للاستماع إلى المحاضرة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مولانا ومولاكم، وربنا وبكم ورب كل شيء الحي القيوم الذي لا يموت أبدا، إن كان شيءٌ من الخلق فهو مذكِّر بالخالق، أو كان شيء من الحياة فهو الصفحة التي يُتذكَّر فيها عظمة الحي الذي لا يموت، خالق الموت والحياة، وإن كان شيءٌ من الممات يُوصف به أرضٌ أو أحيوانٌ أو إنسان، فذلكم الممات الذي يصيبهم، يذكِّر بالخصوصية للمحيي المميت، والمصير إليه، وأن الأمر في قبضته وفي يده، وأن المرجع إليه تعالى في علاه، فصارت كلها آيات وكلها مذكّرات، وكلها دلالات، وكلها رسالات، وكلها بلاغات، وكلها تنبيهات، وكلها توجيهات، وكلها مواصلات مِن حضرة الملك القدوس يقوم فيها الإنسان إذا فقه خطابَ الرحمن، واتصل بسيدِ الأكوان، واستنَّ بسُنته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، في السر والإعلان، يقوم فيها بواجب العبودية، والاعتراف بالعجز والبشرية، ويقوم فيها بواجب شهود الألوهية، والرضا والتسليم، لقضاء العليم الحكيم، والثبات على الصراط المستقيم، والاتصال بالمنهج القويم، وأهل المنهج القويم، من أهل الصدق مع العلي العظيم، من أهل الرضا والتسليم، من الذين لا ينازعون القدرةَ ولا ينازعون حكمَ القادر، والذين يرضون والذين يحزنون بما جعل فيهم من ضعفٍ وبشريةٍ وطبيعةٍ تعبَّدهم بالحزن بها في موطنه، على الميزان الذي وضعه بلا جزع، بلا تبرُّم بلا سخط بلا نياحة بلا عويل، وهكذا جاءت الموازين النبويّة في مقابلة هذه الشؤون.

 بعث صلى الله عليه وسلم إلى ابنته وابنها تقعقع نفسه يجود بنفسه تخرج روحه، وأرسلت إليه أن يحضر، ويُخبر الخبر، فأرسل إليها يقول ( إن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمّى)، فأرسلت إليه تكلِّف عليه إلا ما حضر وتعزم عليه، فجاء، وحمل الصبي وهو يجود بنفسه وفاضت عيناه، صلى الله عليه وسلم، فسأله بعض الصحابة "وأنت تبكي يا رسول الله!؟" فأخبره أن هذا البكاء على المنهج القويم، وعلى الأدب الكريم، وعلى الخُلُق اللائق بالعبد مع ربه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إنها الرحمة، إنها الرحمة)، لا بكاء جزء ولا تبرُّم ولا سخط، ولا شيءٌ مما يتجاوز به الحدود، وهي الرحمة التي حدّث عنها عندما فقد ابنَه سيدنا إبراهيم، عليه رضوان الله تبارك وتعالى، وقال له صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، (القلب يبكي، والعين تدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون)، ثم قال لأمته (من أُصيب بمصيبة فليتذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب، لن تصابَ أمَّتي بمثلي ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وهكذا كان شان الصحابة عليهم رضوان الله، وبعد أن حدث عليهم ما تقتضيه البشرية والعبودية وهذا في يوم الوفاة للمصطفى صلى الله عليه وسلم وجَم ولم يستطِع أن يتكلم بكلمة، وهذا أُقعِد ولم يستطع أن يقوم، وهذا صار يُؤخذ بيده يخرج ويدخل لا يتكلم ولا يحس بما حواليه، كسيدنا عثمان بن عفان، بقي اليوم الأول والثاني يأخذون بيده يقيمونه في الصف في المسجد يصلي ويرجع، لا يدري بما حواليه ولا يقول كلمة، وكان منهم ما كان ثم كانت بيعتُهم وكان اجتماعُهم وكان ترتيبُهم للقيام بالأمر، أهل بيته في خصوص ما يتعلق بشأنه الشريف، وبقية الصحابة في ما تعلق بما ترك فيهم وخلَّف فيهم مِن شؤون الأمة، ثم التقى ذا بذا، واجتمعوا على ذاك الوفاء وعلى ذاك الصفاء، ( أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا).

 وهو وصفٌ رباني لتلكم الثلة على وجه الخصوص، ثم لصالحي الأمة على وجه العموم، لأنهم معه في أي زمان كانوا، وإن كان بيننا وبينه من حيث الزمن، ألف وأربعمائة سنة، فخالق الزمن جل جلاله إذا صحّت الوصلة بيننا وبين المؤتمَن لم يؤثر هذا الزمن شيئا، وما كانت إلا قوة في الارتباط لها معنى مخصوص كان يتحدث عنه صلى الله عليه وسلم، ويقول (آمنُوا بي ولم يروني)، وسمّاهم إخوانه عليه الصلاة والسلام، وإنما يُوصف بإخوانه الأنبياء والمرسلين، ولكن أهل المحبة الصادقة أعطاهم هذا اللقب وأعطاهم هذه الخصوصية وقال (وددتُ أن لو رأينا إخوانَنا) قالوا "ومن إخوانُك؟" قال (قوم يأتون من بعدي آمنوا بي ولم يروني)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

سأل مرة أصحابه وقال ( من أعجب الخلق إيماناً؟)، فقال له بعضهم: "الأنبياء"، فقال (ما لهم لا يؤمنون والحي ينزل عليهم؟) قالوا "فالملائكة؟"، قال: (ما لهم لا يؤمنون وهم يشاهدون ما شاهدوا)، قالوا "فنحن أصحابك"، قال: ( ما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم، ينزل عليّ الوحي وأبيِّن لكم)، قالوا "فمن أعجب الخلق إيمانا؟" قال (قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني)، لكن يؤمنون بي إيمان التصديق الجازم القوي الذي يأخذ منهم كليّاتِهم، فلا يبقى لهم إمامٌ غير خير الأنام، ولا ائتمام إلا به في الفعل والكلام والإقدام والإحجام، لا تغرهم دعاوى الطغام ومن ادعى النظام، من هذا وذاك من شرار الأنام، جعلوا الزمامَ بيد المصطفى واتبعوه في الظاهر والخفاء، واقتدوا به وبسُنته، كان سيدنا الإمام الحداد يقول "ما من سُنَّة سنَّها رسول الله إلا وأرجو أني قد عملتُ بها" وهؤلاء الذين أدركوا سر الحياة، ومقصد الحياة، واغتنام الحياة، والمراد من الحياة، فهم الأحياء على الحقيقة فإذا جاءت أحدَهم الوفاة، انتقل إلى التكريم وإلى التنعيم، وإلى القربِ من العليِّ العظيم، وإلى البشائر، وإلى العطايا المواطر والفيض الغامر من قِبَل الفاطر ، قال سيدنا الإمام الحداد :

يموت ميتهم من حيث شاء ** فأرضُ الله واحدةٌ والقوم أمجادُ

 فالموتُ للمؤمنِ الأواب تحفتُه ** وفيه كلُّ الذي يَبغِي ويرتادُ

 لِقَا الكريم تعالى مجدُه وسمَا** مع النعيم الذي ما فيه أنكادُ

 وكم من عطايا ومِنح، فأدرِك سرَّ الحياة وسر الموت واعلم عظمةَ خالق الحياة والموت (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ*الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) فلا تُسيء في عملك، بمخالفة السُّنّة، لا تسِيء في عملك بالاغترار بما يشرع لك ويضع لك ويطرح لك أرباب الأفكار القصيرة من القوانين وادعاءات إدراك الأشياء أو حقائقها من ذا ومن ذاك، فكل ما خالفَ منهجَ مولاك وبلاغ مصطفاه فإياك ثم إياك أن ترتضيَ به أو أن تظنَّ ظناً أن فيه خيرا، لا والله! ولا ذرة ولا عشر مثقال ذرة من خير في شيءٍ خالفَ أمر الله وأمر رسوله ولو اجتمع أهل الدنيا كلهم يقولون هذا ممتاز وهذا طيب، كذبوا وصدق الله ورسوله، (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، لأن أمرَ الدين أيها الأحباب لا يُباع، وليس ببضاعة رخيصة يأخذها علينا أو ذاك، أمرُ الدين يحرِّرنا من رقّ التبعيّة لغير الله ورسوله، ولا نقبل إلا ما وافقَ منهجَ الله، ومنهجَ رسوله، وبمنهجِ الله ورسوله نُعامل جميع مَن على ظهر الأرض من الناس ومن الحيوانات ومن المواد والجمادات، نتعامل معها بمنهج ربها سبحانه، منهج خالقها، ولا أكمل من ذلك ولا أتم ولا أشرف ولا أصفى، أدرك، أدرك، ما أحياك هذه الحياة على ظهر الأرض إلا لتنعمَ بسرِّ العبودية له، والانقياد لأمرِه، وقد أبرز لك في العالم الخلقي قدوةً به تقتدي، ونوراً به تهتدي، ودالاً يدلك عليه وموصلا يوصلك إليه، اسمه محمد بن عبد الله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن حكيم بن مرّة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

حبيب الرحمن، به أُكرمتم وجُعلتم من أمته، فمِن حقِّكم أن تدركوا أسرارَ هذه الحياة، الأمم من قبلكم مَن أدرك سرَّ الحياة فيهم مَن حمل السيف يجاهد في سبيل الله، ألف شهر، ألف شهر وهو مواصل الجهاد في سبيل الله 83 سنة حامل سيفه يجاهد في سبيل الله جل جلاله، وفيهم مَن أنِس بالعبادة فقام 500 عام يعبد الله، كما عمرك وعمر أبيك وجدك وأبي جدك وجد جدك وأبو جد جدك واطلع، كلهم هذا العمر كان يعبد الله فيه، أدرَك سر الحياة، والمقصود من الحياة ، وأنت أدرِك سر الحياة ما أعطاك هذه الحياة ليلعب عليك أهل البرامج، ما أعطاك الله هذه الحياة، ليلعب عليك أهلُ الأطروحات الساقطة الهابطة، ويلعبون بعمرك وبفكرك وبدينك أعطاك هذه الحياة لتدرك أنك عبدٌ له، وأنَّ أمرَ السماء والأرض بيده، وأن المرجعَ إليه.

 وذا يموت وذا يموت أمامك، ويموت الأخيار والأصفياء، كما فقدنا في أسبوعنا هذا من وسط البلدة وحدها، إمام مسجد آل أبي علوي، الحبيب حامد عليه رحمة الله وجمعَنا به في أعلى الجنان بما حمله من صفات ووصلات واتصالات، وروابط بالذين أدركهم من الوجوه المنيرات وأهل القلوب الطاهرات والمجالس التي حضرها وآثار كل ذلك وما يصبّ في مثل ذاك المحراب، وما يصب في مثل تلك البقعة، التي عظمت فيها الصفاء، صفاء المواصلة من حضرة الرحمن لكم مِن مقرب ولكم مِن صدِّيق، وفقدنا الحبيب علي بن محمد العيدروس، عليه رحمة الله تبارك وتعالى، صاحب سر ابن صاحب سر، إلى أهل الأسرار الكبرى إلى الحبيب الأكبر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بما أوتي من إنابة أو تواضع أو زهادة أو غير ذلك من المكارم والشمائل التي شأنها يعظُم وتُنشر لها الرايات في البرازخ ويوم الطامة، يوم القيامة يعرف الناس سرَّ هذه الأوصاف المباركات، أوصاف الحميدات، وكم من رايات تُنشر في القيامة لأقوام من خيار هذه الأمة ما كانوا يُعرفون في الحياة ولا يُؤبه لهم، تتعجب فيها الأمم السابقة إذا نظروا إلى الرايات قالوا كأن هؤلاء كلهم أنبياء، يُقال ليس فيهم إلا محمد نبيهم سيد الأنبياء ولكن هذا مقامهم عند الله سبحانه وتعالى..

 فكم خفِي في الناس مِن مسكينِ ** قد امتلأ مِن صفوة اليقينِ

وهان بين الناس ذو طِمرينِ ** وهو لدى الحق عظيمٌ عالي

وفقدنا الوالد علي بن أحمد باحريش عليه رحمة الله، بما اكتسبه مِن مجالسة أهل الله وأهل الخير في قلبه، من علاقة بالحق جل جلاله، هذه العلاقة بالحق صفت فبرزت في العلاقة بمحمد، وبآل بيت محمد، وبصحابة سيدنا محمد، وبالأمة عامتهم عامة وخاصتهم خاصة، من أين اكتسبوا هذه المحبة؟ والأخيار الذين مضوا في ذي البلدة إنما شربوا من ذا المشرب وشربوا من ذا الكاس، كاس المحبة والصفاء والصدق مع الله أساسه قوة الإيمان وقوة اليقين وجالسوا أهلَ الصفاء والإيمان

هداةُ الورى طوبى لعبد رآهم ** وجالسهم لو مرةً منه في العمرِ

وما داخل أفكارَهم ولا أذهانَهم لا كلام إذاعات ولا كلام إنترنت ولا كلام أشرار ولا فجار، ولا ممثلين ولا فاسقين ولا غافلين، كانوا يسمعون كلامَ الله في الديار وفي المساجد ويسمعون كلامَ الأصفياء والعارفين، وإذا جلسوا بينهم البين في مجالسهم ذكروا الصالحين وذكروا أخبار الآخرة وذكروا الواجبات، وإذا دار بينهم المزاح مزحوا فيما يروِّح أرواحهم للتقوِّي على الحضور في المسجد، وللتقوِّي على قيام آخر الليل، وفيهم من لم يفارِق قيام آخر الليل من أيام صغره إلى آخر عمره، تراهم وفي من يعد من عوام أهل البلدة لسرّ التربية، وهذا الفخر الأكبر.

مثل البلدان ما فخرها بمظاهر عمران ولا بإسفلت في الشوارع، هذه تحصل عندك وعند اليهودي، لكن ابحث عن السر الذي ينشر لصاحب راية العز يوم القيامة، هذا الذي به الشرف، والذي به الكرامة، اجتمعوا وخشعوا وتورَّعوا وأقبلوا على الله تعالى بالكليّات فالله يرحمهم ويخلف منهم أمثالهم في حيّنا والمربع، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وكم يموت من الغافلين ومن الجاهلين ومن الفاسقين ومن الكافرين، والمأوى يختلف والمآل يختلف وفي موت ذا وذا عبرة لنا، عظة لنا، رسالة لنا، خطاب لنا، لمن تحيا؟ أنت متحقق بسر (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ)؟ أو فتحت الشركات، شركة للهوى وشركة للدنيا وشركة مظاهرها ووظائفها دخلوا في حياتك، ما تركتها لله؟ خالفت شرعَ الله تبارك وتعالى، من أجل الغرض الفلاني؟ كذبت في قولك محياي لله، صار محياك فيه شركة لغير الله، دخَّلت شركاءَ مع ربك في حياتك، والعياذ بالله تبارك وتعالى

(إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) اللهم حققنا بهذه الحقائق.

 والذي أدرك أسرار الحياة والموت، سعد في الحياة وسعد في الموت، وصار المُحيي المميت مَن خلق الموت والحياة يرتضيه ويصطفيه ويدنيه، ويعفو عنه ويسامحه ويغفر له ويجزيه بالجزاء الحسن ويرفع له الدرجات عنده، قال تعالى (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء) (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فافقه سرَّ الحياة، وما خُلقت فيها للعبث (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ).

 واستمع النداءَ العلوي نداءَ الرحمن الواصل إليك على يد سيد الأكوان أشرف إنسان محمد بن عبد الله، المنزل عليه القرآن، استمع واستمع معانيه على ألسن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومَن في زمانِك، من أهل الصدق مع أهل وأهل الإخلاص لله، كلامهم ترجمة للوحي، ترجمة للقرآن، خذ الوحي وخذ معانيه، وافتح لها قلبك وعلى ضوئها سِر في حياتك، وامضِ في طريقك، على قدم التصديق والاتباع والاقتداء والاهتداء، شرَّفك رب الأرض والسماء بالتبعية لأكرم خلقه تضيّعها وتفوّتها على نفسك وتتبع شرارَ خلقه!؟ وتتبع في شيء من أوصافك أو أفعالك أو أفعال أهل دارك أو في شيء من مناسباتك تتبع مَن لم ينظر الله إليه منذ خلقه؟ لم ينظر إليهم، وتضيِّع تبعية محط نظر الرحمن؟ حبيب المولى جل جلاله، تشيع هذه التبعية وتأخذ تبعيّة هذا..

 ما الذي أصاب بعض القلوب فانصرفت وصدِئت وصارت لا تطمئن بذكر الله، ولا تستحلي كلامَ أهل الله، وصارت تستلذ بالكلام الخبيث، والكلام الماجن وتسمّيه رعشة، هو ذا الرعشة؟ إذا كانت هذه رعشتك فمآلُك مآلُ أصحاب ذا الكلام، ترتعش أنت وإياهم في النار؟ شوف يمكن تسميها رعشة! سمها اللي تسميها، ما حقيقة الغفلة عن الله ولا الكلام الماجن إلا نار، وكدر ما هو رعشة، الرعشة ما حملك على الرغبة في ما عند الله، ما زادك نشاطاً في ما يقرّبك إلى الله تبارك وتعالى، من الكلام الصحيح القائم على الميزان مثل وصفِ سيد الأكوان، حتى لما وصفه كسيدنا كعب قبل أن يسلم، ولما أجرى الله على لسانه أنه المأمون "سقاك بها المأمون كأساً روية" قال (صدق) سقاك بها المأمون، كان يكررها على أخيه سيدنا بجير، يقول ماذا قال أخوك، سقاك بها المأمون كأساً رويةً، قال (أنا مأمون في الأرض، مأمون في السماء) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، هذا الكلام القائم على الميزان، هو الصحيح وغير ذلك أين يوصلك؟

يا مؤمن بالله ورسوله إن كنت تطلب راحة بال أو قلب اطلبها في كلام الصالحين أهل حضرة الرحمن، اطلبها في كلام العارفين، وزيِّن بها زواجاتك، وزيِّن بها حفلاتك، وارتعش عليها، ذي رعشة توصلك للجنة، وذي الرعشة الحقيقية هناك، وإن كان بتسمي النار رعشة، ارتعش مع أهل النار، وإلى أين ستكون العاقبة والنهاية بعد ذلك؟

اعرف سر الحياة لم خلقك الله على ظهر الأرض، وما هي إلا أوقات محدودة وساعات معدودة، وصرنا نرى أنه لو جاوز الإنسان ستين أو سبعين عمر قصير، وفي الحقيقة هو قصير ولكن ذا زين الوجود وما بقي على ظهر الأرض إلا 63 سنة، وجاء بعده الصدّيق أبوبكر و63 سنة، وجاء بعده عمر بن الخطاب الفاروق 63 سنة، وما وصل عمر سيدنا علي بن أبي طالب إلا 63 سنة، وانتقلوا من هذا العالم، وأكثر الأمة (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين وأقلهم من يجوز ذلك)، وبعدين هذه الحياة المحصورة في هذا العدد، كيف تقضيها؟ ولمن؟ لمن تحيا؟ وكيف يكون مماتُك فيها؟ اجعل لك قرارا تمضي عليه باستنارة، اجعل لك فكر صحيح تنطلق فيه في حياتك، ذي السنوات القصيرة اصرفها لمَن يُحسِن تعويضك، لمَن يقدر على مكافأتِك بالمكافأة الكبيرة، إذا صرفتها لغيره ماذا سيعطيك؟ لو نصبوك رئيس أكبر الدول في العالم، وأعطوك أكثر المليارات من أغلى العملات في العالم، وقعدت فيها خمسين سنة ثم مُتت مقطوع عن الله وعن رسوله أنت خائب خاسر، أنت هالك، تجارتك بائرة، وعاقبتك خاسرة، ولك النار والعياذ بالله ماذا سيعطونك؟ لكن هذا الرحمن إذا عاملته هو سيعطيك، (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، ونعم المجازي رب العالمين.

وإذا ستعامل عاملِ القادر، عامل الذي عُملتُه لا تسقط ولا تنقص، ولا شيء يطغى عليها، ودائمة وباقية عُملة الحسنات والسيئات، فيارب ثبتنا على الحق والهدى، ولكن يدرك سر الحياة من أحيا الله قلبه، والله يحيي قلوبنا، ويحيي القلب ذكر الله، اجمعنا على ذكرك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

ولتغنم مثل ذا المجلس، إذا هبّت فيه نسمة من نسائم الجود وذكرك الرب المعبود في الملأ الأعلى حيي قلبُك، رب داخل إلى مثل ذا المجمع ميت القلب يخرج وقلبه حيّ إلى أن يلقى الحيّ، ويدرك سر الحياة ويصدق مع الله ويفي بعهدِ الله، ولا يغتر بالترهات والبطالات، يدرك الحقيقة، ويستمسك بالعروة الوثيقة ويتبع خير الخليقة، يستقيم على أقوم طريقة، فيلقى الرحمنَ والله راضٍ عنه إذا حملوه على الجنازة نادى، نداء يسمعه كل شيء إلا الإنس والجن، "قدموني قدموني إلى جنة ورضوان ورب غير غضبان" هذا نداء أهل السعادة إذا احتملهم الرجال على أعناقهم عند خروجهم من ديارهم، "قدموني قدموني إلى جنة ورضوان وربٍّ غير غضبان" من الذي يسهم معك في تحصيل هذا النداء عند خروجك؟ عسى ما هي الشركات ذه، ولا الحكومات هذه، ما حد منهم يسهم في نيل هذا النداء، ما بتحصل هذا النداء والمكانة إلا إن لك رابطة بالهدى ونبي الهدى وأهل الهدى وأنت ربك يعلّمك هذه الرابطة تقول في كل صلاة، في كل ركعة (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، والثانيين هؤلاء الذين يزينون للناس المعاصي ويزينون للناس تعظيمَ الدنيا ويزينون للناس احتقارَ الدين، قال (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)، لا نسمعهم ولا نمشي طريقهم ولا نتأثر بهم ولا نقرب منهم، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) فنحن متبرؤون منهم في الدنيا والآخرة، ولا نريد إلا مع الذين أنعم الله عليهم، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).

 وهذه الحياة التي تكتسبها لقلبك من سر دعوة النبي محمد، الذي قال الله عنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)، يارب كم أحييتَ من قلوب بدعوة حبيبك المحبوب، فأحيي قلوبَنا هذه كلها بهذه الدعوة، ارزقنا صدق الاستجابة له حتى نحيا حياة الأبد، مَن حيي قلبه ما يكون الموت له إلا انتقال من دار إلى دار أحسن، ومن حياة إلى حياة أطيب، من حياة طيبة إلى حياة أطيب، وهكذا.

رؤي بعض الأموات، كان يخدم في مسجد سيدنا العيدروس هنا، رؤي بعد موته كيف حالك قال لو دريت تمنيت الموت من قبل اليوم لما حصلته من الخدمة في هذا المسجد. وهكذا النتائج، وهكذا الغايات والعواقب، كلنا أموات، لكن بخت من قدّم إحسان.

 يا الله بها يا الله بها يا الله بحسن الخاتمة، وفي المجامع هذه نتعرض أن يذكرنا الله، فتستنير قلوبُنا بذكره وتحيا حياة الأبد..

 بحرمة هادينا ومُحيِي قلوبنا ** ومرشدنا نهج الطريق القويمة

دعانا إلى حق بحق منزل ** عليه من الرحمن أفضل دعوة

أفضل دعوة، تذكَّر دعوة صاحب حراء، والذي وُضع على رقبته السلا، والذي رمي بالحجارة في بلاغ هذه الرسالة، ولا تقابلها بدعوات هؤلاء الغافلين الذين يدعونك إلى الانحراف يمنَة ويسرة.. تذكَّر الدعوة الذي كان يبكي في الليالي من أجلك، ويخاطب لك ربَّك قبل ما تبرز إلى هذا العالم، كان يخاطب ربَّه فينا كل ليلة صلى الله عليه وآله وسلم، ويبكي من أجلنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، تذكَّر هذه الدعوة أفضل دعوة.

 فيا رب ثبتنا على الحق والهدى ** ويا رب اقبضنا على خير ملةِ

 وعُمَّ أصولا والفروعَ برحمة ** وأهلا وأصحاباً وكل قرابةِ

 وسائر أهل الدين من كل مسلم ** أقام لك التوحيدَ من غير ريبةِ

وصلِّ وسلِّم دائم الدهر سرمدا ** على خير مبعوث إلى خير أمةِ

 محمد المخصوص منك بفضلك ** العظيم وإنزال الكتاب وحكمةِ

 وارحم اللهم مَن فقدناهم مِن أحبتنا، وارفع لهم الدرجات عندك، وضاعفِ البركة في أولادهم وأحفادهم وأسباطهم وأحبابهم والمنتمين إليهم، واحفظ على هذه البلدة، وعلى الصالحين من المسلمين في المشارق والمغارب سرَّ الارتباط بتزكية نبيك، وتربية نبيك، وآداب نبيك، وأخلاق نبيك، ولا تجعلنا من المبدِّلين بها، ولا تجعلنا من الغافلين عنها، اللهم ثبتنا على ما تحب واجعلنا في مَن تحب، ولا انصرف أحد من مجمعنا إلا وهو مربوط بحبيبك ربطاً لا ينحل أبدا يا حي يا قيوم يا الله يا الله يا الله.

 الطلب عظيم، ولولا عظمة رحمة ربكم ما تجرأنا أن نطلب هذا الطلب منه، ونحن نطلب من العظيم هذا الطلب العظيم، اربطنا ومن في ديارنا وأهلينا وجميع مَن يسمعنا بنبيك محمد ربطاً لا ينحل، في الحياة وعند الوفاة وفي البرازخ ويوم الوقوف بين يديك، يا مَن عز وجل إلى دار الكرامة والنظر إلى وجهك الكريم يا الله يا الله، حقِّق طلبَنا، بلِّغنا أربَنا، أنِلنا مأمولَنا، وبلغنا سؤلَنا، واقضِ حاجاتِنا، وأصلح ظواهرنا وخفياتِنا يا الله، وكلنا نقول يا الله، وندعو المولى تعالى في علاه، ونطلب منه رضاه، يا الله، عُدَّة ليوم لقاه ياالله، نطلب بها عفوه ورضاه ياالله، نعلن بها عبوديتنا له سبحانه دون من سواه يا الله يا الله يا الله يا الله يا الله يا الله، يا مَن تذكر من ذكرك، يا من تشكر من شكرك، يا حي يا قيوم اربطنا بالنبي المعصوم، وبلغنا به ما نروم وفوق ما نروم، واكشف به عنا الهموم والغموم، وأصلح أحوال أمته في الخصوص والعموم، يا حي يا قيوم يا الله.

والحسرة الكبيرة على مَن يمرُّ عمرُه ولا له مثل هذه الساعة يخاطب فيها الرب ولا هو متحسِّر عليها، يموت وما هو متحسر عليها وهي بين يديه، الله لا يجعل في ديارنا محروم، ولا في جوارنا محروم، ولا في زماننا محروم، الله ينشر الخير في الخصوص والعموم يا حي يا قيوم يا الله، والحمد لله رب العالمين.

للاستماع إلى المحاضرة

لمشاهدة المحاضرة

 

العربية