سِر ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) وشأن النفوس والعقول وضبط الأسماع والأبصار

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمدبن سالم بن حفيظ في جامع الإيمان بحارة الإيمان، عيديد، مدينة تريم، 17 شوال 1445هـ، بعنوان: 

سِر ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) وشأن النفوس والعقول وضبط الأسماع والأبصار

نص الخطبة مكتوب:

الخطبة الأولى :

      الحمد لله،، الحمد لله المكوِّن القدير العليم البصير السميع الخبير، من استوى علمه بالظاهر وما في الضمير. 

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، منه المبتدأ و الإنشاء والتكوين والتصوير، وإليه المآب و المآل والمُنقلب والمرجع والمصير. 

وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، خير من قام في البرية بالتعليمِ والتفهيمِ  والتنقيةِ والتطهيرِ والتصفيةِ والتربية والتنوير. 

أدم اللهم صلواتك على عبدك المجتبى المختار سيدنا محمد، وعلى آله وأهل بيته المخصوصين منك بشريف التطهير، وعلى أصحابه الغر الميامين المهاجرين ومن كانوا له نعم النصير، وعلى من والاهم فيك واتبعهم بإحسان في ذلك المسير، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المأمونين من قِبَلك على الهداية للمكلفين والتبصير، والتعريف والإرشاد والتنوير، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين، يا سميع يابصير.

أما بعد… 

     عباد الله،،، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله.. 

من هم المحسنون؟ :

وأحسِنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، والمحسنون هم الذين أحسنوا استعمال عقولهم وبصائرهم وما آتاهم الله تعالى من قوى العلم والفكر والإدراك، فساسوا وقادوا بها نفوسهم إلى ما يوجب حقيقة عزِّها وحقيقة كرامتها وحقيقة مصلحتها، بل حقيقة سعادتها الكبيرة الأبدية الدائمة المستمرة السرمدية.

حقيقة الإدراك والمعرفة :

   أيها المؤمنون،، فهذه العقول التي آتانا الله إياها والمدارك والمعارف والبصائر مهمتها لهذه النفوس أن ترعى إرادتها وحركتها:

  • فتزجرها عما يضرها وإن استحسنته 
  • وتمنعها عما يُهلكها وإن استَحْلته 

النفس كالطفل :

كمهمة الآباء والأمهات مع الأطفال الذين يُعجِب أحدهم السكين، فإن تُرِك ورغبته وإرادتَه فيه، عَوَّر عينه أو فقأها أو وَصل إلى ضرر في أعضائه أو إلى موتٍ يَقتلُ به نفسه.

تُعجِبه النار وصورتها ولهبها، ربما طلب أن يَمسكها ويَأخذها فإن لم يمنعه العقلاء -من أبيه وأمه ومن هم مسؤولون عليه- احترق بلهب تلك النار وتضرر، كذلك عقلُك ومهمته مع نفسك، هذه النفس تهوى كثيراً مما يهلكها، وتحب كثيراً مما يفسدها، وتميل الى كثير مما يضرها الضرر البليغ، فإن لم تحسن استعمال عقلك لتردعها وتزجرها احترقت وتضررت وهلكت.

 وعلى ذلكم جاءنا بيان الرحمن في القرآن :

بسم الله الرحمن الرحيم (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)) 

(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)، نال الفلاح والسعادة والفوز في الدنيا والآخرة، من زكّاها: بحسن استعمال العقل والعلم والقلب ليمنع هذه النفس عما يضُرها ويرْديها ويهلكها ويفسدها ويمرِضها ويوقعها في الآلام والعذاب.

أثر النفس في حال الإنسان :

     أيها المؤمنون،، هذه النفوس إذا طغت فهي آلة إبليس وجندِه في دعوة المُكلفين ليكونوا من أصحاب السعير، وإلا فمن يرضى لنفسه بالسعير!؟ ولكن نزوات وشهوات وغلبات النفوس وأهوائها إذا غُلِّبت وقُهرت من أجلها القوى الشريفة من العقل والعلم والبصيرة والقلب، هلك الإنسان هلاك الأبد واستجاب لدعوة عدوه (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ).

فيا أيها المؤمن، باستجابتك لنداء الله وتسخيرك ما أنعم به عليك لطاعته، والعمل بتطبيق نظامه وشريعته، يجعلك في حزبه نائلاً قُربهُ، وظافراً بمحبته، وخالداً في جنته، ولكن حزب الشيطان الذين يَخْلدون في النيران ويقول لهم رأسهم إذا احتَجّوا عليه عندما يقُضى الأمر ويَصدُر الحكم من الذي لا مُعقِّب لحكمه :

(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي منقذكم (مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ)

أيها المؤمنون بالله جلَّ جلاله (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)

تسخير النعم في الطاعة علامة صدق الايمان :

    أيها المؤمنون بالله،،، تسخير النعم ومن أعظمها؛ البصر والسمع لِمقتضى العَقل في زجْرهما عما نهى الله، علامة الصدق في الإيمان (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) إلى آخر الآيات البينات.

ضبطُ الأسماع والأبصار علامة إدراك الحقيقة والنجاح في كسب السعادة الأبدية.

اختبار الحق ﷻ لعباده أيكم أحسن عملاً:

     أيها المؤمنون بالله ﷻ ، وهذا هو الاختبار لنُبْلى أيُّنا أحسن عملاً (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، يختبركم، والأحسن عملاً: من أحسن استعمال العقل والقلب والعلم وسخَّر نفسه لتتهذب ولتتزكى (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).

     وهذه دعوة الله ورسله وأنبيائه للمكلفين أن يغضّوا من أبصارهم، وهذه دعوة إبليس الذي (يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، ودعوة حزبه وجنده وأتْباعه من شياطين الإنس والجن إلى المكلفين أن يفتحوا أبصارهم، بل ويسعون إلى تقريب ما حُرِّم عليهم نظره ليكون في متناول الأيدي، حتى كان في عصرِكم وزمانكِم موجوداً في مختلف الأجهزة، وتسهُل الوصول إليه ومُعْتناً بتصويره وتحريره وتقريبه وتسهيل وصوله، لتتلطخ العين فيتلطخ القلب، لتتوسّخ العين فتتوسخ البصيرة، ليخرج صاحبُ هذا النظر عن الإيمان وقوته إلى ضعفه أو إلى تلاشيه والعياذ بالله بالكلية.

(النظرةُ سهمٌ مسمومٌ من سهامِ إبليسَ) قال الله: (منْ تركَها من مخافتي أبدلته إيماناً يجدُ حلاوتَه في قلبِه) فمن لم يخف ولم يبالي ضعف إيمانه ونقص إيمانه وقلّ إيمانه.

   أيها المؤمن،، خُلقت لتُبتلى ما حُسنُ عملك (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). 

فهل نفعك زادُك من رمضان لتكون أحسن عملاً في بقية العمر؟ وفيما استقبلَك من شهر شوال الذي يكاد أن ينختم وأنت في نصفه الأخير، هل استفدت من نور رمضان قوة في العقل والعلم انضبط بها البصر؟ واستقام بها السمع؟ وهو علامة اعتدال القلب وصحته (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).

دعوة الله ورسوله وما يقابلها من دعوات الشيطان وحزبه:

     وهذه دعوة الله ورسوله لك أن تضبط هذا السمع والبصر، وهذه دعوة عدوك ومن شايعه، يوحون إلى الناس؛ أنْ عيشوا حياتكم، ما معنى عيشوا حياتكم؟! أي انطلقوا في استماع ما يضركم، والنظر إلى ما حُرّم عليكم، ليَفسُد إيمانكم وليَخبُث جَنانكم ولتُحرَموا قرب ربكم، ولتدخلوا في صفوفهم فتكونوا من أصحاب السعير.

   إنها دعوة الأعداء، دعوة الأعداء بها انطلق كثير من شباب الأمة رجالاً ونساءً لأن يَقضوا الأعمار الغالية في النظرات المحرمة والمسموع المحرّم -مسموع ما حرّم استماعه- ليُنزع الإيمان، ليَخبث الجنان، لتَكثر الأدران، ليتكاثف الران، ليُغضب الرحمن، ليُخرج عن سَننِ سيد الأكوان.

خالق السمع والبصر أولى أن تطيعه بهما:

    فيا أيها المسؤول عن سمعه وبصره، الذي خلق لك السمع والبصر هو أحق من سخَّرت السمع والبصر لطاعته، وسيَّرْته على منهاجه ونظامه، لا والله لم يَخلُق أهل هذه الحضارات ولا أهل هذه الشبكات ولا أهل هذه البرامج ولا أهل هذه المنشورات، لم يَخلُقوا لك سمعاً ولا بصراً، أتطيعهم وتعصي من خَلَق السمع والبصر؟ بالسمع وبالبصر؟ ولا يريدون منك إلا أن تكون معهم في سعيرٍ في شر مستقر!!.

قال ﷻ : (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي) من دون ربكم الذي خلَقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ؟! (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

  • تشكرون فلا تستعملون سمعاً ولا بصراً فيما حرَّم 
  • تشكرون تحسنون استعمال السمع والبصر بقوة العلم وقوة الإيمان 
  •  في النظر في مخلوقات الله والتأمل في آيات الله 
  • وقراءة كلامه وقراءة سنة المصطفى محمد 
  • والنظر إلى وجه المؤمنين بعين الإكرام والرحمة والشفقة، وإلى خواصهم بعين الإعظام والإجلال والإكبار،
  • والنظر إلى الدنيا بعين الاعتبار والادكار 
  • النظر إلى الآخرة بعين اليقين بالمصير إليها وأنها هي الحيوان والحياة الدائمة.

    أيها المؤمنون بالله ﷻ ، حُسن استعمال السمع والبصر، وكَفُّ النفس عما تهواه؛ أساس النجاة والفوز بالمراتب الرفيعة والدرجات العلية، ألا فليحذر مُطلقُ النفس بهواها فإنه كمن يترك طفلَه يقع في النار، أو يُقطّع نفسه بالسكين أو يتناول ما يضرُه من سُم وغيره، أو يأكل القاذورات. 

   أيها المؤمنون،،، نفوسكم أمانة عندكم من قِبل الخالق، أتاكم الآلات لتزكيَتها فلا تدسُّوها فتخسَروا خسارة الابد.

لنرفض دعوات إبليس وجنده الداعيات إلى إطلاق العين في المُحرّمات والسمع إلى المُحرَّمات، ولنعلم أنه لا أحق أن تُسخَّر لنظام أحد إلا نظام خالقها ومنشِئها وواهبها لنا.

    يا أيها المؤمنون بالله،،

اللهم تدارك الأمة وارزقهم الاستجابة لندائك ولا تُسلط عليهم عدوك فيَقودهم إلى هلاك الأبد يا واحد يا أحد.

والله يقول وقوله الحق المبين (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال تبارك وتعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12))

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خِزْيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية :

    الحمدُ لله حمداً تمتلئ به القلوب إيماناً ويقيناً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نتحقّق بمضمونها، وبها الله من شرور الدارين ومن عذاب النار يقينا، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أعظم خَلق الله قدراً لدى المولى وأجلَّهم استقامةً وتمكيناً، اللهم أدم الصلاة على الكنز الثمين عبدك المصطفى الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانهم من أنبيائك ورسلك سادات أهل حزبك وقربك، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم،وعلى ملائكتك المقربين وعبادك الصالحين الظافرين بودّك وحبّك، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد… 

    عباد الله،، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله،

 أيها المؤمنون، تأملوا قول الجبار الأعلى مكون الأكوان جل جلاله وتعالى في علاه: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)

فهل شاركهُ أحد في هذا الخلق والإيجاد؟!

(فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ (36) فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) شأن هؤلاء المستعبدين للأنفس والأهواء والشهوات، المتحالفين للمصالح الفانيات، الكافرين برب الأرض والسماوات، المكذِبين بيوم الوعد والميقات، كلهم منطبقٌ عليهم الوصف:

(فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ)

ألا يا أهل دين الله إسلاماً وإيماناً وإحساناً، ويا أهل مدرسة الصيام والصلاة، ويا أهل مدرسة رمضان والمواسم الكبيرة، ودّعتم رمضان فاستقبلتكم أشهر الحج، وتودعون الأول من أشهر الحج وتستقبلون مع بقيتها الأشهر الحرم، مواسم التقريب والتطهير والتطييب، وحسْن المراجعة للنفس والتطهير بنور القدس.

أثر السمع والبصر على القلب:

    أيها المؤمنون، أسماعكم وأبصاركم قوية التأثير على قلوبكم، وقلوبكم رأس مالكم وكنزكم الأكبر، إن صَلحت صلحت الدنيا والآخرة، وإن فَسدت فَسدت الدنيا والآخرة، فاخشوا يوماً تُقلّب فيه القلوب والأبصار.

    أيها المؤمنون بالله، أقيموا منهج الله في الأسماع والأبصار من أنفسكم وأهليكم، وانظروا ما يجري من المسموعات والمنظورات في المنازل والديار بل وفي السيارات والأجهزة المختلفة، وحقِّقوا إيمانكم بتطبيق منهج ربكم واستعدوا للقائه.

اللهم لا تجعل فينا إلا قلباً منيباً يوقن بلقائك، ويصدُق في التصديق بأنبائك، ويطبق حكم شريعتك وما بعثت به خاتم أنبيائك، حتى يدخل في صفوف أحبابك وأوليائك، والمقربين إليك من أصفيائك، يا رب العالمين.

وأكثروا الصلاة والسلام على المصطفى محمد، واستمعوا إليها وإلى صفاته وإلى ذكر ربكم وذكر ما جاء به عن ربكم، وقوموا بحق الأسماع والأبصار، وتدرِكوا الفوز بمرافقة هذا المختار في القيامة ودار القرار.

وإن أولاكم به يوم القيامة أكثركم عليه صلاة، ومن صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً، وإن الرحمن الرب الأعلى الحق ذا العرش العظيم أوحى إليه ليُبلِّغنا (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

اللهم صلِّ وسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، البشير النذير، عبدك المختار سيدنا محمد

 وعلى الخليفة من بعده المختار، وصاحبه وأنيسه في الغار، مؤازرهِ في حاليي السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكرٍ الصديق

 وعلى الناطق بالصواب، حليف المحراب، المنيب الأواب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب

 وعلى مُحيي الليالي بتلاوة القرآن، من استحيَت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان

 وعلى أخي النبي المصطفى، وابن عمه، ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب 

وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وأخواتها الكريمات، وعلى خديجة الكبرى، وعائشة الرضا، وأمهات المؤمنين،

 وعلى الحمزة والعباس، وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وعلى أهل بدر، وأهل بيعة العقبة، وأهل أحد، وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر الصحب الأكرمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

الدعاء :

اللهم أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم املأ قلوب المسلمين بالإيمان واليقين، اللهم خلِّصهم من ورطات تسلط عدوك عليهم، وما يُمليه على ألْسن أعدائه، فيحتوي قلوبهم وعقولهم وأفكارهم، فيصرف أسماعهم وأبصارهم إلى ما كرِهت وسخطت وأبغضت، اللهم أنقذهم من هذا السخط إلى ميادين رضاك، والقيام بتقواك، واتباع خاتم أنبيائك يا حي يا قيوم.

اللهم خلِّصهم من الآفات، ورد عنهم كيد المفسدين والمفسدات، اللهم وما برز من آثار ما كان منا من مخالفةٍ ومن إهمال لأوامرك، من تسلط أعدائك علينا وعلى أمتنا بمختلف المظاهر حتى أثاروا العدوان، وأثاروا الطغيان، وأثاروا ضرب الناس بعضهم ببعض وقاموا بتهديم كل مفيد ونافع، اللهم رد كيد أعدائك في نحورهم، واكف المسلمين جميع شرورهم، وتدارك بالغياث العاجل أهل رفح، وأهل غزة، وأهل الضفة الغربية، وأهل بيت المقدس وأكنافه، والمسلمين في السودان وفي الصومال وفي العراق، وفي ليبيا وفي الشام وفي اليمن، يادافع الفتن والمحن وفي كل مكان، ارحم أمة المصطفى وادفع عنهم البلايا والشرور في الظاهر والخفاء، وارزقنا وإياهم الاستقامة على منهج المتابعة والاقتفاء لحبيبك المجتبى المصطفى، يا عالم السر وأخفى، لا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.

اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا، مصروفة في طاعتك ورضاك، وما يوجب القرب إليك ما أحييتنا واجعله الوارث منا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لايخافك، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، يا الله.

تدارك أمة حبيبك سيدنا محمد، وأغث أمة حبيبك سيدنا محمد، واغفر لأمة حبيبك سيدنا محمد مغفرة واسعة، وتب علينا وعليهم توبة نصوحاً، وزكّنا بها قلباً وجسماً وروحاً، ولا تصرفنا من جمعتنا إلا بقلوبٍ صدقت في الوفاء بعهدك، وتهيأت للظفر بمحبتك وودّك، وأحسنت المتابعة لحبيبك وعبدك،

 يا إلهنا آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اجعلنا ممن أحسن عملاً، وصَدق معك قولاً وفعلاً، وأقبل بالكلية عليك طالباً للرضوان منك الأعلى، اللهم واجمعنا والأحباب في فردوسك الأعلى من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب يا أرحم الراحمين.

نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) .

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) .

(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) .

(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .

عباد الله،، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.

تاريخ النشر الهجري

18 شوّال 1445

تاريخ النشر الميلادي

26 أبريل 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام