حكمة موسم الحج ومواسم الدين في حفظ هوية المسلمين ومشاعرهم
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان، بحارة الإيمان، بعيديد، مدينة تريم، 8 ذو الحجة 1445هـ بعنوان:
حكمة موسم الحج ومواسم الدين في حفظ هوية المسلمين ومشاعرهم
نص الخطبة مكتوب:
الخطبة الأولى :
الحمد لله، الحمد لله الملك المعبود العزيز الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرّب المقصود العزيز العليم.
وأشهد أنّ سيدنا ونبينا وقرَّة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله ذو الخلق العظيم، الهادي إلى الصراط المستقيم.
اللهم أدم صلواتك على عبدك المختار المجتبى سيدنا محمد الرؤوف الرحيم، وعلى آله وأصحابه ومن والاه فيك، وثَبت على منهجه القويم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الفضل العظيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصالحين من كل ذي قلب سليم، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم رحيم وأكرم كريم.
أما بعد،،،
عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله فهو أكرم من تتقونه، وأعظم من ترجونه وتخافونه، ولا شيء في الدنيا ولا في الآخرة أخوَف عليكم من الله، كما لا شيء أرجى لكم من الله.
مواسم الفضل العظيم :
أيها المؤمنون بالله، وقد جعل الله المواسم في الشرع الحنيف، وجعل سبحانه وتعالى الشعائر للدين القويم لتكون مُذكّرة بعظمَته، ولتحافِظ على الشّعور عند المؤمنين به، فتَحمي مشاعرهم عن أن تَفتُر أو تَكسل، أو تميل إلى من زاغ عن السبيل الأمثل، أو تَغتر بقول ذي إفك إلى السوء يدعو وبالحق تبدِّل.
أيها المؤمنون بالله، شعائر دين الله تعظيمها من تقوى القلوب، ومواسم العطاء الأكبر من الرّب ﷻ مُثبّتات للعقول والقلوب والأقدام على أقوم الدُّروب.
موسم الحج وذكرى حجة الوداع:
أيها المؤمنون بالله -جل جلاله وتعالى في علاه- تعيشُ الأمةُ موسم الحجّ والعجّ والثجّ، وتتذكر من ودّعنا في حجّة الوداع، وتركنا على ملةٍ حنيفيةٍ سَمحاء، بيضاءَ نقية، مَحجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، خاتم النبيين وسيد المرسلين، أقام لنا الحُجّة وأوضح المَحجّة، وتركنا على تلك المَحجة البيضاء.
اللهم أدم عليه صلواتك وعلى آله وصحبه، من حَضر معه في حجة الوداع ومن مات قبل ذلك ومن لم يَحضر في تلك الحجّة ممن تَشرّف برؤية ذلك النور والشُعاع.
وفود الحَجيج لمِنى في يوم التروية :
أيها المؤمنون بالله ﷻ ، والموسم في مثل اليوم الثامن من شهر ذي الحجة الذي يُسمّى يوم التروية، يتوافد الحَجيج ومن حَرص منهم على السُّنة على الورود إلى مِنى ليصلوا ظُهر هذا اليوم وعصره ومَغربه وعِشاءه وفَجره بمنى، حيث صلّى ﷺ وكان في حَجته يوم التروية يوم الخميس، فصَلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بمنى.
أفضلية الصلاة بالمشاعر اتباعاً للنبي ﷺ :
قال أهلُ العلم: ومن كان أَحرم بالحجّ فصلاته في مِنى ظُهراً وعَصراً ومغرباً وعشاءً وفجراً أفضَل من صلاته في المسجد الحرام وبجوار الكعبة المشرفة، لأن الفَضل في اتّباع المُجتبى الذي عظّمه الله وشَرفه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
كذلك صلاتهم الظُهر والعَصر بعرفات أفضل من صلاتهم إياها عند الكعبة المشرفة، كذلك صلاة المغربِ والعشاءِ بمزدلفة، وكذلكم بقيةُ الصلوات بمِنى لمن كان حاجاً فهي أفضل له اتباعاً لمن عظمه الله وفضله، عبده المصطفى محمد.
تهيؤ الحجيج ليوم عرفة :
أيها المؤمنون بالله، ويتهيأُ الحجاج بعد يوم التروية للإقبال على عرفات:
-
موطن الرحمات والغفران والتجليات والعتق من النار،
-
ومباهاة رب السماوات والأرض، أهل السماوات العُلا بأهل عرفات،
ووصفه لهم بأن مجيئَهم شُعثاً غُبراً يريدونه ويستمدون رحمته ويخافون عذابه، وإشهاده أنه قد غفر لهم ولمن شفعوا له، إلى غير ذلك مما جاءنا في سنة نبينا عن يوم عرفة الذي يتأكد صومه على غير الحاج ولا يُسن للحاج أن يصوم اشتغالاً بكثرة الدعاء والتضرع والوقوف بين يدي الحي القيوم، واتباعاً للسيد المعصوم محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
عمل غير الحاج في يوم عرفة :
وقد سَن لغير الحاج أن يَحرصَ على صِيام يوم عرفات، وقال: "أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" ، وقال في صيام يوم عرفة ما قال من عظيم الفضل:
-
وأنه يعدل صيام سنتين،
-
وفي رواية ألف يوم،
-
وفي رواية عشرة آلاف يوم،
إنه اليوم العظيم القُدّر لدى الرب، يُسن لغير الحاج أن يحرص على صيامه ابتغاء فضل الله تبارك وتعالى وقربه وثوابه.
مباهاة الحق ﷻ لأهل عرفة والمؤمنين:
أيها المؤمنون بالله ﷻ، وفي تلكم المباهاة إفاضة مغفرة وعتق من النار، وما من يوم من أيام العام أكثر عتقاً فيه من النار من يوم عرفات، ويعمّ العتق وتعمّ المغفرة بعد أهل عرفات:
-
كل قلب تعلق بعرفة ومعناها،
-
وكل قلب أقبل على الله سبحانه وتعالى يطلب ما عنده، من قلوب المؤمنين في شرق الأرض وغربها.
فما أعظمها من محافل وما أجلها من منازل، وما أعظم ما يُتنزل فيها من الخير العظيم والمنّ الجسيم من الرحمن الرحيم -جل جلاله وتعالى في علاه-.
وصية النبي ﷺ على اغتنام يوم عرفة:
ولقد جاء بالسند الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله ﷺ : "يا ابْنَ أخِي: هَذا يَوْمٌ مَن مَلَكَ فِيهِ بَصَرَهُ إلّا مِن حَقٍّ وسَمْعَهُ إلّا مِن حَقٍّ ولِسانَهُ إلّا مِن حَقٍّ غُفِرَ لَه".
من حفظ فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له بتلك المغفرة الخاصة.
وإن الحج المبرور ليكفّر الصغائر والكبائر ما عدا حقوق الخلق والتبِعات، فتبقى على ذمة صاحبها يؤديها بعد الحج مهما استطاع.
أيها المؤمنون بالله ﷻ، تلكم المغفرة الكبيرة ينالها من حفظ سمعه وبصره ولسانه.
هوية المسلم وصلته بمولاه :
أيها المؤمنون، يربطنا صاحب الرسالة في المواسم الكريمة بشعائر، ويحفظ شعورنا وأحاسيسنا من أن تكل أو تميل عن استشعار العبودية ومعرفة حق الديانة والملة الحنيفية، في محافظة على هوية الأمة المحمدية الأحمدية أمة الإسلام، أمة الدين الحق الذي لا حق سواه، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
هوية المسلم صلته بالإله وتعظيمه لشعائر الله وإقامته لأمر الله، حتى لا يُختطف حسّه ولا يُختطف شعوره بما يُلقى عليه من أقاويل المُبَهرجين وأقاويل المفسدين وأقاويل الغاوين وأقاويل الصادين عن سواء السبيل، وما أكثرهم على ظهر الأرض، (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) .
موسم الذكر لله ﷻ :
فجاء هذا الموسم بكثرة الذكر لله في أيام العشر، التي يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، ويعدل قيام كل ليلة من لياليها بقيام ليلة القدر.
نُدبنا فيه إلى كثرة التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، ونُدبنا فيه إلى تفقد الأرحام، وإلى الاستعداد لتكبير يوم العيد، بل ويبدأ التكبير من صباح يوم التاسع، من فجر يوم التاسع، المقيد بالصلوات، لكل من صلى فريضة أو نافلة أن يكبر بعدها بتكبير العيد المأثور:
-
تقوية للشعور
-
وتصفية للضمير
-
وربطاً بالعلي الكبير
-
وتنقية عن أقاويل أهل نار السعير، من كل ضلّيل ومن كل مآله الخزي الوبيل،
الذين يحسنون المنكرات ويزينون القبيحات ويدعون إلى التبرج والسفور وإلى الفحشاء والمنكر والعياذ بالله تبارك وتعالى، ويبخلون عن الإنفاق في سبيل الله، (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم) ، (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) .
شِعار التكبير :
وجُعل الشِّعار التكبير المقيد بالصلوات من فجر يوم التاسع يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق، اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة، آخر الأيام المعدودات، التي هي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من هذا الشهر الكريم، وقبلها الأيام المعلومات، (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ).
شعور المؤمن وتزكيته في تلك الشعائر :
أيها المؤمنون بالله، ما أعظمها من شعائر، وما أعظمها من مشاعر، وما أعظم شعور المؤمن يُربى ويُنمى ويُصفى ويُزكى ويستثمر في زيادة الإيمان بالله، والخوف من الله، والرجاء فيما عند الله، ويتطهر من براثن الالتفات إلى دعوات المجرمين والمفسدين على ظهر الأرض.
دفع الله شرهم عنا وعن أهلينا وأبنائنا وبناتنا، وجعل لنا في الموسم فوزاً نفوز به برضوانه الأكبر وبالحظ الأوفر من عطائه الأغمر، وجوده الأجل الأوفر.
اللهم وفر حظنا من الأيام المعلومات ولياليها، ومن الأيام المعدودات ولياليها، واجعلنا عندك من خيار أهليها، وفر حظنا من جودك فيها وكرمك لأهليها، يا حي يا قيوم، يا أرحم الراحمين.
والله يقول وقوله الحق المبين: (فَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) .
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) .
بارك الله لكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله باسط موائد التّذكر والتّذكير والإنذار والتّبشير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العلي القدير السميع البصير اللطيف الخبير، جامع الأولين والآخرين ليوم الحكم في يوم المصير.
وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله وحبيبه البشير النذير، وأمينه السراج المنير.
اللهم أدم صلواتك على من قال: "خذوا عني مناسككم"، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وآبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وأصحابهم وتابعيهم، والملائكة المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
تقوية الهوية الإيمانية في القلوب :
أما بعد،،،
عباد الله، فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله. فاتقوا الله أن يمر الموسم بكم:
-
وأنتم في انفصال في قلوبكم عن ذكر ذي الجلال،
-
وعن التعظيم والإجلال،
-
وعن الاقتداء والامتثال،
-
وعن المحافظة على سر هويتكم الإسلامية الإيمانية.
فلستم في تبعية عقول ولا أفكار شرقية ولا غربية، والذي هو رب المشارق والمغارب، لا يمكن لمشرقي ولا لمغربي أن يأتي بأحسن من منهاجه، ولا بأقوم من تعليمه، ولا بأعظم من دينه سبحانه وتعالى، (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
رفض التبعية والانقياد لغير رب العباد ﷻ :
وبمنهج ربكم تقيسون ما يتوصل إليه البشر من أنواع النظر والفِكَر، فلا تَقبلون منها إلا ما وافق وحي الله المُنزّل؟ وبلاغ نبيه المُرسل، وما عدا ذلك فمردود، مردود، مردود، لا قبول له عند من قام لله بالركوع والسجود.
عند أهل هوية الإسلام وأهل هوية الإيمان محل النفع للخلايق، خير أمة أخرجت للناس (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) .
فهذه وظيفة من آمن، ليست وظيفة الملحدين، ولا وظيفة الجاحدين، ولا وظيفة الفاسقين، ولا وظيفة عبدة الدينار والدرهم، ولا عبدة السلطات والرئاسات، ومد الأيدي على المصالح في الشرق والغرب، إنما هي وظيفة المؤمنين، هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهم خير أمة أخرجت للناس، أي لا يجد الناس خيراً منهم لهم، لا يجد الناس أشرف منهم لهم، لا يجد الناس أجمل منهم لهم، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ، فلا يجد الناس خيراً منكم في حُسن ما تَدلون عليه وتَأمرون به، وحُسن ما تَنهون عنه وتُحذرون منه، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وزينتكم وجمالكم ( وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ ) ممن قيدتهم وحصرتهم وأسرتهم السلطة الزمنية ومحبتهم لها، فأبوا أن يؤمنوا بمحمد، وهم يعلمون عنه رسول الله وقرأوا أوصافه في الإنجيل والتوراة، ورأوها بادية في وجهه الصبيح، وقوله المليح، وسعيه الصحيح ﷺ ، فأبوا (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ ) ، فلن يجدوا من إبائِهم هذا إلا خِزياً وذِلة في الدنيا، ولا خِزي الآخرة أكبر ولا عذاب الآخرة أشق، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وجوب الاستماع لدعوة الله ونبيه ﷺ :
هذه الحقيقة يكلمكم عنها رب الخليقة، فلا تردوا وساوس إبليس وأهل التلبيس، من الذين يدعونكم إلى عاداتهم الخبيثة وأخلاقهم المنحطة من الفسقة على ظهر الأرض، واستمعوا دعوة الله ودعوة حبيبه ومصطفاه، ففيها عزكم وشرفكم، وهي الخير للكل لمن كان يَعقل، وعليها يقوم الحُكم يوم يجمع الله الأولين والآخرين.
شعار التكبير وأثره في القلوب :
أيها المؤمنون، وجُعل التكبير في العيد شعاراً ليتنقى باطن المؤمن من أن يُكبر غير الله، أو يَستحسِن شيئاً غير ما شرعه الله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. وكانت تتخلل خطبته الشريفة وهو يخطب يوم عيد الأضحى ويوم عيد الفطر، تكبيره لله، وهو خير من كبر الله، وخير من وحد الله، وخير من عرف الله، وبه شُرّفتم، ذاكم واسع الجاه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ما ندبنا إليه الشرع في يوم العيد:
ثم نُدبتم إلى صلاة العيد، ونُدبتم إلى أن تلبسوا أحسن ثيابكم، إظهاراً لنعمته وشكراً له واتباعاً لنبيه واقتداءاً به، ولإدخال السرور على بعضكم البعض.
الأُضحية شعيرة من شعائر الله :
ثم نُدبتم إلى الأضحية لكل من قدر عليها، وهي من أعظم الأعمال في أيام الأضحية، من بعد صلاة العيد إلى آخر يوم من أيام التشريق، تُوضع في ميزان المضحي، فتُضعف سبعين ضعفها، وله أن يغفر له عند أول قطرة تقطر عندما يضحيها، وإن دمها ليقع بمكان عند الله قبل أن يقع على الأرض، وأنها توضع بأظلافها وبعظامها ولحمها، فتُضعّف في الميزان سبعين ضعفها.
ألا إنها شعيرة من الشعائر، من قدر عليها فإن كانت سُنة أَطَعَِم منها وأَطْعَم الفقراء وواصل الأرحام، وإن نذرها نذراً أو نواها عن ميت صارت واجبة، فيخرجها كلها ويتصدق بها ولا يتناول هو ولا أهله شيئاً منها.
ولا يجوز بيع شيء من الأضحية ولا جلدها ولا أظلافها، ولا يجوز أن يُعطى الذبّاح منها أجرةً من نفس الأضحية، وإنما يُعطى أجرة من مالهم غير الأضحية، فلا يجوز أن تكون أجراً ولا أن تُباع.
تعظيم شعائر الله:
عظموا شعائر الله ﷻ ، وافرحوا بفضل الله عليكم، وهذه الأعياد التي فيها قُربتكم إلى الرب، وفيها ارتباط فرحكم الدنيوي بفرح البرزخ والآخرة، وسُروركم القصير بالسُرور الطويل العريض الكبير في البرزخ ويوم المصير.
أعياد شرعها لنا المشرع ﷻ :
وهذه الأعياد التي تُقام من أجل الله، وانظروا ما وضع لكم أهل الغفلة عن الله من أعياد ألعاب، وأعياد توليهم على الكراسي ولو ظلماً ولو بسفك الدماء، وأعياد مرور وأعياد شجرة، وأعياد أنواع من الألعاب على ظهر الأرض. وكيف يتقرب بها؟ وكيف معناها؟ وماذا تأخذ من الشعور؟ وماذا تأخذ من الضمير؟
عظموا الإله الكبير، وعظموا شعائره، وأعيادنا التي فيها الصلاة والأحكام الخاصة، يوم الفطر ويوم الأضحى، وأعيادنا التي فيها أنواع التقرب إلى الله تبارك وتعالى، كل يوم إنعام، وكل شهر حرام، وكل يوم جمعة وكل يوم إثنين وخميس، وكل يوم ارتبط بذكرى تتعلق بتعظيم شعائر الله. لما وفد نبيكم إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، قال: "لماذا تصومون؟" قالوا: يوم نَجّى الله فيه موسى وأغرق عَدوه فرعون ونحن نصوم شكراً لله، فقال: "أنا -وفي اللفظ الآخر- نحن أحق بموسى منكم"، نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر الناس بصيامه.
أعيادنا على منهج الله ورسوله ﷺ :
فما كان من ذكرى هجرته أو ذكرى ولادته أو ذكرى إسرائه ومعراجه أو ذكرى غزوة له فهي أعيادنا التي نتقرب فيها إلى الله بما شرع لنا على يده من صدقة أو ذكر أو إطعام طعام، إلى غير ذلك مما شرع لنا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فليكن هوانا تبعاً لما جاء به صاحب الرسالة من أحسن الدلالة.
الحمد لله الذي بلّغكم هذا الموسم، ولقد كان ألوف من المسلمين يظنون أن يبلغوه فلم يبلغوه، وماتوا في خلال هذا العام، وانتقلوا من هذه الدنيا وعمرها القصير. ألا فبُشرى لمن مات منهم على الإيمان والتقوى والتوحيد، وويل لمن ضل ومن زل عند نزول الموت به فمات على سوء الخاتمة، والعياذ بالله.
من مات يوم جمعة أو ليلتها:
وإن الله يختار من يختار، وإن من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة حُشر وعليه طابع الشهداء، من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وُقي فتنة القبر، إلى غير ذلك مما جاء.
من مات في أحد الحرمين :
أيها المؤمنون بالله، (من مات بأحد الحرمين كُنت له شفيعاً -أو قال- شهيداً يوم القيامة) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فما العبرة إلا بحسن الخاتمة، أحسن الله خواتِمنا وارزقنا اغتنام مما بلغنا في العمر من مواسمٍ وأشهرٍ أيامٍ وليالي، وفر حظنا من كل منة وادفع عنا كل فتنة، وأشرق في ديارنا أنوار السنة الشريفة، واتباع الحبيب محمد ﷺ، واحفظ نساءنا وأبناءنا وبناتنا من تبعية فُجّار وفُساق في أزياء وعادات وأخلاق رذيلة.
الدعاء :
اللهم خلّصنا من تبعية الأشرار، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به المختار، اللهم بارك الأمة في هذا الموسم، واقبل اللهم جمع الحاجين والمعتمرين والزائرين لنبيك الأمين، واجعل من قبولهم فتحاً لأبواب الفرج للمسلمين في السودان وفي الصومال وفي العراق وفي رفح وفي غزة وفي أكناف بيت المقدس وفي الضفة الغربية وفي الشام وفي اليمن وبقية بقاع الأرض، يا مفرج الكروب، يا دافع الخطوب، عجل بفرج تدفع به كيد أعدائك أعداء الدين من الظالمين والغاصبين والفاجرين والمفترين والكاذبين، اللهم اصرف شرهم عن الأمة، اللهم اردعهم وامنعهم واقمعهم بما شئت يا قوي يا متين، وانشر الحق والهدى في البرية أجمعين، واجعلنا من ناشريه وحاملي راياته على ما ترتضيه برحمتك ياأرحم الراحمين.
وأكثروا الصلاة والسلام على خير الأنام، أكرم إمام يحلو به الاقتداء، شفيع الخلائق يوم القيامة، فإن أولاكم به يوم القيامة أكثركم عليه صلاة وسلام.
وقد أمرنا الله بعد أن بدأ بنفسه وثنى بملائكته فأيّه بالمؤمنين تعميماً، وقال مخبراً وآمراً لهم تكريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلم على المختار نور الأنوار وسر الأسرار، وعلى صاحبه وأنيسه في الغار، مؤازر في حال السعة والضيق، خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق،
وعلى الناطق بالصواب حليف المحراب أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب،
وعلى الناصح لله في السر والإعلان من استحت منه ملائكة الرحمن، أمير المؤمنين ذو النورين سيدنا عثمان بن عفان،
وعلى أخِ النبي المصطفى وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب،
وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيك بنص السنة،
وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشة الرضى وأمهات المؤمنين أمهات الطاهرات،
وعلى الحمزة والعباس وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس،
وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد، وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر الصحب الأكرمين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم اجعل حظنا من الموسم وافراً من كل خير، وجنبنا كل بوس وشر وضير، وارزقنا حسن الاقتداء والسير في اتباع نبي الخير، اللهم اجعل هوانا تبعاً لما جاء به حبيبك المصطفى، وأثبتنا في أهل الصدق والوفاء، واغفر لنا في الآخرة والأولى، واغفر لوالدينا ومشايخنا وذوي الحقوق علينا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحيائهم والأموات إلى يوم الميقات يا غافر الذنوب والخطيئات، يا متجاوز عن الذنوب والسيئات، يا مجيب الدعوات.
اللهم عجل بالفرج للمسلمين والغياث للمؤمنين، وادفع شر الملحدين والكافرين والظالمين والمعتدين، ورد كيدهم في نحورهم، واكف المسلمين جميع شرورهم.
اللهم أتمم علينا النعمة في أعيادنا، وما بسط لنا ولمن بسط من المؤمنين من أمن أو طمأنينة أو سكينة أو خير أو رخاء، فضعّف لنا ذلك وثبته فينا وزدنا منه.
وما أنزلت من بلايا وكرب وشدائد، فارفع البلايا، واكشف الكرب، وعاملنا بمحض الفضل، يا رب يا رب يا رب يا رب، اللهم ادفع عنا البلايا، وأصلح الظواهر والخفايا، وعن المحن والمصائب في الظواهر والخفايا، يا حي يا قيوم، يا رحمن يارحيم، برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير. نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) .
(ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) .
(ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) .
(ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشداً) .
(ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) .
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلّاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم) .
ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.
08 ذو الحِجّة 1445