(228)
(536)
(574)
(311)
الحمدُ لله القويِّ الغالب، وَارثِ الأرضِ ومَن عليها وهو خير الوارثين. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له. أرحمُ الراحمين وأحكمُ الحاكمين وأسرعُ الحاسبين. إليه الأمرُ كلُّه وإليه يرجعُ الأمرُّ كلُّه وهو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. آمنَّا به وبما أنزل على عبدهِ المصطفى محمد. فنشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه، سيدُ المرسلين وخاتم النبيين. كَثُرَ في الليالي بُكاؤُه، وكَثُرَ في مُخْتَلَفِ الأحوالِ دُعاؤُه. قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها " كان رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم يذكُرُ اللهَ على كُلِّ أحيانِه." ولقد صَحَّ عنه أنه إذا حَزَبَهُ أمرٌ قامَ إلى الصلاة. اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى المُبَيِّن عنكَ الشريعة الكاملة الغراء، والمؤدِّي الأمانة إلى جميع الورى، على خيرِ الوجوه وأجملِها وأحسنِها قدراً. وصَلِّ اللهمَّ معه على آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن على منهجِهِم سار على ممرِّ الأَعصار، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا كريمُ يا غفَّار.
أما بعدُ عبادَ الله، فإني أوصيكُم ونفسي بتقوى الله. فاتقوا اللهَ عبادَ الله، وأحسِنوا يرحمكم الله. إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين. تقوى الله التي لا يقبلُ غيرها. فمن صَلّى قُلْ لَهُ ﴿ إِنـَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الـمُتَّقِيْن ﴾ (المائدة 5 : 27)، ومن صام فقُلْ لَهُ ﴿ إِنـَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الـمُتَّقِيْن ﴾، ومن قرأ القرآن فقُلْ لَهُ ﴿ إِنـَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الـمُتَّقِيْن ﴾، ومن تكلَّم بالحديث أو الآيات أو كلام العلماء فقُلْ لَهُ ﴿ إِنـَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الـمُتَّقِيْن ﴾، ومن خرج مجاهداً لأعداء الله حاملاً سيفَه يقاتلُ الكفَرَةَ الذين يصُدُّون عن سبيل الله، فقُلْ لَهُ ﴿ إِنـَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الـمُتَّقِيْن ﴾. في ذروة سِنامِ الإسلام وفي عَمودِه وجميع شؤونه ﴿ إِنـَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الـمُتَّقِيْن ﴾، ورُبَّ قتيلٍ بين الصَّفَّينِ اللهُ أعلم بِنيَّتِه، ولقد قالت المرأة في غزوةٍ مع نبيكُم الصادق حبيب الخالق، وقد قُتِلَ ابنُها الشاب على أيدي الكفرةِ المشركين الصادِّينَ المُحارِبين لرسول الله " هنيئاً لهُ الجنة " أو " هنيئاً له الشهادة "، فالتفتَ إليها وقال " وما يُدريكِ، لعلَّهُ كان يتكلّمُ فيما لا يعنيه ويبخلُ بما لا يُغنيه ." ألا إنّما يتقبل الله من المتقين.
أيها المؤمنون بالله: حقائقُ التقوى المرتبطة بالقلب، التي بها يصحُّ العملُ من كل عامل، ويصدق الله قول القائل إن كان بها قائل. هي الركيزة التي يجب على المؤمن أن يبحث عنها. فإن طرأ عليه أو على بالِه شيئٌ من المخرَج من الشدائد فهو فيها بِنَصِّ كلام الله بَارِيْنا. وإن طرأ على بالِه تيسيرُ شيء من الأرزاق لكفاية حاجته وأهله أو مجتمعه فهو فيها بِنَصِّ كلام خالقنا جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾. قال اللهُ لسيد المتقين، وقد قال بعد أن مَثَّل المشركون بعمِّه حمزة وسبعين من أصحابه، قتلوهم فَمَثَّلوا بهم، قال: لئن ظفَرتُ بهم لأمثلنَّ بسبعين مكانك. فأنزل الله ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ . إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ﴾ (النحل 16: 126-128). أتُحِبُّ أن يكون اللهُ في مَعِيَّتِك، وتُقَدِّر هذا المعنى، وهذا المطلب، وهذه الرِّفعة، وهذا الشرف وهذه العزة وهذه الكرامة؟ ما بالُ عقولنا سِيقت واستُعمِلت واستُخدِمت وخُدِعت لتطلب العزةَ أو الكرامةَ أو الشرف فيما لم يجعلها اللهُ فيه؟ ما بالُها صَدِئت ثم انصَرَفت عن سماعِ خطابات ربِّ العرش مُكَوِّن الأرض والسماوات وجامع الأولين والآخرين ليومِ الميقات؟ ما بالُها صارت تستعمل دينَه لخدمةِ أغراضِها ولمقاصدِها الدنيوية الزائلة الفانية، واللهُ أجلُّ وأكبر من أن يُخدَع، أو يُضْحَك عليه ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ هذا مَكْمَنُ الداء الذي أصاب الأمة في شرق الأرض وغربها، انصرفت قلوبُها عن إصغاءٍ تامٍّ كامل لقولِ الحق وهو أصدقُ قائل، وبلاغِ رسوله أفضلِ كلِ فاضل، صلواتُ ربي وسلامُه عليه، وتَوَلَّعت بإرادةِ تحقيقِ أغراضِها ومطامِعِها من غيرِ أبوابِ التقوى، ومن غير باب اللجوءِ إلى العليِّ الأعلى جل جلالُه وتعالى في عُلاه، فنزلت الآياتُ، فقال من أُنزِلت عليه " بل أَصبِر ولا أُمَثِّلُ بأحدٍ منهم " ﴿ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴾ فما زالت وصيَّتُهُ أن لا يُمَثَّلَ بمقتولٍ من الحربيين الكافرين المقاتلين المعانِدِين للهِ ورسولِه، فضلاً عمن سواهم، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم، ومن سارَ في دربِه.
أيها المؤمن: لِنَطْلُبَ المخرج من كلِّ شِدَّة مِن عِند الذي بِيَدِه الأمر، وبما شَرَعَ لِحُصول المخارج، وبما شَرَعَ لنَيْلِ المآرب ودَفْعِ المصائب. شَرَعَ لنا في تحقيق ذلك تقوىً له من قلبك تفيضُ على جوانبِك، لا تُقْفِلُ على بيتٍ فيه المناظر المحرمة، وفيه قُطَّاعٌ للأرحام، وفيه عَقَقةٌ للآباء والأمهات، وفيه برامج للفجرة والكفرة تشتغل، ثم تُريدُ مخرجاً في شدِّتك، ثم تريدُ مخرجاً من بلائك. وَتَرُدُّ وتَعُدُّ أنك صاحبُ التفكير أو التحويل للأحوال، كَذَبْتَ.. ما مُحَوِّلُ الأحوالِ إلا الكبيرُ المتعال. اتَّقِه وانظُر كيف يُحَوِّل أحوالك. اصدق معه، قَوِّمْ ما في بيتِك من خرابٍ ودمار.
إن النظر إلى الحرام خرابٌ وسط البيوت. إن سماع الغيبةِ والنميمةِ دمارٌ وسط المنازل والديار. تُحِبُّ سماع هذا الكلام أم نفسُك تشمئزُّ منه؟ خُذْه فهو كلامُ ربك ورسولِك رضيتَ أم لم ترضى. وإن أردتَ أن يَحْكُمَكَ غيرُ اللهِ في القيامةِ فلن يحكُمَكَ إلا مُنْزِل هذا الكلام، وإلا واضِعُ هذه الأحكام، وإلا مُبَيِّن هذا البيان جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه، فهو الذي يجمعُ الأولين والآخرين، ثم ينادي مناديه جلَّ جلالُه " أنا اللهُ ملكُ الملوك، الحَكَمُ العدل، الذي لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعِنْدَه مظلمةٌ لأحدٍ من أهل النار، حتى اللطمةَ فما فوقها، حتى آخُذَها منه. ولا ينبغي لأحدٍ من أهلِ النار أن يدخُل النار وعندهُ مَظْلَمةٌ لأحدٍ من أهل الجنة، حتى اللطمة فما فوقها، حتى آخُذَها منه. قال الصادق بالنبأ عن الخالق: حتى يُقادَ للشاةِ الجمَّاء من الشاة القرْناء.
أنُؤْمِنُ أم لا ؟ أنُصَدِّقُ أم لا؟ مآلُنا إلى هذا الحَكَم الذي لا يدعُ صغيرةً ولا كبيرة. ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ﴾. خُذ هذه الحقائق، يا حاكم، يا محكوم، يا راعي، يا رعيَّة، يا طالب، يا رادّاً على الطَلَب، يا آخِذاً، يا مُعطياً، خُذْ أحكامَ ربك. خُذ مِنهاجَ خالقك. اُخْرُج عن هواك. اخرُج عن مُوجِبِ الفضيحة يوم القيامة ﴿ يومَ تبيضُّ وُجوهٌ وتَسْودُّ وُجُوه ﴾ فلا تظُنَّنَّ أن المعاملة معاملة دنيا ولا معاملة سياسات ولا معاملة أحزاب ولا معاملة اتجاهات. معاملة لِخالق منه المبتدأ وإليه المرجع، وإليه المصير. وهو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ﴾ ارحمنا اللهُمَّ برحمتك ﴿ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ ﴾ ولذلك خَلَقَهُم جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه.
إن معك توجيهات عُلْوية، صَمَدانية، رحمانية، لا تضيِّعها بعقلك ولا بفكرك ولا بحزبِك ولا بوجاهتك ولا برئاستك ولا بمرؤوسيَّتك ولا بوزارتك، ولا لشيء مِن مطامعك قَطُّ قطّ. توجيهاتُ الله قَبْلَ كُلّ شيء، اجعلها نصبَ عينيك وامضِ على ضوئها.
اللهم أيقِظ قلوبَنا، اللهم اكشِف كُرُوبَنا، اللهم ادفعِ البلاء عنا. أصلِح يَمَنَنَا والمسلمين وبلاد المسلمين. وادْفَع البلاء والآفات والعاهات عن أهل لا إله إلا الله أجمعين، وأسباب نُزول ما حَلَّ بهم من انصراف قلوبهم عن ذِكْرِك وشكرك وحُسنِ عبادتك والعمل بأمرك. ارفع هذا السبب، واكشِف عنا التَّعَب، وارفع هذا النَّصَب، وحَوِّلِ الأحوال إلى أحْسَنِها يا ربُّ يا رب يا رب.
والله يقول وقولُه الحق المبين ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ وقال تبارك وتعالى ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. ﴾
﴿ ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون﴾
﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾
﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا. ﴾
﴿ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة. أمن يكون عليهم وكيلا ﴾
﴿ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ﴾
بَارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. ثبَّتَنَا على الصراط المستقيم. أَجَارَنا من خِزْيِه وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر اللهَ العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الأول الآخر، الباطن الظاهر، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، يعلمُ ما في الضمائر، وينظُرُ ما في السرائر، يَعْلمُ السرَّ وأخفى، وما من غائبةٍ في الأرض ولا في السماء إلا في كتابٍ مبين، وما يَعْزُبُ عن ربك من مثقالِ ذرةٍ في الأرض ولا في السماء.
وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقُرَّةَ أعيننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُهُ ورسولُه، وحبيبُه وصفيُّه المحبوب. اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمة المُهداة والنعمة المُسداة، الذي جعلتَ الذلة والهوان على مَن خالفَه، والكرامة والعزة لمن أطاعَه واتَّبعه واهتدى بهديه. ﴿ قل إن كنتم تحبُّون اللهَ فاتَّبعوني يحببكمُ الله ويغفر لكم ذنوبَكم. ﴾ ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾
أيها المؤمنون: إن علينا واجباتٍ كثيرات متعلِّقة بالفرد والأُسَرِ والهيئات والمجتمعات والرعيَّة والرُّعاة، صغاراً وكباراً، ذُكوراً وإناثاً، وإنهم ليتصرفون في الحياة بأنواعٍ من التصرفات، وإن الميزان القائم الذي لا يترُكُ لَفْتَةَ ناظِر ولا فَلتة خاطِر، لصغيرٍ ولا كبير من المكلفين منهم، ميزانٌ، ﴿ فمن يعمل مثقالَ ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ﴾ إن هذا الميزان يحمل لنا الدِّقة فيما نفعل وفيما به نتعامل إن أردنا نُصرةَ مظلوم، أو أردنا نصيحةَ صغيرٍ أو كبير، أو أردنا تقويم معوجّ وتعديل مائل، مما يدخل بحكم سنةِ الله تحت اختيارنا وقدرتنا، ومعنا له إمكانية، وعلينا فيه إحسان، وعلينا فيه طُهرُ جَنانٍ وصدقٌ مع الرحمن. ومِن سوى ذلك.. لا تَغُرُّ مظاهر.
لقد بنى مَن بنى في عهدِ نبيِّكم مسجداً فذمَّهُمُ اللهُ ومسجدَهم مِن فوق سبع سماوات. الظاهرُ مسجد، والظاهر صلاة وركوع، ومع ذلك تصنَّعوا لرسول الله حتى قالوا تعال فصلِّ لنا في مسجدنا هذا. وكان مُتَوَجِّهاً إلى تبوك، قال حتى أعودَ من الغزوِ. فلما عاد أنزل الله ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ﴾ أَسِّسْ أُمُورَك على التقوى. خُذ هذه الفائدة من الجمعة. وانظُر ما عَمِلَتْ بنا النَّشَراتُ والأخبارُ والأحداثُ فغَيَّبَتْنا عن حقائق مَقَاصِدنا. نُصلِّي لا ندرِك حقيقة الصلاة، ولا لم شُرِعَت، وربما صلينا وفكرُنا خارجَ الصلاة.
جئنا الآن إلى الجمعة. مَن الذي قصدُهُ من الجمعة أن يتطهَّر قلبُه؟ أن يُغفَر ذنبه، أن يَرْضى ربه، أن يستفيدَ موعظةً يستقيمُ بها، يرجِع عن هواه. من الذي قصْدُهُ هذا من حُضُور الجمعة؟ ربما عِند انحلال أواصرِ الصدق مع الله تَذهبُ وتغيبُ المقاصدُ عن الأذهان. بل ربما حتى مثل هذه الشعيرة العظيمة دخل وهو يريد أن يتفرج ويتسمّع ما يقول الخطيب أو كيف يصلي هذا الإمام، لأنه مستعدُّ أن يتنقد، وإن وافق شيءٌ هواه، وإلا ردَّه.لم يعرف مقصودَ الجمعة ولا لم شُرِعت ولا جاء لها على وجهِها. فحاضِرٌ بجسده غيرُ حاضرٍ بقلبه مع ربه.
أَشَرَعَ اللهُ الجمعة ليتهاتَر الناس أو ليخدِموا أهواءهم، أو ليُشبِعوا رغباتهم ونزواتهم؟ ما شرع اللهُ الجمعة إلا لنتهذَّب، لنتأدب، لنتطهر، لنتزكى، لنخضع، لنخشع، لنُعلن السجود له بين الخلق. فلا يقودُنا هوىً ولا شيطان لقولٍ ولا لِفعل.
لقد قال قائلٌ لسيدنا عُمَر: أريدُ أن أذكِّرَ الناس بعد صلاة الصبح. فالتفت إليه سيدنا عمر وقال لذلك الشاب " لا ." كان عُمَر رُكْن الدعوة، وجندي الدعوة. لكن قال لهذا الشاب " لا، إني أخافُ أن تنتفخَ حتى تَبْلُغَ الثريا ." قيمةُ الدعوى على مقاصد وإرادات. أنت تطلب أن تقوم بين يدي الصحابة الكبار في غير حاجة إلى ما تلقي عليهم. تدَّعي أنك تريد أن تخدم الدين وليس هذا موطنك في الخدمة. " لا، إني أخافُ أن تنتفخَ حتى تبلُغَ الثريا.
رحم الله الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وُجِّه إليه السؤال فوقف وسكت، فقال مَن عنده: مالك لا تُجيب. قال اِصْبِر حتى أرى الخيرَ لي عند الله والثواب في جوابي فأجيب، أو في سكوتي فأسكُت. أنا لستُ عبدَ هوى. أنا لستُ طالب منزلة بين الناس. يقولون قال أو ما قال ، و فَهَّم أو لم يُفَهِّم. يقول الشافعي أنا طالب مكانة عند الله. فإن كان الخير في الجواب أجبت، وإن كان الخير والثواب في السكوت سكتُّ. إن من عظيمِ الشجاعةِ وَقَفاتٌ وتأخُّراتٌ في مواطنَ كثيرة. كما أن هذه موازين جاء بها النبيون يجب أن نسير عليها.
عباد الله: عيشوا في الفُسْحةِ مِن أمر دينكم، وأوَّل ما يضيقُ على الإنسان شأنُ دينِه، باعتدائه على حقوق الآخرين. أحياء أو أموات، صغاراً أو كباراً، بل على الحيوانات والعياذ بالله تعالى. وقد أُدخِلت امرأة النار في هرة حبستها.
فاعْلَمْ، متى تُضَيِّق على نفسِك، عندما تتعدى حَدّك بأخذ حقوق الغير أو أذاهم. أيها المؤمن. وأعظَمُ ما تُضيِّق به الخناق على نفسك أن تتلطخَ يدُكَ بدمٍ حرام. فلقد روى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه والبخاري في صحيحه " لا يزال المرءُ " وفي لفظ " لا يزال العبد في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دماً حراماً ." اجعلها بين عينيك. إرشاداتُ داعِيْكَ إلى بارِيْك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم، ولا تُضيِّق الخناق على نفسك، واطلب المخرج من كل شدة من أبوابها التي فتحها الله. ﴿ وتعاونوا على البرِّ والتقوى ﴾ و" ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء " واصدقوا مع الله فإن يومَ المحكمةِ الكبرى التي يخضع لها الأولون والآخرون هو يومٌ قال الله فيه على لسان عيسى ﴿ قال الله هذا يوم ينفعُ الصادقين صدقُهُم ﴾. وتذكروا نبيَّكم الذي صَبَرَ وكابَدَ وجاهد واجتهد وبكى كثيرا، وإذا ذَكَرَ القيامةَ علا صوتُه واحمرَّ وجهُهُ وانتفخت أوداجه كأنه نذيرُ جيشٍ يقولُ صبَّحَكُم أو مَسَّاكم، وهو القائل " أما إني أخشاكُم لله وأتقاكُم له " جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه .
اللهم صَلِّ على النُّورِ المبين واهدنا بهديه، وسِرْ بنا في سبيله وتداركْ أُمَّته بعناية من عندك يا حي يا قيوم. نزلت بهم النوازل وحلَّت بهم المصائب. فأرنا كما أريتنا ذلك، عجائبَ لطفكَ في تحويل الأحوال إلى أحسنها. اللهم ارفع الظلم والآفات والاعتداءات والتطاوُل على أمرِك، والخُروجَ عن شرعك، من ديارنا ومنازلنا ومن أسواقنا ومن مجتمعاتنا ومن بلداننا ومن صغارنا وكبارنا. اللهم اهدنا فيمن هديت وسِرْ بنا سبيل من اصطفيت. لا تصرفنا من الجمعة إلا وقد استفدنا قلوباً لك تخضعُ وتخشعُ، وفي عفوِك وما عندك تطمع، وتفرُّ عن الطمع فيمن سواك. اقذف في قلوبنا رجاءك. واقطع رجاءنا عمن سواك حتى لانرجو أحداً غيرك. وألهِم المسلمين رُشدهم، وخذ بأيدي رُعاتهم ورعيتهم إلى ما تُسعِدهم به في الدنيا والآخرة وحوِّل الأحوال إلى أحسنها يا محوِّلَ الأحوال. اكشِف الشدائد. ادفع المصائب. شَرعْتَ لنا استغاثتك ودعاءك والتضرع إليك. قلت ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ﴾ كما استجبت لأوائلنا فاستجب لنا يا ربنا، وعاملنا بفضلك واكشف الشدائد عنا وحوِّل أحوالنا إلى أحسن الأحوال. واجعلنا من أهل الصِّدق معك في كل حال يا كبير يا مُتَعال. واغفر لوالدينا ومشايخنا والمتقدمين في مساجدنا هذه وديارنا، والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إلى يوم الميقات، مغفرتَك الواسعة يا غافر الخطيئات، لا تَفْضَحْنا بذنب ولا بسيئة، ولا تُسوِّد وجوهنا بِعيْبٍ في القيامة تُخزينا به. لا تخزنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. أصلح الشأن كله واختم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين. يا أرحم الراحمين.
نسألك لنا وللأمة من خير ما سألك منه عبدُك ونبيك سيدُنا محمد، ونعوذ بك مما استعاذك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عبادَ الله ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. ﴾ فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم. ولَذِكْرُ اللهِ أكبر.
07 ذو القِعدة 1432