرُ إلى زوالِ رمضان أو سرعةِ انقضاءِ رمضان، التي ذكرَ فقهاءُ الشريعةِ أنها مِن كبائرِ الذنوب، مِن كبائرِ المعاصي أن يتمنَّى القلبُ زوالَ رمضان؛ لأنَّ ذلك دليلٌ على أن هذا مُسْتَعْبَدٌ لشيءٍ مِن التُّرهاتٍ والشَّهوات؛ لم يدرِ بخالقِه ولا لِمَ خَلَقَه، ولا يدري بحقيقةِ شَرفِه وكرامتِه وعِزَّتِه.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله: الصومُ على الإيمانِ والاحتساب يرفعُ مداركَ المؤمنِ وذوقَهُ وشعورَه وحِسَّهُ، ولو يعلمُ العبادُ ما في رمضان { لو تعلمُ أمتي ما في رمضانَ لتمنَّت أن تكونَ السنةُ كلُّها رمضان } ما أعجبَهُ مِن شهرٍ أولُه رحمة، وأوسطُه مغفرة، وآخره عتقٌ من النار.
وتظهر آثارُ الرحمةِ فيمن رُحِم، وآثارُ المغفرة فيمن غُفِرَ له، وآثارُ العِتقِ من النار في قُوى الإنسانِ العقليةِ والفكريةِ، وفي قواهُ الجسديةِ والعضويَّة لجَميعِ أعضائه؛ وخصوصاً لهذا اللسانِ الذي قال عنه رسول الله: { مَن لم يدع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابه، فإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ ولا يصخَبْ ولا يفسُق، فإن امرىءٌ قاتلَه أو شاتَمه فليقُل إني صائم }.
أيها المؤمن بالله: إن كنتَ تمرُّ عليك هذه الأيام وأنت تصومُ وتأخذُ نصيبَك مِن القيامِ وعندكَ إصرارٌ على النظرِ الحرام، أو على قطيعةِ أحدٍ مِن الأرحام، أو على تكديرِ قلبِ أبٍ أو أمٍّ، عقوقاً لأحدِ الوالدين، أو على شحناءَ في قلبِك لمسلم .. فاعلم أنك لم تعرفِ الصومَ ولم تعرفِ القيام، ولم تصُم إيماناً واحتساباً، ولم تقُم إيماناً واحتساباً؛ إنك في شكلٍ وصورةٍ ومظهرٍ، لم تدرِ بجَوهرِ العبادةِ ولا جوهرِ الشريعةِ ولا جوهرِ الوحي المنزَّل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
أَتُضَيّعُ التقوى مِن أساسِها وتُصِرُّ على النظر الحرام أو تصرُّ على قطيعةِ الأرحام أو على عقوق الوالدين ثم تقول صمتُ ! ثم تقول قُمتُ ! لِمَن صمتَ ولِمَن قُمْتَ؟ وما هي المعاملةُ في الصيام؟ أمَا تدري أنها ابتغاءَ رضوانِ عالمِ السرِّ وأخفى ملكِ الملوك؟ هل حسَّنتَ علاقتَك به جل جلاله حتى تنتهيَ عما نهاك عنه ؟!
أيها المؤمن بالله: إنَّ الذين يقومونَ بصُورة الصومِ وصورة القيامِ على غير حقيقةٍ وذوقٍ وأساسٍ ربما كانوا في آخرِ الشهر مُنهمِكينَ في المناظر السيئة أو مُقَضِّين الأوقاتَ في الألعابِ أو الأسواقِ أو التفرُّجِ على البرامجِ المصنوعةِ على أيدي الفسقَةِ وأيدي البُعَداءِ عن الله تعالى؛ إنهم لم يُدرِكُوا حقيقةَ الصوم، إنهم لم يدركُوا حقيقةُ القيام. إنه تطهير، إنه تنوير، إنه رفعةٌ لك في توظيفِ قواك التي آتاك القويُّ المتين جل جلاله ؛ قواك العقليةُ والفكرية، قُواك السمعية والبصرية، قُواك العضويةُ والبدنية، قُواك في مملوكاتِك المالية كيف تتصرَّفُ فيها وتُسَيّرُها بنورانيةِ الخالق الذي خلقك وخلق الوجودَ مِن حولك وإليه مرجعُك ومصيرُك. إنها مدرسةٌ تُحرِّرُك، إنها مدرسةٌ تُخَلِّصُك مِن أسرِ النفسِ والهوى وشياطينِ الإنسِ والجن؛ حتى تكونَ مع طاعتِكَ لله لا تختارُ قدوةً إلا مَرْضِيّاً عند الإله، بل مَن اختارَهم لك الله جل جلاله (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
أيها المؤمنون بالله: حقِّقُوا سرَّ الصيامِ بِذَوقِ عظمةِ الإله، وقَصدِ وجههِ تعالى في علاه، مؤمنينَ محتسبينَ، ومعنى محتسبينَ: لا غرضَ لكم إلا وجهُه الكريم ونيلُ ثوابِه الفخيم، وهو القائل { كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يضاعفُ له، الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعِ مائة ضعف إلا الصومُ فهو لي ..} هل عرفت فهو لي .. هذا سر الصوم، هذه حقيقة الصوم { فهو لي وأنا أجزي به}.
ومِن أعظمِ ما يشفعُ للإنسانِ في الآخرة: الصيام والقرآن، يقولُ الصيام: منعتهُ الطعامَ والشرابَ بالنهار، فشفِّعنِي فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليلِ فشفِّعني فيه. في الذين تركُوا النومَ مِن أجل القرآن.
فقل للذي يبحثُ على صلاةِ التراويح التي تمرُّ بسرعة.. ولو قدر يجعَلها ثمان أو أربع أو ركعتين كان أحبَّ إلى قلبِه، ولا يحبُّ أن يسمعَ القرآنَ في الصلاة، ولا يحملُ القرآنَ خارجَ الصلاة: ما هكذا يُعامَل رمضان، ولا هكذا تُدخلُ مدرسةُ رمضان! أأنت مؤمنٌ بالربِّ والمصيرِ، والمصطفى البشيرِ النذير، أنت مِن أمتِه يأتيك رمضان وأنت ممدودٌ مِن الحقِّ بسمعٍ وبصرٍ وقوة ثم تتعامل هكذا!؟ ثم تقومُ بهذا الوضعِ مع هذا الذي خلقَ وهذا الذي رزق !؟ أما تدركُ نعمةَ الصيامِ ولا نعمةَ التكليف بالشريعة ؟! ولا نعمةَ الخروجِ مِن تبعيَّةِ الساقطين والهابطين ؟!
أيها المؤمن بالله: يأتي رمضانُ شهرُ المواساة لِيُقَوِّم القُوى في القُدراتِ المادية والمالية ليعودَ الناسُ على بعضِهم البعض { من فطَّر صائماً كان له مثلُ أجرِه مِن غيرِ أن ينقصَ مِن أجرِ الصائم شيء، وكان مغفرةً لذنبِه وعتقاً لرقبتِه مِن النار}، { مَن فطَّرَ صائماً مِن مالٍ حلال صلَّت عليه الملائكةُ ليالي رمضان، وصلى عليه جبريلُ ليلة القدر}
أيها المؤمن بالله جل جلاله: وجاءت زكاةُ الفطر لِتُكْمِلَ استقامتَك في التربية لما يتعلقُ بالمالِ والأملاك، لِتُنفقُ على ذوي الحاجةِ مِن أهل بلدِك ومِن أهلِ مجتمعِك، وتُعطِيهم ما فرضَ الله تعالى عليك طُهْرَةً للصائم من اللغو والرفث ومنزلةً له عند الرب جل جلاله .
{ألا إنَّ الصومَ معلقٌ بين السماء والأرض لا يُرفع - أي لا يقبل- عند الله إلا بزكاةِ الفطر} حتى تُخرجَ الفطرةَ عنك وعن أهلِك وعن أهلِ بيتك، مَن لم يكن منهم قد بَلَغَ فإليك نيةُ الزكاة عنه، ومن كان قد بَلَغَ مِن أولادك الذكورِ فخُذِ الوكالةَ منه أو أعطِه الطعام لينويَه عن نفسِه ويُخرجَه فيما شرعَ لنا الربُّ ورسمَ في قرآنه الكريم.
أيها المؤمنون بالله: في مثلِ هذه الأيام في العام الثاني مِن الهجرةِ المباركة؛ العام الذي فُرِض فيه الصيام خرج نبيُّكم المصطفى محمدٌ مِن بلدِه ومسكنِه وبيتِه، ولماذا تخرج في وقت حرٍّ شديد؟ .. في الرَّمضاء خرج فكانت غزوة بدر، حضرها الثلاث مائة والثلاثة عشر مِن الصحابة الكرام عليهم رضوان الله. وكانوا خيرَ أهلِ الأرض. خرج صلى الله عليه وسلم ومع كل ثلاثة بعيرٌ واحدٌ يتعاقبون عليه؛ فكان صلى الله عليه وسلم مع عليِّ بنِ أبي طالب وأبي مرثِد الغَنوي على بعيرٍ واحد، إذا جاءت نوبتُه ركب ثم يخرج، فيقولان: اركب يا رسولَ الله ونحن نكفِيك. ويقول: لستُما بأقوى مني على المَشيِ، ولست بأغنى منكما عنِ الأجر. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها المؤمنون بالله: جاءت مثلُ هذه الأيام وهو مُتَأَهِّبٌ للخروج مِن بيتِه وبلدِه، وخرج بالثلاث مائة والبضعةَ عشر ولاقى جيشاً بالأعدَادِ والاعتِداد والسلاحِ، تسع مائة وخمسين، ونصرَهُ الله تبارك وتعالى (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) صابرَ وكابدَ وجَدَّ واجتهد.
أيها المؤمنون: إن لم نَسْتَلِذَّ البذلَ لله والتعبَ مِن أجلِ الله فلمَن نتعب؟ للنفوس؟ أم للأحزاب أم للحكومات؟ أم للهيئات؟ أم للأفكار الساقطة؟! إنهم مِن أجلها يتعبون، إنهم مِن أجلها يسهرُون، إنهم من أجلها يبذلُون ؛ ثم تكون العاقبةُ عنها ينقطعون وعنهم تنقطع.
من أجل ربِّك اُبذل، مِن أجلِ ربك اتعب، مِن أجل ربِّك تحمَّل؛ تجدِ السعادةَ الكبرى فلا تنقطع عنه، ولا يُعرض عنك ولا يفنى ولا يزول، ويؤبِّدُ لك نعيماً شأنُه أكثرَ مما تتصوره العقول (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ألا أحسنوا الدخولَ في مدرسةِ الصيامِ والقيامِ، ومدرسة رمضان بما فيه مِن عظيمِ المعاني، واستقبلوا أيامَه بزيادةٍ في الإقبال، زيادةٍ في حُسنِ الاستقبال، زيادةٍ في رغبةِ الوقوفِ بين يديِ الله، وفي تأمُّلِ كلامِ الله، وخُصُّوا العشرَ الأواخرَ بالاجتهادِ الأكثرِ، والقلبِ الأطهر، والوجهةِ إلى العليِّ الكبير البَر، تعالى في علاه. وأكثروا الصلاةَ والسلامَ على قُدوتِكم خيرِ الأنام، فإنَّ أولاكم به يومَ القيامة أكثرُكم عليه صلاة، ومَن صلَّى عليه واحدةً صلى الله ُعليه بها عشراً.
وإنَّ اللهَ أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكتِه، وأيَّهَ بالمؤمنين مِن عبادهِ تَعمِيما؛ فقال مُخبراً وآمِراً لهم تكريماً: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المجتبى المختارِ سيدِنا محمدٍ نورِ الأنوارِ وسِرِّ الأسرار، وعلى الخليفةِ مِن بعده المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازِرِ رسولِ الله في حالَيِ السَّعةِ والضيق؛ خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكرٍ الصديق.
وعلى النَّاطِقِ بالصواب، حليفِ المحراب، الوقَّافِ عندَ آياتِ الكتاب؛ أميرِ المؤمنين سيدِنا عمر بن الخطاب.
وعلى مُحيِي الليالي بِتلاوةِ القرآن، مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، النَّاصِحِ لله في السرِّ والإعلان؛ أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدنا عثمان بن عفَّان.
وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابن عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب؛ أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسِينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنة في الجنة، وريحانتِي نبيِّك بِنصِّ السُّنة، وعلى أمِّهما الحوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضى وأمهاتِ المؤمنين، وعلى الحمزةِ والعباس، وسائرِ أهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهل بدرٍ وأهل أحدٍ وأهلِ بيعةِ الرضوان، وعلى سائرِ الصحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم اعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين.
اللهم انفعنا والمؤمنين برمضانَ ومدرسةِ صيامِه وقيامِه، والاقتداءِ بحبيبِك محمد صلى الله عليه وسلم في ليالِيه وأيامِه. اللهم تَداركِ الأمة، واكشفِ الغُمَّة، اللهم إنه سُلِّطَت عليهم الأهواءُ والشهواتُ حتى قاد زِمَامَهم أربابُ الكفرِ والفجورِ ففتنُوا بعضَهم ببعض، وأغرَوا بعضَهم ببَعض؛ فصار الجُلُّ والكثيرُ مِن أهلِ المِلَّةِ يؤذي بعضُهم بعضاً بالسبِّ والغيبة والشَّتمِ والقتال والحروب، اللهم اكشِف هذه الكروب، وادفع هذه الخطوب. واجعلِ اللهمَّ القلوبَ إليك مُنيبة، والعقولَ والأرواحَ لنِدائك مُستجيبة. اللهم اكشفِ الكربةَ عن أمةِ نبيك، اللهم اكشفِ الغمَّةَ عن أمةِ نبيِّك، اللهم اجمع شملَهم بعد الشتات، اللهم إنَّ التحريشَ بينهم بلغ مِن ذرواته ما بلغ، وهو ما يطمع فيه عدوُّك إبليس بخبرِ نبيَّك المصطفى محمد؛ اللهم فارفع هذا البلاءَ عن أمةِ المصطفى، وأصلح الظاهر والخفاء، وعجَّل اللهم بالصحةِ والشفاءِ والعلاجِ في الظاهر والخفاء.
اللهم حوِّل أحوالَ المسلمين إلى أحسنِ حال، اللهم وما أعطيتَنا في بلدانِنا مِن خيرٍ ومن أمنٍ ومن طمأنينةٍ ومن مجالسِ خيرٍ ومِن جماعاتِ خيرٍ فبارِك لنا وزدنا من فضلك، وادفع البلايا والشرور عنا.
اللهم وما نازل الأمة من أخواف وكروب وشدةٍ وقتلٍ وطردٍ وتيتيمٍ وترميلٍ وآفاتٍ وبلايا أنت بها أعلم إنا نشكوها إليك يا مَن إليه المشتكى، يا حيُّ يا قيوم حوَّل الأحوالَ إلى أحسنِ الأحوال، وادفعِ البلاءَ عن أمةِ حبيبِك محمدٍ في كلَّ حال يا كبيرُ يا متعال.
ووفَّر حظَّنا مِن سرِّ الصيام ومِن سرِّ القيام ومِن سرِّ تلاوةِ القرآن، ومن سر الاجتهاد في رمضان. اللهم اجعلنا عندك من خواصَّ أهل هذا الشهر، وأصلح لنا السر والجهر، وتولنا بما توليت به الصالحين من عبادك أهل الذكر والشكر وحسن العبادة برحمتك يا أرحم الراحمين.
واغفر لنا ولوالدينا ومشائخنا في الدين ولمن والانا فيك، ولمَن كان يحضرُ في هذه المساجد ولمَن سعى بالخيرِ إليها. اللهم اغفِر لنا ولهم وارحَمنا وارحمهم، واغفر لآبائنا وأمهاتنا وذوي الحقوق علينا، ولمَن تقدَّمَ في بلدانِنا مِن رجالِ التقوى والهدى والدلالة على الخير فيما خفيَ وفيما بدَا. اللهم واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، اللهم والطف بنا وبهم فيما تجري بنا المقادير، واسقنا الغيث والرحمة مع اللطف والعافية والبركة يا عليُّ يا كبير، يا سميعُ يا بصير، يا عليمُ يا قدير، يا لطيفُ يا خبير، اسقنا الغيثَ والرحمةَ مع اللطفِ والعافيةِ والبركةِ، ولا تجعلنا مِن القانطين، ولا تجعلنا من الآيسين، ولا تجعلنا من المحرومين، والطف بنا والأمة فيما تجري به المقادير، وادفع عنهم العواصف والقواصف، والبلايا والشرور وكلَّ محذور في البطون والظهور، يا عزيز يا غفور، يا أرحم الراحمين يا الله.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث: ( إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكم، واشكرُوه على نعمهِ يزِدْكم.. ولذكرُ الله أكبر.
11 رَمضان 1439