أثر اللسان وخطر الكلمة وعظيم ثمرتها نعيماً أو عذاباً

للاستماع إلى الخطبة

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في جامع قسم ، مديرية تريم ، 3 جمادى الأولى 1442هـ، بعنوان:

أثر اللسان وخطر الكلمة وعظيم ثمرتها نعيماً أو عذاباً

 

نص الخطبة:

 

الخطبة الأولى:

 

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمدُ لله.. الحمدُ لله السَّميعِ البصير، اللَّطيفِ الخبير، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموتُ بيدِه الخيرُ وهو على كُلِّ شيءٍ قدير، اسْتوى عِنْدَه الجهرُ والإسرارُ وما تنطقُ بهِ اللِّسانُ وما يهْجِسُ بهِ الضَّمير، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقُرَّةَ أعْيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمّداً عبْدهُ ورسولُه وحبيبُهُ السِّراجِ المنير، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على الهادي إلى أَقْوَمِ سبيلٍ وخيرِ مسير، الشَّافعِ الأعظَم في يوْمِ اللِّقاءِ وَالمصِير، عبدِك المصطفى سيدِنا محمد وعلى آلهِ وأهلِ بيتِهِ المخصوصينَ بالتَّطهير، وعلى صحابتِه الغُرِّ الميامينِ أهلِ القدرِ الكبير، وعلى مَنْ تبعَهم بإحسانٍ في أَقْومِ مسيرٍ إلى يومِ المصير، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين أهلِ الهداية والدَّلالةِ والدَّعوة والتَّنوير، وعلىٰ آلهم وأصحابِهم وتابعيهم وعلى ملائكتِك المقرَّبين وعبادِك الصالحين أولي البصائرِ والتَّبصير، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا علِيُّ يا قدير.

أما بعد، عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله..

تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها، وإنَّ محلَّها القلب وتظهرُ في الجوارح، وأظهر ما تظهرُ فيه مِن الأعضاءِ والجوارحِ اللِّسان، وقال بعضُ أهلِ المعرفة: ما رأيتُ تقوى إنسانٍ في لسانِه إلا رأيتُ أثَرَ ذلك على جميعِ أعضائه.

ولقد قال زيْنُ الوجود محمد صلى الله عليه وسلّم: ما مِن يومٍ يُصبِح ابنُ آدم إلا وجميعُ أعضائه تُكَفِّرُ اللِّسان تقولُ أيُّها اللِّسان اتَّقِ الله فينا فإنَّما نحنُ بِك، إنِ استَقَمْتَ اسْتَقَمْنا وإنِ اعوجَجْتَ اعْوَجَجْنا.

فما أعظمَ خطرَ اللِّسان وما ينطِق بهِ الإنسان، إنَّهُ ليُوصِلُهُ إلى رضوانِ ربّهِ الرَّحمن، أوْ يوصلُهُ إلى العذابِ والنِّيران، بكلماتٍ تخْرُجُ منْ بيْنِ شفتيه، إمَّا يُرضي بها العليَّ الكبير، وإمَّا يُسْخِطهُ فيُدخلهُ بها حرَّ نارِ السَّعير، ما أخطرَ ما يخرجُ مِنْ بينِ شفَتَيِ الإنسان.

فاضبُط كلامك في ليلِكَ ونهارك مع الصِّغار والكبار، ألا إنَّ الدخولَ إلى دين الله ومِلَّةِ الله يكون بالكلمةِ العظيمة، بكلمةٍ ينطقُ بها اللِّسان ويوقِنُ بها الجَنان؛ شهادةُ أن لَّا إلهَ إلَّا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإنَّ اللهَ حرَّمَ على النَّارِ مَن قال لا إلهَ إلا الله يبْتغي بها وَجهَه.. يقصُد بها وجهَ ربِّه جل جلاله، والذي يقصدُ بها وجهَ ربِّه جل جلاله يهابُ هذا الإلهَ فلا يعصِيه، ويبتعدُ عن مخالفتِه في ظاهرِهِ وفي خافيه، وهِيَ القولُ الثَّابِت وهي الكلمة الطَّيِّبة ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ  )

( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)

قال نبِيُّنا المصطفى: ( أفضلُ ما قُلتُ أنا والنَّبيُّونَ مِن قبلي لا إلهَ إلَّا الله) فهي خيرُ الكلام، فكم حقُّكَ ونصيبُك منها أيُّها المؤمنُ بالله جلّ جلاله وتعالى في عُلاه؟

(مَن قالها مُخلِصاً مِن قلبِهِ دخلَ الجنَّة)، وما إخلاصُها؟ قال نبيُّنا: (أن تُحْجِزَهُ عن محارِمِ الله)، تحْجِز كلمةُ لا إلهَ إلا الله أن يسُبَّ فسِبابُ المسلمِ فُسوق، فما يبقى إذا ضايَقه أحَد سبَّه، وإن تضايَقَ مِن قريبٍ سبَّه، ومِن بعيدٍ سبَّه، مِن طفلٍ صغيرٍ سبَّه، مِن كبيرٍ سبَّه، أتُطلِق لسانَكَ بالسَّبِّ وأنت تعلمُ أنَّ سِبابَ المسلمِ فسوق؟! وأنَّ منْ قالَ كلمةً عن أخيه ليست فيه لِيَشينَهُ بها.. من أجل يعيبَهُ بها.. حُبِسَ في ردغةَ الخبالِ في النار حتى يأتِيَ بِنفاذِ ما قال! رَدْغَةُ الخبالِ عُصارة أهلِ النَار، ما عُصارة أهل النَّار؟ القَيح والصَّديد، وأكثرُ القيْحِ والصَّديد يخْرُجُ في النّارِ منْ فروج الزُّناةِ والزّانِيات، يتجمَّع في مكانٍ في النَّار يغلىٰ وتحمِلُهُ الملائكة فتَسقيهِم مِن ذلك الحميم والعياذ بالله تبارك وتعالى ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) اللهم أجِرنا مِن النَّار.

أيُّها المؤمنون بالله: الكلمةُ خطيرةُ الأثرِ، عظيمة النَّتيجة والثَّمَرة، إمَّا في الخير وإمَّا في الشَّر، وإنَّ الرَّجلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِن رِضوانِ الله ينصُر مظلوماً، يُدخِل سروراً على قلبِ مؤمن، يدُلُّ على هدى وينْصَح، كلمة مِن رِضوان الله لا يظُنُّ أن تبلُغَ بهِ ما بلَغَت يكتبُ الله بها رضوانَهُ عليهِ إلى يوم القيامة، وإنَّ الرَّجلَ ليتكلمُ بالكلمةِ مِن سَخَطِ الله.. سب، شتم، غيبَة، نميمة، استهزاء، ضحك بالمسلمين، كذب على خلقِ الله.. (إنَّ الرَّجلَ ليتكلَّم بالكلمةِ مِن سَخَطِ الله لا يظُنَّ أنْ تبلُغَ به ما بلغت يكتُبُ اللهُ بها عليهِ سَخَطهُ إلى يوم القيامة).. والعياذ بالله تعالى، (وإنَّ الرَّجلَ ليتكلَّم بالكلمة يُرفعُ بها في الجنَّةِ درجات)، وإنَّ الرَّجلَ ليتكلَّمُ بالكلمة يَهوِي بها في النَّار أبعدَ مِن الثُّرَيا) وفي روايةٍ سبعين عاماً، يَهوي في النار مِن أثرِ كلمةٍ تكلَّمَ بها فهَوى بها في النَّار، فاضبُط لِسانَكَ واضبُط ما يخرُج مِن بين شَفَتَيْك فإنَّهُ يُحصىٰ علَيْك، وكلامُك مِن عَملِك.

واحذرِ الكذبَ فإنَّ الله يغضَبُ على الكاذبين، ويُسوِّدُ وجوهَهُم في الدُّنيا والآخرة، قال تعالى: ( ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) والعياذ بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلَّم: ( إنَّ الكذبَ يَهدِي إلى الفجُور، وإنَّ الفجورَ يهدِي إلى النَّار، وإنَّ الرَّجلَ ليَكذِبُ ويتحرَّى الكذبَ حتّى يُكتبَ عند الله كذَّابا، وإنَّ الصِّدْقَ ليَهدي إلى البِر، وإنَّ البِرَّ ليَهدي إلى الجنَّة، وإنَّ الرَّجل لَيَصدُقُ ويتحرَّى الصِّدق، حتى يُكتَبَ عندَ اللهِ صدِّيقاً ).

ألا بكلمةٍ يقوم عقدُ ميثاقٍ غليظٍ وهوَ عقدُ النِّكاح، بكلمة ( زَوَّجتُكَ وَقبِلْت )، وبكلمةٍ تحرُمُ الزَّوٍجَةُ على زوجِها ويصيرُ لو أتاها بعدها كان في سِفاحٍ وزِناً وحرام، بكلمةٍ تخرُجُ مِنْ فِيه.. كلمة الطَّلاق تخرُج مِنْ فَمِهْ فَتَحرُم.

الكلامُ خطير.. لا تتساهَل في الكلام، ولا تظُنَّنَّ أنَّهُ لمْ يسْمَعكَ أحد أو لم يشهدْ عليك أحَد ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )، يقول ربُّنا الرَّحمن أنَّ الكثير مِن كلام النَّاسِ لا خير فيه، ( لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ ) أي المُخاطبَة بينهم والمحادثة ( إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) أجرٌ عظيمٌ لِمَن أمَرَ بالمعروف والصَّدقَة والإصلاحِ بين عبادِ الله تباركَ وَتعالى.. هكذا علَّمَنا ربُّنا ونبيُّنا محمَّد، وجاءنا الإسلامُ بتقويمِ هذهِ الألْسُنِ لِنكونَ علىٰ حذَرٍ مِنْ مَغَبَّاتِ خواتيمِها وأخطارِها.

ألا إنَّ منَ الكلماتِ ما ينْزَعُ الإيمانَ مِنْ قلبِ المؤمن، ومنه ما يوجِب لهُ سوءَ الخاتمة عندَ الموْت والعياذُ بالله تعالى، ومِن الكلامِ ما يُرْضِي الرحمنَ ويُرْفعُ بها في الجنَّةِ دَرَجات، قال تبارك وتعالى: ( فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) ماذا قالوا؟ ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ ) بماذا الطَّمَع؟ ما الطَّمَعُ عندكم أيُّها الصالحون؟ ما الطَّمعُ الذي أثْنى عليه ربُّنا في القرآن؟ هل هو في ديار، أو في سيارات؟ أو في رئاسة أو وزارة ، في ماذا تطمعون؟ في مزارع! في وظيفة! في شهادة؟! ( وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ) هذا الطَّمَعُ الطَّيِّب، اليوم تُعلِّمُنا القنواتُ وألسُنُ الكفَّار الطَّمَعَ في أخذِ حقِّ الغَير، الطَّمَع في الاستيلاءِ على الثَّرَوات، الطَّمع في أخذِ المالِ مِن غيرِ محلِّه، الطَّمع في قضاءِ الشهواتِ المحرَّمة.. بِئْسَ الطَّمَع، لكنَّ اللهَ يعلِّمُنا الطَّمعَ في اللُّحوقِ بالصَّالحين والدخولِ مع الصالحين.

( وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ )

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) كلماتٌ خرجَت مِن ألْسِنتِهم لَعَنَهُم الله بها، ( وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) فاحذَرْ إِنَّكَ ممكنْ أن تُورَثَ الجنَّةَ بقولٍ تقوله، ويُمكِن أنْ تُلْعَنْ بقولٍ تقولُه، فانظُر ماذا تقول؟ وبمَ تتكَلَّم؟

ولقد كان الصَّدِّيقُ أبو بكر رضيَ الله عنه يضعُ في فيهِ حجرةً، لماذا يا أبا بكر يا خليفةَ رسول الله؟ قال: ( هذا الَّذي أوْرَدَني الموارِد ) حتى لا يتكلَّمَ بكلمةٍ إلا يُفكِّرُ فيها إن كانت خيراً أخرَجَ الحجرَ وتكلَّمَ وإلا أبقَى الحَجَرَةَ في فَمِهِ مكانَها، وهو خليفةُ رسول الله ، أَوَ تظُنُّ أنَّك أعقَلُ منه! ولا أنت ولا مِلْءُ الأرضِ مِثلك في مثلِ عقلِ أبي بكرٍ الصِّدّيق، رفيقِ رسولِ الله في الغار، والذي قال عنهُ على مِنْبَرِهِ الشَّريف: ( إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عليَّ في صُحبَتِهِ ومالِهِ أبا بكر، ولو كنتُ مُتَّخِذاً أحداً مِنَ النَّاس لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً ) رضي الله تعالى عنه وأرْضاه.

نوِّرِ اللهمَّ قلوبَنا وارزُقنا ضبطَ أقوالِنا وأفعالِنا فيما يُرضيك، وأعِذْنا منْ كل سوءٍ أحاطَ به عِلمُك في الدنيا والآخرةِ يا أرحمَ الرَّاحمين.

والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: ( وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )

وقال تبارك وتعالى: ( فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيم )

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ *يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ *ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ )

 

باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه منَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا من خِزيهِ وعذابِه الأليم. 

أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيم.

 

الخطبة الثانية

 

الحمدُ للهِ الذي بيدِهِ الأمْرُ كلُّه وإليه يرجِعُ الأمرُ كلُّه، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يأخُذُ بيدِ الصَّادِق معهُ وعلى الخيْرِ يدُلُّه، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقُرَّةَ أعيُننا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، الهادي بأمرِ الله إلى السَّبيل الذي يرضاهُ سبحانه وتعالى، خيرَ دلالةٍ وهِداية، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى الذي بوَّأتَهُ بالشَّرفِ والكرامة أقصَى غاية، وعلى آله وصحبِهِ ومَن سار في دربِهِ يقصدُ وجهَكَ الكريم إلى آخرِ هذه الحياةِ والنِّهاية، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين وآلهِم وصحبِهِم والتابعين، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمين.

أما بعد عِبَادَ الله، فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله..

فاتَّقوا اللهَ واصدُقوا في المَقالِ وفي الأفعالِ والأحوال، واتَّقوا اللهَ واحذروا ما يخرُجُ مِنْ بينِ الألسُن مِن الكلمات والألفاظ فإنَّهُ يترتَّبُ عليها أمرٌ عظيمٌ وعواقبُ شديدةٌ غِلاظ، إما درجاتٌ في الجنَّات وإمَّا دَرَكاتٌ في مهاوي النِّيرانِ الموقَدات والعياذ بالله تبارك وتعالى، ولقد روى البُخاريُّ ومُسلِم أنَّ نبيَّنا صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ قال: إذا قال الرَّجُلُ لأخيهِ يا كافر فقد باءَ بها أحدُهُما إنْ كانَ كما قال وإلا رجَعَ علَيْه، بمجرَّد كلمة ينطِق بها يحِلُّ الكُفرْ، إن كان الَّذي خاطَبَهُ لا يُؤمنُ باللهِ ولا باليومِ الآخرِ وكافرٌ حقيقة فقد وقعَت عليه، وإلا فعلى الَّذي قالها يرجعُ الكُفرُ والعياذ بالله، ويصيرُ كافراً بتكفيرِ المؤمنين بالله جلَّ جلاله، إنَّهُ أمرٌ عظيم.

قال سبحانه وتعالى: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ).

فيا حاضِرَ الجُمعة اجمَع قلبَك على الوِجهةِ إلى ربِّك، واصدُقْ فيما تقولُ واقصُد وجهَ ربِّك، واحذر أنْ تمضِيَ وراءَ مصلحتِك الدنيويَّة فتكذب وتخدع أو تغش وفي ذلك هلاكُك! هلاكُك! وإن توَقَّعتَ أنَّ فيهِ مصلحةً لك.. ففيهِ هلاكُك! واسودادُ وجهِك يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسوَدُّ وجوه ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) ( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) فاتّقِ الحقَّ جلَّ جلالُه، ولقد كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلَّم يقولُ لأمَّتِهِ ولِلْأوائِلِ مِنْ قُريشٍ ( قولوا كلمةً تدينُ لكم بها العربُ وتذِلُّ لكم بها العَجَم ) كلمة واحدة، ما هي؟ قال: ( لا إلهَ إلا الله )، ففَرُّوا منها والعياذ بالله تبارك وتعالى ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بالحق وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ )

وأنتَ تقولُ هذه الكلمة نعمة مِنْ ربِّكَ وفضل عليك.. نعم، فاعرف حقَّها ولْتحجُزْكَ عن محارمِ الله، ولِتُقِمْ بها عاداتِك وأحوالَك على تقوى الله، ولا ترضَ بعَادةٍ سيِّئةٍ ولا بلباسٍ خبيثٍ يُصنَعُ ويُصاغُ لِيُفسِدَ قِيَمَ أهلِك وأسرَتِك، وتشتريهِ بفلوسِك ودراهمك ودنانيرك، ثمَّ بعد ذلك يحِلُّ البلاءُ في بيتِك ويتشبَّه نساؤك بفاسقات، كاسياتٍ عارياتٍ، يهوديَّاتٍ نصرانيَّاتٍ خبيثاتٍ، هي تتجمَّل في ثوبِها في زواجٍ أو غيرِه ما دَرَتْ أنَّها تنالُ القُبْحَ، وأنَّها تنالُ التَّشَبُّهَ بالفاسقات، وأنَّها تتعرَّضُ للشُّرورِ بأنواعِها وكلِّ محذور.

ألا إنَّ الحقَّ يرقُبُ حركاتِك وسكناتِك ولِباسِك ولباسَ بناتِك ولباسَ أهلِكَ وأولادك، فانظر ماذا يلبسون وماذا ينوون باللباس؟ فإنَّ وراءهُ سؤالاً من ربِّ النَّاس جلَّ جلاله، ومن تشبَّهَ بقومٍ فهو منهم، واسمَع حديثاً رواه الإمام مسلم عن النبي محمد: ( صِنْفانِ مِن أهْلِ النَّارِ لَمْ أرَهُما، قَوْمٌ معهُمْ سِياطٌ كَأَذْنابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بها النَّاسَ، ونِساءٌ كاسِياتٌ عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، ولا يَجِدْنَ رِيحَها ) صدق رسول الله.

انتَبه لِبيْتِك وانتبِه لأُسرتِك، ولا تقتَدِ بالفُجِّارِ والكُفَّارِ واليهودِ والنصارى والممثِّلات والفاسقات والمتصارعين، قُدْوَتُك الأنبياء، قُدْوَتُك الأصفياء، قُدْوَتُك أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم إن عقَلْتَ وعرفتَ.

اللهم أيقِظنا وديارَنا وقلوبَنا ومنازلَنا وأهلينا ومَن في ديارِنا، وثبِّتنا على الحقِّ والهدى واجعل أحوالَنا مباركة، واجعل مناسباتِنا مباركة، وزواجاتِنا مباركة، لا يجري فيها بين الرِّجالِ ولا بين النِّساءِ إلَّا ما تحبُّه وإلَّا ما ترضاه مما شرعتَهُ على لسانِ رسولِك مِن اللهو المباح والغناءِ المباح، والكلام الطَّيِّب والزِّيِّ الحسَن، والحركة المُنضبِطة لا إثارةَ شرٍّ ولا اختلاطَ رجالٍ بنساء ولا إثارةَ شهواتٍ ولا سوء، وفِّقنا اللهمَّ للاستقامةِ وأعِذنا مِن موجباتِ النَّدامة في يومِ القيامة، وأصلِح شؤونَنا بما أصلحتَ به شؤونَ الصالحين.

وحرِّكْ لسانَكَ بالصلاةِ على نبيِّك محمد، فإنَّ ربَّ العرش يصلِّي عليكَ إذا صلَّيتَ على نبيِّه بكلِّ صلاةٍ عشرَ صلوات، وهو القائل : ( إنَّ أولى النَّاسِ بي يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة )

ولقد أمَرنا ربُّنا بالصَّلاةِ عليه بعد أن بدأَ بنفسه وثنَّى بالملائكة، وأيَّهَ بالمؤمنين، فقال مُخبِراً وآمِراً لهم تكريماً: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )

اللهم صَلِّ وَسَلّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمدٍ نورِ الأنوار وسرِّ الأسرار، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازرِ رسولِ الله في حاليِ السَّعَةِ والضيق، خليفةِ رسول الله سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطقِ بالصواب وناشرِ العدلِ في الآفاق حليفِ المحراب أميرِ المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن أميرِ المؤمنين ذي النورين سيدِنا عثمان بن عفان، وعلى أخِ النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه ووليِّه وبابِ مدينةِ علمه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغاربِ، أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب، وعلى الحسنِ والحسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بنصِّ السُّنَّة، وعلى أُمِّهما الحَوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى بناتِ المصطفى وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وعلى الحمزةَ والعباس، وسائرِ أهلِ بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَس والأرجاس، وعلى أهلِ بيعةِ العقبةِ وأهلِ بدرٍ وأهلِ أُحُدٍ وأهل بيعةِ الرضوان، وسائرِ الصحبِ الأكرمين ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين، اللهم حقِّقْنا بحقائِق الإيمان، واضبِط ألسِنَتِنا ومقالَها، واضبِط جوارحَنا وأفعالَها، واضبِط قلوبَنا ونياتِها ومقاصدَها بما ضبطتَ به قلوبَ وجوارحَ وألسنَ عبادِك الصالحين وحزبِك المفلحين يا أرحمَ الراحمين.

ارزقنا تقواك وهَب لنا رضاك، وأجزِل لنا عطاك، وتولَّنا بما أنت أهلُه في الدنيا والآخرة، واجعلنا مِن أهل الوجوهِ الناضرةِ التي هي إليكَ ناظرة، وأعلِ درجاتِ المتقدمين في مساجدِنا ومنازلِنا وبلدانِنا مِن أهلِ لا إلهَ إلا الله، واجمَعنا بهم في زمرةِ نبيِّك المصطفى محمد، مع خواصِّ كُمَّلِ أهلِ لا إله إلا الله، واختم لنا أعمارَنا بلا إله إلا الله واجعَلها آخرَ ما نقولُه مِن هذه الحياة متحقِّقين بحقائقِها وأنتَ راضٍ عنَّا يا ربَّ العالمين يا الله، واصرِفنا مِن الجمعة بقلوبٍ أقبلَت عليكَ وتذلَّلت بينَ يدَيك وصدقَت معك.

اللهم ارزقنا الوفاءَ بعهدِك، وبقيَّةَ أعمارِنا اجعلها قُربةً إليك في سعادةٍ وأنسٍ وصلاحٍ، وارفَع عن وادينا ونادينا وعن يمنِنا وعن شامِنا وشرقِنا وغربِنا الكروبَ والحروبَ والشدائدَ والفتنَ والمِحنَ والبلايا ما ظهر منها وما بطن، يا حيُّ يا قيومُ يا قديرُ يا قويُّ يا متينُ يا الله، واغفِر لنا ووالدينا ومشائخِنا ولأهلِ الحقوق علينا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات مَغفرتِك الواسعة يا خيرَ الغافرين، واختِم لنا بالحُسنى وأنتَ راضٍ عنا يا أرحمَ الرَّاحمين.

 عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )

فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذَكرُ الله أكبر.

للاستماع إلى الخطبة

لمشاهدة الخطبة

 

 

تاريخ النشر الهجري

04 جمادى الأول 1442

تاريخ النشر الميلادي

18 ديسمبر 2020

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام