(236)
(536)
(575)
خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الحزم، مديرية شبام، وادي حضرموت، 15 شوال 1444هـ بعنوان:
ترجمة الإيمان بالمسالك والفكر ومخالفة الهوى وأهله الغافلين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله، الحمدُ للهِ المَلك الحيِّ القيّوم القادر، الإله العزيز التوّاب الغافر، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، جامعُ الأولينَ والآخرينَ لليوم الآخر؛ فحاكِمٌ بينهم لأهلِ الإيمان به والعمل بطاعتهِ الخلودَ في الجنات، ولأهلِ الكُفر به وأهل معصيتهِ النيران الموقدات.
وأشهدُ أن سيّدنا ونبينا وقُرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، ونبيُّه وصفيّهُ وخليله، بعثه بالهدى ودين الحق وواضح الآياتِ البينات، وختم به النبوة والرسالات.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك المُجتبى المختار سيدنا محمد، سيّد أهل الأرض والسماوات، من دعانا إليك خير دعوة بالآيات الواضحات، وعلى آله وصحبه القادات، وعلى من والاهم واتّبعهُم بإحسان إلى يوم الميقات، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك والمرسلين من رفعتَ لهم الدرجات، وعلى آلهم وصحبهِم وتابعيهم وملائكتك المُقرّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتكَ يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ عباد الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يُثيبُ إلا عليها {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، فاتّقوا الله وأحسِنوا يرحمكم الله، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
أيها المؤمنون: لأجلِ التقوى وارتقاءِ المؤمن في درجاتها وتحقُّقه بِحقائقها؛ شُرِعَ له ما يُقويها ويُثبِّت قدمه فيها؛ وما يُوسِّع له الآفاق في التمسُّك بحبالها والاتّصاف بِخلالها، من الفرائض والطاعات بأصنافها؛ فرائض الصلاة وفرائض الزكاة، وفرائض الصيام، صيام شهر رمضان، وفرائض الصدق، وفرائض الأمانة، وفريضة الحج للمستطيع، وفريضة برّ الوالدين، وفريضة صِلَة الرَّحِم، وفريضة الإحسان إلى الجار، وفريضة غضِّ البصر، وفريضة كفّ السمع عن الاستماع إلى الكذب والغيبة والنميمة والآلات المُحرّمة؛ هذه الفرائض وما تعلق بها والنوافل بعدها؛ مِن عظيم مُهِمّاتها في المؤمن أن تُقوِّيَهُ في التقوى، وأن تُرسِّخَ في قلبه نورَ التقوى، وأن يكون على حُسنِ مراقبةٍ لعالم السِّرِّ والنجوى.
فماذا تُحْدِثُ الجُمُعات فينا؟ وماذا تُحْدِثُ الصلوات في بواطننا؟ وماذا يُحدِثُ رمضان فينا؟ ولقد مضى علينا الشهر الكريم بما فيهِ من صيامٍ وقيامٍ وقراءة قرآن، وصدقات وزكاة فطرٍ لمن وُفِّق لذلك، قبلنا الله وإياهم أجمعين، وما آثارها؟ إلا الزيادة في هذه التقوى، بالابتعاد عما لا يرضاهُ عالم السر والنجوى، والاتباع للمصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به ظاهرًا وباطناً.
أيها المؤمن: هل ازددتَ برمضان معاني في تقوى الرحمن؟ وهو الذي يقول في صريح القرآن {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]
أيها المؤمنون: لا أشدَّ ظاهراً ولا باطناً، دنيا ولا آخرة مِن غضب الجبار الأعلى، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار، لا شيء أشدُّ من ذلك، لا شيء أخطر من ذلك، لا شيء آلم من ذلك، لا شيء أقبح من ذلك أن يسخط على مخلوقٍ جبار السماوات والأرض، واللهِ لا يُساوي ذلك ولا يُقاربه أمراض الدنيا بما فيها ولا أنواع القتل فيها ولا جميع مصائبها من أولها إلى آخرها؛ لا يساوي غضب الجبار جل جلاله، فإن ذلك الأشد والأخطر والأعظم والأدهى والأمر، فما أقبحَ مخلوقٍ يتعرّض لغضب الخالق بكلمات لا يكفُّ نفسه عنها، بنظراتٍ لا يكفُّ عينيه عنها، بمسموعاتٍ لا يتحرَّز منها، بمعاملة سوءٍ مع قريب ورحِم أو جار، أو أحد من عامة المؤمنين، بِظُلمٍ لصغير أو كبير بأخذ حق مسجد أو يتيم أو ضعيف لا ناصر له إلا الله "ومن ظلم قيد شبر من أرضٍ طوِّقه من سبع أراضين يوم القيامة"، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:121]
أيها المؤمنون بالله: أحوالنا بعد رمضان؛ علامات القبول أو الرد؛ علامات الرِّضا أو السخط، علامات النجاح والفوز أو الخسران، إن من ربح ولم يخسر؛ وقًبِلَ ولم يُرَد في رمضان؛ تظهر في نفسه وذاته وفي بيته وأسرته معاني صِدق مع الخلّاق، معاني أدب مع الرحمن، معاني إنابة إلى مُنْزِل القرآن، تذهب العادات الخبائِث والسيئات، منه ومن زوجته ومن بنيهِ وبناته، تذهبُ النظرات الخبيثات والخائنات فيها الأعين، امتثالاً لأمر من أنزل القرآن وقال فيه آمرًا رسوله أن يُبلِّغ فبلََغ:
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ..} [النور:30:31] هؤلاء المحارِم ومن يجوز أن تُظهر المرأة شيئاً من زينتها أمامهم، ومن عداهُم فحرامٌ عليها أن تظهرَ شيئاً من زينتها، ألا من كان صام رمضان وقام وافتتح أيام العيد وشوال بمصافحة الأجنبيات؛ زوجة أخيه وزوجة عمه وزوجة خالته.. والنظر إليهن مزيَّنات، قامت علامة القبول أو علامة الرد؟ قامت علامة الخسران أو علامة الربح؟ إنهن المأمورات أن لا يُظهرن زينتهنّ إلا لِمن ذكرَ اللهُ في كتابه.
ثم قال لنبيه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59] وأوحى إبليس وجنده إلى الناس بمختلف الوسائل؛ ألَّا تُلزموا بناتكم ولا زوجاتكم بأمر الرب، وقولوا لهنّ إنهنّ في زمانٍ مُتأخر ووقتٍ مُتقدِّم مُتحضِّر، فافسحوا لهنّ المجال لِمن أرادت أن تتكشف، ومن أرادت أن تُخالط الرجال، ومن أرادت أن تُصادِق في الثانوية أو في الجامعة أجانب، افسحوا لهن المجال.. هكذا أوحى إبليس وجنده، ولكن الله أوحى إلى حبيبه وعبده {قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} وأوحى إليه {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور:31] {لَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} لا يتعمّدن ضرب الأرجل وتحريكها؛ لِيُسمَع صوت الخلخال من وراء الحِجاب، حرَّمَ أن تُحرِّك الرِّجل فتُسمع الرَّجُل صوت خلخال في رجلها، فمن أوحى إلينا بأن التقدم والتطور أن يتصافح الناس الرجال مع النساء.
ولقد مُدّتْ أيدي النساء لمبايعة سيدنا رسول الله فقال: إني لا أصافح النساء، وإنما كلامي للواحدة منكُنَّ ككلامي للجمع مِنكنَّ، فكان يبايعهنَّ كلاماً، ومن أطهر منه قلباً؟ ومن أزكى منه لُبّاً؟ ومن أصفى منه ضميراً؟ صلى الله عليه وسلم.
أفيدَّعي مُدعٍ أنه طاهر القلب فيتجاوز الحدود ويخرج عن الأمر؟! إن الرحمن الذي خلق الذكر والأنثى، أقام سبحانه وتعالى نظام العلاقات من والِدَينِ ورَحِم ومن زواجٍ، وأمرَ للبصرِ بأوامر وأمر بالزينة بأوامر، وقال عن نساءِ نبيِّهِ الطاهرات {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}، أبعدَ نصوصِ كلام الله نُصغي لكلام شرقي أو غربي؟ من كافر وفاجر وفاسق؟ ثم من خُدِع بهم من المسلمين! وأخذَ يتكلَّم أو يقول أو يُصوّر أو يطْرح الأطروحات، من يُتّبع؟ غير الإله الذي خلق وغير رسوله الذي بُعِث وصدق! مَن يُتّبع؟ ما حقائق الإيمان؟ "ولا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواه ُتبعاً لما جئتُ به".
ما الذي يطرأ على نساءِ الوادي؟ ما الذي يطرأ في الأزياء؟ ما الذي يطرأ في المعاملة؟ ما الذي يطرأ في هذه التي يسمّونها انفتاحات؟ وهي انبطاحات وهي سقوط وهي هبوط! وهي فساد وهي ذهاب قِيَم، وهي إعدام شِيَم، وهي خروج عما يرضاهُ العلي الأكرم وعن قدم النبي الأقوم، إلى تبعيةٍ لأربابِ الملامة الذين تبعيتهم تُوجِب الحسرة والندامة في الدنيا ويوم القيامة {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا (19)} [الجاثية].
أيها المؤمنون: ولقد روى الحكيم الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "قال أخوف ما أخاف على الأمة ضلالاتُ الأهواء واتِّباع الشهوات في البطون والفروج والعُجب" ضلالات الأهواء {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} إن لم يحكمنا القرآن والوحي المنزَّل وبلاغ النبي المُرْسل، فما معنى الإيمان؟ وما حقيقة الإيمان؟وأين يوجد الإيمان؟ إن احتكمنا للأهواء، بل لأهواءِ الذين لا يعلمون، بل لأهواءِ الذين لا يؤمنون، وتأثّرنا بهم وفتحنا أبواب التأثير، حتى اشترينا لأبنائنا المُراهقين ولبناتنا العذارى الجوَّالات التي توصلهم بمواقعِ الإهلاك والإضلال ونشْرِ وحي إبليس وجنده؛ في القِيم وفي الفِكر وفي السلوك وفي التصوّر عن الحياة، وضاق نطاقُ حُسْن الإصغاء والاستماع إلى الوحي الشريف، وضاق نطاق الاستماع بالتعظيم إلى الحديث النبوي الكريم، وضاق نِطاق الإصغاء إلى الصحابة والتابعين وصالحي الأمة وخيارها، وفتحنا لهم أبواب الإصغاء للمفسدين للغافلين للفاجرين للكافرين للكاسيات العاريات! يسمعُ كلامهنَّ ويرى أزياءهنَّ بنونا وبناتنا فماذا يكتسبون؟ ماذا يكتسبون من وراء هذه الرؤية، هذه الرؤية والنظر وذاك السماع لما يبثّ هؤلاء الفسقة الساقطون.
أيها المؤمنون: إن لم يعمل القرآن فينا ولا الجُمَع ولا رمضان صِيانةً من هذه المفاسد فما الحقيقة في الإيمان؟ وما الحقيقة في الصِّلة بالرحمن؟ وما حقيقة الدين؟ هل الدِّين إلا اتِّباع؟ هل الدين إلا استسلام وخضوع للخلَّاق؟ هل الدين إلا رفض للأهواء؟! ولقد ذكر الله النبيين، وذكر في سوءِ من يأتي من بعدهم من المنحرفين فقال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ضلالة الأهواء! وكم ضلَّ بها وسقط وهَوى من صغيرٍ ومن كبير ومن ذكرٍ ومن أنثى.
أيها المؤمنون بالله: واتِّباع الشهوات في البطون والفروج، عدم المُبالاة بالشُّبهات ثم بالمُحرَّمات، وما يدخل إلى البطون "ومن أكل الحلال أطاعت جوارحه شاء أم أبى، ومن أكل الحرام عصتْ جوارحه شاء أمْ أبى"، ومن لم يُبالي من أي باب دخل عليه الرزق لم يُبالي الله به في أي وادٍ من أودية جهنّم أهلكه.
كان ابن عمر يصيح ويُنادي "لو صُمْتمْ حتى تكونوا كالأوتار وقمتمْ حتى تكونوا كالحنايا لم يُتقبّل ذلك منكم إلا بورعٍ حاجز"، قال سيدنا عمر بن الخطاب "كنا ندعُ تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام"، ولن يبلُغ العبدُ درجة المتقين حتى يترك ما لا باس به حذراً مما به باس.
أيها الناس: والعُجُب مُحبِطٌ وهاوٍ بأصحابه، وعنده قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت شُحّاً مُطاعاً وهوىً مُتّبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بِخُويصة نفسك ودع عنك أمر العامة".
خلِّص اللهم الأمة من البلايا، واكشف عنها الشدائد والرزايا، فالانسياقُ وراء هذه الخطايا أورث الأمة تفرُّقاً وقتالاً ونزاعاً، وخصاماً وجدالاً وتباعداً وبغضاء وشحناء، هي مراد إبليس عدو الله وعدوِّ بني آدم، {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس:60،61]
{فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف : 50]
انفعنا بجُمْعتنا وانفعنا بِصلواتنا، وانفعنا بصيامنا وقيامنا واجعلنا من المتقين، وتقبّل مِنا وزِدنا تقوى، يا عالم السرِّ والنجوى يا أرحم الراحمين.
والله يقول وقول الحق المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [ الأعراف: 204]
وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) [الجاثية:18،24]
(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) [الحشر:19،20]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبّتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا من خزيهِ وعذابه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين، فاستغفروهُ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ لله القوي القادر، منه المُبتدأ وإليه مرجِع الكل والحُكم في اليوم الآخر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له عالم السرائر، هو الأول والآخر والباطن والظاهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقُرة أعيننا ونور قلوبنا محمداً عبده ورسوله، أتقى الخلائق وأخشاهم للإله الخالق، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في اتّباعه في قويم الطرائق، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل أنوار الصدق والحقائق، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا كريم يا خالق.
أما بعد عباد الله، فإنّي أوصيكم ونفسيَ بِتقوى الله، فاتقوا الله، ومن اتّقى الله خرج من الجُمعة بحالٍ خير من الذي دخل به، وقلبٍ أنظفَ وأنورَ من القلب الذي دخل به، وزِيادةٍ من خضوعهِ لجلال الله وأدبهِ مع الله، واهتمامه بأمر ربه في نفسه وأسرته وأهله وولده، "ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته".
المنظورات والمسموعات وسط البيت يُحَكِّم فيها أمرَ الله وأمرَ رسوله، أحوال الأبناء والبنات يُدير فكرهُ في إقامتها على ما يُرضي رب الأرض والسماوات، ويعلم أنها أمانات وأنها مسؤوليات {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
وإنّ من الأزواج والأبناء والبنات قُرّة أعين يطيب معهم الحال في الجنات والنعيم، وإن من الأزواج والأولاد عدوّاً للإنسان يُدخلهُ نار الجحيم، هكذا قال الله في كتابه، ويقول عباد الرحمن في دعواتهم للرحمن: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا) وفي قراءة (وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، يقول عند بلوغه الرشد وكمال إفاقته وكمال عقله: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
ألا ولأجلِ تقويم الأُسَر شرع الله النكاح وأقام الحقوق بين الأزواج وزوجاتهم، وبين من يكون في الأسرة مِن أبناء وبناتٍ مع آباء وأمهات، ومن أخوانٍ وأخواتٍ، ومن ذوي رَحِم ومن جيرانٍ، وشرع الشرع لِيُقيم لكل واحدٍ حقهُ وحدَّه، نِظامٌ إلهي رباني تصْلُح به الحياة ويصْلُحُ به المآلُ بعد الوفاة، وتتكوّن بهِ الأُسَر الصالحات في دوائر (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ)، مُتعاونين على البرِّ والتقوى، يقوم أمرهم في البيت على الرِّفقِ، في حزمٍ وعزمٍ لمتابعة أمر الله وتطبيقه، وتنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتِّباعه، وفي التَّنزُّه عما لا يرضاه الله.
أيها المؤمنون: هكذا تفعل الجُمع والصلوات ورمضان في من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، في من أدرك سِرَّ العبادة ولم يغتَرَّ بصورتها ولا بمظهرها ولا بشكلها، ولكن ما مِن صومٍ ولا صلاة ولا قراءة إلا ولها حقيقة وروح ومعنى وباطن وسِر يغوص عليه، يأخذ من الجُمعة سِرّها فيجتمع قلبه على الله، وإذا أعلن السجود بِوضع الجبهة على الأرض كان القلبُ مِن داخلهِ مُفيضاً إقرارهُ بالخضوع لله وتقديم أمر الله على كل أمر، وتعظيم رسوله فيما أمرهُ الرحمن أن يُعَظِّمه،{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]
اللهم اكتب لنا سِرَّ الجمعة ونورها وحقيقتها، واجعلنا من مُقيمي الصلاة على وجهِها، واصرِفنا من الجُمعة مغفوراً لنا منظوراً منك بعين الرحمة إلينا، وبارِك لنا في أحوالنا ومناسباتنا وأهالينا وأُسَرِنا، وزواجاتنا ومولودينا وذُريّاتنا بركة تامة يا أكرم الأكرمين، واغفر لآبائنا وأمهاتنا ومن تقدّم من أحبابنا فيك ومن أهل الإيمان بك، واجمعنا بهم في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا.
ألا.. وأكثروا الصلاة والسلام على نبيّكم فإن الله يُحِب ذلك منكم، ووعدكم أن يُصلّي على كل من صلى على نبيه مرّة بعشر صلوات، وأمرنا بأمر ابتدأ فيه بنفسه وثنَّى بالملائكة، وأيّه بالمؤمنين من عباده تعميماً، فقال مُخبراً وآمراً لهم تكريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب :56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك المصطفى القائل: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة"، وعلى الخليفة من بعده المُختار وصاحبهِ وأنيسهِ في الغار، مؤازرهِ في حالَيِ السعَة والضيق خليفة رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطق بالصواب ناشر العدل حليف المحراب، المنيب الأواب أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطّاب، وعلى الناصح لله في السر والإعلان، من استحيت منه ملائكة الرحمن، مُحيي الليالي بتلاوة القرآن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخي النبي المُصطفى وابن عمه، ووليّه وباب مدينة عِلمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب، وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيّك بِنَصِّ السُّنّة، وعلى أمهم الحَوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى بنات المصطفى وأزواجهِ أمهات المؤمنين، خديجة الكبرى وعائشة الرِّضا وسائر أمهات المؤمنين، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدر وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر أصحاب نبيك الأكرمين وأهل بيته المُطهّرين، وعلى من والاهم واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزّ الإسلام وانصر المسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين وأعلِ كلمة المؤمنين، ودمِّر أعداء الدين.
اللهم إن شُؤم الذنوب والخطايا والظلم وأخْذِ مال الغيرِ والتّجرِّي على محارمك قد برز في الأمة في تفرُّقها وشتاتها، وإشعال نيران الحروب بينها وضرْبِ بعضهم ببعض، ويتفرّج عليهم عدوهم ويأخذُ ثرواتهم، اللهم فتدارك الأمة، اللهم فأغِث الأمة، اللهم فاكشِف الغمة عن الأمة، اللهم اجلِ عنهم الظلمة والنقمة، اللهم حوِّل أحوالهم إلى أحسن الأحوال، اللهم املأ القلوب بأنوار تقواك، واملأها بخوفك ورجاك، حتى لا ترجو غيرك ولا تخاف سِواك.
اللهم ثبِّتنا على حقيقة لا إله إلا الله، واجعل آخر كلامنا من حياتنا الدنيا لا إله إلا الله، وثبِّتنا عليها يا من يُثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويُضِل الظالمين ويفعل ما يشاء، لا إله إلا أنت ثبِّتنا على ما تُحب، ثبتنا على الحق فيما نقول، ثبتنا على الحق فيما نفعل، وثبتنا على الحق فيما نعتقد، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به نبيك محمد يا رب العالمين.
لا صرفتَ أحداً من الجمعة إلا بقلبٍ عليك مجتمع، ولنبيك مُتّبع، خاشعٍ خاضعٍ لك ولعظمتك، مُمتثلاً لأمرك قائماً بِحَقِّ الوفاء بعهدك، اللهم وانظر إلى أُسرنا وبيوتنا ونوِّرها بنور الإيمان واليقين، واجعل هوانا تبعاً لما جاء به خاتم النبيين.
اللهم اغفر لنا وآبائنا وأمهاتنا ووالدينا ومشايخنا في الدين، وذوي الحقوق علينا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، من مضى ومن هو حاضر ومن يأتي إلى يوم الميقات، يا خير الغافرين اغفر الذنوب والخطيئات، ولا تجعله آخر العهد من رمضان، وأعِدنا إلى أمثاله في صلاحٍ لأحوالنا وأحوال أهل الإسلام والإيمان، ودفع للبلايا والكفر والفسوق والعصيان، حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)
(رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك من عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعانُ وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عبادَ الله.. إن الله أمر بثلاث ونهى عن ثلاث: إن الله يمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي، يعظكم لعلَّكم تذكَّرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزِدكم، ولَذِكر الله أكبر.
(يمكنكم الاطلاع على الصور في أسفل الصفحة)
15 شوّال 1444