فوائد من الدرس الثالث في كتاب تنوير القلوب في معاملة علام الغيوب

- إن المقصود من معرفة صفات ربنا -جلَّ جلاله- أن يزداد إيماننا بهذا الإله ويزداد يقيننا وتعظيمنا، ويزداد صدقنا معه ونتحقق بحقائق العبودية له تبارك وتعالى، ويزداد رُقيّنا في مراقي المراقبة له، وذلك أن الله جعل الوصول إلى رتبة الإحسان بسلّم الإسلام والإيمان.

- الاسْتسلام لأحكام شرع الله تبارك وتعالى هو الإسلام، وكمال ذلك بأن يصل المسلم إلى درجة "المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده".

  • ويرقى بعد ذلك في مراتب الإيمان، ويتحقق بحقائقه من الصفات التي ذكرها الله في القرآن للمؤمنين كقوله جل جلاله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، وإلى غير ذلك مما وصف الله به المؤمنين في القرآن.

وما وصف المؤمنون به رسول الله ﷺ في السُنّة الغراء بما جاء في صحيح الإمام البخاري وغيره من أئمة الحديث:

  • - "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".
  • - "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين".
  • - "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".

 بهذه الدرجات الرفيعة من التحقق بالإسلام والإيمان.. يتم الوصول إلى رتبة الإحسان، وهي أن تعبد الله كأنك تراه -جل جلاله-، كأنك تراه؛ تعاينه وتشاهده.. هذا تعبير نبينا 'كأنك تراه'؛

  • - تصلي كأنك تراه
  • - تقرأ القُرآن كأنك تراه
  • - تصوم كأنك تراه
  • - تتصدق كأنك تراه -جل جلاله- 

- بسلَّم الإسلام والإيمان يُرتقى إلى رتبة الإحسان، ومن أقوى ما يوصَل به إلى هذه الرتبة: استحضار صفات الرحمن -جلَّ جلاله- واستشعار اطلاعه علينا وعلى ضمائرنا وعلى ما في نفوسنا، وأنه أعلم بنا منا -جلَّ جلاله وتعالى في علاه-.

- تحدَّثنا البارحة عن صفة الوجود الصفة الذاتية، صفة النفس الواجبة لله -جل جلاله-، وعلمْنا أن العقل يوجب لكل عاقل، أن يوقن أن لهذا الكون مكوِّن وهو الله، وأنه المتصف بكل كمال والمنزَّه عن كل نقص -جل جلاله-، وأنه لولاه لما وُجد شيء، ولا وُجد شيء من الكائنات إلا بإيْجاده وخلقه سبحانه وتعالى، فالوجود مستعار لجميع الموجودات ومَجاز، والوجود الحق للحق سبحانه وتعالى فهو الموجود بذاته، الوجود الذاتي الأزلي الأبدي، وما أعظم هذا الوجود الذي يدل عليه كل موجود.

2- الصفة الثانية لله جل جلاله: القِدم، وعنوا بالقِدم الأولية المُطلقة، وهو أنه لم يسبقه شيء، وأن وجوده سبحانه وتعالى بذاته لا افتتاح له، ولا ابتداء لهذه الأولية، قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الأوَّلُ} وضده الحدوث؛ أي افتتاح الوجود، والدليل على وجوب القِدم له تعالى ولصفاته واستحالة الحدوث عقلاً أنه لو لم يكن قديماً لكان حادثاً، فلا بد له من مُحدث، وهكذا فيدور الأمر ويتسلسل إلى ما لا نهاية، وهذا باطل لا يقبله العقل، بل لابد من شيء موجود بذاته، لا افتتاح  لوجوده وهو الله جل جلاله.

- الحدوث سِمة لازمة لكل ما سوى الله جل جلاله؛ فجميع الكائنات كانت عدما محضا فأوجَدها سبحانه وتعالى، فلوُجودها افتتاح، ومع كون لوجودها افتتاح.. جعل الله لها فناء ومعاني من الفناء، وأبقى سبحانه وتعالى العرش والكرسي والجنة والنار والقلم واللوح المحفوظ والروح من ابن آدم، ومن الأجزاء أيضاً الحسية الجسمية في ابن آدم يُبقي عجب الذنب؛ وهو عظم صغير في آخر العصعص في العمود الفقري، هذا -سبحان الله- لا تهضمه معدة ولا تطحنه طاحونة ولا يفنيه شيء.. يبقى من كل إنسان.

- إن من أعظم العلامات على أحقيَّة الرسالة وأحقية الدين، وأن هذا هو الحق الذي بُعث به النبي الأمين، أن الأنبياء والشهداء والعلماء العاملون بعلمهم وحفاظ القرآن غير الجَافين عنه والغَالين فيه والمؤذنين المحتسبين لله في المساجد سبع سنوات؛ هؤلاء يحكم الله لأجسادهم بالبقاء، وليس عجب الذنب وحده، جميع الهيكل الجسدي، فلا يبلى وإن مرت عليه مئات وآلاف السنين، وهذا أيضا من آيات الله العظيمة؛ كيف ميّزت الأرض أجساد هؤلاء من أجساد غيرهم؟! وليس هذا لغير هؤلاء، ولغير أهل هذه المسالك من الأنبياء وأتباعهم من الشهداء وخواص العلماء؛ الذين يمرّ على أحدهم القرن والقرنان ثم يُحفر القبر فيوجد كأنما وُضع الآن.

- هذه الثمانية الأشياء التي ذكرناها: العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار والروح وعجب الذنب وأجساد هؤلاء.. ذواتٌ حادثة، لكن حَكَم المُحدِث لها بالإبقاء، فهي باقية لا بذاتها ولكن بِإبقائه لها سبحانه وتعالى، فالجنة باقية لا تفنى ولا تزول أبدا.. ولكنها ليست بذاتها باقية، لو أراد أن يُفنيها لأفناها، لكنه سبحانه حكم أن تبقَى، فهي باقية بإبقاء الله -جل جلاله-

- تطلُّع المؤمن إلى ما في الجنة من أنواع النعيم نوع من الإيمان، وأعظم منه وأجلّ: أن يتطلع إلى رضوان الحق؛ فرضوان الحق صفة من صفاته سبحانه وتعالى؛ باقية ببقائه هو، وبقية الجنة باقية بإبقَائه، وفرق بين الباقي ببقائه والباقي بإبقَائه، ولهذا لما ذَكر الله الجنة وما فيها من أنواع النعيم قال: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}، ولذا تعلَّقت قلوب العارفين برضوان الحق -جلَّ جلاله- فالرضا باقٍ لهم ببقاءِ الله نفسه، أما الجنة وما فيها فبَاقية لا بذاتها.. ولكن بإبقَائه سبحانه وتعالى لها.

3- الصفة الثالثة لله جل جلاله: البقاء، وهي مرتبطة بصفة القِدَم؛ فما كان موجوداً بذاته.. فلا فناء له، وما كان موجوداً بإيجاد غيره.. فيقبلُ أن يفنى ويمكن أن يفنى، ولا يبقى إلا ما أبقاه ذلك المُوجد -جل جلاله وتعالى في علاه-.

- الدليل على وجوب البقاء له وصفاته واستحالة ضده عقلًا: أنه لو قبِل الفناء لكان حادثا؛ لأن القديم واجب الوجود لا يقبل الفناء أصلا، ولو قبلت صفاته الفناء لكانت حادثة أيضا، فيلزم حدوث ذاته أيضا، لأن ملازم الحادث حادث، وقد ثبت أنه قديم عقلاً ونقلاً.. قال تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وقال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وقال سبحانه: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) -جل جلاله- فهذه صفة القِدم وصفة البقاء من أعظم الصفات التي يجب أن يعتقدها المؤمن، وهي من أقوى أسباب كشْف الحُجُب بينه وبين الرب.

4- الصفة الرابعة لله جل جلاله: صفة المخالَفة للحوادث، والحوادث: جميع الكائنات وجميع ما يخطر على البال، والحق لا يشبه حادثا ولا يشبهه حادث -جل جلاله- (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ), وكذلك يكون الإله، وإلا فما معنى للألوهية إذا أشبه الخالق خلقه؟! كيف معنى خَالقيّته وكيف تكون ألوهيته؟ فَتنزيهه تعالى عن كل ما يخطر بالبال ويُتخَّيل بالخيال أساسٌ في الإيمان.

- الله سبحانه وتعالى ليس مماثلاً لشيء من الحوادث في الحدوث ولوازمه، وليس بذي أجزاء فليس له يد -بالمعنى الجسماني- ولا عين ولا أذن ولا غير ذلك مما هو من سمات الحدوث، وما ورد من ذلك ونحوه في الكتاب أو السنة، فمصروفٌ عن ظاهره إلى معناه الصحيح الذي لأهل السنة فيه مسلكان: 

  • المسلك الأول تفويض معناه إلى الله من دون اعتقاد الظاهر والجسمانية.
  • والثاني تأويله بالمعاني الصحيحة الثابتة لله بالأدلة.

- نجد في لغات الناس وخصوصا لغة العرب أنهم يستعملون الاستعارة لليد ونحوها لأمور معنوية، ليس فيها أصابع ولا لحم ولا عظم ولا شيء من الخلق.. 

• فيقولون إن لفلان عندي يد.. فإذا ظن الظان أنه وسط ثيابه يد للإنسان! فيقول أين اليد الذي عنده؟! وهو إحسان أحسن إليه في السابق، يقول له عندي يد.

• وإذا قال القائل إن البلدة في يد الأمير، البلدة في يد الرئيس، يقول واحد هذا يده كبيرة يمسك البلد هكذا بأصابع يده! ليس المراد اصبع ولا لحم ولا جسم.. المراد أنه ذو سلطة قوية والبلد تحت قهره, هذه يد معنوية ليست بعظم ولا لحم ولا شعر. 

فإذا كان هذا -الأيادي المعنوية- حتى في حق الخلق، ما يتصوَّر فيها جسم، فكيف إذا قال: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..)؟! ما يتأتى فيه معنى جسمية أصلاً.. ذلك مستحيل، وهكذا كل ما جاء من آيات الصفات وأحاديث الصفات.

نسأل الله أن يَملأنا بالإيمان، باليَقين والإخلاص وبشُهوده، ويرزقنا مراقبته في الغيب والشهادة حتى نعبده كأننا نراه وإن لم نكن نراه فإنه يرانا -جل جلاله-، اللهم املأ قلوب جميع الحاضرين ومن في ديارهم بأنوار الإيمان واليقين، واجعلنا في أهل اليقين والتمكين، واجعلنا في أهل الحضور معك وأدِم لنا الحضور بين يديك، ونقِّنا عن شوائبنا ومعائبنا برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.

 

للاستماع إلى الدرس الثالث، أو قراءته مكتوباً:

https://omr.to/tanweer3

تاريخ النشر الهجري

18 ذو القِعدة 1445

تاريخ النشر الميلادي

25 مايو 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

العربية