(536)
(204)
(568)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الروضة بتريم، 25 شعبان 1444هـ بعنوان:
عن ماذا يعبر انطلاق الإنسان وحركته في الحياة ونموذج استقبال شهر رمضان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ للهِ .. الحمدُ للهِ الملِك الحيِّ القيُّوم القادِر، وأشهدُ أنْ لَّا إلهَ إلَّا الله وحدَه لا شريك لهُ، الكريمُ العظيمُ الغافِر، الخالقُ الـمُبدِئُ الفاطِر، الأوَّلُ الآخِرُ الباطِنُ الظَّاهِر، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيِّنا وقُرَّةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمَّداً عبدهُ ورسولُه، وصَفوتُه وحبيبُه الصَّادقُ الصَّابِر، المنيبُ الشَّاكِر، التَّقيُّ الطَّاهِر، اللهم أَدِم صلواتِكَ على مَظهرِ جودِكَ الأسمى سيِّدنا محمد، القدوة العُظمى لكلِّ مَن آمنَ وَوَحَّد، وعلى آلهِ الأطهارِ وأصحابِه الأخيار، ومَن سارَ سبيلَهُم الأرْشَد، وعلى آبائهِ وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين، مَن رفعتَ لهم القَدْرَ ففضَّلتَهُم على مَن سِواهُم، وجعلتَهم أهلَ السَّناءِ الأمجد، وعلى آلهم وصحبهِم ومَن والاهم، وعلى ملائكتِكَ المقربين، وجميع عبادِكَ الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا واحِدُ يا أَحَد.
أما بعدُ عبادَ الله: فإنِّي أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله، وإنَّما يكونُ تفاعلُ الإنسانِ وانطلاقُه في الحياةِ وحركتُه، ومرغوباتُه ومكروهاتُه في الحياةِ قائمةً على أساسِ ما يَسْتَكِنُّ في ضميرِه، ويَسْتَتِرُ في باطنِه، مِن إيمانٍ أو كُفرٍ ونفاق، ومِن صدقٍ أو كذِب، ومِن صلاحٍ أو فساد، يُترجِمُ عن كلِّ ذلكم الذي يَسْتَتِرُ ويَسْتَكِنُّ في الضَّمير؛ رغباتُ الإنسانِ وطُموحاتِه، ومحذوراته ومخوفاته ومبغوضاته، وما يَترتبُ على ذلك مِن حركتِه في الحياة، واختبارِه ما يقولُ وما يَنظرُ وما يَسمعُ، وما ينطلقُ فيه وتتحركُ به يدَاهُ وتخطو إليه قَدَمُهُ، كلُّ ذلكم تفاعلٌ مع ما يَسْتَكِنُّ في الضَّمير.
فإذا وجدَ الإيمانُ سبيلاً إلى القلبِ فملأَهُ فلا تجدُ في ذاتِ هذا الإنسانِ المؤمن الصادِق في إيمانِه، الكامل في إيمانِه إلا ترجمةَ منهجِ الإله الكبير، وسُنَّةَ البشيرِ النذير، والتطبيقَ لما شرَعَ سبحانَهُ وتعالى للقيامِ بالخلافةِ على وجهِ هذهِ الأرض، ولا يحبُّ إلا ما أحبَّهُ إلهُهُ واعتقدَ أنَّهُ تُقرِّبُه محبتُه إلى ذلك الإله تعالى في عُلاه، ولا يَبغضُ إلا ما أبغضَ إلهُه، وما يعتقدُ أنَّهُ يُبَغِّضُه عند ذلك الإله تعالى في عُلاه.
تِلكُمُ التَّرجمة التي تُقابِلُ تِلكُم الحركات على ظَهرِ الأرض، على غيرِ هذا الأساسِ القويمِ الصحيحِ القويِّ، وعلى غيرِ هذا الأصلِ البديعِ السَّويِّ، حركاتُ أولي التَّعصُّباتِ وعبيدُ الشَّهواتِ، وأهلُ الأهواءِ على ظهرِ الأرضِ، ومَن تَملَّكتهُم الأغراضُ والحظوظُ الفانِيَة، أفرادٍ وهيئاتٍ وجماعاتٍ وشعوباً ودُوَل.
تجدهُم ينطلقونَ ويُعبِّرونَ في انطلاقهِم عما يَسْتَتِرُ ويَسْتَكِنُّ في الضميرِ، مِن كُفرٍ أو نِفاقٍ أو إلحادٍ، أو غلَبةِ وطُغيانِ شهوةٍ أو هوى، فيقودُهم ذلك إلى حركاتٍ ومرغوباتٍ سيِّئةٍ قبيحة، وحينئذٍ يُطلقونَ أعينَهم في المناظِر السيئةِ القبيحة، ويفتحون آذانَهم للأصواتِ السيئة القبيحة، ويُطلقونَ ألسنَتَهم بالألفاظِ النابِيَةِ القبيحة، وتتحرَّك أعضاؤهم في القبائحِ؛ ترجمةً عما حلَّ في القلوبِ مِن كفرٍ وخيانةٍ وسوءِ ظنٍ، وإرادةِ سوءٍ بالخَلقِ، وغلَبةِ شهوةٍ سُجِدَ لها وعُبِدَت مِن دونِ الله، وهوىً عُبِدَ مِن دونِ الله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ) [سورة الجاثية: 23].
أيُّها المؤمنونَ بالله: وإذا عَلِمنا هذه الحقيقة .. عَلِمنا بعضَ قولِه: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [سورة آل عمران: 175] ، وبعضَ معاني قولِ رسولِه: (مَن كانَ يؤمِنُ بالله واليومِ الآخِر فَلْيَقُل خيراً أو لِيَصْمُت)، (مَن كانَ يؤمِنُ بالله واليومِ الآخِر فَلْيُكْرِمْ جارَه .. فَلْيُكِرم ضيفَه)، (مَن كانَ يؤمِنُ بالله واليومِ الآخِر فَلْيُحِبَّ لأخيهِ ما تُحِبُّ لنفسِه)، (لا يَحلُّ لامرأةٍ تؤمِنُ بالله واليومِ والآخِر أنْ تُسافِرَ مسافةَ ثلاثٍ إلا مع زوجٍ أو ذي مَحرَم)، (لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمِن بالله واليومِ الآخِر أنْ تُحِدَّ على ميِّتٍ فوقَ ثلاث؛ إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشراً).
فكلُّ هذهِ الآيات والأحاديث وما في معناها تُبيِّنُ أنَّ الحركةَ في الحياةِ والانطلاقَ والعمل؛ سَفَراً وإقامةً.. أخْذاً وعطاءً.. فرحاً وحُزناً، إنما يتمُّ على أساسِ ما في الضميرِ، وأنَّ المؤمنَ باللهِ واليومِ الآخِر يَنقادُ إلى ما وَجَّهَهُ إليهِ إلهُهُ الذي خلَقَهُ، ورسولهُ الذي نصحَهُ وصدَقَه صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم، (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [سورة التوبة: 62] .
ومِن ذلكم ما يطْرأُ في الحياةِ في التفاعُلِ في الليالي والأيام حولَ المناسباتِ المختلفات؛ كمثلِ شهرِ رمضان الذي أظلَّنا بخيراتِه ومبرَّاتِه، ومِنَنِ الله تعالى ونفحاتِه، وعطايَاهُ وإسعاداتِه، وعجائبِ تَفضُّلاتِه على بريَّاتِه فيما أخبرَ الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم، وفيما جعلَ الله ابتداءَ القرآن ونزولَه، وحمْلَ الرسالةَ العُظمى الخاتمة لرسالاتِ السَّماءِ في رمضان (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [سورة القدر: 1]، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ..) [سورة البقرة: 185].
وكمثلِ أيامِ عيدِ الفطرِ والأضحى، وأيامِ العشرِ مِن ذي الحِجَّة، وذكرى هجرةِ المصطفى محمد، وذكرى ميلادِه وبروزِه إلى الأرض، وذكرى إسرائِه ومعراجِه، والأربعة الحرُم مِن بين الأشهر الاثني عشر التي هُنَّ كذلك في كتابِ الله، وعِدَّتُهن كذلك يوم خلَقَ اللهُ السمواتِ والأرض.
التفاعلاتُ مع هذهِ المواسِم، ومع ما يَتناسَبُ لها، ومعَ ما يليقُ بالذي آمنَ بالله واليومِ الآخِر هو التَّرجمة عن الإيمان، وهو التَّعبير عن التصديق، وعن حُلول نورِ اليقينِ في القلوبِ وفي الأفئدةِ.
وهناك ما يتخذُ الناسُ لهم مِن أيامٍ يُحدِثونها مِن عندهِم: يومُ ثورةٍ.. ويومُ قتالٍ.. ويومُ عرشٍ دُنيويٍّ لملِكٍ جلسَ عليه.. ويومُ شجرةٍ.. ويومُ مُرورٍ.. ويومُ أُمٍّ، وإلى غيرِ ذلكَ مِن الْـمُسمَّيات، والتعبيرُ كلٌّ على قدرِ ما يستقرُّ في باطنِه.
أيُّها المؤمنون: إنْ عرَفنا وفَقِهنا وأدرَكنا شرفَ تبعيَّتِنا للإلهِ خالِقِنا ومَن ارتضاهُ مِن صَفوتِه مِن الأنبياءِ وورثتهِم، وقَبِلنا هذا التشريفَ والتكريمَ مِن الإلهِ الكريم، فإنَّنا نعيشُ أحراراً عن أنْ يأخذنا هذا أو ذاكَ إلى شيءٍ مِن التصرفاتِ أو الأقوالِ أو الأفعالِ الخارجة عن المروءة، فضلاً عن الخارجة عن الشريعة كائنةً ما كانت ؛ فلا ترجمةَ للإيمانِ إلا ذلِكُم المسلَك القويُّ القويمُ الصحيح، وهو الفَوارِق بين مَن آمنَ ومَن كفَر، وبين مَن صدَّقَ ومَن كذَّب، وبينَ مَن أقبلَ ومَن أدْبَر.
أيُّها المؤمنونَ بالله: تقومُ حياةُ المؤمِن على حقيقة: (إنَّ صلاتي ونُسكي، ومحيايَ ومماتي، لله ربِّ العالمين، لا شريكَ لَه، وبذلِك أُمِرت) ولذلك خُلِقت (وأنا مِن المسلمين) الذين أُكْرِمُوا بالاستسلامِ لوجهِ الله، وتحرَّروا عن العُبودِيَّة لمن سواهُ مِن الأفرادِ والجماعاتِ والهيئاتِ كائنين ما كانوا، ذلكم الشرفُ الأفخرُ لكلِّ عبدٍ على ظهرِ هذه الحياة، عُبوديةٌ صافيةٌ خالِصةٌ لله.
وتَعِسَ عَبْدُ الدينار، وتَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَم، وتَعِسَ عَبْدُ القطيفةِ، وتَعِسَ عَبْدُ الخَميصَة، وتَعِسَ عَبْدُ الشُّهرةِ والظهور، وتَعِسَ عَبْدُ الغِناء والفُجور، وتَعِسَ عَبْدُ الشهوات، وتَعِسَ عَبْدُ الهوى، وتَعِسَ عَبْدُ الحكومات، وتَعِسَ عَبْدُ الأهواء منهُ أو لمن سِواهُ، تَعِسوا وخابوا وخسِروا، وأفلحَ عبيدُ الله، المؤمنونَ بالله، المتحرِّرونَ عن الرِّقِّ لمن سِواهُ.
أيُّها المؤمنونَ بالله: وبمثلِ هذا الصَّفاءِ والعُلوِّ والسُّمو الأشرَف يُستقبلُ رمضانَ مِن قِبَل المؤمن، ويُتَهيَّأُ لهُ مِن قِبَلِ المسلم؛ وذلك أنَّ المؤمنَ يُعِدُّ فيهِ النَّفقةَ للعبادَة، وأنَّ المنافقَ يُعِدُّ فيهِ العدَّةَ لِتَتبُّعِ عوراتِ المسلمينَ وأذاهم؛ هذهِ الفوارِق.. هذه الفواصِل.. هذهِ القواطِع بينَ مَن آمَن ومَن كفَر.
أيُّها المؤمنونَ: شهرٌ ينظرُ اللهُ فيهِ إلى تَنافُسِ المؤمنين؛ تنافسهم في ماذا؟!؛ التعبيرُ عن رغباتهِم بحسبِ ما وقَرَ في قلوبهِم مِن إيمانٍ به، يرغبونَ فيما عندَه، ويرغبونَ في قُربِه، ويرغبونَ في حبِّه، ويرغبونَ في رضاهُ، ويرغبونَ في المعرفَةِ به، فتَترجَم تلكَ الرغبةُ بالتنافُسِ على طاعاتِه والعبادات، والتلاوةِ لآياتِه وكلماتِه وكتابِه الذي أوحاهُ إلى خيرِ بريَّتِه صلى الله عليه وآله وسلَّم.
فيتنافسونَ تنافُساً محموداً شريفاً، يستغرقونَ بهِ قُوَاهُم وقُوَّاتهِم وأوقاتهِم في أنواعِ القُربات، غيرَ مُهملينَ لواجبِ صلةٍ لِرَحِم، أو بِرٍّ لوالدين، أو حقّ توجَّهَ عليهم لجارٍ أو ذي دَينٍ أو أي ذي حقٍّ شرعهُ اللهُ جل جلاله وتعالى في عُلاه ؛ فتراهُم توَّابينَ قبلَ حُلولِ رمضان، مُنيبينَ قبلَ حلولِ رمضان، مُعدِّين العُدَّة لأنواعِ العبادةِ في رمضان، مُستبعثينَ الهِمَم لِيَرْقَوا مراقي العُلا في صيامِ رمضانَ وفي قيامِ رمضان إيماناً واحتساباً كما دعاهُم صاحبُ الشرع الُمطَهَّر المصُون، النبي الأمين المأمون صلى الله عليه وسلم.
اللهم اقذِف في قلوبِنا رجاءَك واقطع رجاءَنا عمن سواكَ ؛ حتى لا نرجو أحداً غيرك، اللهم اقذِف في قلوبِنا خشيتكَ وخوفَك، واقطع خوفَنا وخشيتَنا ممن سواك ؛ حتى لا نخشى أحداً غيرَك، اللهم ثبِّتنا على ما تُحب مِنَّا، واجعل رغباتِنا في رضاك، واجعلنا مُترجمين لحقيقةِ الإيمانِ بكَ والصدقِ معكَ، في جميعِ ما نُحِبُّ ونَهوى ونقولُ ونفعلُ ونتحرَّكُ على ظهرِ هذه الأرض يا حيُّ يا قيُّوم يا أرحم الراحمين.
واللهُ يقولُ قوله الحق المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سورة التوبة : 71 - 78 ].
باركً اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعنا بما فيهِ مِن الآياتِ والذِّكر الحكيم، وثَبَّتنا على الصِّراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابهِ الأليم، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروهُ إنه هوَ الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وليِّ التّوفيق، يأخذُ بيدِ مَن يشاءُ إلى أقوَمِ طريق، وأشهدُ أنْ لَّا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شريك له، هو وحدَهُ بالألوهيةِ حَقيق، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا وقُرَّة أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدهُ ورسولُه، سيّدُ أهل اليقين والتصديق، وإمامُ أعلى رفيق، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على سيِّدنا المصطفى محمَّد، وعلى آله وأصحابِه خيرِ فريق، وعلى مَن تبعَهم على الصّدق والتحقيق، وعلى آبائهِ وإخوانهِ مِن الأنبياءِ والمرسلينَ مظاهر جودِك الواسِع وفضلِك العميق، وعلى آلهم وصحبهِم وتابعيهم، وعلى ملائكتِكَ المقرَّبين، وجميعِ عبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعدُ.. عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله، فاتَّقوا وبرهِنوا على التقوى بنيَّاتِكم وأعمالِكم وما تستقبلون به ليلةَ النَّظرة مِن ربِّ العرشِ.. ربّ الأرض والسماء، في أسبوعكم ستأتيكم، وُعِدتُم فيها وعداً صادقاً مِن خالقٍ على لسان خير الخلائق: أنْ ينظُرَ إلى هذه الأمَّةِ، في أولِ خصوصيةٍ لهم في الشهرِ الكريم، ومَن نظرَ إليهِ لم يعذِّبْهُ أبداً.
وهكذا يروي لكم الإمامُ البيهقي وغيره بالأسانيدِ الحسَنة الصحيحة، عن صاحب الأقوال الصحيحة المليحة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنَّ اللهَ خصَّ أمتَهُ بخصوصياتٍ في هذا الشهر، ولقد كان رمضان يمرُّ على آدم وأولاده وكل ذراريه والأمم السابقة، ولكنه لهذه الأمة لهم عطايا ليست لمَن قبلهم، ولهم مِنَحٌ لم يمنحها مَن سبقهم، ذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء.
أما إحداهن: فإذا كان أول ليلة نظرَ اللهُ إلى خَلقهِ، ومَن نظرَ اللهُ إليه لم يعذبهُ أبداً.
وأما الثانية: فإنهم يُمْسُونَ وخَلوفُ فَمِ أحدهِم مِن الصيامِ أطيبُ عند الله مِن ريحِ المسك.
وأما الثالثة: فإنَّ الملائكةَ تستغفرُ لهم ليالي رمضان.
وأما الرابعة: فإنَّ اللهَ تعالى يزيِّن لهم الجنةَ في كل يومٍ مِن رمضان؛ ويقال: تزيَّني؛ فقد أوشكَ عبادي أنْ يستريحوا ويُلقوا عنهم التعبَ ويصيروا إليكِ.
وأما الخامسة: فإنَّ اللهَ تعالى يغفرُ في آخِر ليلةٍ منه لكلِّ مؤمنٍ لا يشرك باللهِ شيئاً.
أيها المؤمنون بالله: جاءنا في الحديث اثنان أو أربعة لم يقيموا أمرَهم على الميزان الذي ذكرنا، ولم يعرفوا قدرَ رمضان ولا مكانته: عاقٌّ لِوالديه، وقاطعٌ لِرَحمِه، وصاحبُ مسكرٍ وخمرٍ ومخدِّرٍ ومُذْهِبٍ للعقلِ، ومُشاحِنٍ؛ في قلبهِ شحناءُ لمسلم، إنَّ الأربعةَ لم يصْدقوا في إيمانهم، إنَّ الأربعةَ لم يصْدقوا مع إلههِم وخالقهِم، فاحذر أنْ تكونَ منهم، أو يكون في بيتِك أحدٌ منهم، وهيِّئ بيتَك لنظرةِ الله، وهيِّئ بيتَك لمغفرةِ الله، وهيِّئ بيتَك لعطاياهُ الجزيلة في ليالي هذا الشهر، الذي تفتح فيه أبواب الجنان فلا يُغلق منها بابٌ الشهرَ كلَّهُ، وتُغلق أبوابُ النيرانِ فلا يُفتَحُ منها بابٌ الشهرَ كلَّه، وتُسلسل فيها الشياطين إكراماً مِن الله، مَردَة الشياطينِ وكبارهم نُكفى شرهم بتصفيدِهِم في البحار إلى أولِ ليلةٍ مِن شوَّال.
هكذا أيها المؤمنون جاءتنا الأخبار، فانظروا كيف تستقبلونَ الشهرَ في أنفسِكم وأهاليكم، وما العُدَّة التي تُعِدُّونها للعبادةِ، وما تقصدونَ مِن طولِ القيامِ وطولِ السُّجود، وقُل للذي يُحدِّث نفسَهُ "مَن أخف صلاةً"؛ ليخرُجَ يلهو أو يلعب أو يتحدث مع إخوانِه أو يشتغل بشيءٍ مِن شئونِ دُنياه: لو زادت لك رُبْع ساعة أو نصف ساعة أو ساعة وأنت قائمٌ فيها بينَ يدَي ربِّك كان ذُخراً لك، وفخراً ومِنَناً وعطايا وتجارةً ورِبْحاً، لِمَ تُضَيِّعها؟!
يا هاجِرَ القرآن كفى لك سوءاً أنْ تتعرَّضَ أنْ تكونَ ممن اشتكى منهم رسولُ الله (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا) [سورة الفرقان: 30]، راجع صِلَتك بكتابِ الله، وافرح بسماعِه، وافرح بتلاوتِه (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [سورة الأنفال: 2]، واصدُق مع الله، واجتهِد في رمضانَ ما لا تجتهدُ في غيرِه، وفي العَشرِ الأواخِر؛ فإنَّ إبليس يضعُ مَسْلَكاً مُضادَّاً لمسلَكِ النبوَّة، فاحذر أنْ تمشي في المسلكِ المضاد لخيرِ العباد، ممن يُقبِلُ في أولِ الشهرِ ويُدبِرُ في آخِره، ممن يجعل آخرَهُ للأسواقِ وشراءِ الملابسِ، والاختلاطِ بأهلِ السُّوءِ.
أيُّها المؤمنَ بالله: اصدُق مع الله، واستقبل رمضانَ بالصدقِ والإخلاصِ ؛ فمن صامَهُ إيماناً واحتِساباً غُفِرَ له ما تقدمَ مِن ذنبِه، ومَن قامَهُ إيماناً واحتِساباً غُفِرَ له ما تقدم مِن ذنبِه، ليس شهر الغفلةِ ولا شهر اللعب، إنه شهر العبادة والخضوع والخشوع، والحكمة في تفريغ المؤمن نفسه في شيءٍ من الأوقات للعكُوف على بابِ الربِّ يزداد إيمانُه ويقينُه، ويتطهر قلبُه مِن رانِه، وكم مِن مسلمٍ يرى نفسَهُ داعياً ومُعلِّماً لا يَفْقَهُ هذه الحقيقة، ولا يعرفُ معنى الصفاء عن الرَّان والطُّهر عن الأدرانِ، والمصافاةِ مِن قِبَل الرحمن، وتقويةُ اليقينِ والإيمان.
ألا أيها المؤمنون: اصدُقوا مع علَّامِ الغيُوب، واقتدوا بالـمُطهَّرِ عن العيُوب، الهادي إلى خيرِ الدُّروب؛ ذاكم عبدُ اللهِ محمد، وأكثِروا الصلاةَ والسلامَ عليهِ؛ فإنها سببُ قبول صلواتِكم وصيامِكم، ومختلفِ طاعاتِكم، فإنَّ ربَّ العرش يُصلِّي على مَن صلَّى على نبيِّه مرةً واحدةً: عشرَ صلواتٍ، بالفضل والجود، وإنَّ أولَانا به يوم القيامة أكثرُنا عليهِ صلاة.
واسمعوا كلامَ ربِّنا الإله، مُبتدِئاً بنفسِه، مُثنِّياً بملائكتِه، مُأيِّهاً للمؤمنينَ تعظيماً وتمجيداً وتفخيماً وتكريماً: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى سيِّدنا محمد، صلواتٍ ترفعُنا بها أعلى الدرجاتِ، وتُثبِّتنا بها أكمل الثَّبات، وتوفِّر بها حظَّنا مِن نظرتك إلى المؤمنين في أولِ ليالي شهر العطايا والخيرات، وتدفعُ بها عنَّا وعن الأمةِ جميع الآفات.
وصلِّ معه على صاحبِه وأنيسِه في الغار، مؤازرِه في حالَيِ السّعة والضيق، خليفة رسولِ الله سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى مَن يفرَقُ الشيطانُ مِن ظلِّه، المنيبُ الأوَّاب، ناشرُ العدل أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى مُحيي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن؛ أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابن عمه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمِه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحسن سيِّدَي شباب أهلِ الجنةِ في الجنة، وريحانة نبيِّكَ بنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهما الحَوْراء فاطمةَ البتول الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى، وعائشةَ الرضا، وأمهات المؤمنين، وعلى بنات نبيِّك الأمين، وعلى الحمزة والعباس، وأهل بيت نبيِّكَ الذين طهرتَهُم مِن الدَّنسِ والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العَقبةِ، وأهل بدرٍ، وأهل أحُد، وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر الصحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا الراحمين.
اللهم لا صرَفْتَنا مِن جُمعتنا إلا ونحنُ مجموعي القلوب على الوجهةِ الصادقة إليك، والإقبال الكُلِّي عليك، مع كمال القَبولِ لديكَ يا ربَّ العالمين، اجعل رمضان هذا العام مِن أبْرَك الرَّمضانات على أُمَّةِ نبيِّك محمدٍ سِرَّاً وجهراً، ظاهِراً وباطِناً، حِسَّاً ومعنىً، احْيِ فيه حقائقَ الإيمانِ واليقينِ، ورُدَّ فيه كيدَ الشياطين والكافرين والمفسدين.
اللهم احْيِي فينا سُنَن الأمينِ المأمون، وتوَلَّنا به في الظهورِ وفي البطون، اللهم اغفر لنا ووالدينا ومشايخنِا وذَوي الحقوق علينا، والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، بأوْسَعِ المغفرات.
اللهم ثبِّت قلوبَنا وأقدامَنا خيرَ ثَبات، تولَّنا في جميعِ الظواهرِ والخفيات، ولا تَكِلْنا إلى أنْفُسِنا ولا إلى أحدٍ مِن البرياتِ طَرفةَ عينٍ ولا أقلَّ مِن ذلك ولا أكثرَ، يا حيُّ يا قيُّوم .. يا مجيب الدعوات.
اللهم فرِّج كروبَ الأمةِ، واكشفِ الغُمَّة، وعامِل بِمَحضِ الجُودِ والرَّحمةِ، واختِم لنا بأكملِ حُسنى.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
نسألُك لنا وللأمةِ مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد، ونعوذُ بك مِن شرِّ ما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدنا محمد، وأنتَ المُستَعان وعليك البلاغُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
عبادَ الله: إنَّ الله أَمَرَ بِثَلاث وَنَهَى عَنْ ثَلاث:
﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾..
فاذكُرُوا اللهَ العظيمَ يَذْكُرْكُم، واشْكُرُوه على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبر.
25 شَعبان 1444