حياة القلوب بذكر الله وخطر الغفلة والإعراض عنه
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في مسجد الملك عبدالله الأول، بمدينة عمّان، الأردن، 19 صفر 1446هــ بعنوان:
حياة القلوب بذكر الله وخطر الغفلة والإعراض عنه
نص الخطبة:
الحمد لله يُحيِي القلوب بذكره، ويُنوِّرها بحقائق عبادته وشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل خير الدنيا والآخرة للمُمتثلين لأمره والمُجتنبين لزجره، وجعل شر الدنيا والآخرة مصبوبًا على من تولى عن ذكره، وخالف قويم أمره، ووقع في نهيه وزجره، لا إله إلا هو، له الملك وله الحمد، يُحيِي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير.
ونشهد أن سيدنا ونبينا وقُرة أعيننا ونور قلوبنا مُحمّدًا عبدُ الله ورسوله، ونبيّه وصفيه وخليله، كان يذكر الله على كلّ أحيانه، ويُبشّر الذاكرين بجود الله وغفرانه، ومحبته ورضوانه، ونصرته وأمانه.
فصلّ يا ربنا على سيد الذاكرين لك عبدك المُختار سيدنا مُحمّد، وعلى آله المُطّهّرين وأصحابه الغرّ الميامين، وعلى من والاهم فيك واتّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك ياأرحم الراحمين.
أما بعد،،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله، فاتّقوا الله وأحسنوا يرحمكم الله، (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)، وإن من مجالي التقوى وأسباب تقويتها وحفظها كثرة الذكر لمن يُتّقى، ولا يَحق أن يُتّقى إلا هو، فإن الأمر بيده أوّلًا وآخراً، وظاهرًا وباطناً، حسًّا ومعنى، دنيا وبرزخًا وآخرة، سبحان ملك الملك الحي القيوم.
دوام ذكره والإكثار من ذكره صَبغة يصبغ الله بها خواصّ المؤمنين، فيُسَلّمهم من مصائب الدّارين، ويُرقّيهم في مراقي السعادة على الحقيقة بالفضل منه جلّ جلاله وتعالَى في علاه، (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
فضل ذكر الله تعالى:
أيها المؤمنون بالله، ولقد علّمنا سيّد الأتقياء نبيّنا ﷺ أن نتّصل بحصن الذّكر لمولانا في غدواتنا وعشياتنا، وصباحنا ومسائنا، (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ).
الذكر حفظ للذاكرين:
أيّها المؤمنون بالله، وفي استقبالنا لتعاليم سيدنا رسول الله ﷺ تربيةٌ وتزكيةٌ وتنقيةٌ وترقيةٌ، وحفظٌ ووقايةٌ وكلاءةٌ؛ لهموم الدّارين، وشرور الدّارين، وكلّ سوءٍ أحاط به علم الله، ولقد قال سيدنا جعفر الصادق -عليه الرضوان-: "إن الصواعق تصيب المؤمن وغيره، ولا تُصيب الذاكر لله".
وكان يقول ابن عبّاس: "من قال عند الصواعق سبحان من (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا)، فأصابه شيء فعليّ دّيته" فعليّ دّيته.
حصون الذكر :
أيّها المؤمنون بالله، حصونٌ يجب أن يُعرف قدرها ومكانها في واقع الأمة، إذ آمنت بالله المُكوّن المُسيّر المُدبّر المُقدّم المُؤخّر، الذي لا ينصر إلا هو، ولا يهزمُ إلا هو: (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
غفلة المؤمنين عن ذكر الله:
أيها المؤمنون، غفلة المؤمنين عن تعاليم خاتم النبيين أورثتْ قسوةً في القلوب، وأورثتْ بُعدًا عن علام الغيوب، وأورثت تكاثرًا في العيوب، يُصابون بها عيبًا بعد الآخر، كبرًا وعُجبًا، وحسدًا وتقاتلًا بينهم، وغيبةً ونميمةً، إلى غير ذلك مما يجرّ إليه الغفلة عن الله، التي خيّمت على قلوب الكثير من أهل هذه الملّة، وعلى ديار الكثير من أهل هذه الملّة، وعلى أسواق الكثير من أهل هذه الملّة.
حال أسواق المؤمنين السابقين:
وقد كانت أسواق المسلمين تُعرف بالذّكر والأمانة، وتُعرف بتلاوة القرآن فيها من بين بائعيها ومُشتريها، ومن بين المُتردّدين فيها، حتّى قال سيدنا عليّ بن أبي طالب: "سوق المسلمين كمُصلّى المُصلّين".
ولقد دار ﷺ في أسواق المسلمين، وبيّن الأحكام، ونزّهَ المعاملات عن الغشّ، وقال وقد مسّ طعامًا أصابت السّماء بعضه -أي المطر- فأخفاه صاحبه وجعل الطعام اليابس من فوق، وأهوى رسول الله ﷺ بيده إلى داخل الإناء حتّى ظهر البلل، فقال: "ما هذا؟"، قال: "أصابته السماء"، قال: "أفلا جعلته من أعلى؟ من غشّنا فليس منّا".
وكانت تلكم الأسواق محلّ الذكر، يخرج سيدنا عبد الله بن عمر وأبو هُريرة إلى السوق أيّام العشر من ذي الحجّة، لا حاجة لهما في السوق إلا أن يُكبّرا ويذكرا الله، فيرجعان إلى بيوتهما.
أحاديث عن فضل الذكر:
أيها المؤمنون بالله، ولقد قال سيّدنا ﷺ فيما رواه الحاكم في المُستدرك وغيره: "من مرّ في السوق فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيِي ويميت وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير" كَتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة".
فلا والله ما في السوق أربح منه، ولا أعلى بالكسب العظيم منه، ذلك المُتشبّث بتعاليم خاتم النبوة -صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم-، والذي أرشدنا أن لا نُخلي الصباح والمساء عن ذكر المولى -جلّ جلاله وتعالَى- فيَحفظنا، وبعين العناية يُلاحظنا، ويَدفع البلايا عنّا، ويزيدنا إيمانًا، وهو القائل في عظمته: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ).
الذاكرين لله أعظم الناس أجراً:
أيها المؤمنون بالله، وقد صحّ في الحديث أن نبيّنا ﷺ سُئل: أيّ المُصلّين أعظم أجرًا؟ يا حاضر في الجمعة، يا مُصلّياً الجمعة والفرائض والنوافل، انظر أيّ المُصلّين أعظم أجرًا؟، فأجاب رسول الله ﷺ : "أكثرهم لله ذكرًا"، قيل: يا رسول الله، فأيّ المتصدّقين أعظم أجرًا؟، قال نبيّنا ﷺ: "أكثرهم لله ذكرًا"، قيل: يا رسول الله، فأيّ الصائمين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، قيل: يا رسول الله، فأيّ المُجاهدين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، فالتفت سيدنا أبو بكر إلى سيدنا عمر، قال: ذهب الذاكرون بخير الدنيا والآخرة، فسمعه رسول الله ﷺ فالتفت إليهما وقال: "أجل، ذهب الذاكرون لله بخير الدنيا والآخرة".
ولقد قال ﷺ لسيدنا مُعاذ - رضي الله عنه -: "يا مُعاذ، إني لأحبّك، فلا تدعَنَّ أن تُقول في دُبر كلّ صلاة اللهمّ أعني على ذكرك وشكرك؛ وحُسن عبادتك".
أهمية أذكار الصباح والمساء:
علّمنا ﷺ في كلّ صباح أن نقرأ سورة الإخلاص ثلاثًا، والمعوّذتين ثلاثًا ثلاثًا، وأخبرنا أنَّ من حافظ عليها حُفِظ، وكان في ذمة الحقّ ﷻ.
وحدّثنا عن قراءة أوّل سورة غافر، الثلاث آيات: (حمٓ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، وآية الكرسيّ بعدها، وأن من قالها في صباح حُفظ حتّى يُمسي، ومن قالها في مساء حُفظ حتّى يُصبح.
من رضي بالله رباً وبرسوله نبياً:
وعلّمنا -صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم- أن نُحافظ من الأذكار على تقوية صِلتنا بالحقّ، وتطمين النفوس على رضوانها بالله ورسوله ﷺ بقول: "رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمّد رسولًا" وأنّ من قال ذلك وجبت له الجنّة، وجاء في رواية: "كان حقًّا على الله أن يُرضيه" من قالها ثلاثًا صباحًا ومساءً، كان حقًّا على الله أن يرضيه، وذلك أنّه استبعث الواجب في عبوديته لله من الرضا بالله ربًّا، "رضيت بالله ربًّا"، ومن رضي بالله ربًّا اعتمد عليه، وأناب إليه، ورضي بأحكامه، وعمل بمقتضاها، ورضي بأقضيته وأقداره، ولم يلجأ إلا إليه.
"ومن رضي بالإسلام دينًا" أيقن أنّه لا يستطيع فكرٌ في شرق الأرض وغربها أن يأتي بأحسن منه منهاجًا، ولا حُكمًا ولا شريعةً ولا نظامًا؛ للفرد ولا للأسرة ولا للمجتمع، ولا للدّولة ولا للشعوب.
"ورضيت بالإسلام دينًا، وبمُحمّد نبيًّا ورسولًا" ومن رضي به نبيًّا ورسولًا:
-
خضع لتعاليمه،
-
وعظّم أمره،
-
وامتلأ بمحبّته،
-
وحرص على مُتابعته،
-
وحمل شعار الاقتداء به في أسرته، وفي محيط عمله، وفي مجتمعه، وحيثما كان وأينما كان.
كذلك كان الصحابة الأعيان، ومن تبعهم بإحسان، في تبعيّةٍ لسيّد الأكوان -صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم-.
فانظروا ماذا في أُسرنا؟
وماذا في بيوتنا؟
وما الشّعار الذي يُرفع؟
لقد أصبحت بعض بيوت المسلمين مرفوع فيها شعار التبعيّة للفسّاق والفجّار من خلال برامجهم وأفكارهم، وما يبثّون، ممّا يشتغل به الصغير من الأسرة والكبير، ليلًا نهارًا، في غفلةٍ عن ذكر الله، وعن معنى التبعيّة لمُحمّد بن عبد الله، فلا تكاد تجد من يُسمّي الله في ذلك البيت على طعام ولا على شراب، ولا يذكر الله في صباحٍ ولا مساء، فما أبأس هذه الديار! وما أخسر أهلها!، "البيت الذي يُقرأ فيه القرآن يتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض".
الذكر يبعد الهموم:
أيها المؤمنون بالله، يُحدّثنا نبيّنا ﷺ أن :"من قال (حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) سبعًا حين يُصبح وسبعًا حين يُمسي كفاه الله ما أهمّه"، صادقًا بها أو كاذبًا، كفاه الله ما أهمّك.
يا من يريد نفيّ الهموم، تطلبها من مُتابعة المسلسلات، لن تنفي عنك الهموم، تطلبها من تناول المُخدّرات والله لن تنفي عنك الهموم، تطلبها من القرولة والهذرمة مع إخوانك في أعراض الناس والغيبة، والله لن تنفي عنك الهموم!
ولكنّ ذكر الله ينفي الهمّ، ولكنّ: "حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" سبعًا صباحًا ومساءً تُنبي عن علاقتك بالوحي والتنزيل، عن علاقتك بهذا الرسول ﷺ، عن مكان الإيمان في قلبك، عن تبعيّتك لله ولعبده المُصطفى مُحمّد -صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم-، فنعم الشّعار للمؤمنين.
سر التسبيح في تفريج الكروب:
ولقد كلّمنا ربّنا -سبحانه وتعالى- وأخبرنا أنّ النجاة كُتبت لنبيّ من أنبياءه ببركة التسبيح والذّكر له والتهليل، قال تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، سيّدنا يونس -عليه السّلام-، وقد التقمه الحوت في البحر، (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، فكانت بركة التسبيح هي المُنقذة، وبركة التسبيح هي المُنجية.
نصر الله للذاكرين:
كذلك كان الأمر؛ نذكر شأن رسول الله ﷺ الذّكار الشّكار، ومن كان يستغرب إبطاء النصر عنه ثلاثة عشر عامًا قبل الهجرة، وسنتين بعد الهجرة حتّى جاءت غزوة بدر الكبرى، وكان فيها مظهر فتحٍ ونصرٍ، إنّه كان في خلال تلك المدّة كثير الذكر كثير الشّكر، ولم يستبطئ نصرًا في بدر، كان الشّعار فيها كثرة ذكره ودعائه طول ليلته، حتّى قال الحقّ تعالى في قرآنه: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) فأَرجع النصر إلى هذا الذكر والاستغاثة بالله، وكان يَلهج: "يا حيّ يا قيّوم، يا حيّ يا قيّوم، يا حي يا قيوم".
سيدنا محمد ﷺ الذاكر الشاكر:
صَبر النبيّ المعصوم ﷺ، أُوذي من قبل الهجرة، ووُضع السّلا على ظهره، والشّوك في طريقه، والأذى في قدره، وكاد أن يُخنَق بردائه ﷺ، حتّى خلّصهُ أبو بكر الصّديق، ورُمِي بالحجارة، وصبر على كلّ ذلك، ولم يستعجل، وهو على قدم الذّكر والشّكر وحُسن العبادة، حتّى برقت بوارق النصر.
دروس من غزوة أُحد :
وجاءت دروسٌ في النّصر، بعد بدر جاءت أُحد، وعلّمت المؤمنين درسًا كبيرًا، لا نصر مع مُخالفة القائد المُرشد الهادي المحمود، لا نصر مع الخروج عن أمره، لمّا خرج الرُّماة من الجبل، قال تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ)، بداية النصر، وبدأ الكفّار يهربون، فخرج الرّماة من الجبل، فُخولف أمر المُصطفى المرسل ﷺ ، فتحوّل النصر إلى هزيمة: (وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) واستمرّ الأمر ثمانية سنوات في جهاد في سبيل الله وقتال وذكرٍ، وشُكرٍ وحُسن عبادة، حتّى جاء عام الفتح في العام الثامن من الهجرة، ونبيّنا ﷺ في الحادية والستّين من عمره الكريم، صلوات ربّي وسلامه عليه، ألا إنّه القدوة ونعم الأسوة.
اللهمّ أحيِ به في قلوبنا وقلوب أمّته حقائق الإيمان واليقين، وحُسن الاستقامة على مُتابعته، وتمام قيادته لنا في شؤوننا وأحوالنا، وخلِّصنا من تبعيّة الأهواء والشهوات، وأهل الشّهوات والنزوات، والعدوان، والمكر، والطغيان.
اللهمّ اجعل مُقتدانا حبيبك، واجعل اللهمّ سيرنا في الاتباع له مقبولًا لديك، ظاهرًا وباطنًا.
والله يقول وقوله الحقّ المُبين: (فَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)،
وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَات وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، وثبّتنا على الصّراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية :
الحمدلله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله مع المتقين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، سيد الذاكرين والشاكرين، اللهم صلِّ وسلم على الرّحمة المهداة والنعمة المسداة، زين الوجود عبدك المُصطفى مُحمّد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن على منهجهم سار، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد،،،
عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله وأحسِنوا يرحمكم الله (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
وتحسّسوا وتنبهوا إلى مجلى من مجالي تقواه، في شغلكم بذكره وأهلكم وأولادكم، وترتبيكم على أنفسكم نصيبًا من تدبر القرآن، ومن أذكار الصباح والمساء الواردة عن خير خلق الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وما فيها من الحفظ، والتمكين والتحسين، والوقاية والكلاءة، والأجر الكبير عند العليّ القدير جلّ جلاله وتعالى في علاه.
أسرار حسبنا الله ونعم الوكيل :
وقد صرّح لكم القرآن بقول الصحابة الأعيان: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، قالها الخليل إبراهيم -عليه السّلام- عند دُخوله في النّار، وقالها المُصطفى ﷺ ليلة خُوّف برجوع المشركين بعد أُحد إلى المدينة، فخرج ومن معه، وقال: "لا يخرج معي إلا من حضر معي في أُحد"، فخرجوا وكلهم عليهم أثر الجراح، حتّى ردّ الله عنهم كيد الأعداء، (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
وكذلك نُنجّي المؤمنين، قال الله في دعاء يونس - عليه السّلام -: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
أهمية الحرص على ذكر الله :
أيّها المؤمنون بالله، اتّخذوا لكم حصنًا من ذكر الرّحمن ﷻ، واحرصوا على حضور قلوبكم، واستشعروا عظمة أن يذكركم الجبّار الأعلى، وما كان من ذكر في الفرد وما كان في الجماعة، فلقد قال الرّحمن فيما أخبر عنه نبيّه المُصطفى ﷺ: "من ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم وأطيب".
ألا واعمروا أوقاتكم ولياليكم، وصباحكم ومساءكم، بذكر الإله الرّحمن -جلّ جلاله وتعالَى في علاه-، وخذوا من تعاليمه نصيبًا، تقوم به أُسَركم على صلةٍ بالرّحمن ورسوله ﷺ، وتبعيّةٍ للمقتدى الذي ارتضاه الله لنا أسوةً، ووعدنا على اتّباعه أن ننال محبّته: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
اللهمّ انظر إلى قلوبنا فأحيها بذكرك، وأعِنّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، وارزقنا حُسن امتثال أمرك، واجتناب زجرك، ولا تجعل فينا ولا في بيوتنا سببًا لنزول البلاء، ولا لسلطة الأعداء، ولا لحلول الدّاء.
اللهمّ واجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشرّ، وتولّنا بما أنت أهله فيما بطن وما ظهر برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
الحث على كثرة الصلاة على النبي ﷺ :
ومن أعظم ما حثّنا عليه؛ الصلاة والسلام عليه عمومًا وأقلّها ما ذكر لنا، بعد أن نُصلّي عليه في كلّ صلاةٍ بعد السلام عليه، أن نُصلّي عليه عشرًا صباحًا وعشرًا مساءً، ولقد قال ﷺ: "من صلّى عليّ كلّ يوم عشرًا في الصباح وعشرًا في المساء، أدركته شفاعتي" كما رواه الإمام الطبرانيّ وغيره، أدركته شفاعتي، نال الشّفاعة بالصلاة على رسول الله ﷺ صباحًا ومساءً، وفي ليلة الجمعة ويوم الجمعة خصوصًا، ولقد جاء بسندٍ حَسَنٍ عنه قال ﷺ: "من صلّى عليّ بعد عصر الجمعة ثمانين مرّةً، غفر الله له ذنوب ثمانين سنةً"، فخذوا تعاليم نبيّكم المُصطفى، ولا تستخِفّوا بها.
ولقد أمرنا الله بالصّلاة عليه، فابتدأ بنفسه وثنّى بالملائكة وأيّه بالمؤمنين، فقال مُخبرًا وآمرًا لهم تكريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
وهو القائل: "إنّ أوْلى النّاس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاةً"، وهو القائل لمن قال له: "أجعل لك صلاتي كلّها، قال: إذن تُكفى همّك ويُغفر ذنبك"
اللهم صلّ وسلّم على الرّحمة المهداة، والنعمة المسداة، السّراج المنير، البشير النّذير، عبدك المُصطفى سيّدنا مُحمّد ﷺ ،
وعلى الخليفة من بعده المُختار، وصاحبه وأنيسه في الغار، مُؤازره في حاليي السّراء والضّراء، خليفة رسول الله ﷺ سيّدنا أبي بكر الصّديق،
وعلى ناشر العدل في الآفاق، فاشتهر بذلك، وكريم الاتّباع لعظيم الأخلاق، سيّدنا المُنيب الأوّاب أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-،
وعلى النّاصح لله في السِّرّ والإعلان، مُنفق الأموال ابتغاء رضوان المنان، من استحيت منه ملائكة الرّحمن، أمير المؤمنين ذو النورين سيّدنا عثمان بن عفّان -رضي الله عنه-،
وعلى أخ النبيّ المُصطفى ﷺ وابن عمّه، ووليّه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيّدنا عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-،
وعلى الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة في الجنّة، وريحانتي نبيّك ﷺ بنصّ السّنّة، وعلى أمّهما الحوريّة فاطمة البتول الزّهراء، وعلى خديجة الكبرى، وعائشة الرّضا، وعلى الحمزة والعبّاس، وسائر أهل بيت نبيّك ﷺ، الذين طهّرتُم من الدّنس والأرجاس، وعلى أهل بدر، وأهل أُحد، وبيعة الرّضوان، وعلى سائر أصحاب نبيّك الكريم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
الدعاء:
اللهمّ أعزّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهمّ أذلّ الشّرك والمشركين، اللهمّ أعلِ كلمة المؤمنين، اللهمّ دمِّر أعداء الدّين، اللهمّ اجمع شمل المسلمين، اللهمّ ألِّف ذات بين المؤمنين،
اللهمّ طهّر قلوبنا عن الحقد والحسد والكبر، والرّياء والعُجب والغرور، واملأها بالنّور، واشرح لنا الصّدور، وتولّنا في البطون والظّهور، يا عزيز يا غفور.
اللهمّ اكشف الكُربة، وادفع البلايا، وأصلح الظّواهر والخفايا، وكن لنا بما أنت أهله يا حيّ يا قيّوم، اغفر اللهمّ لمؤسّس هذا المسجد، ومن سُمّي باسمه، ومن تقدّم فيه من إمامٍ، ومؤذّنٍ، وخادمٍ، ومُتردّدٍ إليه، ومُصلّ فيه، واغفر لنا، ولوالدينا، وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أحياهم والأموات، مغفرةً واسعةً، يا خير الغافرين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
لا صرفتنا من جمعتنا إلا بقلوبٍ ذاكرةٍ شاكرةٍ، منيبةٍ مُتواضعةٍ، مُقبلةٍ خاضعةٍ، مُستنيرةٍ بنور الاتّباع لنبيّك محمد ﷺ، في جميع الشّؤون، في الظّهور والبطون، يا من يقول للشيءٍ كن فيكون، اكسنا خلعة جمعةٍ تجتمع بها القلوب عليك، وننال بها الصّدق في الوجهة إليك، وحُسن التذلّل بين يديك، يا أكرم الأكرمين، تدارك الأمّة، واكشف الغُمّة، واجلِ الظّلمة، وادفع النّقمة، وخذ بيد ملك هذه البلاد، ووليّ عهده، ومن يعينه على البرّ والتّقوى والخير، ووفّقهم لمرضاتك، وادفع الآفات والعاهات عنهم وعن أهل البلدة وعن المسلمين.
وتدارك اللهمّ المنكوبين والمظلومين، والمعتدى عليهم في فلسطين خاصّةً، وأكناف بيت المقدس، من غزّة ورفح والضّفة، وبقيّة أقطارها،ة والشّام كلّه، واليمن والشّرق، والغرب رُدّ عنّا كيد المعتدين الغاصبين الظالمين، المجترين المفترين، المتهاونين بأمرك، الخارجين عن كل الأديان والأنفس والفِطر والإنسانية، اللهم تدارك الأمة بغياثٍ عاجل، ولطفٍ شامل، ورد كيد أعدائك المعتدين الغاصبين في نحورهم.
اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، مُنشئ السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، اهزمهم وزلزلهم، وادفع عن المسلمين جميع شرورهم، اللهم إنا نسألك نظرةً لأمةِ نبيك، تُحَوِّلُ بها الأحوال إلى خير حال، وتدفع بها عنا البلايا والأهوال.
يا مُجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)،
(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
يا أرحم الراحمين، نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
25 صفَر 1446